قراءة في غزوة تبوك/سبب الغزوة
د.عثمان قدري مكانسي
د.عثمان قدري مكانسي
روى الواقدي ، قال :
قالوا : كانت الساقطة - وهم الأنباط - يقدمون المدينة بالدرمك ( نوع من الدقيق) والزيت في الجاهلية وبعد أن دخل الإسلام ، فإنما كانت أخبار الشام عند المسلمين كل يوم لكثرة من يقدم عليهم من الأنباط ، فقدمت قادمة فذكروا أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام ، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة ، وأجلبت معه لخم ، وجذام ، وغسان ، وعاملة . وزحفوا ، وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء ، وعسكروا بها ، وتخلف هرقل بحمص .. ولم يكن عدو أخوف عند المسلمين منهم وذلك لما عاينوا منهم - إذ كانوا يقدمون عليهم تجارا - من العدد والعدة والكراع .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغزو غزوة إلا ورى بغيرها ، لئلا تذهب الأخبار بأنه يريد كذا وكذا ، حتى كانت غزوة تبوك ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ، واستقبل غزى وعددا كثيرا ، فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبة غزوهم ، وأخبر بالوجه الذي يريد . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبائل وإلى مكة يستنفرهم إلى غزوهم ، فبعث إلى أسلم بريدة بن الحصيب ، وأمره أن يبلغ الفرع . وبعث أبا رهم الغفاري إلى قومه أن يطلبهم ببلادهم ، وخرج أبو واقد الليثي في قومه ، وخرج أبو الجعد الضمري في قومه بالساحل ، وبعث رافع بن مكيث وجندب بن مكيث في جهينة ; وبعث نعيم بن مسعود في أشجع ، وبعث في بني كعب بن عمرو بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم وبشر بن سفيان ; وبعث في سليم عدة منهم العباس بن مرداس .
وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على القتال والجهاد ورغبهم فيه ، وأمرهم بالصدقة فحملوا صدقات كثيرة فكان أول من حمل أبو بكر الصديق رضي الله عنه جاء بماله كله أربعة آلاف درهم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل أبقيت شيئا " ؟ قال : الله ورسوله ، وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أبقيت شيئا ؟ قال نعم نصف ما جئت به . وبلغ عمر ما جاء به أبو بكر فقال : ما استبقنا إلى الخير إلا سبقني إليه . وحمل العباس بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مالا ، وحمل طلحة بن عبيد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم مالا ، وحمل عبد الرحمن بن عوف إليه مالا ، مائتي أوقية وحمل سعد بن عبادة إليه مالا ، وحمل محمد بن مسلمة إليه مالا . وتصدق عاصم بن عدي بتسعين وسقا تمرا . وجهز عثمان بن عفان رضي الله عنه ثلث ذلك الجيش فكان من أكثرهم نفقة ، حتى كفى ذلك الجيش مئونتهم حتى إن كان ليقال ما بقيت لهم حاجة حتى كفاهم شنق أسقيتهم . فيقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ " ما يضر عثمان ما فعل بعد هذا " .
وكانت الغزوة خمسين يوماً ، بدأت في العشر الأواخر من رجب عام تسعة للهجرة ، ووصل تبوك أوائل شعبان ، وبقي في تبوك ثلاثين يوماً هي شعبان كله ، فلم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حرباً ، وخرج من تبوك أول رمضان ليصل المدينة في آخر العشر الأوائل منه .
إضاءة :
1- يؤرق العدوَّ أن يرى للمسلمين قوةً ، ويحاول وأدَها والقضاء عليها ، فيجهز جيشاً قوياً قوامه مئتا ألف جندي رومي مدجج بالسلاح ، ويجمع لها الجموع من العرب التي باعت نفسها وأسلمت قيادها له ليسوقها حربة في قلوب أبناء جلدتها . وهذا مانراه في كل زمان ومكان .
2- هذه الجموع التي جمعها هرقل أمامه من العرب أهل الكتاب الذين كرهوا أن يظهر الدين الحق في الجزيرة ، رأوا أن العقيدة التي جمعتهم بالروم أقوى من النسب الذي جمعهم بالعرب أبناء جلدتهم ، فحاربوا تحت راية عقيدتهم الباطلة ، أفلا ينبغي للمسلمين أن يتحدوا للدفاع عن عقيدتهم السليمة أمام كل المناوئين المرجفين ؟!
3- ينبغي للقائد المسلم أن يتتبع أخبار عدوه من القادمين ، ومن العيون ، وأن يستفيد من كل خبر صغيراً كان أم كبيراً ، فتقدير حالة العدو وتجهيزاته بشكل تقريبي من دواعي الأمن وحسن التجهيز والاستعداد.
4- وإذا كان الروم قد أعطوا الأعطيات الجزيلة لجنودهم والمتعاونين معهم ، ووزعوا الرواتب والمؤن لسنة قادمة فهذا يدل على التصميم الأكيد والإصرار على غزو المسلمين في عقر دارهم ليستأصلوهم ، فلا تقوم لهم قائمة .
5- ولأن الروم دولة قوية اعتاد العرب أن يحنوا لها ظهورهم ، وعاشوا قروناً يتبعون لها ولفارس فإن قوتهم أخافت المسلمين بادئ ذي بدء فكان دور القائد العظيم صلى الله عليه وسلم أن يبث في أنفس المسلمين القوة والشجاعة ، ويذكرهم بنصر الله وعونه لعباده ، وأن النصر من عنده سبحانه " وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم " .
6- أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً : أنه سيهاجمهم في بلادهم ، فأفضل وسيلة للدفاع ِ الهجومُ .
ثانياً : ينبغي أن تكون الحرب في أرض العدو لا في أرض المسلمين فإن انتصروا فتحوا بلاداً جديدة ، وإن خسروا المعركة لم يخسروا جزءاً من بلادهم فعادوا يستعدون ويتجهزون .
ثالثاً : أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عن مكان المعركة ونوع العدو ، ليستعد المسلمون له قدر ما يستطيعون ويُعدوا له العُدّة .
رابعاً : دعا قبائل المسلمين كافة للاشتراك في المعركة ، وبعث إليها البعوث يحضهم على ذلك ، فالمعركة مع عدو قوي شرس لا كالقتال مع قبيلة من القبائل العربية التي كان يفجؤها بالهجوم ويأخذها على حين غرة فيهزمها في أول اللقاء .
7- في مثل هذه اللحظات تظهر معادن الرجال ، فيتجهزون للحرب ، ويعين القويّ الضعيفَ والغني الفقيرَ ، ويقدم الكريم ماله كله أو نصفه أو ثلثه أو يتكفل بالدعم المجزي لمعركة قد تطول كثيراً ، - طال زمن الغزوة فعلاً خمسين يوماً – ويتبارى الرجال في التبرع والدعم ، ويرتاح الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما قدّمه أصحابه رضوان الله تعالى عليهم ، وهكذا المسلم دائماً سبّاق إلى كل خير يقدم ماله ونفسه في سبيل الله ودعونه ، ولا يظفر المرء برضوان الله وجنته إلا إذا عرف هدفه المنشود وسعى إليه بإخلاص .
8- لا شك أن المسلم الداعية يطلب رضاء الله بكل ثمن مهما علا ، وكانت غزوة تبوك في الصيف وحرّ القائظة ، والسفر طويل ، والمهمة صعبة ، والعدو قوي ، إلا أن الرجال لا تقف أمامهم المصاعب وإن اشتدّت ، ولا يمنعهم عن هدفهم مانع مهما كان الوصول إليه كؤوداً . وسقط في هذا الاختبار من سقط ، ونجح فيه أولو العزم وأهل الصدق والإيمان . وإن في ثبات هؤلاء الرجال درساً يظهر جوهر الإنسان وينشره .
9- خلّد التاريخ النوعين من الرجال .. الرجالَ الرجالَ ، والرجالَ اللارجال ، فرفع القسم الأول إلى الصدارة والقدوة ، وخفض المنافقين إلى الدرك ... وشتان شتان ما بين اليزيدين في الورى .......
10- ونصر الله رسول صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر، فلم يلق مقاومة ، وهابه العرب ، وقدّموا له الولاء ، وكان نصر الله يسطع في سماء الحق والعدل ، ويعلن البقاء لهما ، فدولة الباطل ساعة ، ودولة الحق إلى قيام الساعة .
التعديل الأخير: