عماد أبو الفتوح
محرر
هل إلى خروج من سبيل؟ ربما هذا هو السؤال الأوحد الذي يفكـر فيه كل رائد أعمال مؤسس لشركة ناشئة مهما كان نوعها، حتى إذا تظاهر في مرحلة ما بأنه لا يهتم كثيراً بطرحه أو التفكير فيه. فما نهاية كل هذا؟ ما مصير هذه الشركة الناشئة في سوق مزدحم لا يهدأ تظهر فيه شركات جديدة كل يوم، وعناصر لعب جديدة تظهر في كل يوم ومعايير مختلفة كل حين، قد تجعل الجالسين على القمة يهوون فجأة إلى القاع، أو العكس.
في الغالب، تكون إجابة هذا السؤال ثلاثة خيارات، الأول: أن تحقق الشركة إيرادات مالية سائلة كافية لجعلها تستمر في السوق بشكل تصاعدي، وتوفر حياة كريمة لمؤسسيها. الخيار الثاني: أن تتحول أسهم الشركة إلى سيولة نقدية ببيعها أو طرحها في سوق الأسهم. أما الخيار الثالث، الذي يبدو دائماً الهدف الأسمى والمُنقذ لروّاد الأعمال الطامحين، فهو أن يتم الاستحواذ على الشركة بواسطة مؤسسات كبرى، وبالتالي تضمن بقاءها تحت مظلة شركة أخرى بإمكانيات أفضل وفرص أكبر.
في هذا التقرير نسلط الضوء على الخيار الثالث، باستعراض مجموعة من أهم عمليـات الاستحواذ التي وقعت في 2017 على الساحة العالمية، قامت خلالها شركات كبيـرة بـ"ابتلاع" شركات ريادية ناشئة بصفقـات كبـرى تتراوح أصفارها ما بين الثمانية والتسعة، تمثّل صفقات "فوز" متبادلة لكلا الطرفين؛ الشركات الكبيرة المُستحوذة تضمن المزيد من التطوّر والشركات الناشئة المُستحوَذ عليها تضمن البقاء.
سيسكـو تحلّق فوق السحاب
تعدّ هذه الصفقـة من أكبر صفقات الاستحواذ التي شهدتها الشركات الناشئة عالمياً في 2017. شركة "آب دايناميكس " (AppDynamics) هي شركة ناشئة تأسست في 2008 كشركة تقدم المعلومات والحلول التقنية حول آداء التطبيقـات في الخدمات السحابية. منذ تأسيسها حازت الشركة على 5 جولات تمويلية بإجمالي 206 ملايين دولار، واحتلت الشركة المركز التاسع في قائمة "فوربس" العالمية لأفضل 100 شركة سحابية ناشئة.
في ينـاير 2017، أعلنت شركة "سيسكـ" العملاقة أنها بصدد الاستحواذ بالكامل على شركة "AppDynamics" مقابل 3.7 مليـارات دولار، قبل أيام معدودة من طرح أسهم الشركة الناشئة في الاكتتاب العام لسوق الأسهم. وتعدّ هذه الخطوة في نظر المحللين مؤشراً واضحاً على استمرار استراتيجية شركة "سيسكـو" الجديدة في التوسّع بكيفية أكبر في سوق البرمجيـات السحابية، انطـلاقاً من قاعدتها الكبيـرة التي كوّنتها في عالم الأجهزة.
وفي مارس/آذار من العالم نفسه، تم الإعلان عن اكتمال استحواذ "سيسكو" على "آب دايناميكس"، ثم أتبعتها في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه بضّم شركة "بيرسبيكا" (Perspica) الناشئة لتعليم الآلة "Machine Learning" إلى امبراطوريتها لتوفير الدعم لـ"آب ديناميكس" في المجال السحابي. ثم في الشهـر نفسه (أكتوبر) أعلنت "سيسكو" أنها توصلت إلى اتفاق للاستحواذ الكامل على شركة "برود سوفت" (Broadsoft) الشهيرة المتخصصة في البرمجة السحـابية بصفقة قدرها مليـار و900 مليون دولار. الخلاصة أن هذا العام تحديداً شهد اندفاعاً كبيراً لـ"سيسكو" نحو عالم البرمجة السحـابية، بهدف فتـح مساحات جديدة لها في هذا المجال. (1، 2، 3، 4، 5،6)
"أبل" تستحـوذ على "شازام"
في ديسمبر/كانون الأول 2017، تم الإعلان عن استحواذ شركة "أبل" الأميريكية العملاقة على شركة "شازام" (Shazam) البريطانية اللندنية، التي تطوّر التطبيق الشهيـر الذي يقوم بالاستماع والتعرف على الأغاني والبرامج التلفزيونية والأفلام والإعلانات خلال ثوانٍ معدودة. وبلغت قيمة الصفقـة حوالي 400 مليون دولار وفق تقديرات إعلامية مختلفة.
واعتبر تطبيق "شازام" واحداً من أكثر التطبيقات انتشاراً على الإطلاق على متجر "أبل"، ما جعل صفقة استحواذ "أبل" عليه مؤشراً واضحاً على رغبة الشركة الاميريكية في الاستفادة من التقنية التي يقدمها التطبيق لتطوير المزيد من التطبيقات الموسيقية التي تطوّرها "أبل" وتعتبر أنها من قمة أولوياتها لجذب المستخدمين لها، على رأسها تطبيق أبل "ميوزيك"، إذ يساعده "شازام" في تحسين الخدمة، وبالتالي إشعال المنافسة مع تطبيق "Spotify" الموسيقي الأشهر في العالم.
رغم أن قيمة "Shazam" وصلت إلى مليار دولار بعد الجولة التمويلية الأخيرة، فإن الشركة رحّبت بالصفقة مع "أبل" بمبلغ 400 مليون دولار بسبب مواجهتها صعوبات في إيجاد نموذج عمل قوي خلال السنوات الأخيرة، إذ حققت عائدات قدرها 54 مليون دولار فقط في نهاية 2016، ما جعل صفقة "أبل" بالنسبة إليها بمثابة إحياء للمشروع الذي يعاني من عائدات منخفضة. (7، 8، 9)
"أتلاسيان" تستحوذ على "تريللـو"
في مطلع 2017، وبالتحديد في التاسع من يناير/كانون الثـاني، تم الإعلان عن صفقـة استحواذ شركة "أتلاسيـان" (Atlassian) الأستراليـة العالمية المتخصصة في تطوير منتجات البرمجيـات وإدارة الأعمال على شركة " تريللو" (Trello) الأمـريكية الناشئة بقيمة تقدر بـ425 مليون دولار، وهي صفقـة أكدت سعي الشركة الأسترالية إلى المنافسة بصورة أكبر في مجال برمجيات إدارة الشركات وبيئات الأعمال.
ويعدّ اسم "تريللو" (Trello) من أكثر المنصات شهـرة بين قطاعات واسعة من الموظفين حول العالم، خصوصاً العاملين المستقلين عن بُعد، إذ يقدم منصّة إدارة أعمال ومهام نموذجية تساعد فرق الأعمال والمدراء والتنفيذيين في التنسيق بكيفية أكثر كفاءة للتخطيط والتنفيذ للمهام المطلوبة. تأسست الشركة في 2011، واستطاعت الوصول بعد خمس سنوات إلى أكثر من 14 مليون مسجّل مستخدم حول العالم وحوالي مليون مستخدم نشط يومياً، وفقاً لما أعلنته الشركة في منتصف 2016. (10، 11، 12، 13)
"بايتيدانس" الصينية تستحوذ على "ميوزيكال لي"
منذ تأسيسه في 2014، استطاع تطبيق "ميوزيكال لي" (Musical.ly) الصيني الشهيـر المتخصص في تصوير الأغاني بشكل متزامن مع الشفــاه، أن يحصد نجاحاً هائلاً حول العالم، خصوصاً بين شريحة المراهقين في الولايات المتحدة وأوروبا والصين. هذه الشهـرة الكبيرة التي حققها التطبيق -رغم الصعوبات التي واجهها في بداية تأسيسه -جعـلت شركة "بايتيدانس" (Bytedance) الصينية العمـلاقة المتخصصة في مجال التقنية والإعلام تتقدم بعرض استحواذ على التطبيق وصلت قيمته إلى مليـار دولار.
وأقدمت الشركة الصينية "بايتينداس"، التي تدير شركة "Toutiao"، أكبر شركة صينية في مجال المحتوى المدعوم بالذكاء الصنـاعي والتعليم الآلي، والتي وصل عدد المستخدمين النشطين لخدماتها يومياً إلى حوالي 120 مليون مستخدم في شتنبر/أيلول 2017، على الاستحواذ على "ميوزيكال لي" باعتباره يشكل ملامح أول شبكة اجتمـاعية صينية تمتد خارج حدود الصين إلى العالم كله -وخصوصاً الولايات المتحدة- كمـا تعدّ أفضل تطبيق فيديو ناجح قادم من الصين حتى الآن.
وتتجلى فكرة "ميوزيكال لي" الرئيسية في تمكين المستخدمين من صناعة فيديوهات قصيرة ما بين 15 ثانية إلى دقيقة واحدة، ومن ثم اختيار الموسيقى أو الكلمات التي يريدون تركيبها على الفيديو، ويتكفل التطبيق بمزامنة الأغاني والكلمات مع مشاهد الفيديو بشريحة واسعة من الاختيارات. في صيف 2016، بلغ عدد مستخدمي التطبيق أكثر من 90 مليون مستخدم، بمتوسط 12 مليون فيديو جديد يومياً. وفي منتصف 2017 وصل عدد المستخدمين للتطبيق أكثر من 200 مليون مستخدم، ما عجّـل بصفقة الاستحواذ عليها في نونبر/تشرين الثاني من العام نفسه. (14، 15، 16، 17)
"فيرايزون" تنهي استحواذها على "ياهو"
بعد مداولات طويلة استمرّت على مدار 2016 بين شركة "فيرايزون" الأميريكية للاتصالات وشركة "ياهــو" كان قد تمّ الإعلان عن صفقة استحواذ بقيمة 4.8 مليارات دولار تقوم بناءً عليها "فيرايزون" بالاستحواذ على "ياهو" بكامل خدماتها. ورغم ذلك لم يتم الإعلان رسميـاً عن إنهاء الصفقة وضم "ياهو" إلى "فيرايزون" إلا في منتصف 2017.
وسبب تأجيل إعلان الصفقة رسمياً إلى 2017 هو اعتراف "ياهو" بوقوع سلسة من الاختراقات الأمنية لحساباتها نتج عنها كشف ملايين البيانات الشخصية لعملائها حول العالم، ما ساهم في تأجيل الصفقــة قليلاً إلى حين إصلاح الخلل. وفي يونيو/حزيران تم الإعلان رسمياً عن شراء "فيرايزون" لـ"يـاهو" بهذا المبلغ المتواضع، بعد أن كانت قيمة "ياهو" منذ فتـرة ليست بعيدة قد تجاوزت الـ100 مليار دولار، في واحدة من أسوأ نماذج انهيارات الشركات التقنيــة على الإطلاق.
أعلنت "فيرايزون" بعد الصفقة أن الخطوة التالية ستكون دمج "ياهو" في شـركة "AOL" لتكوين مشـروع جديد هو "Oath"، الذي سيتضمن أكثر من خمس وسائل إعلامية ومواقع تقنية وخدمات إلكترونية مختلفة في كافة المجالات، وهي خطوة في طريق سعي الشركة إلى اكتساب مساحات جديدة في الواقع الافتراضي والذكاء الصناعي والجيل الخامس.
يذكـر أن "مايكـروسوفت" كانت قد سعت في 2008 إلى الاستحواذ على "ياهو" بمبلغ ضخم بقيمة 44 مليار دولار، والذي رفضته "ياهو" حينذاك بحجة أنه غير متناسب مع قيمتها السوقية. غير أنه بتراكم المشاكل، وبسبب الانهيارات الضخمة التي أصابت "ياهو" في السنوات الأخيرة، بالرغم من وجود العديد من المدراء التنفيذيين الذين حاولوا انتشالها من هذا المستنقع، انتهى بها الحال بصفقة متواضعـة للغاية لم تتخطّ الخمسة مليارات دولار. (18، 19)
صفقـة استحواذ تنقل "إنتل" إلى الصفوف الأماميـة
في مارس/آذار 2017، تم الإعلان رسمياً عن واحدة من أكبر الصفقـات في عالم الشركات الناشئة باستحواذ شركة "إنتل" العمـلاقة المتخصصة في صناعة الإلكترونيات الدقيقة، على شركة "Mobile eye"، الإسـرائيلية المتخصصة في صناعة السيارات ذاتية القيادة، في صفقـة قيمتها 15.3 مليـار دولار، ما جعل "إنتل" تحتل مكـاناً متقدماً في سباقها الشرس مع منافستيها التقليديتين (كوالكوم ونفيديا) في تطوير تقنيـات السيارات ذاتية القيادة.
وجاءت هذه الصفقـة ضمن توجّه عالمي محموم لتطوير سيارات ذاتية القيادة عالية الجودة في نهاية العقد الحالي، الأمر الذي يعتبر دمجاً بين التقنيات التي تطورها "إنتل" في قطاع مسارات وقيادة السيارات تلقائياً وبين ما تقدمه شركة "موبايل آي" في مجال الرؤية الإلكترونية، إذ تعمل الأخيرة في تصميم أنظمة تساعد في قراءة خرائط المركبات الذاتية وإدراكها والتفاعل معها. ويتوقّع أن الهدف من وراء الصفقة ليس فقط استفادة "إنتل" من الشركة الناشئة في مجال السيارات، وإنما توسيع تقنيـاتها لتشمل مجالات أخرى.
وتعدّ هذه الصفقة الأكبرَ من نوعها على الإطلاق في سوق الشركات الناشئة الإسرائيلية على مدار كافة السنوات السابقة، وتم إغلاقها بالكامل في أغسطس/آب من العام نفسه. (20، 21، 22)
الاستحواذ على متجر " شيوي" في صفقة ضخمة
في أبريل/نيسان من العام الجاري، تم الإعلان عن صفقـة ضخمة قامت على إثـرها سلسلة المتاجـر الاميريكية "بيت سمارت" (Pet Samrt) المتخصصة في صناعة وتوزيع وبيع أغذيـة الحيوانات المنزلية، بالاستحواذ على متجـر "شيوي" (Chewy) الناشئ في صفقــة ضخمة قدرت بـ3.35 مليـارات دولار، واعتُبرت من أكبر الصفقـات التي شهدتها الشركات الناشئة على مستوى العام.
وشركة "شيوي" هي شركة ناشئة تأسست في 2011 كمتجر إلكتروني متخصص في بيع أغذية ومنتجات الحيوانات المنزلية الأليفة، خصوصاً القطط والكلاب، بأكثر من 30 ألف منتج متنوّع. ومنذ تأسيسها، وعلى مدار خمس جولات تمويلية، استطاعت الشركة الناشئة حصد تمويل ضخم بقيمة 236 مليون دولار أتاح لها التوسع في كافة الولايات المتحدة باعتبارها واحدا من أهم المتاجر الإلكترونية وأسرعها نمواً على الإطلاق، ما أدّى إلى تنافس مجموعة من الشركات الكبرى على شرائها، حتى استطـاعت "Petsmart" الفوز بالصفقة الضخمة التي تم الإعلان عن إتمـامها في نهاية مايو/أيار من العام نفسه.
وقد أثارت الصفقة ضجة كبيـرة في الصحافة العالمية، بإعتبار أن قيمتها تتجـاوز صفقـة شهيـرة حدثت في العام الماضي، عندما استحوذت سلسلة متاجر "والمـارات" المعروفة على متجر "جيت دوت كوم" (Jet.com) بقيمة 3.3 مليارات دولار. والمثير أن شركة "بيت سمارت" نفسها تكبّدت مبلغاً طائلاً من وراء هذه الصفقـة قد لا يتماشى مع قيمتها السوقية التي تقدر بـ8.7 مليارات دولار. (23، 24، 25)
كان 2017 -بدون شك- واحدا من أكثر الأعوام ثراءً في صفقات الاستحواذ العالمية بكيفية تجعل من الصعب حصـرها. ولكن الاستقراء العام لحركة الاندماجات التي شهدها هذا العام يشير إلى توجّـه كبرى الشركات لدعم خططها التوسعية في اتجـاه التقنيات الذكية، وأبرزها التقنية السحابية والذكاء الصناعي والتجارة الإلكترونية بكيفية تجعل من المؤكد ظهـور نتائجها خلال الأعوام القليلة المقبلة.