- محمد إلهامي
- باحث في التاريخ والحضارة
27/12/2017
يظن بعض الناس أننا حين نتكلم بفخر عن تاريخنا الإسلامي فإنما ننطلق في هذا من التحيز والتعصب وعاطفة الانتماء.. ومع أن هذا في نفسه ليس عيبا طالما التزم الإنسان الحق والعدل والإنصاف فيما يقول، فإن الدافع الذي يحملنا على الحديث الفخور عن تاريخنا وحضارتنا ليس مجرد هذا.. إنما هو دافع الحق نفسه، الدافع الذي يحمله كل محب للإنسانية مشفق على البشر، يرى أنهم يتيهون ويتخبطون ويغفلون عن المنهج الذي يمكن أن يرفع شأنهم ويعيد إليهم أخلاقهم وإنسانيتهم.
ثم هو دافع الدفاع عن التاريخ المهضوم المظلوم الذي تواطأ أهل الظلم والكذب على تشويهه وتجريحه، إنه دفاع المرء عن نسبه الشريف الأصيل إن هاجمه اللقطاء الأدعياء. وفي النهاية هو دافع من يرى أن التجربة العظيمة يمكن تكرارها، لا.. ليس مجرد الإمكان، بل هو الوعد الصادق.. وعد انتصار الدين وعلو الحق وعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة! فلئن أردكناها فهو ما نحب، وإن لم ندركها فحسبنا أن نموت ونحن في طريق الطالبين.
في هذه السطور سنضرب مثلا في سمو تاريخنا بالبصمة التاريخية للخلفاء الراشدين، وكيف كان لكل واحد منهم إنجاز لا يُعرف مثله لغيره من حكام التاريخ..
أصل المعجزة التاريخية
يعود أصل المعجزة التاريخية للخلفاء الراشدين إلى كونهم تلاميذ محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلولا تلك الرسالة التي حملها هذا النبي، ولولا أنهم كانوا أخلص أنصاره له وألزمهم به ما كان لأحدهم أن يبلغ في تاريخ الدنيا ولا في ميزان الآخرة ما بلغ. إن الإنجاز النبوي هو المعجزة التاريخية الكبرى، فالسيرة النبوية هي أعظم قصة نجاح بشري على الإطلاق، فلا يُعرف في تاريخ الدنيا رجل نجح في نشر دين وبناء دولة عظمى إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يشهد به المؤرخون من غير المسلمين.
من أهم بصمات الخلفاء الراشدين هو أنهم جميعا رغم اتساع المساحة التي حكموها فلقد كانوا أهل دين وزهد وتقشف وإيثار للآخرة
كتب مايكل هارت كتابًا حول أعظم مائة شخصية في التاريخ الإنساني، وعلى الرغم من أنه مسيحي لا يؤمن بالإسلام ولا بمحمد إلا أنه جعل النبي على رأس هذه المائة، وقال:
"لقد اخترت محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ليكون الأول في قائمة أهم رجال التاريخ، ولا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي. وهو قد دعا إلى الإسلام، ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائدًا سياسيًّا وعسكريًّا ودينيًّا، وبعد ثلاثة عشر قرنًا من وفاته فإن أثر محمد -صلى الله عليه وسلم- ما يزال قويًّا متجددًا"
ويفسر هارت حيثيات هذا الاختيار بالقول:
"كان البدو من سكان شبه الجزيرة مشهورين بشراستهم في القتال، وكانوا ممزقين -أيضًا- رغم أنهم قليلو العدد، ولم تكن لهم قوة أو سطوة العرب في الشمال الذين عاشوا على الأرض المزروعة. ولكن الرسول استطاع لأول مرة في التاريخ أن يوحد بينهم وأن يملأهم بالإيمان وأن يهديهم جميعًا بالدعوة إلى الإله الواحد؛ ولذلك استطاعت جيوش المسلمين الصغيرة المؤمنة أن تقوم بأعظم غزوات عرفتها البشرية.
وإذا استعرضنا التاريخ؛ فإننا نجد أحداثـًا كثيرة من الممكن أن تقع دون أبطالها المعروفين، مثلاً كان يمكن أن تستقل مستعمرات أمريكا الجنوبية عن إسبانيا دون أن يتزعم حركاتها الاستقلالية رجل مثل: سيمون بوليفار، هذا ممكن جدًّا، على أن يجيء بعد ذلك أي إنسان ويقوم بنفس العمل، ولكن من المستحيل أن يقال ذلك عن البدو وعن العرب عمومًا، وعن إمبراطورتيهم الواسعة دون أن يكون هناك محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلم يعرف العالم كله رجلاً بهذه العظمة قبل ذلك، وما كان من الممكن أن تتحقق كل هذه الانتصارات الباهرة بغير زعامته وهدايته، وإيمان الجميع به"
ونستطيع أن نذكر أقوالا كثيرة في نفس هذا المعنى، وكلها لغير المسلمين، إلا أن المقصود الآن هو فهم أن معجزة الخلفاء الراشدين وبصمتهم التاريخية إنما كانت فرعا عن أصل المعجزة النبوية.
بصمة الخلفاء الراشدين
واحدة من أهم بصمات الخلفاء الراشدين هو أنهم جميعا رغم اتساع المساحة التي حكموها فلقد كانوا أهل دين وزهد وتقشف وإيثار للآخرة.. ليس فيهم واحد تولى الحكم فتكسب منه أو صار أغنى مما كان قبل الخلافة، ولم يُتَّهم أحد منهم مجرد اتهام في ذمته المالية. وهم مع اتساع دولتهم التي شملت الملايين لم يكن لأي منهم مظاهر السلطان والصولجان والفخامة، وكان يملك الواحد من الرعية أن يخاطب الأمير ويعترض عليه ويناقشه دون أن يخشى على نفسه ظلما أو جورا، ولم يكن على باب أحدهم حجاب أو حماية خاصة، بل إن ثلاثة منهم استشهدوا على يد خصومهم، وكانوا جميعا: اثنان في المسجد هما عمر وعلي، وواحد في داره هو عثمان رضي الله عنه. وهم مع قوة دولتهم ورسوخ سلطانهم كانوا يكثرون من الاستشارة والمشاورة، ويضربون أمثلة في الرحمة والشفقة بالرعية، ومراجعة النفس فيما قد يعرض لهم من أمور، ولم يكن لأحدهم حب للسلطة أو تمسك بها أو قتال من أجلها.
لقد كان الراشدون حكاما مثاليين، لم ير في التاريخ مثلهم، ولهذا فلقد أثاروا إعجاب الزعماء والمؤرخين عبر التاريخ، حتى من لم يكن منهم مسلما، كان نموذجهم في النجاح الفائق ملهما
ومن بصمتهم أنهم جميعا عرفوا لبعضهم حقهم، فلم يحاول أحد منهم نقض إنجازات سابقة أو نسبتها إلى نفسه، بل لكل منهم كلام في تعظيم بعض، حتى إن عليا -وهو آخرهم- توعد بالجلد من يفضله على أبي بكر وعمر، وكاد أن يقتل من يسبهما، وعمر هو القائل "لو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر"، وعثمان هو القائل "ومن يطيق ما كان يطيق عمر".. بينما عادة الحكام الأقوياء أن يسعوا في طمس مآثر من قبلهم ليحفروها باسمهم، ثم يأتي اللاحق فيكرر الطمس مع السابق كذلك.
لقد كان الراشدون حكاما مثاليين، لم ير في التاريخ مثلهم، ولهذا فلقد أثاروا إعجاب الزعماء والمؤرخين عبر التاريخ، حتى من لم يكن منهم مسلما، كان نموذجهم في النجاح الفائق ملهما، يقول الزعيم الهندي المعروف جواهر لال نهرو في كتابه "لمحات من تاريخ العالم": "كان أبو بكر وعمر رجلين عظيمين، وقد وَضَعَا الأساس الذي بُنِيَتْ عليه عظمة العرب والمسلمين، وكانَا خليفتين يجمعان في يديهما السلطة الزمنية والسلطة الدينية معًا، ولكنهما -وبالرغم من عظم المنصب وقوة الدولة- زهدَا في متاع الحياة الدنيا بما فيها من أبهة وعظمة".
ويقول مؤرخ الحضارة الأمريكي ول ديورانت في كتابه الشهير قصة الحضارة، والذي قضى في تأليفه أربعين سنة:
"ولا يسعنا إلا أن نُسَلِّم بأن الخلفاء الأولين من أبي بكر إلى المأمون، قد وضعوا النظم الصالحة الموفقة للحياة الإنسانية في رقعة واسعة من العالم، وأنهم كانوا من أقدر الحُكَّام في التاريخ كله، ولقد كان في مقدورهم أن يُصادروا كل شيء، أو أن يُخَرِّبُوا كل شيء، كما فعل المغول أو المجر أو أهل الشمال من الأوربيين؛ لكنهم لم يفعلوا هذا "
معجزة أبي بكر
أبو بكر هو الحاكم الوحيد في التاريخ الذي تولى الحكم وعاصمة الدولة مهددة بالاجتياح وتعاني تهديدا أمنيا خطيرا، ثم تركها وهي قوة عظمى عالمية، وكل ذلك في عامين فقط!! وهذا إنجاز لا يُعرف في التاريخ لغير أبي بكر، فالمؤسسون العظماء من الحكام هم الذين يفعلون واحدة من هذه الإنجازات فحسب! كأن يحفظ الدولة في لحظة تهديد حرج فيتركها آمنة من بعد ما كانت مضطربة، أو هو الذي ينقلها من الضعف إلى القوة والمنافسة، أو ينقلها من القوة لتكون قوة عظمى عالمية، وهو يكون عظيما ولو قضى في هذه المهمة عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة حسبما يطول به العمر.
وسائر الملوك العظماء الذين تلمع أسماؤهم في التاريخ كانوا واحدا من هؤلاء، وأكثرهم ممن طال عمره فحكم بعضهم لنصف قرن أو أكثر، وربما ثلث قرن أو ربع قرن.. ويمكن للمشاهد الكريم أن يتتبع ما شاء من أسماء: قورش، شارلمان، رمسيس الثاني، الإسكندر المقدوني، سليمان القانوني، نابليون، ما وتسي تونج، بسمارك، لينين.. إلى آخره! لن يجد فيها واحدا استطاع تحقيق إنجاز أبي بكر الذي نقل دولته من تهديد العاصمة إلى القوة العظمى العالمية في سنتين فحسب!
فعند بداية عصر أبي بكر كانت حركات الردة قد اشتدت في الجزيرة العربية، منهم من ارتد بالكلية ومنهم من امتنع عن الزكاة، والقبائل القريبة من المدينة أغارت عليها، ولم يرض أبو بكر بالتنازل عن شيء مهما كان بسيطا مما كان لرسول الله، فأرسل أحد عشر جيشا قضت على حركة الردة، فما إن انتهت حتى انطلقت الفتوحات، وإذا بها تزلزل أركان القوتين العظميين فارس والروم، وتفتح بلادهما في ذات الوقت، ويموت أبو بكر بعد عامين وقد عادت وحدة الجزيرة العربية، وله جيش يفتح العراق، وجيش آخر يفتح الشام! تلك هي المعجزة التاريخية لأبي بكر الصديق.
قدم عمر بن الخطاب المثال على الحاكم الذي يحكم إمبراطورية بعدل، يستطيع فيها أي واحد من الرعية أن يشكو أميره وواليه الفاتح لبلاده لأمير المؤمنين وهو مطمئن لعدالة ناجزة تنتظره
عمر بن الخطاب
وأما عمر بن الخطاب فهو الوحيد الذي حكم إمبراطورية هائلة تكاد تكون ثلث العالم المعروف وقتها والمتنوعة الأعراق واللغات والأديان.. بعدل ورحمة! ذلك أن عادة الإمبراطوريات الواسعة أن يتسلط فيها العنصر الحاكم على الشعوب الأخرى، فيسومونها سوء العذاب، ويمتصون ثرواتها لتتضخم العاصمة الاستعمارية. ومن عادة حكام الإمبراطوريات القسوة والدموية، حتى إن المؤرخين في العادة يعتبرون المذابح البشعة التي يقوم بها من يوحد البلاد ضريبة حتمية لعملية التوحيد، فلا يكاد يكون حاكم قد وحد منطقة واسعة تحت حكمه إلا وارتكب عددا من المذابح التي شملت النساء والأطفال والشيوخ، ومع هذا فتلك المذابح في العادة لا تقدح في مكانته التاريخية كبطل مُوَحِّد للإمبراطورية.
لكن عمر بن الخطاب قدم المثال على الحاكم الذي يحكم إمبراطورية واسعة الأنحاء متنوعة المكونات بعدل، يستطيع فيها أي واحد من الرعية أن يشكو أميره وواليه الفاتح لبلاده إلى أمير المؤمنين وهو مطمئن لعدالة ناجزة تنتظره. كان عمر يحكم ثلث العالم المعروف ولا يستطيع تجاوز القانون (أي الشريعة) حتى إنه لينظر إلى قاتل أخيه فيقول له: لا أحبك حتى تحب الأرض الدم. فيقول: وهل هذا مانعي بعض حقي؟ فيقول: لا. فيقول الرجل: فاحبب أو لا تحبب فإنما تأسى على الحب النساء.
وقد وضع مايكل هارت عمر ضمن المائة الخالدين في التاريخ وقال فيه:
"ما أنجزه عمر بن الخطاب شيء باهر، فبعد وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام) كان عمر هو الشخصية التي نشرت الإسلام، فبغير هذه الغزوات السريعة ما كان من الممكن أن ينتشر الإسلام في هذه المساحات الشاسعة من الأرض. ومعظم البلاد التي غزتها جيوش المسلمين ظلت عربية إسلامية حتى يومنا هذا"
وتأثر المؤرخون كثيرا بما كان في الفتوحات العمرية من عدل ورحمة، لا سيما فتح مدينة بيت المقدس، إذ أن الفتح العمري لها كان هو الفتح الوحيد الرحيم بين سائر الغزاة الذين دخلوا المدينة، حتى تقول مؤرخة القدس كارين أرمسترونج بأن هذا الفتح "لم تشهد المدينة فتحا مثله". وأكثر المؤرخون من المقارنة بين الفتح العمري للقدس وبين بقية الغزوات، حتى ليقول المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون في مقارنة بين الاحتلال الصليبي (والذي بدأ من فرنسا وكان الفرنسيون أصحابه).
"يثبت لنا سلوك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في مدينة القدس مقدار الرفق العظيم الذي كان يُعَامِل به العربُ الفاتحون الأممَ المغلوبة، والذي ناقضه ما اقترفه الصليبيون في القدس بعد بضعة قرون مناقضة تامَّة، فلم يُرِدْ عمر أن يدخل مدينة القدس معه غيرُ عددٍ قليل من أصحابه، وطلب من البطرك صفرونيوس أن يرافقه في زيارته لجميع الأماكن المقدسة، وأعطى الأهلين الأمان، وقطع لهم عهدًا باحترام كنائسهم وأموالهم، وبتحريم العبادة على المسلمين في بِيَعِهم"
شهد عصر عثمان مزيدا من الفتوحات التي أضيفت بها أراضٍ أخرى إلى الدولة الإسلامية إلا أنها لم تكن بذات الاتساع الذي كان في عصر عمر
لقد ضرب المسلمون مثالا عجيبا بفتوحاتهم، وها هو الزعيم الهندي جواهر لال نهرو يقول أيضا:
"إن العرب كانوا في بداية يقظتهم متقدين حماسًا لعقيدتهم، وإنهم كانوا مع ذلك قومًا متسامحين؛ لأن دينهم يأمر في مواضع عديدة بالتسامح والصفح، وكان عمر بن الخطاب شديد الحرص على التسامح عندما دخل بيت المقدس"
وبهذا صارت معجزة عمر التاريخية أنه الوحيد الذي حكم إمبراطورية واسعة متنوعة.. بعدل ورحمة!
عثمان بن عفان
وأما عثمان بن عفان فيشترك مع عمر في معجزته حكم دولة شاسعة بعدل ورحمة، إلا أن عمر هو الفاتح لها وصاحب التوسعة الكبيرة، وقد شهد عصر عثمان مزيدا من الفتوحات التي أضيفت بها أراضٍ أخرى إلى الدولة الإسلامية إلا أنها لم تكن بذات الاتساع الذي كان في عصر عمر. وأما ينفرد به عثمان رضي الله عنه، فهو أنه الحاكم الذي يحكم هذه الإمبراطورية الواسعة ثم ضحى بنفسه وبدمه للمحافظة على نظام الدولة، ولم يسمح أن يُراق في سبيل الدفاع عنه قطرة دم مع قدرته على إشعال حرب للحفاظ على حياته.
لقد نشبت فتنة بأثر من إشاعات وحركات سرية وفي ظروف اجتماعية واقتصادية مواتية، فخرج على إثرها بعض من أهل الكوفة والبصرة ومصر يعترضون على عثمان ويريدون خلعه، وقد بيَّن لهم عثمان خطأ ما اعتقدوه واتفق معهم على ما يصلح الأمور ويرضيهم، إلا أن الفتنة ما لبثت أن عادت من جديد، إذ عزم هؤلاء على أن يخلع نفسه أو يقتلونه!
اتخذ عثمان قراره بعدم التنازل عن الخلافة دفاعا واستمساكا بحق الأمة وبيعتها.. واتخذ قراره كذلك بعدم شن حرب على هؤلاء المتمردين كي لا تسيل الدماء دفاعا عنه
كان عثمان يحكم ثلث العالم المعروف وقتها، ويستطيع بضعة آلاف أن يصلوا إليه في المدينة بمطلب الخلع والعزل، وهو مطلب لم تعرفه الشعوب في ذلك الوقت أصلا، فما كان لأهل العراق ومصر أن يتصوروا أن بإمكانهم السير إلى مدائن كسرى أو قصر قيصر للمطالبة بعزله، ولا حتى العرب في الجاهلية كانوا يتصورون مثل هذا. ومع هذا كان عثمان يبذل لهم ما فيه رضاهم ويحاورهم ويقنعهم ويسرد عليهم أعذاره وحججه ويبين لهم خطأهم، إلا أنهم أصروا على عزله أو قتله.
هنا اتخذ عثمان -رضي الله عنه- موقفا عظيما مثيرا للإعجاب، ودليلا على عظمته رضي الله عنه: لقد كان يعلم يقينا أنه إن قُتل فإن الخليفة من بعده لن يكون إلا واحدا من كبار الصحابة: علي أو طلحة أو الزبير أو سعد بن أبي وقاص، وكلهم من المرشحين للخلافة، وكلهم أهل لها.. فهو مطمئن لما سيؤول إليه الأمر من بعده! فلن يتولى الخلافة مثلا واحد من أهل الفتنة أو من أعداء الإسلام أو من المتآمرين عليه. ولهذا لم يفكر في إشعال حرب عليهم في المدينة تسيل فيها الدماء إذ نظام الإسلام والخلافة غير متهدد، بل إن بعض أهل الفتنة هؤلاء إنما يتشيع لعلي ويراه الأولى بالخلافة.
وهو من جهة أخرى يعلم ويوقن أن خروجهم عليه أمر لا يجوز لهم وأن قتلهم له لا يحل لهم، فلو أنه تنازل عن الخلافة التي حازها برضا المسلمين لأعطاهم بهذا حق نقض ما أبرمته الأمة، ولصارت من بعده فتنة، كلما خرجت أقلية تريد نقض ما اتفقت عليه أكثر الأمة استطاعت أن تبلغ غرضها الفاسد هذا، وهذا أمر لو تمَّ فلن يكون للإسلام دولة ولا نظام ولا جماعة، وسيصير أمر الأمة مرهونا بالقلة من المتمردين. لذلك اتخذ عثمان قراره بعدم التنازل عن الخلافة دفاعا واستمساكا بحق الأمة وبيعتها.. واتخذ قراره كذلك بعدم شن حرب على هؤلاء المتمردين كي لا تسيل الدماء دفاعا عنه إذ الأمر في حال قتله لن يخرج عمن هو أهل للخلافة من بعده. فيكون قد دافع عن حق الأمة وحافظ على نظام الخلافة في نفس الوقت! وجعل الثمن هو دمه!
فهذه بصمة عثمان بن عفان في تاريخ الدول والحكام.. رجل يحكم ثلث العالم، يصل إليه خصومه في عاصمته وعند بيته، يحاصرونه، يمنعون عنه الطعام والشراب، فينهى عن قتالهم ولا يتخذ معهم إلا سبيل المحاورة والإعذار والحجة، فيحفظ بيعة الأمة ونظامها كما يحفظ دمها بدمه.
علي بن أبي طالب
وأما علي بن أبي طالب فقد كان أكرم الناس لخصومه ومعارضيه، فهو الخليفة الصحيح البيعة ومع هذا لم يجبر أحدا على الخروج معه في حرب خصومه إذا لم يشأ، وترك من اعتزل الفتنة فلم يحمله عليها بحق البيعة والسمع والطاعة، ثم حين قاتل كان أشرف الناس قتالا، فاجتهد في منع الحرب ما وسعه الاجتهاد، ثم إنه منع من قتل الأسير أو الإجهاز على الجريح أو تتبع الفار أو غنيمة الأموال أو سبي النساء والذرية، وكان يقول: فينا نزلت "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ".
يجب أن يكون لكل إنسان بصمته في عمله، بصمته في موهبته، بصمته في مجاله وميدانه، ألا يكون مكررا عاديا كشأن الناس الذين لا همَّ لهم ولا رسالة
ومع أن بعض هؤلاء، وهم الخوارج، كانوا يكفرونه ويطعنون فيه، إلا أنه لم يقاتلهم إلا حين قتلوا المسلمين واستباحوا منهم ما يستبيحونه من الكفار، وامتنعوا عن تسليم القتلة لأخذ القصاص منهم، وأعلن فيهم حقوقهم في الصلاة والغنيمة والأمان على أنفسهم ما لم يسفكوا دما، ومع هذا رفض أن يقال عنهم كفار بل قال "من الكفر فروا" ورفض وصفهم بالمنافقين لما هم عليه من كثرة الذكر وقراءة القرآن، وإنما قال: "بعض قومنا بغوا علينا".
وهذا علي الذي يقاتل بكل هذا النبل والفضل، هو هو نفسه الذي يستعمل أقصى العقوبة فيمن يقدسه ويرفع شأنه فوق البشر، فيصفه بالألوهية أو يطعن لأجله في أبي بكر وعمر أو يفضله عليهما. فمن هنا نرى حاكما -وياللعجب- يجتهد ويلتمس الأعذار لمن كفره وقاتله، ثم يعاقب من يقدسه ويرفعه فوق شأنه، وهو أمر لا يفعله من الحكام أحد. لكن عليا كان حارسا على الدين، يعرف أن الذين قدسوه هم أضر وأخطر على الدين من الذين كفروه وقاتلوه. فتلك بصمة علي رضي الله عنه.
الخلاصة
يجب أن يكون لكل إنسان بصمته في عمله، بصمته في موهبته، بصمته في مجاله وميدانه، ألا يكون مكررا عاديا كشأن الناس الذين لا همَّ لهم ولا رسالة.
قال المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها .. وتصغر في عين العظيم العظائم
وقال آخر:
ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه .. فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا
وبالهمة العلياء يرقى إلى العلا .. فمن كان أعلى همة كان أظهرا
فلم يتأخر من أراد تقدما .. ولم يتقدم من أراد تأخرا
ينبغي أن تعلو الهمم ليكون لكل واحد فينا فتح في مجاله، فالمجاهد في جهاده، والعالم في علمه، والسياسي في علاقاته وسياسته، والموهوب في موهبته، وصاحب الفن في فنه.. وهكذا! وحين يفتح هؤلاء فتوحا في أبوابهم، تكون الأمة كلها على موعد مع الفتح الكبير إن شاء الله تعالى.