التعبير الدقيق عن كارثة الحرب التي جرت بين ليبيا وتشاد.. والتي تعارف على تسميتها بـ "حرب تشاد".. مهمة غير يسيرة.. ان لم تكن مستحيلة.. فقد شملت هذه الكارثة ما لا يطاق.. من احزان الارامل والثكالى.. ومن العبث بارواح البشر.. وفقدان الالاف من فلذات اكباد ليبيا.. زُج بهم في آتون حرب لا مبرر لها.. الا الجهل والعبث والاهمال.. فابتلعتهم.. بحار من رمال.. لا تعرف للرحمة والرأفة سبيلا.. ناهيك عن ذل الاسر.. وانكار الاسرى.. ومطاردتهم بعد الاسر.. والضياع.. وتفريق الشمل.. والتشرد وفقدان الاهل والاحباب والاصحاب.. وقهر الرجال واذلالهم.. وفرض الطلاق القسري.. على بعض من بقيت زوجاتهم في ليبيا.. وبقوا هم خارج ليبيا.. بل ناهيك عن اختطاف التلاميذ من مدارسهم.. واقحامهم في حرب لا ناقة لهم فيها.. ولا جمل.. دون تهيئة.. ودون عدة واعداد واستعداد.. زد على ذلك البلايين من ارزاق الليبيين.. ذهبت هباءً منثورا.. ابتلعتها هي الاخرى بحار الرمال.. كما ابتلعت قبلها ارواح الليبيين.. بل اضف الى كل ذلك.. الهزيمة العسكرية امام دولة.. يفترض انها من افقر دول العالم.. وامام جيش يفترض انه من "اضعف" جيوش العالم.. واقلها عددا وعدة وعتادا.. ليس ذلك فحسب.. بل ناهيك عن ضياع جزء من بلادنا.. يُفترض ان هذه الحرب.. ما قامت الا لاسترداده.. والذود عنه.. وحمايته.. فهزم الجيش.. وضاعت.. الارض.. والثروة.. وضاع معهما البشر.
حرب تشاد.. اذا.. صفحة قاتمة من تاريخ ليبيا.. وتاريخ البشرية.. والتعبير عنها.. بدقة وتجرد.. وبما يناسب حجمها.. مهمة.. كما ذكرنا.. غير يسيرة.. فهي.. اقرب الى "المذبحة" منها الى الحرب.. والمذابح ليست في حاجة الى من يطلع على تفاصيلها فقط.. بل في حاجة الى "افئدة" تستشعر الامها واحزانها وفواجعها.
وهذه الصفحات.. هي.. فصول من كتاب.. تحت عنوان "حرب تشاد.. الكارثة الكارثة"، اردته ان يكون توثيقا لهذه المأساة وتوثيقا لخلفياتها وتداعياتها، واردته ان يكون ايضا، وثيقة ادانة لهذا النظام العبثي، الذي لن تقوم لليبيا قائمة، الا برحيله، تماما، كما رحل عن بلادنا الاعداء والاستعمار والغزاة.
وسنبدأ كتابنا هذا، بمحاولة الالمام، وبقدر المستطاع، بالعوامل التي ساهمت في تشكيل منطقة الصراع الليبي التشادي. لقد تأسست حول بحيرة "تشاد"، ممالك ودول وامارات، بعثت الحياة في المنطقة، وحولتها الى عالم مزدحم بالوقائع والاحداث والعادات، وعالم غني بالتاريخ والثقافة والتراث.
وكانت تلك الممالك، التي تقع وسط محيط من الرمال، تتمتع بادارة وتنظيم متميزين، كما كانت تتمتع، في اغلب عهودها، بالامن والامان والسلام، اكثر مما تتمتع به ممالك اخرى كانت تقع على ضفاف المتوسط . بل يروى ان المرأة، في بعض تلك الممالك والامارات، كانت تتزين بالذهب، ثم تقطع المسافات الشاسعة في قلب الصحراء وحدها، آمنة مطمئنة، فتصل الى ديارها دون ان يمسها سوءُ، مما يذكرنا بجزء من الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ... والله ليتمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه.. البخاري"، لقد تحقق هذا الامر، في بعض الاوقات، في تلك المناطق النائية.
لم تكن تلك الممالك، اذا، فوضوية، فقد كانت تدار وفق قوانين ودساتير ولوائح متقدمة وراقية، بالنسبة الى الزمن الذي تأسست فيه، وانعكس ذلك على ابداعها في عالم الاقتصاد، والتجارة، والعلوم الانسانية، والتربية، وتنظيم الجيوش، والعلاقات الدولية العامة.
لكن الامر، لم يكن على مثل هذا الاستقرار والهدوء بصورة دائمة، فلم تتأسس تلك الممالك على طبق من فضة، بل تأسست بعد نزوح وهجرات وهروب، وبعد كر وصراع وفر، كما انهكتها الحروب والانشقاقات والنزاعات الداخلية والمحلية حتى ضعفت، واصبحت لقمة سائغة، إما لبعضها البعض، وإما لاعداء اخرين.
وسنتحدث، فيما يلي، وباختصار شديد جداً، عن ممالك "كانم"، و"كانم- بورنو"، و"واداي" و"الباقرمي"، وعن سلطنة "رابح"، والغزو الفرنسي، واستقلال تشاد، ووصول "فرانسوا تمبلباي" الى سدة الحكم، وذلك للوقوف على اهم العوامل التي ساهمت في تشكيل المنطقة دينيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، ولنتعرف على مختلف اطراف الصراع، وندرك بالتالي، طبيعة الانقسامات بين التشاديين، ومدى تأثير ذلك على مسار الحرب الليبية التشادية.
مملكة كانم
هاجر آل "سيف" في القرن التاسع الميلادي، من الشمال الى الجنوب، وبالتحديد الى منطقة "كانم"، التي تقع في الشمال الشرقي من بحيرة تشاد، واسسوا مملكة، عُرفت بمملكة "كانم"، والذي تعتبر من اقدم الممالك التي تأسست في تلك المناطق [SIZE=-1]1و3 و6[/SIZE].
وقد بدأ الاسلام يظهر فيها مبكرا، لينتشر في القرن الحادي عشر5 و6 . وخاصة بعد ان اعتنق اغلب ملوكها الاسلام . وفي عهد ملكها "دوناما داباليمي" (1221م- 1259م)، اتسعت المملكة حتى شملت اغلب اراضي "تشاد" و"فزان" . كما توسعت حتى وصلت حدودها، في فترة من الفترات، من النيجر غربا الى واداي شرقا. ثم ضعفت مع حلول القرن الرابع عشر، بسبب النزاعات الداخلية والاطماع الخارجية . وقد ارهقتها بالذات، الحروب الطاحنة ضد قبائل "البولالا"، وهم اخلاط من عرب وتشاديين،6 كانوا يقطنون بجوار بحيرة تعرف ببحيرة "فتري"6، وقد صمموا على طرد آل "سيف" من المنطقة، فقامت بينهم حروب طويلة، قُتل خلالها اربعة من ملوك "كانم"، استطاعت قبائل "البولالا" بعد ذلك، وفي عام 1396م تقريبا، ان تطرد آل "سيف" وتستولي على مدينة "جنة" عاصمة "كانم" [SIZE=-1]1و3 و6 [/SIZE]
مملكة البورنو
هرب آل "سيف" اثر هزيمتهم امام "البولالا"، واستقروا في منطقة "البورنو"، التي تقع غرب بحيرة تشاد (شمالي شرقي دولة نيجيريا اليوم)، وطردوا منها قبائل "الصاو"، وأسسوا فيها مملكة عُرفت بمملكة " البورنو" [SIZE=-1]1و3 و6[/SIZE].
مملكة كانم- البورنو
بعد تأسيس مملكة "البورنو"، قرر آل "سيف" استرداد "كانم"، فاعلنوا الحرب على قبائل "البولالا"، مرة اخرى، وتم لهم النصر، في عهد علي دوناما (1472-1504م)، واستردوا "كانم"، وضموها الى مملكة "البورنو"، وأسسوا مملكة جديدة، عُرفت بمملكة "كانم- البورنو"، وقد تم ذلك في اوائل القرن السادس عشر. [SIZE=-1]1و2 و3 و6 و18[/SIZE].
بلغت مملكة "كانم- البورنو"، أوج مجدها، في عهد"ادريس الونة"، الذي كان يُعرف، باسم ادريس الثالث(1571-1603م)، والذي وسع من دائرة اتصالاته بالعالم، وخاصة بدول شمال افريقيا، ووطد علاقاته مع "طرابلس" والدولة "العثمانية"، فتقدمت المملكة في عهده، علميا واقتصادياًُ وعسكريا، كما عم فيها الامن والامان والسلام.
ثم فقدت المملكة الاستقرار، بعد موته، وعمت بدلا من ذلك، الاضطرابات وانتشرت الفوضى، ووصلت المملكة الى حالة من الضعف الشديد. وفي اوائل القرن التاسع عشر، تعرضت "البورنو" الى غزو "الفولاني"، بقيادة "عثمان فودي"، وظلت "كانم" منفصلة عن "البرنو" . ثم اضطرت في 1810م، الى تنصيب ملك من خارج آل "سيف"، هو الشيخ "محمد الكانمي"، وذلك لاول مرة، منذ تأسيس المملكة (عام 800م)، واستطاع الشيخ "محمد الكانمي" ان يوقف زحف الفولاني، ثم استمرت المملكة في الضعف الى ان ضمها الامير "رابح" في 1893م [SIZE=-1]1 و3 و6 و18 [/SIZE]الذي سنتحدث عنه لاحقا
هاجرت قبائل "التنجور" في القرن الـخامس الهجري، الى الشمال، بسبب زحف بني هلال على مناطقهم، واستقروا في منطقة "واداي" شرق تشاد. استمرت سيطرة "التنجور" على المنطقة الى ان دخلها الاسلام في القرن العاشر الهجري (بين 1615م و1621م)، فقام الملك "عبد الكريم بن يامي"، بطرد "التنجور"، والملك "عبد الكريم بن يامي" يعتبر اول ملك من ملوك "واداي" يعتنق الاسلام.
ثم اصاب المملكة ضعف شديد بسبب التنازع الداخلي بين افراد الاسرة الحاكمة، حتى خضعت، في احد عهودها، الى "دارفور"، ثم استقلت عنها . كما شهدت ازدهارا كبيرا في عهد الملك "صابون"(1805-1815م)، الذي وطد علاقاته، هو الاخر، بدول شمال افريقيا، واستخدم طرقا تجارية جديدة، تمر بـ "بنغازي" و"الكفرة" و"انيدي"، مما ادى الى انتعاش التجارة، انتعاشا كبيرا. [SIZE=-1]1و 3 و6[/SIZE].
وتولى، بعد الملك "صابون"، اخوه، "محمد شريف صالح" (ورد في بعض المراجع انه فُرض على واداي من قبل دارفور)، الذي بنى علاقة متينة مع الحركة السنوسية، في عهد مؤسس الحركة، عندما التقيا في مكة، وفي عهد "محمد المهدي السنوسي" ايضا (رحمهما الله). وانتشرت الحركة، وسادت في "واداي"، وتم تعيين مندوب خاص بالسنوسية في "ابشة" عاصمة "واداي"، بناء على طلب من احد سلاطين "واداي" [SIZE=-1]2و6و7[/SIZE] . وتوج هذا التعاون، او بالاحرى، هذا الترابط، بالجهاد ضد فرنسا، فعندما اعتدت فرنسا على تشاد، قاومتها الزوايا السنوسية مقاومة شديدة، وكان شيخ الشهداء "عمر المختار"، من ضمن الذين جاهدوا في تشاد، كما جاهدت قبائل ليبية عديدة، لنفس السبب. ثم ضم الامير "رابح" المملكة اليه.
مملكة الباقرمي
تأسست مملكة "الباقرمي"، في الجنوب الشرقي من بحيرة تشاد، عام 1513م تقريبا، وفي عهد ملكها "عبد الله الرابع" (1568م-1598م)، اصبح الاسلام دين المملكة، ثم عم الاسلام المملكة في عهد سلطانها "الحاج محمود الامين" (1751-1785م) [SIZE=-1]3 و4 و13 و18[/SIZE].
وفي اوائل القرن التاسع عشر، اصاب المملكة ضعف، اضطرها الى الاستنجاد بمملكة "واداي"، ثم خضعت في 1806م الى مملكة "واداي"، خضوعا تاما، ثم الى "كانم" في عهد الشيخ محمد الكانمي، ثم تحررت عام 1848م، وتعرضت للغزو من "واداي" عام 1870م، وانتهت، بان ضمها الامير "رابح" في1892م، وبقيت تحت سيطرته الى ان دخلها الفرنسيون عام 1900م. [SIZE=-1]1 و3 و6 و18[/SIZE].
الامير رابح
اصدر خديوي مصر في 1879م قراراُ، عزل بموجبه "الزبير باشا"، حاكم منطقة "بحر الغزال"، التابعة لمصر في ذلك الوقت . ووضعه، بعد عزله، تحت الاقامة الجبرية، وعين بدلاً منه ايطاليا يدعى "جيسي"1 . استنكر انصار "الزبير باشا" هذه الاجراءات، وخاصة ابنه "سليمان"، الذي صمم على الانتقام لابيه، لكنه، قُُتل قبل ان يتمكن من ذلك . فتولى القيادة من بعده، رجل من اتباع الزبير يسمى "رابح"، (ورد ذكره في بعض المصادر كاحد عبيد الزبير، وورد في مصادر اخرى كاحد اتباعه، وورد اسمه في مصادر غيرها كسلطان وتاجر وامير)، استطاع "رابح" ان يُعيد تنظيم قوات الزبير، ويعدها للقتال اعداداً جيداً، ثم يقودها من انتصار الى اخر، عبر سلسلة حروب وغزوات شنها على الامارات والممالك التي تحدثنا عنها.1 و3 و7 و8 و9. واستمرت غزوات رابح من منطقة الى اخرى، ومن مملكة الى اخرى، لمدة ثلاثة عشر عاما (1879م- 1892م) تقريبا، استطاع ان يضم خلالها ممالك "كانم"، و"بورنو" و"واداي" و"الباقرمي" في الفترة من 1891م الى 1893م، مما اثار حفيظة وتخوف وقلق فرنسا التي كانت تراقب تقدم "رابح"، وانتصاراته واتساع رقعة نفوذه بحذر وقلق شديدين، ففرنسا كانت تنوي ضم الممالك التي استولى عليها "رابح"، الى مستعمراتها الافريقية، لانها كانت تعتبرها جزءا من مناطق نفوذها. [SIZE=-1]1 و3 و7 و8 و9[/SIZE].
وصول فرنسا
كانت فرنسا تحتل، اثناء تقدم "رابح"، وقبل التصادم به، العديد من الدول الافريقية، منها ثلاث دول قريبة من تشاد هي "افريقيا الوسطى"، التي كانت تُعرف في ذلك الوقت باسم "اوبانغي- شاري"، (وهما نهران سميت بهما المنطقة)، والكونغو (وقد كانت تُعرف باسم مويان كونغو) و"الغابون". واطلقت فرنسا على هذه المستعمرات الثلاث، اسم "افريقيا الاستوائية الفرنسية"، وهي المستعمرات، التي تقدمت منها القوات الفرنسية لاحتلال تشاد . وكان لفرنسا، قبل احتلال تشاد بكاملها، تواجد في جزء كبير من جنوب تشاد. [SIZE=-1]19 و20 و21[/SIZE].
كما تواجدت فرنسا، ايضا، وقبل احتلالها لتشاد، في دول افريقية عديدة منها: الجزائر(1830م)، وتونس (1881م)، وساحل الذهب (1885م)، ومدغشقر(1895م)، والمغرب (1912م).
لقد كانت فرنسا تخطط لاحتلال تشاد وفزان، لعدة اسباب، منها: توفير الايدي العاملة لفرنسا، لبناء مستعمراتها في افريقيا، والاستيلاء على زراعة القطن في جنوب تشاد، لدعم الصناعات القطنية في فرنسا، وايقاف المد الاسلامي، الذي اخذ يتزايد في افريقيا، مما شكل عقبة امام مخططات فرنسا، لعزل افريقيا عن الاسلام، وتحويلها الى قارة نصرانية يسهل السيطرة عليها بسهولة، بالاضافة الى حماية وتأمين الطرق المؤدية الى مستعمراتها في الشمال الافريقي، حتى لا تستخدم لتمويل المقاومة ضد فرنسا في الجزائر.
لهذه الاسباب، كانت فرنسا تخطط لاحتلال "تشاد" و"فزان"، ولهذه الاسباب كانت فرنسا تراقب نشاط الدعاة ونشاط الحركة السنوسية، وتراقب تقدم رابح، ولذلك ايضا، كان الصدام بين قوات"رابح" والقوات الفرنسية، امرا لا مفر منه، فاندلع اول صدام بينهما في1899م، وحقق "رابح" في هذا الصدام، انتصارات كبيرة، خاصة في المعارك الاولى، بالرغم من الدعم الذي تحصلت عليه فرنسا من سلطان "باقرمي"، الذي تحالف في ذلك الوقت مع القوات الفرنسية بسبب تهديد الامير "رابح" لمملكته.
ارسلت فرنسا اثر هزيمتها في المعارك الاولى، ثلاث حملات عسكرية، اصطدمت مع قوات "رابح" في معركة رئيسية عُرفت بـمعركة " قُصري" او "كوسري"، وهو اسم المدينة التي جرت المعركة فيها او على مشارفها(تقع مدينة كوسري اليوم في الكاميرون)، وجُرح الامير "رابح" في هذه المعركة التي جرت في ابريل 1900م، ثم مات متأثراً بجراحه. كما قُتل، في نفس المعركة، اثنان من جنرالات فرنسا، يدعى احدهما الجنرال "لامي"، وهو الجنرال الذي سُُميت على اسمه عاصمة تشاد (فورت لامي) اي قلعة لامي، ثم سميت منذ 1973م بـ"انجامينا" . وبعد مقتل الامير "رابح"، تولى القيادة ابنه "فضل الله"، وحقق انتصارات عديدة قبل ان يُقتل عام 1909م، ثم واصلت قوات "رابح" القتال، بعد مقتل "فضل الله"، حتى عام 1911م، أي بعد موت رابح وابنه بعامين. [SIZE=-1]1 و3 و6 و7 و9[/SIZE]
وهكذا، تكون قوات رابح، وقوات ابنه من بعده، قد قاتلت لمدة عشرين عاماً تقريبا، انتصرت خلالها على جميع الممالك والامارات، وضمتها تحت لواء واحد، ثم قاتلت (قوات رابح) القوات الفرنسية، لمدة قاربت التسع سنوات، حققت اثناءها انتصارات رئيسية، ثم انتصرت فرنسا، فوقعت مع حلول1911م، جميع الممالك ومعظم الاراضي التشادية، تحت سيطرتها . وبالرغم من ان الدفعات الاولى للقوات الفرنسية قد وصلت إلى تشاد عام1892م، الا انها لم تتمكن من السيطرة التامة على البلاد إلا عام 1918م، اي بعد ما يقارب من الستة والعشرين عاما. وكان الشمال اخر المناطق التي وقعت تحت السيطرة الفرنسية.
والحقت اغلب مناطق تشاد في 1910م، بمستعمرة "اوبانقي- شاري" (افريقيا الوسطى حاليا)، فاصبحت "اوبانقي - شاري- تشاد"، مستعمرة واحدة، تابعة اداريا الى "افريقيا الاستوائية الفرنسية" (اي "افريقيا الوسطى" و"الكونغو" و"الغابون"). ثم فُصلت تشاد في 1920م عن "اوبانقي- شاري"، واصبحت مستعمرة في حد ذاتها، تدار من مدينة "بانقوي" بـ "افريقيا الوسطى"، حتى عام 1946م، حيث عينت فرنسا حاكماً عاماً للمستعمرات، اتخذ من "برازفيل" مقرا لادارة المستعمرات الاربعة. [SIZE=-1]19 و20 [/SIZE]
اهتمت فرنسا بالجنوب التشادي، اهتماماً خاصاً، فاق اهتمامها بالشمال والوسط، فقد رأت ان منطقة الجنوب مهيئة "للفرنسة"، اكثر من غيرها من المناطق، وذلك بسبب انتشار الاسلام في الشمال من جهة، وفقره من جهة اخرى، مما يجعل منه عبئا اقتصاديا على فرنسا. ليس ذلك فحسب.. بل ان هناك سببا اخر يجعل من احتواء الشمال، اكثر صعوبة من احتواء غيره من المناطق، ان لم يكن احتواؤه من المستحيلات، وهو ان لأهل الشمال امتدادا سياسيا وعرقيا ودينيا وتاريخيا مع العرب والمسلمين، فهم يميلون الى التعامل والتعاون والارتباط بالعرب والمسلمين، اكثر مما يميلون الى الارتباط مع فرنسا والجنوب.
وقد ظهراهتمام فرنسا بالجنوب عمليا، في بناء المدارس، والسماح لاهل الجنوب بالالتحاق بالجيش الفرنسي، ودعم وتشجيع زراعة القطن، وتأسيس انظمة واجهزة ادارية حديثة لم تشهدها باقي مناطق تشاد، مما ادى الى توفير الكفاءات العلمية والادارية والسياسية من الجنوبيين، كما ادى كذلك الى تفوق الجنوب اقتصاديا وعسكريا. كانت هذه المحاباة، التي وجدت لها فرنسا الف مبرر ومبرر، من اهم الاسباب التي ادت الى اتساع الهوة بين اهل تشاد، والى زيادة الاحساس بالظلم لدى اهل الشمال والوسط.
ولم تتوقف ممارسات فرنسا على مجرد التحيز للجنوب، بل مارست الارهاب ضد المسلمين، والغت القوانين الاسلامية، ومنعت استخدام اللغة العربية، ودمرت الاثارالاسلامية التي خلفتها الامارات والسلطنات والممالك الاسلامية التي تحدثنا عنها، واحرقت المساجد والخلاوي، والمدارس القرآنية، ونشرت الفجور، والانحلال، والفساد، والخمور، والمخدرات، وقتلت العلماء والفقهاء. بل جمعت في مذبحة واحدة، 400 عالم وفقيه وطالب علم، احضرتهم القوات الفرنسية، من مختلف المناطق في تشاد، وجمعتهم في مدينة "ابشة"، العاصمة الدينية لتشاد، وقتلتهم جميعا بالسواطير، وقد عُرفت هذه المذبحة، بمذبحة "كبكب"، اي "الساطور" باللغة التشادية. [SIZE=-1]3[/SIZE]
كما لم تسمح فرنسا للتشاديين، بممارسة العمل السياسي، الا من خلال احزاب سياسية، تأسست في فرنسا، وافتتحت لها فروعا في تشاد، ويبرز من بين هذه الاحزاب، الحزب "الراديكالي التقدمي"، والحزب "الاشتراكي"، وحزب "اوديت". [SIZE=-1]6 [/SIZE]وعندما هُزمت فرنسا في 1940م، امام المانيا في الحرب العالمية الثانية، عقد الجنرال الفرنسي "بيتان" هدنة مع "المانيا"، قُسمت فرنسا، بناء عليها، الى دولتين واحدة في الجنوب، وعاصمتها مدينة "فيشي" ويحكمها الجنرال "بيتان"، والثانية في الشمال، يحتلها ويحكمها الالمان، وعاصمتها "باريس".
عارض الجنرال " شارل ديغول" هذه الهدنة، وانشأ اللجنة الوطنية الفرنسية،التي تحولت فيما بعد، الى حكومة في المنفى، اتخذت من "لندن" في البداية مقرا لها، ثم انتقلت عام 1943م الى الجزائر. وسميت هذه الحركة بحركة "فرنسا الحرة"، وهي حركة رفض ومقاومة ومعارضة، انضم اليها، كل من رفض الاحتلال الالماني، وكل من رفض هدنة "بيتان"، وحكومته واستسلامه للالمان. ولاقت هذه الحركة تاييدا شعبيا واسعا، داخل وخارج فرنسا، وخاصة من قبل قطاع كبير من الجيش الفرنسي المنتشر في المستعمرات الفرنسية، وشاركت حركة "فرنسا الحرة" في الحرب بجانب الحلفاء ضد المحور في ليبيا ومصر، كما حاربت الايطاليين في اثيوبيا، واصطدمت بالقوات الفرنسية التابعة للجنرال" بيتان"، او لحكومة "فيشي" في سوريا ولبنان. [SIZE=-1]19 و20 و21[/SIZE]
وعندما انتصر الحلفاء على المحور، في 1943م، عاد الجنرال ديغول الى فرنسا كبطل قومي. واعتبرت حركته حركة تحررية وطنية، بينما اعتبر الجنرال" بيتان" وحكومته واعوانه، من الخونة الذين تعاملوا مع العدو الالماني.
انحازت اغلب المستعمرات الافريقية الفرنسية، بما في ذلك "تشاد"، الى جانب "فرنسا الحرة"، وكان لـ "فيليكس ايوي" الحاكم الاستعماري لتشاد، دور رئيسي، في اتخاذ تشاد لمثل هذا الموقف. كما تحولت اراضي افريقيا الاستوائية، بصفة عامة، الى مسرح لنشاطات فرنسا الحرة ومركز لقواتها المسلحة.
ثم اصبح للمستعمرات، حسب دستورالجمهورية الرابعة (1946م-1958م)، الحق في انتخاب مجلس وطني محلي، والحق في اختيار ممثل ينوب عن كل مستعمرة في المجلس الوطني الفرنسي، في باريس . وبناء على هذاالدستور سمحت فرنسا بانتخاب اول مجلس وطني نيابي في تشاد، في عام 1946م . وعندما تولى الجنرال "ديجول" رئاسة الوزارة في 1958م، شارك في اعداد دستور جديد، عُرف بدستور "الجمهورية الخامسة"، مُنحت المستعمرات الفرنسية، بناء عليه، حرية الاختيار بين الانفصال والاستقلال عن فرنسا، مع ايقاف المساعدات الفرنسية فورا، وبين الارتباط بفرنسا والبقاء ضمن الاتحاد او المجموعة الفرنسية، مع استمرار المساعدات، والحصول على الحكم الذاتي كخطوة متقدمة نحو الاستقلال الكامل. واختارت جميع المستعمرات (ما عدا غينيا) البقاء ضمن الرابطة او المجموعة الفرنسية بما في ذلك "تشاد" . ثم تحصلت تشاد في 1958م، على الحكم الذاتي، واختير "جبريل (غبريل) ليزبيت" رئيسا للحكومة الذاتية، وكان هذا الحكم الذاتي، محصورا، كما ذكرنا، ضمن المجموعة الفرنسية وفي ظل الدستور الفرنسي. 19 و20 و21 ولم يتحصل التشاديون، على هذا الحكم الذاتي، على طبق من فضة، كما قد يبدو، بل بعد تضحيات ومواجهات مريرة عبر عقود من المعاناة.
وفي 11 اغسطس1960م، نالت تشاد استقلالها بالكامل، وانضمت في سبتمبر، من نفس العام، الى الامم المتحدة، كدولة مستقلة، تحت اسم "جمهورية تشاد".
و"جمهورية تشاد" اليوم هي احدى دول وسط افريقيا، تحدها شمالا ليبيا، وشرقا السودان، وغربا النيجر ونيجيريا والكمرون، ومن الجنوب افريقيا الوسطى، وتبعد عن البحر الابيض المتوسط مسافة 1500 كم تقريبا، وتفصل بين الصحراء الكبري ووسط افريقيا، وبين شمال ووسط افريقيا، وهي دولة داخلية لا تطل على بحر، ويبلغ عدد سكانها نحو9,253,493 مليون نسمة تقريبا (حسب احصائية 2003م)، كما تبلغ مساحتها 1284000كم2، فتاتي بذلك، في المرتبة الخامسة في القارة الافريقية من حيث المساحة (بعد السودان والجزائر وجمهورية الكنغو الديمقراطية وليبيا). ومن اهم المدن في تشاد: "انجامينا"، و"ابشة"، و"لارا"، و"فايا"، في الشمال، و"سار" و"مندو" في الجنوب. وتعتبر اللغة العربية واللغة الفرنسية، اللغات الرسمية في البلاد، كما ان الفرنك الافريقي (سيفا) هو العملة التشادية المعمول بها.
وتنقسم تشاد، اداريا، الى اربع عشرة محافظة (او مقاطعة ادارية) هي حسب الترجمة: "البطحة"، و"بلتين"، و"بوركو- انيدي- تبستي"، و"شاري- باغورمي"، و"قويرا"، في الجنوب، و"كانم"، و"لاك"، و"لوجون الشرقي"، و"لوجون الغربي"، و"مايو كبي"، و"شاري المتوسط"، و"واداي" و"سلامات او سلمات"، و"تانجيلي"، في الشمال، وربما تغيرت هذه التقسيمات الادارية الان، وحل محلها تقسيمات مختلفة.
كما تنقسم تشاد، الى ثلاث مناطق رئيسية هي: "شمال" و"وسط" و"جنوب"، يقطن الشمال والوسط مسلمون من العرب والتبو، وهم رحل فقراء، بينما يقطن الجنوب اهل "السارة" وهم مسيحيون، افضل اقتصاديا من اهل الشمال والوسط، وتعتبر هذه الفوارق العرقية والاقتصادية والدينية، هي الرحم الذي ولدت منه اغلب الحروب الاهلية في تشاد.
نالت تشاد استقلالها، كما ذكرنا، في اغسطس 1960م، لكن فرنسا، وكغيرها من الدول الاستعمارية، لم ترحل بالكامل، فقد تركت بعض قوّاتـها بحجّة الدفاع المشترك بين البلدين، وزرعت بذور الفرقة والشقاق، وفرضت على تشاد دستورا علمانيا، كما فرضت اللغة الفرنسية، كلغة رسمية، وتحكمت في اقتصاد البلاد.
ليس ذلك فحسب، بل نصبت رئيس الحزب التقدمي "فرانسوا تمبلباي"، رئيسا لتشاد، وهو مسيحي ينتمي الى قبائل "السارة" التي تقطن الجنوب . وقد ولد "تمبلباي" في 1918م، وعاش في الجنوب وتلقى تعليمه في "الكنغو برازافيل". وهو من التشاديين القلائل الذين نالوا الشهادة الثانوية اثناء او مع نهاية الحرب العالمية الثانية (1939م-1945م)، وعمل في1947م كمدرس، وساعد في تأسيس الحزب "التقدمي التشادي"، وهو فرع تشاد التابع لـ"التجمع الديمقراطي الافريقي"، واختير "تمبلباي" بعد 1952م، رئيسا للمجلس التشريعي للمنطقة، واصبح من قيادات الحزب "التقدمي التشادي"، ومثل تشاد في 1957م في المجلس العام لـ"افريقيا الاستوائية الفرنسية"، ثم اصبح في1959م، رئيسا للحزب "التقدمي التشادي"، ورئيسا لوزراء تشاد من 1959م الى 1960م، ثم اول رئيس لجمهورية تشاد في1960م، وقد غير "فرانسوا تمبلباي" اسمه من "فرانسوا" الى "ناقارتا" في اوائل 1970م [SIZE=-1]10 و17[/SIZE].
حكم "تمبلباي" تشاد، حكما استبداديا، فاعلن في 1962م، قانون الطوارىء، والغى الاحزاب كلها، لكنه لم يلغ الحزب الذي كان يتزعمه، فاصبحت الدولة تدار في عهده، بنظام الحزب الواحد. كما اقصى اهل الشمال من ادارة البلاد، ومن المشاركة في السلطة، بل من المشاركة في الحياة السياسية بصفة عامة، وحاول ان يفرض على تشاد قسرا، عادات وطقوس وثقافات الجنوب. وقام بحملات اعتقال وقتل وقمع في اوساط المسلمين، وحكم على بعضهم باحكام قاسية، وصل بعضها الى السجن لمدة عشرين عاماً، مع الاشغال الشاقة، بتهمة زعزعة امن الدولة، كما قام عام 1965م بتصفية دموية للمسلمين قتل فيها ما يقارب من 500 مسلم.3 و18 وكان "تمبلباي"، بالاضافة الى القمع الذي كان يمارسه على المسلمين، يولي رعاية خاصة للجنوبيين وللمسيحيين، فقرب مواطنيه من اهل "السارة"، وولاهم شؤون البلاد، وقلدهم اهم وادق المناصب في الدولة. وكانت فرنسا تؤيد "تمبلباي" لانها لا تريد ان يستحوذ اهل الشمال من العرب والمسلمين، على السلطة، فتعود البلاد الى ما كانت عليه قبل الغزو الفرنسي، بل تريد فرنسا، ان تحتفظ بتشاد في الدائرة الافريقية المسيحية الفرنسية. وربما كانت تتمنى، في نفس الوقت، ان يحقق "تمبلباي" توازنا سياسيا ما، يرضي، او يهديء على الاقل، جميع الاطراف في البلاد، ويضمن (هذا التوازن) لتمبلباي، السيطرة على زمام الدولة، فيحافظ بذلك على تشاد الموالية لفرنسا، ويحقق بالتالي الامن والامان والاستقرار.
لكن "فرانسوا تمبلباي" لم يبذل جهداً، في خلق شيء من التوازن، من اجل استمالة اهل الشمال، بل تجاهلهم نهائيا تقريبا، فتحول بذلك الى عنصر فرقة وشقاق.
لقد افتقد "تمبلباي" الحد الادنى من الحنكة والمرونة والذكاء، التي يحتاجها كل من اراد ان يتعامل مع متناقضات "تشاد"، فزادت حالة البلاد في عهده سوء، بسبب سياساته الرعناء وتعصبه وانحيازه الى منطقته وبني جنسه، وبسبب القمع الذي مارسه ضد التشاديين وضد المسلمين، وبسبب احتكاره للثروة، وفرضه لضرائب خيالية، كان يزيدها بصورة مستمرة على الناس، مما ادى الى انتشار الفقر والجهل، وتأجيج روح الثورة والتمرد . وفشل تمبلباي، ايضا، في تحقيق وعوده وطموحاته التي كان يعد بها . زد على ذلك، انه فشل في سياساته، بالرغم من تمتعه بتاييد "المجلس الوطني التشادي"، فاغلب اعضاء هذا المجلس كانوا من اهل الجنوب، ومن اهل "السارة" بصفة خاصة، بل زاد وضع تمبلباي سوءا عندما عارضه حتى بعض الجنوبيين المسيحيين، وبعض الاحزاب الاشتراكية والوطنية والقومية. [SIZE=-1]16[/SIZE] وهكذا..
فشلت فرنسا في ايجاد الرجل الذي يلتف حوله التشاديون، ويحمي، في نفس الوقت، مصالحها، ويجعل من تشاد دولة تابعة لها . لقد فشل "تمبلباي" في تحقيق الحد الادنى من الاستقرار السياسي. وتحولت تشاد في عهده، الى ساحة تعج بالفوارق والمتناقضات والانقسامات العرقية والجهوية والاقتصادية، والجوع والفقر والجهل والاحساس بالاضطهاد والظلم . وكثرت، فوق كل ذلك، الحروب الاهلية التي مزقت البلاد واكلت الاخضر واليابس.
ورفض التشاديون من جانبهم، اسلوب "تمبلباي" في ادارة البلاد، فانطلقت المقاومة ضده بوسائل واساليب وانماط عديدة، يأتي على قمتها، تأسيس "جبهة التحرير الوطني التشادي"، او ما عُرف بـ "الفرولينات"، اختصارالاسمها باللغةالفرنسية.(Front de Liberation Nationale du Tchd)
والى اللقاء مع الفصل الثاني من كارثة تشاد، تحت عنوان "المقاومة.. وتأسيس الجبهة الوطنية لتحرير تشاد"، نتحدث فيه، باذن الله، عن المقاومة التشادية- التشادية، وتأسيس "الفرولينات"، ومقاومتها لحكومة "تمبلباي"، وبداية تدخل ليبيا في تشاد، والله ولي التوفيق.
2- المقاومة.. وتأسيس "جبهة التحرير الوطني التشادي"
يتحدث هذا الفصل، عن الاتجاهات السياسية، التي كانت تدير دفة الصراع في تشاد. كما يتحدث عن المقاومة التشادية، وتأسيس "جبهة التحرير الوطني التشادي"، بالاضافة الى طبيعة العلاقة بينها وبين ليبيا، وكيفية وصول "تمبلباي" الى السلطة، وكيفية سقوطه، وبروز "حسين هبري" و"كوكوني واداي" على الساحة السياسية التشادية. كما سنتعرف، في هذا الفصل ايضا، على اهم الشخصيات، التي كان لها دور فعال، في الصراع التشادي-التشادي، والصراع الليبي-التشادي. يقدم هذا الفصل، اذا، خلفية عامة، عن الصراع بين الاطراف الثلاثة، ليبيا، وفصائل المقاومة، والحكومة التشادية. فلعنا، نلمس، من خلال ذلك، بعض الاسباب، التي ادت، الى ما آلت اليه، الحرب الليبية التشادية. لقد اسس التشاديون (قبل الاستقلال) تنظيمات عديدة، لايجاد بديل وطني تشادي، يحل محل فرنسا، وينتقل بالبلاد، من وضع الاحتلال، الى وضع الاستقلال. كما اسس التشاديون، ايضا، تنظيمات اخرى (قبل وبعد الاستقلال)، لمواجهة نظام "فرانسوا تمبلباي"، وإنهاء سيطرة الجنوب على الشمال. وسنتحدث فيما يلي، عن بعض تلك الاحزاب، والحركات، ودورها في تأسيس "جبهة التحرير الوطني التشادي"، والتي تُعرف اختصارا بـ "فرولينا".
الحزب التقدمي التشادي..
تأسس "الحزب التقدمي التشادي" عام1947م، على ايدي "جبريل فرانسيسكو لاسيتي"، بمساعدة بعض التشاديين، من بينهم "فرانسوا تمبلباي" نفسه، وهو من اوائل الاحزاب التي تأسست في تشاد. ويتبنى هذا الحزب، اتجاهات وطنية يسارية ماركسية.1 كما ان اغلب منتسبيه ينتمون الى نخب الجنوب، من غير المسلمين. ويتمتع هذا الحزب، بشعبية كبيرة جدا، بين التشاديين، خاصة بعد ان رفع شعار "حق تقرير المصير"، الذي تبناه، ايضا، اغلب ابناء تشاد. لذلك، احرز الحزب، انتصارا ساحقا، في انتخابات "المجلس المحلي التشادي"، التي جرت عام1957م، وحصل فيها الحزب على 32 مقعد، من اصل 65 (اي انه فاز بنسبة 49% من المقاعد)1. لذلك عُين، مؤسس الحزب، "جبريل لاسيتي"، عقب هذا الانتصار، رئيسا للحكومة، عندما كانت تشاد تحت الحكم الذاتي. 1 و 11 و 12.
ويعود "لاتسي" الى اصول غير تشادية، فقد ولد في مدينة "بورتو بيلو" في "بنما"، في شهر ابريل من عام 1919م، والتحق بالعمل مع ادارة المستعمرات الفرنسية، واوكلت اليه، مهمة الاشراف على مستعمرة تشاد.
وكان "تمبلباي" واعوانه، ينوون ازاحة "لاتسي"، من المشهد السياسي التشادي، فاستغلوا اصوله، غير التشادية، وطالبوا بسحب الثقة منه، ومن حكومته، كما طالبوا بأن يتولى مواطن من "تشاد"، رئاسة الحزب، بدلاً منه. وبالفعل سُحبت الثقة من "لاتسي"، وعُين "تمبلباي" رئيسا لـ"الحزب التقدمي التشادي".12 واستطاع الحزب، في دورة الانتخابات الثانية، ان يحقق نجاحا، فاق النجاح الاول للحزب (تحصل على 57 مقعد، من اصل 85، اي فاز بنسبة 67%)1، واصبح "تمبلباي"، على ضوء هذا الانتصار، رئيسا للمجلس الوطني المحلي في 1959م، كما اصبح، فيما بعد، اول رئيس لتشاد. اما، "لاتسي" فقد اوكلت اليه، مهام عديدة، تتعلق ببعض الشؤؤن الاقتصادية والشؤون الخارجية. 9 و 12 كانت ازاحة "لاتسي" نهائيا، من على المسرح السياسي التشادي، مسألة وقت بالنسبة لـ"تمبلباي"، الذي كان ينظر الي "لاتسي"، كمنازع على السلطة. لذلك، أستغل "تمبلباي" سفر "لاتسي" الى خارج تشاد، وطالب الحكومة التشادية بمنعه، من ممارسة نشاطاته السياسية، بل واصدر قرارا، بفصله من الحزب، ومنعه من العودة الى "تشاد" نهائيا. فانتهت بذلك، نشاطات "لاتسي"، واختفى من الحياة السياسية التشادية بالكامل،12 ثم مات في فرنسا، في عام 2001م.
الاتحاد الديمقراطي التشادي..
تأسس "الاتحاد الديمقراطي التشادي"، في نوفمبر 1947م، على ايدي بعض الزعماء والسلاطين في تشاد. ويعتبر هذا الحزب، من الاحزاب المحافظة التي تاسست، لرعاية مصالح الفرنسيين في تشاد، بالاضافة الى مصالح بعض الزعماء التشاديين، من الذين سمحت لهم فرنسا بنفوذ محدود، مقابل خدمات ومهام عامة، يقدمها هؤلاء لفرنسا، كالمساعدة في جمع الضرائب، على سبيل المثال. كما ساهم الحزب، كذلك، في رعاية مصالح الاوربيين بصفة عامة. لذلك، كان للحزب علاقات جيدة، مع الاحزاب الاوربية المحافظة، التي تمثل المصالح الاوربية في تشاد.1 و 9 و 11 و 12 و 15.
تمتع "الاتحاد الديمقراطي التشادي"، باديء الامر، بشعبية لا باس بها نسبيا، ثم قلت شعبيته، مع حلول عام1953م، وخاصة بعدما عصفت به الانقسامات، وبرزت لمواجهته "الحركة الاجتماعية التشادية"، في نفس دوائر الانتخابات، التي يعمل بها. ليس ذلك فحسب، بل فضل التشاديون "الحزب التقدمي التشادي"، على "الاتحاد الديمقراطي التشادي"، على اساس ان الاول، يعتبر اكثر وطنية، واقرب الى طموحاتهم، من الاحزاب التي ترعى المصالح الفرنسية والمصالح الاوروبية.1 و 12.
الحركة الاجتماعية التشادية..
انبثقت "الحركة الاجتماعية التشادية" عن "الاتحاد الديمقراطي التشادي"، في عام 1953م، وهي حركة تمثل المصالح التجارية الفرنسية والاوربية، بجانب مصالح الزعامات التقليدية القديمة، فهي لذلك تشبه وتنافس "الاتحاد الديمقراطي التشادي"، والتي انبثقت منه اصلا، وتواجدت في نفس دائرته، وتبنت نفس افكاره تقريبا. وقد قلل، تواجد الحركة، كما ذكرنا، من شعبية "الاتحاد الديمقراطي التشادي"، وتفوقت عليه في احد الانتخابات الرئيسية. بل ويشير البعض، الى ان "الاتحاد الديمقراطي التشادي" تحول بالكامل الى "الحركة الاجتماعية التشادية"، التي انتهت هي الاخرى، عندما اصدر الرئيس "تمبلباي"، قرارا، بحل الاحزاب نهائيا، وذلك في عام 1962م. 1و 11 و 12
تأسس "الاتحاد الوطني التشادي"، عام 1958م، على ايدي نخبة من المسلمين، من بينهم الشيخ "محمد الباقلاني" و"ابراهيم اباتشا" و"ابا صديق" و"محمد ابا"، و"محمد طاهر صالح"، و"هدجرو سنوسي"، وذلك لمقاومة الاحتلال الفرنسي من جهة، ومقاومة الحكومة التشادية من جهة اخرى. وكان الشعار الذي انطلق به الحزب، وتحصل به على ارضية سياسية صلبة، يتلخص في التصويت لصالح "استقلال تشاد عن فرنسا استقلالا تاما"، وذلك ضد الشعار الذي كان ينادي بـ "انضمام تشاد الى الرابطة الفرنسية". ويمكن القول ان "الاتحاد الوطني التشادي" و"الاتحاد التقدمي التشادي"، نقيضان لبعضهما البعض، فالاول اسسته نخبة من المسلمين، اغلبهم من الشمال، من ذوي الاتجاه العروبي الاسلامي، بينما اسس الثاني نخبة من الجنوبيين، اغلبهم من غير المسلمين، ومن ذوي الاتجاه اليساري.1 و 11 و 12.
استمر "الاتحاد الوطني التشادي" في ممارسة نشاطاته السياسية علنا، الى ان الغى "تمبلباي" الاحزاب السياسية في عام 1962م، ومنع تأسيسها، ورسخ، بدلا من ذلك، نظام الحزب الواحد، عندها، اوقف "الاتحاد الوطني التشادي" نشاطاته العلنية، وتحول الى العمل السري، كما واصل اغلب قياداته العمل خارج تشاد، وكان لكل منهم دور بارز، في الصراع ضد الحكومة التشادية.
الحزب الوطني لابناء تشاد..
تأسس "الحزب الوطني لابناء تشاد"، في السودان، وهو حزب اسلامي، اسسه "احمد حسن موسى"، بالتعاون مع التشاديين، الذين كانوا يعيشون في المنفي في السودان. وكان "احمد حسن موسى"، وهو من الاسلامييين، قد هرب الى السودان، بسبب القمع الذي كانت تمارسه الحكومة التشادية على الشعب. ويهدف "الحزب الوطني لابناء تشاد"، الى طرد الفرنسيين، ومحاربة النظام، واقامة دولة اسلامية في تشاد، وقد لعب الحزب دورا رئيسيا، في تاسيس "جبهة التحرير الوطني التشادي" (فرولينا)، كما سياتي فيما بعد.11 و 12.
جبهة تحرير تشاد..
واسس "احمد حسن موسى"، ايضا، "جبهة تحرير تشاد"، وهي جبهة مسلحة، من المرجح انها تأسست كجناح عسكري يتبع "الاتحاد الوطني لابناء تشاد". وهي ليست "جبهة التحرير الوطني التشادي- فرولينا"، لكنها نواة رئيسية لها. وقد كثفت هذه الجبهة، من نشاطاتها، على الحدود السودانية- التشادية. وكانت انتفاضة "قويرا" (احدى مقاطعات تشاد)،التي انتفض فيها الشعب التشادي، عام 1965م، ضد الحكومة بصفة عامة، وضد جامعي الضرائب، بصفة خاصة، وما نتج عن ذلك من ضحايا، كانت (هذه الانتفاضة) احد الاسباب الرئيسية التي دفعت بـ"احمد حسن موسى"، الى تأسيس "جبهة تحرير تشاد".1 و 10 و 11 و 12.
وربما تعتبر "جبهة تحرير تشاد"، اول تنظيم مسلح معاصر، يتأسس في تشاد، لمواجهة "تمبلباي"، ومواجهة الاحتلال الفرنسي، في نفس الوقت. وعندما سقط "تمبلباي"، في عام 1975م، تصالح "احمد حسن موسى" مع "فيليكس مالوم"، الذي حل محل "تمبلباي"، لكنه قُتل (احمد حسن موسى) بعد ذلك، في عام 1979م، على يد "حسين هبري"، في احدى المدن التشادية. تجمع الريفيين التشاديين المستقل..
انشق بعض مؤسسي "الحركة الاجتماعية التشادية"، مرة اخرى، وشكلوا تنظيما، يحمل اسم "تجمع الريفيين التشاديين المستقل"، واستطاع هذا التجمع ان يتفوق، في انتخابات1957م، على "الحركة الاجتماعية التشادية"، التي انشق عنها اصلا.1
تلك كانت بعض النماذج من الحركات والاحزاب والجماعات، التي تأسست في تشاد، قبل وبعد الاستقلال. وكانت هناك، بجانب هذه الاحزاب، قوى اخرى، تعارض النظام، وتقاوم التواجد الفرنسي، وقد استندت، هذه القوى، على خلفيات اجتماعية وجهوية وقبلية وعرقية. وقد تمثلت هذه القوى، في شيوخ القبائل، وزعماء المناطق، والقضاة والسلاطين، واصحاب النفوذ، بالاضافة الى المعارضة العامة، التي كان الشعب التشادي، يمارسها، بكافة قطاعاته، ضد الحكومة العنصرية الظالمة.
ويبرز، كنموذج لهذه القوى، دردي التبو(وتعني قاضي التبو، او الاب الروحي للتبو)، الذي طلب من "تمبلباي"، تعيين ابنه "كوكوني واداي"، في الحكومة التشادية. وعندما رُفض طلبه، لجأ والد "كوكوني واداي"، في عهد الملك "محمد ادريس السنوسي" (رحمه الله)، الى ليبيا، يصحبه قرابة الالف من اتباعه، من بينهم ابنه،8 الذي سيلعب دورا رئيسيا، في الصراع التشادي-التشادي، والصراع الليبي-التشاديٍ. وقد عاد والد "واداي"، في اغسطس1975م، بعد الانقلاب الذي اطاح بـ"تمبلباي"، لكن ابنه لم يعد الا بعد ذلك بكثير.
حل الاحزاب..
وفي 1962م، حل تمبلباي، التنظيمات والاحزاب والحركات السياسية، ومنع تأسيس احزاب جديدة، وتبنى، نظام الحزب الواحد، فسمح لحزبه فقط (الحزب التقدمي التشادي) بمواصلة نشاطه السياسي. وقد اختلفت ردة فعل الاحزاب، والقوى السياسية، تجاه هذا القرار التعسفي، فاستجابت له بعض الاحزاب مباشرة، واوقفت نشاطها السياسي، بمجرد صدوره، وعارضته احزاب اخرى، اتجهت الى العمل السري، كـ"الاتحاد الوطني التشادي"، على سبيل المثال. وبصفة عامة، زاد هذا القرار، من حدة التوتر السياسي في البلاد.
وانطلقت، في ابريل 1963م، انتفاضات في "انجامينا" و"ام تيمان"، ومناطق اخرى من البلاد، واُعلنت حالة الطواريء، وحُل المجلس الوطني، والقي القبض على المعارضين، والخصوم السياسيين، ونُفي بعضهم، وقُتل غيرهم.11 كما أنشأ النظام محكمة خاصة، للتعامل مع هذه الاوضاع، عُُرفت بمحكمة "الجنايات الخاصة". وفي سبتمبر من عام 1963م، قبُض على بعض القادة المسلمين، فانطلقت، بسبب ذلك، انتفاضة كبيرة في "انجامينا"، تم قمعها بعنف شديد. كما امر احد ممثلي الحكومة، سكان مدينة من مدن الشمال، وهم من المسلمين، بالسير الى السجن عراة، وكانوا يتعرضون اثناء سيرهم، الى الاستهزاء والسخرية والاهانات، وكان قد تم القبض على البعض منهم، لمجرد انهم من الملتحين، اوممن يرتدون العمائم. 12
وازداد الامر سوء، عندما ضاعفت الدولة، في عام 1964م، من الضرائب، تحت باب "القرض الوطني"، كما فُرض على المواطنين، في الضواحي والارياف، دفع ضرائب مضاعفة، فوق ما تطلبه الحكومة. فانطلقت في مدينة "منقالم"، في مقاطعة "قويرا" في نوفمبر من عام 1965م، انتفاضة كبيرة، بسبب الارتفاع المستمر في الضرائب، وقُتل في هذه الاحداث، اكثر من خمسمائة مواطن تقريبا، منهم احد نواب "المجلس الوطني التشادي" المحلي، ومسؤلين اخرين، في الحكومة التشادية، وامتدت انتفاضة "منقالم"، الى مدن ومقاطعات اخرى، منها "البطحة" و"واداي" و"سالامات".8 و 11 و 12.
وهاجرت، عقب قرار حل الاحزاب، وما نتج عنه من قمع وتوتر وارهاب، شخصيات قيادية تشادية عديدة، بنية مواصلة النضال ضد الحكومة من الخارج. وكانت "ليبيا" و"السودان" و"نيجيريا" و"غانا" و"افريقيا الوسطى" و"الجزائر"، من اهم الاقطار التي هاجرو اليها. وكان هؤلاء القادة، يكثفون من نشاطاتهم، وسط الجاليات التشادية المتواجدة في تلك الاقطار، وخاصة التجمعات الطلابية، وذلك بنية ضمهم الى صفوف المقاومة. وربما بدأت ارهاصات تأسيس "جبهة التحرير الوطني التشادي" (فرولينا)، في تلك الفترة.
اضطرت الحكومة التشادية، تحت ضغط هذه الاوضاع، الى تغيير سياساتها، عبر التقرب الى الدول العربية، لتسحب البساط من تحت اقدام فرولينا، وتحصل، في نفس الوقت، على مساعدات مادية، تساعدها على الخروج من ازماتها، التي سببتها المقاومة من جهة، وسببها الجفاف والقحط والحالة الاقتصادية المزرية، التي كانت البلاد تعاني منها، من جهة اخرى. ولتحقيق ذلك، قطع "تمبلباي" علاقاته مع الاسرائيليين، وانسحب من منظمة كانت تضم مجموعة من الدول المتحدثة بالفرنسية، وحارب الثقافة الفرنسية، على اساس انها ثقافة المستعمر الدخيل، وغير "الحزب التقدمي التشادي"، واطلق عليه اسم "الحركة الوطنية للثورة الثقافية والاجتماعية"، وقاد بناء على ذلك، حركة تغييرية تهدف الى "افرقة تشاد"، وهي الحركة التي غير على ضؤها، الاسماء الفرنسية لبعض مناطق ومدن تشاد، من بينها العاصمة (فورت لامي) والتي اصبح اسمها "انجامينا"، بل وغير اسمه من "فرانسوا تمبلباي" الى "ناقرتا تمبلباي". 11 و12.
ادت هذه التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية، الى شيء من التقارب بين النظام التشادي، وبعض الدول العربية، من ضمنها ليبيا، والتي بلغ التقارب بينها وبين تشاد، اوجه في عام 1973م. فقد اوقفت ليبيا، في ذلك الوقت، اذاعة فرولينا، الموجهة من ليبيا الى تشاد، وطًُرد اغلب قادة واعضاء فرولينا من ليبيا. كما توج هذا التقارب، بزيارة "تمبلباي" الى ليبيا، وتوقيع اتفاقية تعاون اقتصادي بين البلدين، مع الاعلان عن تأسيس مصرف مشترك بين البلدين، واستثمار ملايين الدولارات في تشاد. وتم، فوق كل ذلك، توقيع اتفاقية، بين ليبيا وتشاد، اعتبرت منطقة الحدود، بموجبها، منطقة تضامن وتعاون بين البلدين.9
وقد نوه الشهيد "محمد مصطفى رمضان" الى هذه التحولات، ونوه كذلك الى الاجراءات التي اتخذتها ليبيا، تجاه فرولينا، كما نوه كذلك، الى زيارة تمبلباي الى ليبيا، وذلك في الرسالة الثانية، من مجموعة الرسائل، التي كان الشهيد يرسلها الى معمر، ينصحه فيها، بشأن العديد من القضايا الحساسة، التي عجز معمر عن التعامل معها بالصورة الصحيحة، والتي كان الوطن الاسلامي والعربي، يمر بها، في ذلك الوقت. يقول الشهيد، في رسالنه الرائعة الثانية، حول هذا الامر:
"لست افهم ان تندفعوا في تأييد حركة الثورة الاسلامية في تشاد، ضد حكم الاقلية المسيحية فيها، ثم توقفون دعمكم فجأة، وبلا مقدمات، وتطردون المجاهدين التشاديين من ليبيا، وتغلقون الاذاعة الموجهة الى تشاد، دون ان يحدث تغيير في نظام "فرانسوا تمبلباي". بل يزورك "فرانسوا" نفسه في ليبيا، وسط مظاهر من الحماس والترحاب".5
وكان من نتيجة التقارب بين ليبيا و الحكومة التشادية، ان قل الدعم المالي والعسكري، الذي كانت ليبيا تقدمه الى "فرولينا"، التي شحت مواردها، وتعرضت، من جراء ذلك، الى صعوبات ومتاعب عديدة، اثرت تاثيرا واضحا، على نشاطها ضد الحكومة التشادية. كما نقل "ابا صديق"، نتيجة لهذا التقارب، قيادة "جبهة التحرير الوطني التشادي" من ليبيا الى الجزائر. وبذلك يكون "تمبلباي"، قد نجح، والى حد ما، في سعيه، لضرب الفرولينات، والحصول على المساعدات التي يحتاجها، عبر سياسة التقارب، مع الدول العربية، بصفة عامة، واغلب دول الجوار بصفة خاصة.11 و 12.
ولم يستمر ربيع "تمبلباي"، ففي الفترة من يونيو1973م الى مارس 1975م، اعتقل "تمبلباي" بعض اعضاء "الحزب التقدمي التشادي"، والقى القبض على الجنرال "فيليكس مالوم"، واُعتقل ضباط، بتهمة التخطيط للقيام بانقلاب عسكري، كما استمر، خلال نفس الفترة، في اغتيال خصومه في الداخل والخارج. 11 و 12.
وفي الثالث عشر، من ابريل1975م، قام الجيش التشادي، بانقلاب عسكري، اطاح بحكومة "تمبلباي"، الذي قُتل في هذا الانقلاب. وحُكمت تشاد، بعد الانقلاب، بمجلس عسكري، سُمي بـ"المجلس العسكري الاعلى"، ترئسه، "فيليكس معلوم"، الذي اصبح ايضا، رئيسا لتشاد. وكان الغاء "الحركة الوطنية للثورة الثقافية والاجتماعية"، ودعوة المقاومة الى الصلح، من اوائل القرارات، التي اتخذها "فيليكس مالوم
يتحدث هذا الفصل عن كيفية وصول "حسين حبري" العدو اللدود لـ"معمر" الى رئاسة تشاد. ويتحدث ايضا عن اعلان الوحدة بين ليبيا وتشاد من طرف واحد ورفض افريقيا لهذا الاعلان، ودور ذلك في الانسحاب الاول للقوات المسلحة الليبية من تشاد. يسبق كل ذلك، حديثنا في هذا الفصل ايضا، عن الصراعات والانشقاقات التي عصفت بـجبهة التحرير الوطني التشادي الام (فرولينا). وعن اهم الفصائل التي انشقت اليها، بالاضافة الى جهود الصلح التي بذلتها بعض الدول الافريقية، وعلى رأسها "نيجيريا" لوضع حد للحرب الاهلية في تشاد.
كان "ابراهيم اباتشا"، اول امين عام لجبهة التحرير الوطنية التشادية، رجلا سياسيا، وقائدا ميدانيا، مؤهلا لقيادة الفرولينا، لذلك نجح، كما ذكرنا في الفصل السابق، في توحيد وقيادة فصائل المقاومة. أما "ابا صديق"، الذي استلم قيادة الفرولينا في عام 1970م، اي بعد مقتل "ابراهيم اباتشا" بعامين تقريبا، فلم يكن الرجل المناسب، حيث افتقر الى الخبرة العسكرية، والرصيد النضالي، والحنكة السياسية، واشتهربمواقفه السلبية ضد العرب، كما كان لا يستشير اعوانه ورفاقه في المقاومة. لذلك، عندما دعى (ابا صديق) مختلف فصائل "فرولينا"، في 1971م، الى الاتحاد تحت قيادته، كما كانت متحدة تحت قيادة "ابراهيم اباتشا"، رفضت فصائل المقاومة ذلك (11). ليس ذلك فحسب، بل وعصفت التصادمات والانشقاقات في عهده، بجبهة التحرير الوطنية التشادية، حيث انقسمت في عهده (وتوالت الانقسامات بعده) الى عدة فصائل نذكر منها:
جيش التحرير الاول..
وهو جيش الفرولينا الاساسي، والذي اسسته الفرولينا، تحت قيادة "ابراهيم اباتشا"، في بداية تأسيسها، ثم اصبح هذا الجيش تحت قيادة "ابا صديق".
الجيش الاول..
استمر"ابا صديق" قائدا لـ"جيش التحريرالاول"، لكنه كان يفقد سيطرته على "الفرولينات" تدريجيا، الى ان تمرد عليه بعض اعوانه في 1976م، ومنهم "محمت ابا سعيد"، الذي اصبح، بعد هذا التمرد، قائدا لـ" جيش التحرير الاول"، الذي اصبح يعرف تحت قيادته بـ "الجيش الاول" فقط. وربما اطلق، محمد ابا سعيد، في فترة من الفترات اسم "الجبهة الشعبية لتحرير تشاد" على " جيش التحرير الاول" (10) (11) (12).
جيش التحرير الثاني و مجلس قيادة قوات الشمال المسلحة..
كان "كوكوني واداي" و"حسين حبري" من بين اهم الشخصيات الرافضة لقيادة "ابا صديق"، فانفصلوا عنه وشكلوا جيشا اسموه، في البداية، "جيش التحرير الثاني"، ثم غيروا اسمه فيما بعد (فبراير 1972م) الى "مجلس قيادة قوات الشمال المسلحة"، وذلك في شهر فبراير من عام 1972م. وقد تبادل قيادة هذا الجيش كل من: "كوكوني واداي" و "حسين حبري". وكان هذا الجيش في حالة صدام دائم مع "جيش التحرير الاول" وخاصة في اوائل السبعينات(1) (9) (10) (11) (12).
قوات الشمال المسلحة..
ثم وقع انشقاق بين "واداي" و"حبري" في عام 1976م، فانفصل اتباع "حبري" عن "مجلس قيادة قوات الشمال المسلحة"، وشكلوا قوة اخرى، اصبحت تُعرف بـ"قوات الشمال المسلحة"(12).
القوات الشعبية المسلحة..
استمرت قوات "كوكوني واداي"، تحت اسم "مجلس قيادة قوات الشمال المسلحة". وعندما استطاع "كوكوني واداي" ان يضم جزءا كبيرا من "جيش التحريرالاول" الى قواته، اطلق على جيشه اسم "القوات الشعبية المسلحة". وقد تلقت هذه القوات دعما عسكريا غير محدود من ليبيا(12). وهذه القوات هي نفس القوات التي تمردت على معمر عام 1986م، كما سيأتي ذكر ذلك في موقعه.
جيش البركان..
كان الشيخ "محمد الباقلاني" احد الذين لعبوا دورا رئيسيا في تأسيس الفرولينا، بل ورد انه كان رئيسا لـ "مؤتمر نيالا" في السودان، ,الذي انبثقت منه "الفرولينا"، وهو من الاسلاميين، ومن قادة "الحزب الوطني التشادي" الذي واصل نشاطه السياسي كحركة سرية بعد قرار حل الاحزاب في 1962م. ولم يكن الشيخ "محمد الباقلاني" على وفاق مع "ابا صديق" قائد الفرولينا، فاسفر الخلاف بينهما، على خروج او طرد "الباقلاني" من "الفرولينات" الرئيسية، وقيامه بتأسيس "جيش البركان" بمساعدة بعض النخب من العرب الذين لم يوافقوا ايضا على قيادة "ابا صديق". واتخذ "جيش البركان" من ليبيا مقرا له، كما كثف من نشاطاته في المناطق التي تعرف بـ "وسط تشاد" (1) (9) (10) (11) (12) .
ثم انضم "احمد اصيل"، المدعم من ليبيا، الى "الفرولينا"، وذلك في عام 1976م، وكان احمد اصيل، ممثلا او نائبا او موظفا في "المجلس الوطني التشادي"، في مقاطعة او محافظة "البطحة" في عهد الرئيس "تمبلباي"، لكنه انضم بعد ذلك الى المقاومة، ودخل الى ليبيا مع مجموعة "البركان"، واصبح يُعرف برجل ليبيا في تشاد. واصطدم هو الاخر بـ"الباقلاني" (ربما بتشجيع من ليبيا للتخلص من الباقلاني). ثم تولى "احمد اصيل" قيادة "البركان"، وذلك بعد موت الشيخ "محمد الباقلاني" في حادث سيارة مدبر في مدينة "بنغازي" عام 1976م او في مدينة "طرابلس" (كما جاء في احد المراجع). وبرغم الاختلافات بين المراجع في مكان ووسيلة الوفاة، الا ان الجميع على اتفاق انه اغتيل او قتل في حادث مدبر، بل وتشير اصابع الاتهام الى النظام الليبي، والى احمد اصيل بالذات (10) (11) (12).
البركان- الجيش الثاني..
انقسم "جيش البركان"، بعد موت "الباقلاني"، الى اكثر من فصيل، منها على سبيل المثال، "البركان- الجيش الثاني"، والذي تولى قيادته "عبد الله آدم دفاع".
جيش التحرير الثالث و الحركة الشعبية لتحرير تشاد..
اسس "ابوبكر عبد الرحمن" في عام 1977م، "جيش التحرير الثالث"، والذي اطلق عليه فيما بعد، (ربما في 1978م) اسم "الحركة الشعبية لتحرير تشاد". وكان "ابوبكر عبد الرحمن"، قد طرد من اللجنة العسكرية "للقوات الشعبية المسلحة" التي كان يقودها "كوكوني واداي"، لانه اعترض على سياسات "كوكوني واداي". وقد وطدت هذه الحركة علاقاتها مع "نيجيريا"، كما كثفت من نشاطاتها، حول بحيرة تشاد (11) (12) (13) (15).
القوات الغربية المسلحة..
توفي "ابوبكر عبد الرحمن" في 1979م، فوقع انشقاق في "الحركة الشعبية لتحرير تشاد"، تأسست على ضوئه "القوات الغربية المسلحة"، برئاسة "موسى ميديلا"، وهو من الجنوب، واستمرت هذه الحركة حتى عام 1988م (11) (12) (15).
الجبهة الشعبية لتحرير تشاد..
واسس "عوض مختار ناصر" في 1968م "الجبهة الشعبية لتحرير تشاد" والتي كثفت من نشاطاتها، على الحدود بين السودان وتشاد. ثم تخلت عن العمل المسلح، بعد سقوط "تمبلباي"، وتصالحت مع "فيلكس معلوم"، الذي حل محل "تمبلباي". ثم ظهرت هذه الجبهة، مرة اخرى، في1979م، في محادثات السلام بين فصائل المقاومة التشادية، التي جرت في "نيجيريا"، وقد تلقت هذه الجبهة الدعم من السودان حتى عام 1982م (11).
ويمكننا ان نلمس مما سبق الكم الهائل من الفصائل والجيوش المسلحة في بلد واحد، خاصة اذا اضفنا الى هذه الفصائل "القوات المسلحة التشادية"، وهي الجيش الحكومي في عهد "تمبلباي" وعهد "فيليكس مالوم"، ثم انتقال قيادة هذا الجيش الى "عبد القادر قاموجي"، وهو من الجنوب ايضاً، مما جعل هذا الجيش تابعا، الى حد ما، لمنطقة "السارا" الجنوبية. كما يمكننا ان نضيف ايضا "القوات التشادية الوطنية المسلحة"، وهي القوات التي اصبحت تمثل الجيش الحكومي منذ 1983م.
تلك، كانت نماذج للانقسامات والانشقاقات والصراعات التي عصفت بـ"جبهة التحرير الوطني التشادي" الام، بصفة خاصة، وعصفت بـ "تشاد" بصفة عامة. وقد كانت هذه الانقسامات والتصادمات، نتيجة وسببا في الحرب الاهلية التي أكلت الاخضر واليابس، وحولت "تشاد" الى مسرح للحرب لاكثر من ثلاثة عقود، راح ضحيتها عشرات الالاف من الابرياء.
وتعود اسباب الصراع بين التشاديين الى "العرقية" و"الجهوية" والاختلافات "الفكرية"، بين قادة المقاومة، وتدخل دول الجوار، عبر دعم اطراف من المقاومة ضد اطراف اخرى، بالاضافة الى التنافس بين قادة الفصائل، والنوازع والطموحات الشخصية، كما تعود كذلك الى اختلاف مناطق ووسائل النضال بين مختلف فصائل المقاومة (1) (2)(9) (10) (11) (12).
لقد كانت دول الجوار تراقب الاحداث الدامية بين التشاديين، بحذر وقلق شديدين، خوفا على امنها، الذي قد تزعزعه هذه الصراعات، وخوفا من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي قد تفرزها الحرب الاهلية في تشاد، كالهجرة، وصعوبة استيعاب المهاجرين، وتهريب السلاح، من والى هذه الدول، والامراض والجرائم والمجاعة والسلب والفوضى والنهب، وغير ذلك مما قد تنتجه مثل هذه الكوارث.
وفي الوقت الذي كانت تبدي فيه بعض دول الجوار قلقها، مما يجري على حدودها مع تشاد، بل ومما يجري في تشاد نفسها، كانت هناك دول اخرى، تتمنى ان تتسع رقعة الصراع بين مختلف الفصائل، وتتمنى ان تستمر الاضطرابات والفوضى كي تجد لها، في هذا الخضم، موقع قدم دائم في تشاد، بل كان بعضها يغذي هذا الصراع.
ولقد برزت كل من "نيجيريا" و"ليبيا" و"النيجر" و"الكاميرون" و"السودان" و"مصر" و"التوغو" و"السنغال" و"غينيا" و"بنين" و"منظمة الوحدة الافريقية"، من بين الدول والمنظمات، التي كان لها اليد الطولى، في هذا الصراع، سلبا او ايجابا، مباشرة او غير مباشرة، مجتمعة مرة، وكل على حدة، مرة اخرى. وعقدت هذه الدول اجتماعات ولقاءات عديدة، مع اطراف الصراع، من اجل الوصول الى صيغة تقبلها الاطراف المتنازعة، في تشاد، وتستقر بها البلاد، وتصلح بها الاوضاع، وتؤمن، لتشاد، شيء من الامن والامان والاستقرار.
وكانت جهود "نيجيريا" في هذا المضمار، من ابرز المجهودات التي بُذلت للوصول الى الصلح، عبر ايجاد معادلة سياسية ما، يقبل بها جميع الاطراف، بما في ذلك نيجيريا بالطبع، فقد نظمت "نيجيريا" اكثر من مؤتمر للمصالحة، بين اهم الاطراف المتناحرة، عُقد اولها في مدينة "كانو" في مارس 1979م، دعي اليه كل من الجنرال "فيليكس معلوم"، ممثلا عن الحكومة التشادية، وعن "القوات المسلحة التشادية"، و"كوكوني واداي"، ممثلا عن "القوات الشعبية المسلحة"، و"حسين حبري" ممثلا عن" قوات الشمال المسلحة"، و"ابوبكر عبد الرحمن" ممثلا عن "الحركة الشعبية لتحرير تشاد"، كما استثني، من هذا اللقاء، كل من "ابا صديق" و"احمد اصيل" و"محمت ابا سعيد"، وعناصر قيادية هامة اخرى، على اعتبار انها عناصر ضعيفة عسكريا، لا تمثل ثقلا ميدانيا مناسبا في معادلة الصراع التشادي-التشادي (12).
وتم في هذا اللقاء الاتفاق على ايقاف اطلاق النار بين الفصائل التشادية، واطلاق سراح اسرى الحرب والسجناء السياسيين، وتطبيع او توحيد البث الاذاعي (وربما كان المقصود البث باللغة العربية او اللغات التشادية المحلية بدلا من اللغة الفرنسية) ونزع السلاح من العاصمة "انجامينا"، وتشكيل حكومة مؤقتة تمهد لاجراء انتخابات ديمقراطية حرة في البلاد. كما تم الاتفاق في نفس الاجتماع على ارسال قوات نيجيرية لحفظ السلام (10). وقد وقع على هذا الاتفاق كل من "فيليكس معلوم" و"كوكوني واداي" و"حسين حبري" و"ابو بكرعبد الرحمن"(12).
لكن الاطراف التي حضرت اجتماع "كانو" شكلت "مجلس دولة مؤقت"، مثله عضوان عن كل من: "القوات الشعبية المسلحة" و"الحركة الشعبية لتحرير تشاد" و"القوات المسلحة التشادية"، و"قوات الشمال المسلحة"، ولم تلق هذه الخطوة، دعم وموافقة ورضى نيجيريا(12).
لذلك نظمت نيجيريا، في ابريل 1979م، مؤتمر أخر، في مدينة "كانو" ايضاُ، لمتابعة تطبيق القرارات التي اُتخذت في "كانو الاول"، او لوضع آلية ما لتطبيقها(10). وكذلك لتأسيس حكومة وطنية مؤقتة. وفعلا تم تشكيل "حكومة وطنية مؤقتة" تألفت من "كوكوني واداي" وزيرا للداخلية، و"حسين حبري" وزيرا للدفاع، والجنرال "جوقو" نائبا للرئيس وقائدا للقوات المسلحة، و"محمد شوا لول"، رئيسا للجمهورية وهو عضو في "الحركة الشعبية لتحرير تشاد"، والتي كانت تسمى"جيش التحرير الثالث"(11)(12). ولم يكن "محمد لول" يتمتع برصيد نضالي او شعبي او سياسي، فكان تعيينه رئيسا لتشاد مفاجأة للجميع(11)، وربما تكون هذه الحكومة المؤقتة، قد تأسست بضغط من "نيجيريا"، ولم تلق هذه الحكومة المؤقتة، رضى اطراف رئيسية عديدة من بينها "كوكوني" و"حبري".
كان القادة الذين حضروا مؤتمر "كانو الاول"، قد اشترطوا عدم استضافة الفصائل التي تغيبت عن "كانوالاول" الى اي مؤتمر جديد، لنفس السبب السابق، اي لفقدان المتغيبين، للثقل العسكري المناسب الذي يؤهلهم للمشاركة في مثل هذه الاجتماعات.
لذلك، هددت المجموعة التي تم استثنائها (احمد اصيل، ابا صديق، محمت سعيد) بتشكيل حكومة مضادة للحكومة المؤقتة، التي تأسست على خلفية اجتماعات "كانو" الاول والثاني. كما هددوا بمقاطعة القرارات التي تم، او سيتم، التوصل اليها، في هذه اللقاءات. وتفاعلا مع هذا الموقف، نظمت نيجيريا، مؤتمرا اخر في "لاجوس" العاصمة، في مايو 1979م، دعت اليه جميع الاطراف. ولكن قاطعته الاطراف التي حضرت "كانو الاول"، مما دفع بـ"احمد اصيل" و"ابا صديق" و"محمد سعيد"، الى تشكيل حكومة موالية لليبيا (وبدعم منها) وبرئاسة "احمد اصيل"، واطلق عليها اسم"جبهة العمل المشترك المؤقتة"، استثني منها، بالطبع، جميع الذين حضروا "كانو الاول"(10) (11) (12).
وللخروج من هذا المأزق، اي وجود حكومتين مؤقتتتين، دعت نيجيريا الى اجتماع اخر في "لاجوس" ايضا، في يوليو 1979م، حضرته جميع الفصائل والتي بلغ عددها ،في ذلك الوقت، احد عشر فصيلا، يمثلون مختلف فصائل فرولينا، كما حضره ايضا، كمراقبين سياسيين، وزراء خارجية تسع دول افريقية.
وتم في هذا الاجتماع، تشكيل حكومة انتقالية جديدة، سميت بـ "حكومة الوحدة الوطنية الانتقالية"، عُين فيها "كوكوني واداي" رئيسا لتشاد، و"عبد القادر كاموجي" نائبا للرئيس، و"حسين حبري" وزيرا للدفاع الوطني، و"احمد اصيل" وزيرا للخارجية، و"ابا صديق" وزيرا للصحة. وتعتبر هذه الحكومة هي اول حكومة وطنية، تشمل الجميع. وايضا هي المرة الاولى، التي يحكم فيها رجل مسلم، من الشمال (كوكوني واداي) تشاد بكاملها، منذ سقوط الامارات والممالك التي تحدثنا عنها في الفصل الاول، اي منذ الغزو الفرنسي لتشاد (9) (10) (11) (12) (15).
وبالرغم من تأسيس هذه الحكومة المؤقتة، وبرغم من حضور جميع الاطراف، الا ان جميع الفصائل احتفظت باسلحتها وقواتها، تحت قياداتها المباشرة، بعيدا عن سيطرة الحكومة المؤقتة.
وفي مارس من عام 1980م اندلع صدام مسلح، بين قوات "حسين حبري" وقوات "كوكوني وادي"، في العاصمة التشادية "انجامينا"، احتل "كوكوني"، على اثره، النصف الشمالي من العاصمة، واحتل "حبري" النصف الجنوبي منها، وامتد القتال، الذي استمر لاكثر من تسعة اشهر، الى مناطق اخرى في تشاد. وكان من اهم اسباب هذا القتال، الاختلاف في وجهات النظر والاهداف والاسترتيجيات بين "حبري" و"كوكوني"، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع ليبيا(12).
وساندت ليبيا "كوكوني واداي"، بالدبابات والاسلحة الثقيلة والطائرات، كما زودته بالعتاد العسكري، بدون حدود، بناء على اتفاقية تم توقيعها بين ليبيا و"كوكوني واداي" في 15 يونيو من عام 1980م. اي بعد اربعة اشهر من اندلاع هذا الصدام بين "حبري" و"واداي" في انجامينا. وانتصر "واداي"، اثر تلقيه هذه المعونات، ودخلت القوات الليبية وقوات "كوكوني واداي" منتصرة الى "انجامينا" في 16 ديسمبر 1980م، وهرب "هبري" وقواته، الى الكاميرون (12).
وفي 6 يناير من عام 1981م، اي قبل اقل من شهر على سيطرة القوات الليبية وقوات "كوكوني" على "انجامينا"، اعلن فجأة عن قيام وحدة بين ليبيا وتشاد، تصبح ليبيا وتشاد بناء على هذا الاعلان، دولة واحدة. اثار هذا الاعلان، والذي يبدو انه اعلن من طرف واحد (ليبيا)، حفيظة وغضب الجميع، بما في ذلك، الدول الافريقية باجمعها تقريبا بالاضافة الى "منظمة الدول الافريقية" و"فرنسا". فقد اعتبرت اغلب هذه الدول، ان اعلان الوحدة بين البلدين، من طرف واحد، وبهذا الاسلوب، وفي هذه الظروف التي تمر بها تشاد، هو في حقيقته محاولة من جانب ليبيا للاستيلاء على تشاد، وضم ما شاء لها من المناطق التشادية. كما اعُتبر "واداي"، اثر هذا الاعلان، دمية في يد ليبيا، تلعب بها ليبيا كما تشاء. واعتبر المراقبون السياسيون، ان اعلان الوحدة، هو ثمن مساعدة ليبيا لـ"واداي" ضد "حبري". وشكك التشاديون، كما شككت الدول الافريقية الاخرى، في مواقف "واداي" وفي طببعة علاقاته واتفاقياته ومباحثاته وتعاونه مع ليبيا. فاستنكر "واداي"، اثر ذلك، الاعلان عن الوحدة بهذه الطريقة، كما اضطر الى الاقتراب من فرنسا، بل وطلب من ليبيا، اثناء زيارة له الى باريس، سحب قواتها من تشاد فورا، بالرغم من ان هذه القوات، هي التي ساعدته،على هزيمة "حبري"(9)(10)(11) (12)(15). كما طلبت "منظمة الوحدة الافريقية"، من ليبيا، الخروج الفوري من تشاد.
وهكذا، لم تتلق افريقيا، اعلان الوحدة، بين ليبيا وتشاد، بالارتياح، بل تعاملت معه كمحاولة ليبية لاحتلال تشاد، وضمها الى ليبيا عبر استغلال الظروف التي تمر بها البلاد.
اضطرت ليبيا، اثر ذلك، وربما انتقاما من "واداي"، او محاولة لكسب تقة الدول الافريقية، او خوفا من معادلات اخرى، تزيد من تورطها دوليا، اضطرت ليبيا الى الانسحاب المفاجيء والسريع من تشاد (خرجت القوات الليبية خلال اسبوعين فقط)، مما خلق فراغا عسكريا استغله "حبري"، الذي زحف بقواته على العاصمة "انجامينا" في 7 يونيو من عام 1982م، واحتلها، وهرب "واداي" واصبح "حبري" رئيسا لتشاد.
وهكذا وصل "حسين حبري"، العدو اللدود لمعمر، الى رئاسة "تشاد"، بسبب مواقف وسياسات النظام الليبي. وكان اخراج الليبيين من شريط "اوزو"، بصفة خاصة، ومن "تشاد" بصفة عامة، وبأي ثمن، من اهم اولويات "حسين حبري".
ساندت ليبيا جبهة التحرير الوطني التشادية (فرولينا)، وزودتها بالمساعدات الاقتصادية والعسكرية، ووفرت لها التسهيلات اللازمة، فساندت الحكومة التشادية، ردا على ذلك، محاولة انقلابية، ضد النظام الليبي، في شهر مايو من عام 1970م، عُرفت بمحاولة "فزان."
ثم عادت العلاقات السياسية بين البلدين، وتوجت بزيارة تمبلباي الى ليبيا، وبتوقيع اتفاقية صداقة في ديسمبر من عام 1972م،اوقفت ليبيا، بناء عليها، دعمها لجبهة التحرير، واوقفت اذاعتها الموجهة من ليبيا الى تشاد، وطردت اغلب قادة واعضاء فرولينا من ليبيا. كما كانت من ضمن هذه الاتفاقية، بنود اقتصادية، من بينها تأسيس مصرف مشترك بين البلدين، واستثمار ملايين الدولارات الليبية في تشاد. كما اعتبرت منطقة الحدود، بناء على نفس الاتفاقية، منطقة "تضامن وتعاون". ويبدو ان هناك بنودا سرية، ضمن هذه الاتفاقية، غض "تمبلباي"، بناء عليها، الطرف عن شريط اوزو، او تنازل عنه لليبيا، مقابل بعض الملايين من الدولارات. وقد ابرزت ليبيا، لاحقا، وفي محكمة العدل الدولية، رسالة مذيلة بتوقيع "تمبلباي"، اقر فيها باحقية ليبيا لاوزو، لكن الشكوك حامت حول مصداقية تلك الرسالة وفحواها(1)، مما قلل من قيمتها، كما سنوضح فيما بعد.
دخلت القوات الليبية، الى شريط اوزو، اثر معاهدة ديسمبر 1972م، واثر التقارب الذي نتج عنها. وقد تواجدت قوات ليبية في الشريط، قبل ذلك التاريخ. وبالتحديد، منذ شهر ابريل من نفس العام. واصبحت المنطقة تدار، منذ ذلك الحين، بادارة ليبية، بل واصدرت ليبيا بطاقات تعريف لسكان الشريط،، ثم الحقت المنطقة اداريا بمدينة "الكفرة" في عام 1975م (1).
لكن انقلاب1975م، الذي اطاح بـ"تمبلباي"، وجاء بـ"فيليكس معلوم"، اعاد الصراع حول شريط "اوزو" الى نقطة الصفر. بل كان التقارب بين النظامين هو احد الاسباب الرئيسية لانقلاب 1975م، فقد اعتبر اغلب التشاديين، ان هذا التقارب، مشبوها ومخجلا، بيعت فيه قطعة من ارض تشاد الى ليبيا، مقابل حفنة من الدولارات، ومقابل الحفاظ على امن وسلامة "تمبلباي" ونظامه.
اعاد انقلاب 1975م القضية، اذا، الى نقطة الصفر، فما هي قصة هذا الشريط ؟ وما سر هذا الصراع حوله؟
يقع شريط اوزو، وعاصمته مدينة "اوزو"، على الحدود بين ليبيا وتشاد (انظر الخريطة المرفقة)، ويبلغ طول هذا الشريط حوالي ستمائة ميلا، ويختلف عرضه من منطقة الى اخرى (ما بين 50 الى 90 ميلا) (1). وللشريط اهمية وطنية وسياسية وامنية، لكنه اكتسب، بالاضافة الى ذلك اهمية اقتصادية قصوى، وذلك اثر اعلان فرنسا، في عام 1957م، عن اكتشاف مخزون هائل من "اليورانيوم" والمعادن الاخرى في الشريط. فزادت بذلك اهميته واحتدم الصراع العسكري والسياسي حوله.
وتعود المنازعات والمفاوضات حول شريط اوزو بين ليبيا وتشاد، الى اوائل الخمسينيات، أي قبل العهد العسكري. يقول المرحوم "محمد عثمان الصيد" رئيس وزراء ليبيا الاسبق (1960-1963م)، في كتابه "محطات من تاريخ ليبيا"، ان وفدا ليبيا، زار تشاد وطرح الموضوع (ترسيم الحدود) على "تمبلباي"، الذي ابدى استعداده للمفاوضات حول الشريط،، وابدى استعداده لتثبيت الحدود بين البلدين، وذلك على الرغم من ان الوفد الليبي كان يرى ان الشريط يقع داخل الاراضي الليبية (2)
فعلى ماذا اعتمدت ليبيا في ادعائها لملكية الشريط، وعلى ماذا اعتمدت تشاد؟
لقد اعتمدت ليبيا، لا ثبات ملكيتها للشريط، على اعتبارات عديدة، يتلخص اهمها، في ان ليبيا وشمال تشاد، بما في ذلك شريط اوزو، كانت تحت سلطة الدولة العثمانية والحركة السنوسية، حيث امتد نفوذهما، قبل وصول فرنسا وايطاليا، الى ما وراء شريط اوزو جنوبا، وبالتالي فان الحدود المرسومة بين البلدين حاليا، هي من صنع الاستعمار الفرنسي والايطالي، والقوى الدخيلة على المنطقة. لان هذه الحدود لم يكن لها وجود قبل وصول ايطاليا وفرنسا. كما اعتمدت ليبيا ايضا، على الامتداد البشري في المنطقة، فسكان ليبيا، وسكان شريط اوزو، وشمال تشاد بصفة عامة، اما انهم يعودون الى اصول عرقية واحدة، او تجمعهم عادات وتقاليد متقاربة، او يجمعهم دين واحد (الاسلام). كما اعتمدت ليبيا، ايضا، على معاهدة تمت بين ايطاليا (في عهد موسوليني) وفرنسا (في عهد رئيس وزرائها بييرلافال)، عًُرفت بمعاهدة (موسوليني-لافال)، عُقدت بين الطرفين (فرنسا وايطاليا)، في روما في 7 يناير من عام 1935م، اعطى شريط اوزو، بناء عليها، لايطاليا، فضم الشريط بالتالي الى ليبيا التي كانت تحت الاحتلال الايطالي في ذلك الوقت. وقد صادقت الجمعية الوطنية الفرنسية على هذه المعاهدة، بينما لم يصادق عليها البرلمان الايطالي. كما يظهر شريط اوزو ضمن الاراضي الليبية، في بعض الخرائط التي تعود الى اواخر الاربعينات، والتي ربما اعدت استنادا على المعاهدة المذكورة. كما اعتمدت ليبيا ايضا، على معاهدة اخرى تمت بين ليبيا و"تمبلباي"، في ديسمبر من عام 1972م، وهي المعاهدة التي اشرنا اليها اعلاه، وقد اقر "تمبلباي" علنا، ان منطقة الحدود، تعتبر"منطقة تضامن وتعاون"، وربما تنازل ايضا، وحسب بنودها السرية، عن شريط اوزو لليبيا.
اما تشاد فقد اعتمدت على امور اخرى، جرى اغلبها اثناء وبعد حقبة الاستعمار. وتعتبر معاهدة الصداقة وحسن الجوار التي عقدت بين ليبيا وفرنسا، في 1955م، من اهم العوامل التي اعتمدت عليها تشاد في المحافل الدولية، ثم في محكمة لاهاي فيما بعد. فقد اعتبرت هذه المعاهدة هي القاصمة بالنسبة لليبيا في هذه القضية، فقد اشترطت تلك المعاهدة " .. تعديلا نهائيا في حدود ليبيا لمصلحة الاقطار الواقعة تحت حكم فرنسا في افريقية.." (3).
كما اعتمدت تشاد ايضا على حقيقة ان معاهدة 1935م (موسوليني-لافال)، لم يتم التصديق عليها من قبل طرفي المعاهدة، فتعتبر بالتالي لاغية، ويشترط لصلاحية الاتفاقيات والمعاهدات، وكما هو معروف، التصديق الرسمي عليها من جميع الاطراف، وعبر القنوات المذكورة. كما اعتمدت تشاد ايضا على رسالة وجهها وزير الخارجية الايطالي الى السفير الفرنسي في روما، في ديسمبر من عام 1938م، نقض فيها الاتفاقية واعتبرها لاغية ولا يعتد بها.
فكيف تحولت المعركة حول هذا الشريط،، من معركة سياسية وقانونية حول ملكية الشريط،، الى كارثة ضاعت فيها ارواح الالاف من المسلمين وغير المسلمين من الطرفين الليبي والتشادي؟ وهل حقا ان الامر كان يستدعي كارثة بهذا الحجم؟ بل هل حقا ان الصراع كان يدور فقط حول هذا الشريط،، ام ان هناك ابعادا اخرى لهذا الامر؟. سنترك الحديث عن الشريط، الان، لنعود اليه والى وثائق ووقائع محكمة "لاهاي" فيما بعد. وحتى ذلك الحين
بعد مرور أعوام طويلة تكشفت حقائق من كان يقاتل الجيش الليبي في اتشاد هل هي القوات التشادية
بكل تاكيد بعد تكشف الكثير من المعلومات ان من كان يقاتل الليبيين هو الحلف الفرانكفوني حلفاء فرنسة من الدول الإفريقية وعربي مع الأسف وبدعم أمريكي فرنسي ومقارنة في ذلك الوقت فقد أبلى الجيش الليبي بلاء حسن ووقف الند بالند لفرنسيس وحلفائهم من أتابعهم الفرانكفونيين
على سبيل المثل كانت فرنسة تنفذ مهم قتالية بطائرات( الجقور و الميراج اف 1) وزودت مطار انجمينة بمنظومات دفاع جوي الأمريكي كما زودت أمريكا أتشاد بمنظومات صواريخ استنقر المتطورة في ذلك الوقت وغيرها من الحقيقة التي كانت يخفيها كل من شارك في قتال الجيش الليبي في أتشاد لكي يخفي مشاركته
من يرد امتابع الموضوع عن كيفية كانت الحرب الحقيقية ومع من وتزويد أفرنسة وأمريكا للقوات الفرانكفونية بمنظومات ميلان واستنقر و الدعم بالقصف الجوي وغيرها تظهر تباعاً https://warisboring.com/49075-2/