د.صالح النعامي
12/10/2017
انطلقت الحركة الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر بوصفها الحركة التي أخذت على عاتقها مهمة إقامة وطن "قومي" لليهود على أرض فلسطين. وكان هذا التطور نتاج تضافر عدد من العوامل المركزية، من أهمها ظهور المسألة اليهودية، والتي برزت في أعقاب تعاظم مظاهر العداء ضد اليهود، والتي أطلق عليها "اللاسامية"، والتي تمثلت في عمليات القمع المنظم وغير المنظم التي تعرض لها اليهود في أوروبا وروسيا. إلى جانب فشل تجربة اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية، بعدما أمل الكثيرون منهم الاستفادة من البيئة السياسية والثقافية التي نجمت عن الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، والتي دعت للانفتاح وسيادة العدالة والمساواة بين المواطنين الأوروبيين بمعزل عن الانتماء العرقي والديني، حيث تبين لكثير من اليهود أنهم مستثنون من الاستفادة من الواقع السياسي والاجتماعي الجديد علاوة على أن ظهور القوميات الأوروبية مطلع القرن التاسع عشر كان سبباً إضافياً في تزايد مظاهر العنصرية ضد اليهود.
ولا يمكن إغفال الدور الذي لعبه ظهور التيار البروستانتي المسيحي في القرن السادس عشر كتطور أسهم في توفير الظروف لولادة الفكرة الصهيونية، حيث اعترف هذا التيار – وبخلاف ما كانت تروج له الكنيسة الكاثوليكية - بأن اليهود هم "شعب الله المختار"، وأن الرب لن يبعث المسيح مرة أخرى إلا بعد أن يعود اليهود لأرض فلسطين ويبنوا وطناً لهم .
ولقد واجهت الصهيونية منذ انطلاقها تحدياً أسهم في دفعها لبلورة علاقتها بالدين اليهودي رغم علمانيتها، ويتمثل هذا التحدي في حجم التناقض الذي ينطوي عليه الزعم بأن اليهودية تصلح كوشاج قومي يجمع اليهود كأمة وكشعب، على اعتبار أنه بإستثناء الدين، لم يكن هناك أي رابط يربط اليهود عند انطلاق الصهيونية، فهم ينتمون إلى أعراق شتى ويتحدثون لغات مختلفة ولا يجمعهم تاريخ ولا ثقافة مشتركة.
ولم تجد الحركة الصهيونية العلمانية إلا الدين اليهودي للاتكاء عليه في اختلاق الشواهد والبراهين على أن اليهودية تمثل في الواقع قومية وليس دين فقط، وأن اليهود هم شعب مثل سائر الشعوب وليسوا مجرد طائفة دينية، فاعتمدت الصهيونية على التراث الديني، وضمنه المعتقدات الغيبية بعد أن نجحت في علمنتها وتفريغها من محتواها الديني في تقديم دلائل على أصالة القومية اليهودية.
لقد كان توجه النخب العلمانية اليهودية تحديداً، لتحمل أعباء المشروع الصهيوني نتاج الشعور بالثقة لديها في أعقاب التحولات التي طرأت على التجمعات اليهودية في أوروبا، والتي ظهرت بشكل واضح أواسط القرن التاسع عشر، وتحول الكثير من اليهود نحو العلمانية، وتخليهم عن الدين تأثراً بروح العلمنة التي اجتاحت أوروبا في ذلك الوقت. فقد احتج اليهود على أنماط سلوك المرجعيات الدينية اليهودية، التي فشلت في تقديم حلول عملية لمواجهة التحديات التي تعرض لها اليهود، أي أن تحمل النخب العلمانية اليهودية أعباء المشروع الصهيوني كان نتاج التحول في موازين القوى داخل المجتمعات اليهودية في أوروبا .
ولم يكن لعدد كبير من رواد ومؤسسي الحركة الصهيونية أي اهتمام باليهودية، بل أنهم أظهروا في كثير من المناسبات عداءً ملحوظاً لأفكارها وممارساتها. فقد حرص تيودور هرتزل (1860-1904) عندما زار القدس على انتهاك الشعائر الدينية اليهودية ليؤكد تميز نظرته اللادينة عن العقيدة الدينية اليهودية .
وكان ماكس نورداو الزعيم الصهيوني الألماني (1849-1923)، أقرب أصدقاء هرتزل ملحداً يعلن إلحاده، وقد كتب أن "التوراة كعمل أدبي أدنى مستوى من أعمال هوميروس والكلاسيكيات الأوروبية، وأنها طفولية كفسلفة ومقززة كنظام أخلاقي"، بل أنه وصل إلى حد القول بأنه سيأتي يوم يأخذ فيه كتاب هرتزل "دولة اليهود" وضعاً مساوياً للكتاب المقدس، حتى لدى خصوم مؤلفه من اليهود المتدينين" .
ووضع قادة الحركة الصهيونية على رأس اهتماماتهم الجانب القيمي والثقافي لليهودية وتجاهلوا تماماً الجانب الديني، وإن كان وظفوا المقولات الدينية في إضفاء صدقية على مشروعهم السياسي وتسويغ احتلالهم أراضي الغير.
ويشير المفكر اليهودي جيسي نوبير جير إلى أن الصهيونية هدفت إلى جمع يهود العالم في الدولة الصهيونية بحيث يتحول اليهودي من الولاء لربه إلى الولاء للدولة الجديدة، في حين نظرت للإيمان بالتوارة والقيام بالطقوس الدينية على أنه مسألة شخصية وليس واجباً مقدساً على كل يهودي أو سائر "الشعب اليهودي" .
ولم يفت هرتزل الاستفادة من النموذج القومي الأوروبي في التعامل مع الدين، فهو رأى إمكانية اقتفاء أثر النموذج الأوروبي "التقدمي"، حيث رأى أنه بالإمكان منح رجال الدين المكان الجدير بهم والتعامل معهم باحترام .
http://naamy.net/news/View/1495/#.WlnQx73TXqC
12/10/2017
انطلقت الحركة الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر بوصفها الحركة التي أخذت على عاتقها مهمة إقامة وطن "قومي" لليهود على أرض فلسطين. وكان هذا التطور نتاج تضافر عدد من العوامل المركزية، من أهمها ظهور المسألة اليهودية، والتي برزت في أعقاب تعاظم مظاهر العداء ضد اليهود، والتي أطلق عليها "اللاسامية"، والتي تمثلت في عمليات القمع المنظم وغير المنظم التي تعرض لها اليهود في أوروبا وروسيا. إلى جانب فشل تجربة اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية، بعدما أمل الكثيرون منهم الاستفادة من البيئة السياسية والثقافية التي نجمت عن الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، والتي دعت للانفتاح وسيادة العدالة والمساواة بين المواطنين الأوروبيين بمعزل عن الانتماء العرقي والديني، حيث تبين لكثير من اليهود أنهم مستثنون من الاستفادة من الواقع السياسي والاجتماعي الجديد علاوة على أن ظهور القوميات الأوروبية مطلع القرن التاسع عشر كان سبباً إضافياً في تزايد مظاهر العنصرية ضد اليهود.
ولا يمكن إغفال الدور الذي لعبه ظهور التيار البروستانتي المسيحي في القرن السادس عشر كتطور أسهم في توفير الظروف لولادة الفكرة الصهيونية، حيث اعترف هذا التيار – وبخلاف ما كانت تروج له الكنيسة الكاثوليكية - بأن اليهود هم "شعب الله المختار"، وأن الرب لن يبعث المسيح مرة أخرى إلا بعد أن يعود اليهود لأرض فلسطين ويبنوا وطناً لهم .
ولقد واجهت الصهيونية منذ انطلاقها تحدياً أسهم في دفعها لبلورة علاقتها بالدين اليهودي رغم علمانيتها، ويتمثل هذا التحدي في حجم التناقض الذي ينطوي عليه الزعم بأن اليهودية تصلح كوشاج قومي يجمع اليهود كأمة وكشعب، على اعتبار أنه بإستثناء الدين، لم يكن هناك أي رابط يربط اليهود عند انطلاق الصهيونية، فهم ينتمون إلى أعراق شتى ويتحدثون لغات مختلفة ولا يجمعهم تاريخ ولا ثقافة مشتركة.
ولم تجد الحركة الصهيونية العلمانية إلا الدين اليهودي للاتكاء عليه في اختلاق الشواهد والبراهين على أن اليهودية تمثل في الواقع قومية وليس دين فقط، وأن اليهود هم شعب مثل سائر الشعوب وليسوا مجرد طائفة دينية، فاعتمدت الصهيونية على التراث الديني، وضمنه المعتقدات الغيبية بعد أن نجحت في علمنتها وتفريغها من محتواها الديني في تقديم دلائل على أصالة القومية اليهودية.
لقد كان توجه النخب العلمانية اليهودية تحديداً، لتحمل أعباء المشروع الصهيوني نتاج الشعور بالثقة لديها في أعقاب التحولات التي طرأت على التجمعات اليهودية في أوروبا، والتي ظهرت بشكل واضح أواسط القرن التاسع عشر، وتحول الكثير من اليهود نحو العلمانية، وتخليهم عن الدين تأثراً بروح العلمنة التي اجتاحت أوروبا في ذلك الوقت. فقد احتج اليهود على أنماط سلوك المرجعيات الدينية اليهودية، التي فشلت في تقديم حلول عملية لمواجهة التحديات التي تعرض لها اليهود، أي أن تحمل النخب العلمانية اليهودية أعباء المشروع الصهيوني كان نتاج التحول في موازين القوى داخل المجتمعات اليهودية في أوروبا .
ولم يكن لعدد كبير من رواد ومؤسسي الحركة الصهيونية أي اهتمام باليهودية، بل أنهم أظهروا في كثير من المناسبات عداءً ملحوظاً لأفكارها وممارساتها. فقد حرص تيودور هرتزل (1860-1904) عندما زار القدس على انتهاك الشعائر الدينية اليهودية ليؤكد تميز نظرته اللادينة عن العقيدة الدينية اليهودية .
وكان ماكس نورداو الزعيم الصهيوني الألماني (1849-1923)، أقرب أصدقاء هرتزل ملحداً يعلن إلحاده، وقد كتب أن "التوراة كعمل أدبي أدنى مستوى من أعمال هوميروس والكلاسيكيات الأوروبية، وأنها طفولية كفسلفة ومقززة كنظام أخلاقي"، بل أنه وصل إلى حد القول بأنه سيأتي يوم يأخذ فيه كتاب هرتزل "دولة اليهود" وضعاً مساوياً للكتاب المقدس، حتى لدى خصوم مؤلفه من اليهود المتدينين" .
ووضع قادة الحركة الصهيونية على رأس اهتماماتهم الجانب القيمي والثقافي لليهودية وتجاهلوا تماماً الجانب الديني، وإن كان وظفوا المقولات الدينية في إضفاء صدقية على مشروعهم السياسي وتسويغ احتلالهم أراضي الغير.
ويشير المفكر اليهودي جيسي نوبير جير إلى أن الصهيونية هدفت إلى جمع يهود العالم في الدولة الصهيونية بحيث يتحول اليهودي من الولاء لربه إلى الولاء للدولة الجديدة، في حين نظرت للإيمان بالتوارة والقيام بالطقوس الدينية على أنه مسألة شخصية وليس واجباً مقدساً على كل يهودي أو سائر "الشعب اليهودي" .
ولم يفت هرتزل الاستفادة من النموذج القومي الأوروبي في التعامل مع الدين، فهو رأى إمكانية اقتفاء أثر النموذج الأوروبي "التقدمي"، حيث رأى أنه بالإمكان منح رجال الدين المكان الجدير بهم والتعامل معهم باحترام .
http://naamy.net/news/View/1495/#.WlnQx73TXqC