سيف الدين قطز هو واحد من أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين، واسمه الأصلي محمود بن ممدود ، وهو من بيت مسلم ملكي أصلي، وسبحان الله! كم هي صغيرة هذه الدنيا!
فـقطز رحمه الله هو ابن أخت جلال الدين بن محمد بن خوارزم وجلال الدين أخر قائد للدولة الخوارزمية الاسلامية الذي هزم التتار مرتين، ثم هزم وفر إلى الهند، ثم عاد إلى أرض فارس وقتل الكثير من المسلمين إلى أن قتل على يد فلاح كردي.
فالتتار لما أمسكوا بعضاً من أهل جلال الدين بن خوارزم بعد فراره إلى الهند، كان قطز أحد هؤلاء الذين أمسكهم التتار، فقتلوا بعضهم وأبقوا بعضهم؛ ليباعوا في سوق الرقيق، وكان ممن بقي محمود بن ممدود أو قطز .
والتتار هم الذين أطلقوا على قطز اسم قطز، وهذه الكلمة بالتترية تعني: الكلب الشرس، فقد كان واضحاً على قطز علامات القوة والبأس من صغره، فلذلك أطلق عليه التتار هذه الكلمة، ثم باعوه بعد ذلك في أسواق الرقيق في دمشق، واشتراه أحد الأيوبيين وجاء به إلى مصر، ثم انتقل من سيد إلى غيره حتى وصل في النهاية إلى الملك المعز عز الدين أيبك ؛ ليصبح أكبر قواده كما رأينا.
ولعلنا نلحظ بوضوح في قصة قطز التدبير العجيب لرب العالمين سبحانه وتعالى! فالتتار مكروا بالمسلمين، واسترقوا أحد أطفالهم، وباعوه بأنفسهم في دمشق، ثم بيع بعد ذلك من واحد إلى آخر، ووصل إلى بلد لم يرها قبل ذلك، ولعله لم يكن يسمع بها أصلاً في هذه السن الصغيرة، ليصبح في النهاية ملكاً على هذا البلد، وتكون نهاية التتار -الذين قاموا بنقله من أقاصي بلاد المسلمين إلى مصر- على يد هذا المملوك الذي كان يباع ويشترى، وسبحان الذي يدبر بلطف، ويمكر بحكمة، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء,
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
[النمل:50].
و قطز رحمه الله كبقية المماليك نشأ على التربية الدينية القوية، وتشبع بالحمية الإسلامية القوية، وتدرب منذ صغره على فنون الفروسية وأساليب القتال، وعلى أنواع الإدارة وطرق القيادة، فنشأ رحمه الله شاباً فتياً أبياً محباً للدين معظماً له، وكان رحمه الله قوياً صبوراً جلداً، بالإضافة إلى أنه ولد في بيت ملكي، فكانت طفولته طفولة الأمراء، وهذا أعطاه ثقة كبيرة في نفسه، فهو لم يكن غريباً على أمور القيادة والإدارة والحكم، وفوق كل هذا فإن أسرته قد هلكت تحت أقدام التتار، وقد رأى بعينه أفعال التتار في بلاده يوم أن كان صغيراً، وهذا ولا شك جعله يفقه جيداً مأساة التتار، وليس من رأى كمن سمع.
كل هذه العوامل مجتمعة صنعت من قطز رحمه الله رجلاً ذا طراز خاص جداً، يستهين بالشدائد تماماً، ولا يرهب أعداءه، مهما كثرت أعدادهم، أو تفوقت قواتهم.
ولقد كان للتربية الإسلامية العسكرية، والتربية أولاً على الثقة بالله أثر كبير جداً في حياة قطز رحمه الله.
ظهور الاضطرابات في مصر أثناء حكم نور الدين علي ====
وكما أحدث صعود شجرة الدر إلى كرسي الحكم قبل ذلك اضطرابات كثيرة جداً في مصر وفي العالم الإسلامي، كذلك أحدث صعود الطفل نور الدين إلى كرسي الحكم نفس الاضطرابات، وكانت أكثر الاضطرابات تأتي من قبل بعض المماليك البحرية الذين مكثوا في مصر ولم يهربوا إلى الشام مع من هرب منها أيام الملك المعز عز الدين أيبك الذي طردهم وحاربهم وأسس المماليك الخاصة به، وتزعم الثورة في مصر سنجر الحلبي أحد هؤلاء المماليك البحرية، وقاد حملة لتغيير نظام الحكم وإعادة المماليك البحرية في الصورة، وكان يرغب في الحكم لنفسه بعد مقتل عز الدين أيبك ، فاضطر قطز رحمه الله إلى القبض عليه وإلى حبسه، وكذلك قبض على بعض رءوس الثورات المختلفة، فأسرع بقية المماليك البحرية إلى الهرب إلى الشام؛ ليلحقوا بزعمائهم الذين فروا قبل ذلك أيام المعز ، ولما وصل المماليك البحرية إلى الشام، شجعوا الأمراء الأيوبيين على غزو مصر، فاستجاب لهم بالفعل بعض هؤلاء الأمراء، ومنهم مغيث الدين عمر أمير الكرك، والكرك الآن في الأردن.
كان مغيث الدين عمر رجلاً ضعيفاً جداً، ومع ذلك كان صاحب أطماع أكبر من حجمه، فتقدم بجيشه ناحية مصر، ووصل إليها في ذي القعدة سنة (655) من الهجرة، وحاول غزوها، فخرج له قطز رحمه الله وهزمه هزيمة منكرة، فرجع مغيث الدين والأحلام تراوده بغزو مصر من جديد، فعاد مرة أخرى في ربيع الآخر سنة (656) من الهجرة، يعني: بعد عدة أشهر من الهزيمة الأولى فهزم مرة ثانية.
وهنا أمر خطير جداً، فالغزوة الثانية التي حاول فيها المغيث عمر الأيوبي أن يغزو مصر كانت في ربيع الآخر سنة (656) من الهجرة، بعد سقوط بغداد بشهرين فقط، فبدلاً من توجيه كل الطاقة إلى قضية التتار، إذا به يتوجه لحرب المسلمين! وهذا هو مرض الحول السياسي الذي أشرنا إليه من قبل، فـمغيث الدين هذا كان مسكيناً مصاباً بهذا المرض الخطير.
سقطت بغداد في صفر سنة (656) من الهجرة، وبدأ هولاكو في الإعداد لغزو الشام، وحاصر ابنه أشموط ميافارقين بداية رجب سنة (656) من الهجرة، وبدأ هولاكو في التحرك من فارس إلى الشام مروراً بشمال العراق في سنة (657) هجرية، واحتل نصيبين والرها والبيرة، وكل هذه المدن في جنوب تركيا كما ذكرنا قبل ذلك، واقترب من حلب، وأصبح واضحاً أن هولاكو لن يهدأ حتى يسقط الشام بكامله، وبعد الشام لابد أن تكون الخطوة التالية هي مصر.
غزو أمير الكرك لمصر ======
كان مغيث الدين عمر رجلاً ضعيفاً جداً، ومع ذلك كان صاحب أطماع أكبر من حجمه، فتقدم بجيشه ناحية مصر، ووصل إليها في ذي القعدة سنة (655) من الهجرة، وحاول غزوها، فخرج له قطز رحمه الله وهزمه هزيمة منكرة، فرجع مغيث الدين والأحلام تراوده بغزو مصر من جديد، فعاد مرة أخرى في ربيع الآخر سنة (656) من الهجرة، يعني: بعد عدة أشهر من الهزيمة الأولى فهزم مرة ثانية.
وهنا أمر خطير جداً، فالغزوة الثانية التي حاول فيها المغيث عمر الأيوبي أن يغزو مصر كانت في ربيع الآخر سنة (656) من الهجرة، بعد سقوط بغداد بشهرين فقط بيد المغول التتار ، فبدلاً من توجيه كل الطاقة إلى قضية التتار، إذا به يتوجه لحرب المسلمين! وهذا هو مرض الحول السياسي الذي أشرنا إليه من قبل، فـمغيث الدين هذا كان مسكيناً مصاباً بهذا المرض الخطير.
سقطت بغداد في صفر سنة (656) من الهجرة، وبدأ هولاكو في الإعداد لغزو الشام، وحاصر ابنه أشموط ميافارقين بداية رجب سنة (656) من الهجرة، وبدأ هولاكو في التحرك من فارس إلى الشام مروراً بشمال العراق في سنة (657) هجرية، واحتل نصيبين والرها والبيرة، وكل هذه المدن في جنوب تركيا كما ذكرنا قبل ذلك، واقترب من حلب، وأصبح واضحاً أن هولاكو لن يهدأ حتى يسقط الشام بكامله، وبعد الشام لابد أن تكون الخطوة التالية هي مصر.
طز رحمه الله وإن كان يدير الأمور فعلياً في مصر، إلا أن الذي يجلس على الكرسي سلطان طفل، ولا شك أن هذا كان يضعف من هيبة الحكم في مصر، ويزعزع من ثقة الناس بملكهم، ويقوي كذلك من عزيمة الأعداء عندما يرون الحاكم طفلاً.
في ضوء الخطر التتري الرهيب، والمشاكل الداخلية الطاحنة، والاضطرابات وثورات المماليك البحرية، وأطماع الأمراء الأيوبيين الشاميين لم يجد قطز رحمه الله أي معنى لأن يبقى السلطان الطفل نور الدين علي على كرسي أهم دولة في المنطقة وهي مصر، والتي لم يعد هناك أي أمل في صد التتار إلا فيها، وهنا أخذ قطز رحمه الله القرار الجريء، وهو عزل السلطان الطفل نور الدين علي ، وصعود قطز بنفسه على عرش مصر، ولم يكن هذا القرار غريباً، فـقطز كان هو الحاكم الفعلي للبلاد، والجميع بما فيهم السلطان الطفل نفسه نور الدين علي يدركون ذلك تمام الإدراك، ولكن قطز لم يكن يتحرك إلا من خلف هذه الصورة الهزلية المضحكة، وهي صورة السلطان الطفل، فما كان من قطز إلا أن أخذ هذا القرار الجاد في (24) ذي القعدة سنة (657) من الهجرة؛ ليظهر من ورائها الأسد الهصور قطز رحمه الله الذي على يديه ستتغير معالم الأرض وجغرافية العالم، وتتغير كثير من صفحات التاريخ.
وقبل وصول هولاكو إلى حلب بأيام، ومنذ أن صعد قطز رحمه الله إلى كرسي الحكم، بدأ يعد العدة للقاء التتار، وحدثت أحداث جسام على أرض مصر، فقد انتهج نهجاً جديداً على ذلك الزمن، ورفع رايات جديدة ما رفعت منذ أمد، وجهز جيوشاً ما جهزت منذ أزمان بعيدة، وفي عهده كان اليوم الذي لا يشبهه من أيام الزمان إلا قليل، وأما كيف حدث كل ذلك، فتعالوا نرى وننظر إلى قطز رحمه الله كيف عمل؟ وكيف استلم البلاد؟ وكيف وصل بها إلى ما وصل إليه رحمه الله؟!
حالة مصر عند تولي قطز للحكم ============
عندما بدأ التتار في اجتياح الشام والاقتراب من الديار المصرية كان الوضع في مصر متأزماً جداً، وقطز رحمه الله لم يستلم دولة مستقرة سليمة، بل كانت مضطربة تماماً.
1- الحالة السياسية الداخلية لمصر -------------------
كان المسرح السياسي الداخلي في مصر يموج بالاضطرابات العاصفة والأزمات الشديدة، وكانت الفتن الناتجة عن التصارع على الحكم، وبالذات في العشر السنوات الأخيرة عنيفة جداً ومتكررة، وكانت هذه الأوضاع قد استقرت نسيباً عندما تولى الملك المعز عز الدين أيبك الحكم سبع سنوات متصلة، ولكنها عادت من جديد للاشتعال بمقتله ثم مقتل شجرة الدر ، ثم ولاية الطفل نور الدين علي ، ثم خلعه بواسطة قطز رحمه الله وتوليه بدله، فالأمور كانت مضطربة جداً. وقطز وإن كان الآن قد استقر على كرسي الحكم، إلا أن هناك الكثير من الطامعين في الكرسي، ولا شك أيضاً أن هناك الكثير من الحاقدين على قطز شخصياً، ومن المؤكد أن هؤلاء الطامعين والحاقدين سوف يتحركون، أو على الأقل سيحاولون التحرك لإقصاء قطز عن العرش، أو حتى قتله كما اعتاد الكثير من المماليك أن يفعلوا.
وكانت الفتنة مازالت دائرة بين المماليك البحرية الصالحية، الذين كانوا يؤيدون شجرة الدر، والمماليك المعزية الذين يؤيدون الآن سيف الدين قطز رحمه الله، وكذلك لا ننسى أن كثيراً جداً من المماليك البحرية فروا إلى مختلف الإمارات الإسلامية في الشام، ومن بقي منهم في مصر بقي على وجل وترقب، وهذا الانقسام ولا شك أضعف القوة العسكرية المصرية؛ لأن المماليك البحرية كانوا هم أساس الجيش المصري تقريباً.
2- العلاقات الخارجية:
------------------
إذا كان الوضع السياسي والعسكري داخل البلاد على هذه الصورة الخطيرة فالمسرح السياسي الخارجي كذلك، كان يحمل مشكلات في غاية الأهمية.
فالعلاقات بين مصر وبين الدول التي حولها كانت ممزقة تماماً، والعلاقات الدبلوماسية مع كل إمارات الشام كانت مقطوعة تماماً، ولم تكن مقطوعة فقط، بل كانت روح العداء الشديد هي السائدة بين الفريقين، وكذلك لم يكن لمصر أي سند من الشمال الإفريقي أو ليبيا أو السودان، فقد كانت مصر تعيش في عزلة مقيتة ستسهل جداً على الوحش التتري مهمة ابتلاع مصر، كما فعل بأشياعها من قبل.
3- الحالة الاقتصادية
-----------------
م يكن الوضع الاقتصادي في مصر أحسن حالاً من الوضع السياسي أو الاجتماعي، فلقد كانت البلاد تمر بأزمة اقتصادية طاحنة؛ بسبب الحروب الصليبية المتكررة، والحروب التي دارت بينها وبين جيرانها من أهل الشام، والفتن والصراعات على المستوى الداخلي، وكل هذه الأمور أدت إلى أزمة اقتصادية طاحنة، كما أن الناس انشغلوا بأنفسهم وبالفتن الداخلية والخارجية، فتردى الاقتصاد إلى أبعد درجات التردي، وباتت البلاد فعلاً على حافة هاوية سحيقة شبه مؤكدة.
كل هذا وأعداء الأمة قد اجتمعوا عليها وبضراوة شديدة، فهناك الغرب الصليبي الحاقد جداً، وكان قد مني بهزائم ساحقة في مصر منذ عشر سنوات في المنصورة وفارسكور، ولا شك أن الصليبيين يريدون الثأر والانتقام، فالاضطرابات الأخيرة في مصر والانقلابات، وحوادث القتل المتكررة، فرصة لرد الاعتبار وللثأر وللانتقام، وهناك الإمارات الصليبية المزروعة في فلسطين منذ عشرات السنين، وهذه قريبة جداً من مصر، وممكن أن تفكر هذه الإمارات في غزو مصر في هذه الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، وفوق كل ذلك هناك الهم الكبير القادم من الشرق وهو التتار.
خطوات قطز رحمه الله في باناء الأمة
================
ستلم قطز رحمه الله تركة مثقلة بالهموم الكبيرة، والمشاكل الضخمة، وتعالوا بنا لنرى كيف تصرف قطز رحمه الله مع هذا الوضع شديد التأزم؟ وما هي خطواته التي خطاها من أجل التغيير؟
وما هو الإعداد الذي قام به لمواجهة الهجمة التترية الشرسة؟
وهذا الدرس من أهم الدروس في هذه المجموعة، فهو يتحدث عن خطوات بناء الأمة، فـقطز يعلمنا كيف نبتدئ، عندما يكون الوضع متأزماً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، بل وأخلاقياً، حتى يصلح من شأن البلاد، لتصبح أقوى دولة في الأرض كما أصبحت في زمانه.
وكل هذا حدث في زمن قصير جداً، وستستغربون جداً عندما تعرفون كيف عمل قطز هذه الأشياء؟ وفي كم من المدة؟
1- استقرار الوضع الداخلي:
--------------
الخطوة الأولى التي حرص عليها قطز رحمه الله: هي استقرار الوضع الداخلي في مصر، واستقرار الوضع لن يأتي إلا بقطع أطماع الآخرين في كرسي الحكم الذي يجلس عليه، فالطامع في الكرسي لن تهدأ له نفس، ولن تستقر له حال، حتى يجلس على الكرسي الذي يريد، وهو رحمه الله لم يقطع أطماعهم عن طريق التهديد والوعيد، فالتهديد والوعيد قد يزيد الفتن اشتعالاً، ويؤجج نيران الحقد والحسد والغل في المجتمع، ولم يقطعها كذلك بتزوير إرادة الشعب، وإيهام الجميع أن الشعب يريده هو بذاته، ولم يقطعها بالخداع والغش والمؤامرات والتحايل أبداً، ولكنه عمل شيئاً غريباً جداً، فقد ارتفع رحمه الله بأخلاق المنافسين، إلى درجة لم يتعودوا عليها في الفترة الأخيرة في مصر، فقد جمع رحمه الله الأمراء وكبار القادة وكبار العلماء، وأصحاب الرأي في مصر، وهؤلاء هم المحركين الفعليين لطوائف الشعب المختلفة، والقدرة على التأثير على الناس، وقال لهم: إني ما قصدت من اعتلاء العرش في مصر، وإقصاء السلطان الطفل نور الدين علي وجلوسي مكانه، إلا أن نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتى ذلك بغير ملك، فلا يعقل أن نقاتل التتر أكبر دولة في الأرض في ذلك الزمن وعلى الكرسي طفل سنه (15) سنة، فحتى لا تسقط هيبتنا من أعين التتار إذا رأوا هذا الأمر.
إذاً: فالقضية الأولى من استلامه الحكم واضحة جداً في ذهنه رحمه الله، وهو حرب التتار والجهاد في سبيل الله، ولا يتأتى ذلك بغير ملك.
ثم يقول: فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو فالأمر لكم، أقيموا في السلطة من شئتم.
فهو لن يتدخل رحمه الله في ذلك الأمر، وإنما المهم عنده هو إنهاء القضية الكبيرة التي تواجهها الأمة الإسلامية بأكملها، وليس مصر فقط، وهي قضية العدو الخارجي التتار، الذين احتلوا نصف البلاد ويقتربون الآن من النصف الآخر.
وعندما سمع الرجال الذين جمعهم قطز رحمه الله هذا الكلام هدءوا جميعاً، ورضوا بذلك.
2-تجميع قطز للناس تحت راية الجهاد
---------------------
حرص قطز رحمه الله على إبراز خطورة العدو القادم التتار، وعلى إظهار الغاية النبيلة التي من أجلها صعد إلى كرسي الحكم، ومن المعروف أن الأزمات الشديدة التي تمر بالأمة، يمكن أن تكون أزمات مجمِّعة إذا أحسن القائد استغلالها، ومع أن المشكلة تكون كبيرة جداً أمام الناس، والقضية خطيرة، والناس يخافون ذلك، إلا أنهم يتجمعون بسبب هذا الخوف.
فـقطز رحمه الله استغل خوف الناس من قضية التتار ليجمعهم سوياً تحت راية واحدة، ومن أفضل الأمور لتجميع الناس ولتوحيد الصف: الجهاد، والقائد الذي لا يجمع شعبه على قضية جهادية يفقد حب شعبه وولاءهم له، بل وقد تكثر الفتن والقلاقل في زمانه؛ لأن الناس سيركنون إلى حياة الدعة والسكون، وسينشغلون بسفاسف الأمور، وعندما نراجع التاريخ الإسلامي نجد أنه ما رفع قائد مسلم في كل تاريخ المسلمين راية الجهاد بصدق إلا واستقرت بلاده، ومع أنه داخل في حروب ضارية إلا أن بلاده سوف تستقر، ويسير شعبه خلفه بكل حب وصدق ووفاء.
والذي لا يرفع هذه الراية يذل نفسه وشعبه، وهذه سنة مستمرة في التاريخ، وستكون إلى يوم القيامة؛ لأن الله عز وجل كتب الذل على من تخلى عن الجهاد.
وذكرنا قبل ذلك الكثير والكثير من المواقف التي تؤيد هذا المعنى.
ثم إن قطز رحمه الله أعلن بوضوح من أول يوم استلم فيه الحكم: أنه سيجعل الأمر في الناس يختارون من يشاءون دون التقيد بعائلة معينة أو مماليك بذاتهم، وأنه لن يأخذ بالتوريث الذي كان الناس يخافون منه.
وهنا كلام في غاية الأهمية، وهو أنه لا يستقيم لنا أن نقول ما قاله المحللون الغربيون المستشرقون، أو بعض المحللين المسلمين الذين يعتمدون في تحليلاتهم على المدارس الغربية في التحليل والنقد: من أن قطز إنما قال ذلك ليقمع المناوئين له، وليثبت نفسه في كرسيه، مستغلاً حب المسلمين للجهاد.
يعني: أنه يمثل على الناس، فلا يستقيم لنا أبداً أن نطعن في نية قطز رحمه الله من وراء الكلمات التي قالها، ولا أن نفترض أن وراء هذه الكلمات مرامي أخرى، وإحسان الظن بالمؤمنين أمر مطلوب شرعاً، فإن الكلمات والأفعال دائماً تقيم وتحسب في ضوء سيرة الشخص وحياته، وهذه الجملة في منتهى الأهمية، فاحفظوها: الكلمات والأفعال تقيم وتحسب دائماً في ضوء سيرة الشخص وحياته، فقد يقول شخص كلاماً يفهم منه معنى، ويقوله شخص آخر فيفهم منه فهماً مختلفاً تماماً. وكلمة الجهاد هذه إذا قالها قطز رحمه الله، فسأفهم منها معاني معينة، وإذا قالها قبل ذلك الناصر يوسف الأيوبي فسأفهم منها معاني أخرى تماماً،
وقد تكلمنا من قبل على موقف الناصر يوسف (( الغزو المغولي للشام )) ، والآن نتكلم على موقف قطز رحمه الله، وشتان بين الموقفين، فكلاهما قال: إنه سيجاهد في سبيل الله، ونحن نريد الآن تقييم هذه الكلمة في ضوء سيرة قطز رحمه الله، ومن خلال تتبع سيرته بعد أن تولى الملك، وفي أثناء تحركاته إلى عين جالوت، وفي موقعة عين جالوت وما بعدها، سنرى في كل ذلك ما يثبت أن كلامه جميعاً كان كلاماً صادقاً، وأن رغبته في قتال التتار، والانتصار لهذا الدين، كانت أعلى بكثير من رغبته في الملك، وقد جعل الله عز وجل نصر الأمة على يديه كما سنرى، وليس من سنة الله عز وجل أن يكتب نصر الأمة على يد المنافقين والفاسدين،
قطز رحمه الله نحسبه على خير، ولا نزكي على الله أحداً، وقد أجمع علماء أمة الإسلام على عدالته وفضله وتقواه، وقالوا فيه كلاماً كثيراً، وسنذكر بعضه بإذن الله في الدروس القادمة.
وإذا كان من الممكن قبول عذر المستشرقين والمحللين الغربيين في أن قطز كان يقصد الملك وليس الجهاد؛ لأنهم في سياستهم وحياتهم لا يرون إلا هذه الأمثلة التي تريد الدنيا، فما هو عذر المحللين المسلمين الذين قالوا مثل ذلك الكلام؟ فليس لهم عذر في الحقيقة؛ لأن هذا المثال المخلص الراقي الذي لا يريد شيئاً لنفسه ولا لذاته، ويهب حياته بكاملها لربه ولدينه ولشعبه، ولقضايا أمته، كثير ومتكرر جداً في أمتنا، وفي تاريخنا.
وقد سبق قطز رحمه الله على هذا الطريق الكثير والكثير من أبطالنا، ولحق به كذلك آخرون، وسيظل الخير بإذن الله في أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.
3- حزم سيف الدين قطز في الإدارة ------------------------
مع أن قطز رحمه الله قد استخدم الأخلاق العالية والأهداف النبيلة في تجميع القواد والعلماء حوله، إلا أنه لم يتخل عن حزمه في الإدارة، فـقطز رحمه الله لم يكن رجلاً طيبًا فقط، يقول هذه الكلمات وليس عنده فنون الإدارة والسياسة والقيادة، بل كان حازماً جداً رحمه الله، فقد عزل الوزير ابن بنت الأعز المعروف بولائه الشديد لـشجرة الدر ، وولى بدلاً منه وزيراً آخر كان يدين له بالولاء، وكان يثق في قدراته وإمكانياته، وهذا الوزير الجديد كان اسمه زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع ، وفي ذات الوقت أقر قائد الجيش فارس الدين أقطاي الصغير الصالحي في مكانه، وهو ليس فارس الدين أقطاي الذي تكلمنا عليه من قبل، فـفارس الدين أقطاي الأول كان قد قتل قبل ست سنوات سنة (652) من الهجرة.
فـقطز ولى قائداً من قواد المماليك البحرية، مع شدة الخلاف بين الطائفتين، لكن عندما وجد فيه الكفاءة العسكرية والقدرة على القيادة والأمانة والصدق -وهي مؤهلات ضرورية لأي إمارة- ولاه، وبذلك نجد أن قطز رحمه الله قد حفظ الأمانة، ووسّد الأمر لأهله، بغض النظر عن كونهم من المماليك البحرية أو المعزية، وهذا تجرد واضح من قطز رحمه الله، كما أنه أيضاً يعتبر ذكاء سياسياً من قطز رحمه الله؛ لأنه بتولية هذا الرجل من المماليك الصالحية قيادة الجيش، استمال قلوب المماليك البحرية الذين فروا إلى أنحاء الشام وتركيا، وبث الاطمئنان في نفوسهم، وهذا ولا شك سيؤدي إلى استقرار الأوضاع في مصر، كما أنه سيستفيد من الخبرات العسكرية الفذة للمماليك البحرية، وأوجد بذلك فرصة للتعاون مع المماليك البحرية.
وعلم قطز رحمه الله أن الناس إن لم يشغلوا بالجهاد شغلوا بأنفسهم، ولذلك فبمجرد أن اعتلى عرش مصر أمر وزيره زين الدين وكذلك قائد الجيش فارس الدين أقطاي الصغير الصالحي أن يجهزا الجيش ويعدا العدة وينظما الصفوف، وانشغل الناس كلهم بهذه الغاية النبيلة والمهمة الخطيرة: الجهاد في سبيل الله.
ذاً: الخطوة الأولى في سياسة قطز رحمه الله كانت السيطرة على الوضع الداخلي للبلاد، وشغل الناس بالقضايا المجمعة للأمة، وإبراز الهدف الحقيقي من السلطان، وهو إقامة الشرع، والدفاع عن البلاد، والقيام بشئون الرعية، وحماية مصالح العباد، وأنه ليس من مطالب الحكم أبداً، ولا من أغراضه، جمع المال أو ضمان توريث الكرسي للأبناء أو أبناء الأبناء، ولذلك استقرت الأحوال الداخلية في مصر، وتوحد الصف الداخلي، وهذه خطوة عظيمة جداً وأساسية ومحورية في بناء الأمة.
4- إعداد العدة لمواجهة التتار والعفو عن المماليك البحرية ---------------------
لما استقر الوضع نسبياً في مصر انتقل قطز رحمه الله إلى الخطوة الثانية: وهي إعداد العدة لمواجهة التتار، وكانت خطوة في منتهى الروعة والحكمة، وأبرزت الأخلاق الرفيعة جداً لـقطز رحمه الله، فقد أصدر قراراً بالعفو العام الحقيقي عن كل المماليك البحرية، ولم يكن هذا العفو خدعة سياسية لأجل معين، كما يفعل بعض الزعماء والقواد، ولم يكن شهر عسل مؤقت إلى أن تهدأ الأمور، وإنما كان أمراً يهدف فعلاً إلى المصالحة الحقيقية، ويرمي بصدق إلى إصلاح الأوضاع ولم الشمل ودرء المفاسد.
على عكس ما يفعله بعض الزعماء السياسيين الذين لم يتفقهوا بعد في السياسة، ولا يدركون موازين القوى في بلادهم، فهؤلاء يتعاملون تعاملاً غبياً مع الأحداث، فهم إما أن يقصوا هذه القوى تماماً عن كل شيء، بل وأحياناً يقيدون حرياتها، وأحياناً يخرجونها من البلد تماماً، وإما أن يتجاهلوها تماماً وكأنها لا وجود لها، فيضعون رءوسها في الرمال، ولا يعترفون بوجودها، وينكرون طاقتها، ويهملون كيانها.. وهكذا، وكل هذا لا شك أنه لا يصب أبداً في مصلحة البلد أو الشعب. أما قطز رحمه الله فكان رجلاً مخلصاً متجرداً لله وواقعياً جداً، فلم ينكر قوة المماليك البحرية، فمن الغباء أن ينكر وجود قوة كقوتهم، بل إنه من حبه لوطنه ولأمته وإخلاصه لله عز وجل حاول أن يستميل هذه القوة لصالح البلاد والشعب، ولذلك اتخذ هذا القرار على رغم خطورته على كرسيه رحمه الله، وكان قراراً في منتهى الروعة.
وقد مر بنا كيف حدثت الفتنة بين المماليك البحرية وبين المماليك المعزية، ووصلت هذه الفتنة إلى الذروة بعد مقتل الملك المعز عز الدين أيبك ثم شجرة الدر ، ووصل الأمر إلى أن معظم قادة المماليك البحرية وعلى رأسهم القائد الكبير ركن الدين بيبرس فروا من مصر إلى مختلف إمارات الشام، ومنهم من شجع أمراء الشام على غزو مصر، ووصل الأمر إلى حد خطير، فلما اعتلى قطز رحمه الله عرش مصر أصدر القرار الحكيم جداً بالعفو عن المماليك البحرية، وبدعوتهم إلى العودة إلى مصر، وهذا القرار أبرز أخلاق قطز الرفيعة رحمه الله، ونسيانه لكل الضغائن السابقة، مع كون القوة في يديه، وهذه من أرفع الأخلاق، العفو عند المقدرة، كما أبرز كذلك النظرة السياسية العميقة لـقطز رحمه الله، فقواد المصريين في ذلك الوقت من المماليك المعزية وغيرهم قد لا تكفي لحرب التتار، ولا شك أن المماليك البحرية قوة عظيمة وقوية جداً، ولها خبرات واسعة في الحروب، فقد اشترك الكثير منهم في حروب الصليبيين السابقة، ومن أشهرها موقعة المنصورة العظيمة، وموقعة فارسكور، اللتان كانتا قبل عشر سنوات، وركن الدين بيبرس ممن اشترك في هاتين الموقعتين، فضم قوة المماليك البحرية إلى قوة المماليك المعزية سينشئ جيشاً قوياً أقدر على مهاجمة التتار، وهذا مما لا يشك فيه أحد، ومن المعلوم أن الوحدة طريق من أهم الطرق إلى النصر، كما أن التنازع والتصارع والفرقة طريق الفشل والهزيمة.
كان قطز رحمه الله يعلم أن أوضاع المماليك البحرية في بلاد الشام غير مستقرة، وما هربوا إلى هناك إلا مضطرين، وأملاكهم وحياتهم وقوتهم في مصر، وهو بهذا الإعلان النبيل الذي قام به سيستقدم عدداً لا بأس به منهم، وبمجرد أن أعلن هذا القرار جاءت المماليك البحرية من كل مكان تتوافد على مصر، فجاءوا من بلاد سلاجقة الروم، التي هي تركيا الآن، ومنالكرك بالأردن، ودمشق، وحلب.. وغيرها،
وهكذا عاد المماليك من جديد قوة واحدة، واستقبلهم قطز رحمه الله استقبالاً لائقاً، ولم يتكبر عليهم تكبر المتمكن، بل عاملهم كواحد منهم؛ لأن أصله من المماليك، واستقدم قائد المماليك البحرية ركن الدين بيبرس وزعيمهم، وهو أخطر رجل في المماليك البحرية مطلقاً، ولو كان قطز في داخله غدر أو خيانة أو مصالح سياسية متجردة من الأخلاق ما استقدم بيبرس إلى مصر أبداً وعندما فر بيبرس من مصر ذهب إلى الناصر يوسف الأيوبي في دمشق، وقد كان الناصر خائناً موالياً للتتار في فترات كثيرة، ثم ادعى الجهاد ضدهم في فترات أخرى، فعندما ذهب إليه بيبرس أنكر عليه خضوعه أمام التتار وعزمه على عدم القتال، ولكن الناصر يوسف لم يسمع كلامه، وعندما قدم التتار في اتجاه دمشق فر الناصر يوسف ومن معه إلى الجنوب، واضطر بيبرس وقد وجد نفسه منفرداً -وكان يود أن يجاهد في سبيل الله- أن يهرب كذلك إلى الجنوب باتجاه فلسطين، ثم لما وصل جيش التتار إلى فلسطين ترك الناصر يوسف جيشه وهرب إلى الكرك، ثم إلى الصحراء، فوجد بيبرس نفسه وحيداً في غزة، فلم يستطع أن يعمل شيئاً، وقد كان يود أن يجاهد في سبيل الله، ولكنه كان وحيداً في غزة، والمماليك البحرية مفرقة في مشارق الأرض ومغاربها، وقطز رأس المماليك المعزية على حكم مصر، وبينما هو في هذا الموقف العصيب، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وهو الذي كان قائداً للمماليك البحرية بأكملهم -أي: أنه كان بمثابة وزير الحربية في زماننا الآن، فمنصبه كان كبيراً جداً- ثم هو الآن مشتت بين قوات التتار القادمة من الشمال، والملك الناصر الذي فر إلى الصحراء، ومصر التي هرب منها، في هذا الموقف الصعب أتاه خطاب قطز رحمه الله يعرض عليه القدوم إلى مصر معززاً مكرماً، مرفوع الرأس محفوظ المكانة مقدماً على غيره. فأي أخلاق عالية هذه من قطز رحمه الله! وأي فقه سياسي بارع!
وقطز رحمه الله كان يدرك أموراً كثيرة هامة؛ كان يدرك أولاً: الكفاءة القتالية العالية جداً، والمهارة القيادية رفيعة المستوى لـركن الدين بيبرس رحمه الله، وكان يدرك الحمية الإسلامية الراقية لهذا القائد الفذ ركن الدين بيبرس رحمه الله، وكان يدرك كذلك الذكاء الحاد الذي يتميز به بيبرس ، والذي سيحاول قطز رحمه الله أن يوظفه لصالح معركة التتار، بدلاً من أن يوظف في معارك داخلية ضد المماليك المعزية، وكان يدرك كذلك ولاء المماليك البحرية لـركن الدين بيبرس ، وأنه لو ظل هذا الرجل هارباً فلا يأمن أحد أبداً أن ينقلب المماليك البحرية في أي وقت، ويستقدموا ركن الدين بيبرس ليحكم البلاد، لذلك فمن الأحكم سياسياً أن يستقطب بيبرس لصفه، وأن يعظم قدره، ويستغل قدراته وإمكانياته، وبذلك يضمن استقرار النفوس، وتجميع الطاقات لحرب التتار، بدلاً من الدخول في معارك جانبية لا معنى لها؛ ولذلك عندما قدم بيبرس إلى مصر بعد استقدام قطز له عظم قطز جداً من شأنه، وأنزله دار الوزارة، وعرف له قدره وقيمته، وعامله كوزير، بل وأقطعه قليوب وما حولها من القرى، وهذه إقطاعية كبيرة جداً، وعامله كأمير من الأمراء المقدمين، بل وجعله على مقدمة الجيوش الإسلامية في عين جالوت.
وهكذا نتعلم من قطز رحمه الله العفو عند المقدرة، وإنزال الناس منازلهم، والفقه السياسي الحكيم، والحرص على الوحدة، ونتعلم منه شيئاً في غاية الأهمية في الأصول الإسلامية، وهو أنه ليس معنى أن يكون الإنسان سياسياً حكيماً بارعاً أن يتنازل عن أخلاقه، فليست السياسة في الإسلام نفاقاً، ولا ظلماً، ولا كبراً، ولا فقداناً للضمير، أو خلفاً للعهد، أو نقضاً للمواثيق أبداً، فالسياسة في الإسلام جزء لا يتجزأ من الدين، ولا يفصل بينهما، ولا تستخدم فيها معايير تختلف مع أصول الإسلام. هذه من أهم الأشياء التي تعلمناها من قطز رحمه الله في هذا الموقف.
وكذلك تعلمنا منه شيئاً مهماً جداً في هذا الموقف، وهو أن القائد الذي يثق في نفسه، لا يمانع من ظهور طاقات بارزة إلى جواره، وذلك على عكس ما يفعل كثير من الزعماء الضعفاء الذين لا يسمحون أبداً لأي كفاءة أن تبدع إلى جوارهم؛ لأنهم يريدون ألا يصبح لهذه الكفاءة رصيد من الحب والاحترام عند الشعب؛ حتى لا تقوى مكانتهم ويرتفع قدرهم، ومن ثم قد ينازعون الزعيم سلطانه، وما كل هذه المخاوف في قلوب هؤلاء الزعماء إلا لإحساسهم بضعفهم وبصغرهم، وافتقادهم للرصيد الحقيقي من الحب عند شعوبهم، لكن قطز رحمه الله لم يكن من هذه الزعامات الفارغة، وإنما كان زعيماً قوياً ذكياً مخلصاً واعياً محباً لدينه ووطنه وأمته، وكان يدرك من نفسه هذه الأمور، وكذلك كان الشعب يدرك عنه هذه الأمور، ومن ثم لم يكن هناك أي داع للتردد أو الثورة.
وهكذا بهذا القرار انضمت قوة المماليك البحرية وعلى رأسها القائد المحنك ركن الدين بيبرس إلى قوة الجيش المصري المسلم، ولا شك أن هذا رفع جداً من معنويات المصريين بصفة عامة.
فقد كانت خطوة العفو عن المماليك البحرية من أعظم الخطوات في حياة قطز رحمه الله، وقد كانت كل خطواته عظيمة رحمه الله.
إذاً: كانت الخطوة الأولى لـقطز: هي الاهتمام بالاستقرار الداخلي للبلاد، والخطوة الثانية هي استقدام الفارين من المماليك البحرية، والاستفادة من طاقاتهم وإمكانياتهم قدر المستطاع.
أما الخطوة الثالثة فقد كانت أيضاً خطوة رائعة، بل في غاية الروعة، فبعد الاستقرار الداخلي في مصر حرص قطز رحمه الله على الاستقرار الخارجي مع جيران مصر من المسلمين، فالعلاقات كما ذكرنا قبل ذلك كانت متوترة جداً بين مصر وبين الإمارات الشامية الأيوبية، وقد فكرت هذه الإمارات أكثر من مرة في غزو مصر، ونقضت الحلف الذي كان بينها وبين مصر أيام الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله، واستقطبت المماليك البحرية عندها عندما فروا من مصر، وكانت تتربص بمصر الدوائر في كل يوم، بل إن الناصر يوسف الأيوبي أمير دمشق وحلب كان قد طلب من التتار بعد سقوط بغداد أن يعاونوه في غزو مصر، ومع كل هذه الخلفيات المعقدة للعلاقة بين مصر والإمارات الأيوبية في الشام إلا أن قطز رحمه الله سعى لإذابة الخلافات التي بينه وبين أمراء الشام، وكان يسعى بصدق إلى الوحدة بين مصر والشام، أو على الأقل تحييد أمراء الشام، وعدم إقامة الحرب بينه وبين أمراء الشام، حتى يحارب التتار.
موقف أمراء الشام من دعوة قطز توحيد مصر والشام ----------------------
قرر قطز رحمه الله أن يسعى للوحدة بين مصر والشام، ووجد قطز رحمه الله أن رأس هؤلاء والمقدم عليهم هو الناصر يوسف الأيوبي صاحب إماراتي حلب ودمشق، فقد كان يعتبر أكبرهم، ويحكم أعظم مدينتين في الشام حلب ودمشق، وكان قطز يعلم تمام العلم كراهية الناصر يوسف له، وأنه قد فكر في حربه أكثر من مرة، بل إنه قد طلب من التتار شخصياً أن يساعدوه في حرب مصر، ومع كل هذا فقد أرسل له قطز رحمه الله رسالة تفيض رقة وعذوبة، وكأنه يخاطب أقرب المقربين إليه، وكانت هذه الرسالة قبل قدوم التتار إلى حلب، أي: أنه كان هناك فرصة للتعاون بين الناصر يوسف الأيوبي مع قطز ضد التتار، وقد كان الناصر يوسف قد أعلن الجهاد الزائف هذا أمام التتار وعسكر عند دمشق كما تكلمنا من قبل، فأراد قطز رحمه الله أن يوحد بينه وبين الناصر يوسف على ما فيه من عيوب وخطايا.
كان قطز يعلم أن أعظم أهداف الناصر في حياته هو البقاء في كرسي الحكم، وأنه لن يضحي به مهما كانت الظروف، ولذلك فقد أرسل قطز رحمه الله إلى الناصر رسالة عجيبة تماماً، يعرض عليه فيها الوحدة بين مصر والشام على أن يكون الناصر يوسف الأيوبي ملكهما، وأن يكون قطز تابعاً له، مع أن موقف قطز العسكري والسياسي أفضل بكثير من موقف الناصر يوسف ، ومصر كدولة أقوى بكثير من مدينتي حلب ودمشق، فقد قال له في رسالته: إنه لا ينازع الملك الناصر في الملك ولا يقاومه، وأنه نائب عنه في ديار مصر، وأن الناصر متى جاء إلى مصر قعد فوراً على كرسي الحكم فيها، على أن تتوحد مصر والشام. وهذه الأمور لا يتخيلها إنسان بموازين السياسة المادية، ولا يمكن أن تفهم هذه الأمور إلا إذا أدخل فيها البعد الإيماني الأخلاقي، وليس السياسي فقط.
ولما كان يعلم قطز رحمه الله أن الناصر يوسف قد يتشكك في أمر الوحدة الكاملة بين الدولتين، أو يخاف أصلاً من القدوم إلى مصر عرض على الناصر يوسف أن يقوم قطز رحمه الله بإمداده بالمساعدة لحرب التتار؛ فتتحقق المصلحة المشتركة في هزيمة التتار، وإن لم تتحقق الوحدة الكاملة بين مصر والشام، فقال له: لو أردت أن نتوحد نتوحد، ولو أردت أن أساعدك على محاربة التتار دون توحد ساعدتك؛ لأن الهدف في النهاية واحد وهو هزيمة التتار.
ثم قال له في رسالته في أدب جم وخلق رفيع: وإن اخترتني مساعداً لك خدمتك، وإن اخترت قدمت ومن معي من العسكر نجدة لك، لمساعدتك في حرب القادم عليك، يعني: التتار، وإن كنت لا تأمن حضوري وتخاف أن آتي بالجيش لأحتل بلادك، سيرت لك العساكر صحبة من تختاره، فهو يعطي الناصر يوسف صلاحيات اختيار القائد للجيش المصري الذي سيذهب لمساعدة الناصر يوسف في حربه ضد التتار، وسيبعث له الجنود في إمرة من يختار؛ ليساعدوه في حرب التتار، أو نتوحد ونحارب التتار سوياً. ولكن الناصر يوسف لم يكن ليعي هذا الكلام أبداً، ولم يستجب لهذه النداءات النبيلة من قطز ، وآثر التفرق على الوحدة؛ لأنه لم يكن له نية للحرب ألبتة، فهو لم يكن محتاجاً للجنود من أجل أن يحارب، فجيش الشام أعداده كبيرة، وجيش مصر تحت إمرته، بل كان تفكيره أن التتار متى ما وصلوا إلى دمشق فسوف يهرب مثل ما عمل بالفعل، فقضية الجهاد كانت ممحية تماماً من ذهنه، ومرت الأيام وسقطت حلب وهددت دمشق، وفر الناصر فراره المخزي إلى فلسطين، وفي فلسطين حدث الذي كان لا بد أن يحدث منذ زمن، فعندما فر الناصر بجيشه إلى فلسطين خرج جيشه عن طوعه، وآثر الانضمام إلى جيش مصر حيث القائد المحنك المسلم المخلص قطز رحمه الله، وحيث القضية الواضحة والهدف الثابت: الجهاد في سبيل الله، وليس في سبيل الكرسي، فلما وجد الناصر نفسه وحيداً اضطر إلى الفرار إلى الكرك ثم إلى الصحراء، وسوف ننظر كيف كانت نهايته.
ازداد قطز رحمه الله قوة بانضمام جيش الناصر الشامي له، فعندما فر الناصر إلى الصحراء ذهب هذا الجيش بكامله إلى مصر وانضم إلى قطز رحمه الله، وهذه قوة أضيفت إلى جيش المسلمين بسبب الوحدة بين الجيشين، ولم يكتف قطز رحمه الله بهذه الجهود الدبلوماسية مع الناصر ، بل راسل بقية أمراء الشام، فاستجاب له الأمير المنصور صاحب حماه، وقد كانت حماه إمارة مستقلة على رأسها المنصور، فجاء إلى مصر بفرقة من جيشه لينضم إلى جيش مصر الذي سيقاتل بعد ذلك التتار.
وأرسل أيضاً رسالة إلى المغيث عمر صاحب الكرك بالأردن، وهذا أمر غريب جداً، فـالمغيث عمر هذا فكر في غزو مصر مرتين، مرة قبل سقوط بغداد ومرة بعد سقوطها، ومع ذلك فقد تناسى قطز رحمه الله تماماً هذه المحاولات، وتناسى هذه الخلفية الكئيبة للفرقة بين المسلمين، وحاول من جديد أن يضم قوة المغيث عمر إلى المسلمين لكن المغيث عمر صاحب الكرك آثر أن يقف على الحياد، فقد كان من الذين عاونوا الناصر في حركة الجهاد المزعومة التي قام بها الناصر قبل ذلك، وعندما فر الناصر عاد المغيث عمر إلى حصن الكرك، فهو ليس من أهل الجهاد، ولا يريد أن يحارب التتار حقيقية، ولكنه يريد الحفاظ على كرسيه، وكان يكنّ كراهية كبيرة جداً للمماليك، وحارب مصر مرتين، لذلك آثر أن يظل مراقباً للأحداث، ثم يلتحق بالمعسكر الفائز، فإذا كسب التتار ذهب إليهم يتعذر وينضم إليهم، وإذا كسب المسلمون انضم إليهم وقال: لقد كنت معكم بقلبي، ولكن الظروف كانت صعبة.
وأما الأشرف الأيوبي صاحب حمص فقد رفض الاستجابة تماماً لـقطز، وفضل التعاون مع التتار، وكذلك فعل الملك السعيد حسن بن عبد العزيز صاحب بانياس، فقد انضم إلى التتار بجيشه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
المراحل التي وصل إليها قطز في بناء الأمة حتى أوائل عام 658هـ --------------------------
تعالوا بنا نرتب الأوراق مرة أخرى مع قطز رحمه الله لنرى إلى أين وصل الآن.
أولاً: الوضع الداخلي مستقر، والحكومة الجديدة في مصر تدين بالولاء التام له رحمه الله.
ثانياً: المهمة الأولى للدولة في تلك الآونة واضحة ومعلنة، وهي إعداد جيش قوي لمقابلة التتار في معركة فاصلة، وهذا هو الذي نسميه: وضوح الهدف، وهو معرفة البلد لما تريده.
ثالثاً: العفو عن المماليك البحرية الذي أشاع جواً من الهدوء النفسي والراحة القلبية، ليس فقط عند المماليك، ولكن عند عموم شعب مصر، ومن المؤكد أن جو المشاحنات يترك آثاراً سلبية ليس على القادة والجيش فقط، وإنما على الشعب كله، ولا شك أيضاً أن الجيش المصري قد ازداد قوة باتحاد طرفيه الكبار: المماليك البحرية الصالحية، والمماليك المعزية.
رابعاً: انضم إلى جيش مصر الكثير من الجنود الشاميين، فقد انضم إليه معظم جيش الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب، وكذلك جيش حماه وعلى رأسه المنصور أمير حماه.
إذاً: هذا هو الوضع السياسي والعسكري في مصر في أوائل سنة (658) من الهجرة، وفي ذلك الوقت سقطت حلب ودمشق وكل فلسطين حتى غزة في أيدي التتار، وأصبح التتار قريبين جداً من مصر (35) كيلو متر فقط من سيناء.
حالة الشعب المصري عند تولي قطز للحكم --------------------------------
أما حالة الشعب ومعنوياته فقد كان في تلك الآونة يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، والأزمات الاقتصادية عادة ما تؤثر كثيراً على حياة الشعوب، وتجعلهم يفقدون الطموح في أي شيء، ولا يرغبون إلا في الحصول على لقمة العيش، إلا إذا جاء القائد الذي يعظم عندهم الموت في سبيل الله، ويرفع عندهم قيمة الدين، ويهون قيمة الدنيا، ويهون المشاكل المادية والأزمات الاقتصادية، فكل ذلك يضمحل إلى جانب الهدف الأعلى: الجهاد في سبيل الله، وعندها يصبح الموت أمنية،
وقد كان الوضع الذي استلم فيه قطز الحكم وضعاً صعباً للغاية، فالفتن الدائرة على كرسي الحكم منذ عشر سنوات جعلت الحكام لا يلتفتون كثيراً ولا قليلاً إلى شعوبهم، وكان همهم فقط تثبيت دعائم الملك، وأما أحلام الشعوب فقد كانت تأتي في مراتب متأخرة جداً في أولوياتهم، ولذلك فإن الشعب في ذلك الوقت لم يكن بالشعب الأمثل الذي يشتاق إلى مثل ذلك اليوم الذي يقابل فيه التتار، لا يحلم بذلك اليوم الذي ينتصر فيه على هذه القوة العاتية، بل على العكس كان كغيره من شعوب المسلمين، يخاف من التتار، ويصيبه الذعر الشديد والهلع الكبير عند سماع أخبار جيوشهم، وكلما اقترب التتار بصورة أكبر من مصر اضطربت الأفئدة وتتابعت الأنفاس، ولذلك كانت مهمة رفع الهمة والروح المعنوية وتحميس الشعب على المقاومة من أصعب المهام التي واجهت قطز رحمه الله.
وهنا نقطة مهمة، وهي أن الجيش غير المؤيد بشعبه لا يقوى أبداً على الصمود، فلابد من السند الشعبي للقائد والجيش، وإلا فالنصر مستحيل، فليست العملية عملية حرب وقتال في موقعة عابرة، بل إنها عملية يعيشها الشعب بكامله، بكل طوائفه رجالاً ونساء وأطفالاً وشيوخاً، فلا بد أن يكون الشعب بأكمله على استعداد.
لقد حفظ الله عز وجل لشعب مصر في ذلك الوقت قيمتين عظيمتين سهلتا نسبياً من مهمة قطز رحمه الله، وهاتان القيمتان إن وجدتا فالشعب بفضل الله يستطيع أن يقوم من كبوته، ويتحرك من جديد، ويبني أمته، ويقاوم الأعداء مهما كانوا، سواء التتار أو غيرهم، وهاتان القيمتان في منتهى الأهمية، ولو حافظنا عليهما فسيكون عندنا إن شاء الله فرصة كبيرة جداً في بناء الأمة من جديد.
القيمة الأولى: العلم الشرعي والعلماء ================
لقيمة الأولى التي حفظت مصر في ذلك الوقت: قيمة العلوم الشرعية وعلماء الدين، فطيلة أيام الأيوبيين في مصر ومنذ أن رسخ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله المذهب السني في مصر بعد قضائه على الدولة الفاطمية الخبيثة، كانت قيمة العلماء مرتفعة جداً في أعين الناس والحكام على السواء، حتى إنه كما رأينا عندما صعدت شجرة الدر إلى كرسي الحكم قام العلماء بإنكار ذلك، وكتبوا الرسائل المعادية للملكة، وحفزوا الناس على رفض هذا الأمر، ولم تستطع شجرة الدر ولا أحد من أعوانها أن يوقف هذه الحركة الجريئة من العلماء، فلم تقيد حرية عالم أبداً، ولم يغيب في ظلمات السجون، ولم يمنع من إلقاء الدروس والخطب، وأيضاً كان من نتيجة أسلوب الأيوبيين في تربية المماليك على الدين أساساً، ثم على الفروسية والقتال أن احتاج الحكام إلى العلماء باستمرار؛ حيث كانوا يشاركون في تربية الجيش الذي يعتمد عليه الحاكم في حكمه، وقد أثرت هذه التربية أيضاً في المماليك أنفسهم، فأصبحوا يعظمون العلم والعلماء، كما ذكرنا قبل ذلك، وكان إذا قام رجل يقول: قال الله عز وجل أو قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم اجتمع له الناس والحكام على السواء وأنصتوا، وشتان بين شعب ابتعد عن الدين فترة من الفترات، ولكنه مازال يقدر الدين والعلماء، وبين شعب آخر تربى على اعتبار الدين من التقاليد القديمة التي قد تعظم تعظيماً رمزياً، مثل أي أثر تاريخي،
وقد كان من المستحيل على الشعب في مصر أيام الأيوبيين والمماليك أن يهزأ بعالم دين أو بشيخ في مسجد، أو بأي رجل حمل صبغة إسلامية، بل كان من المستحيل على الشعب أن يرفض أي مبدأ إسلامي أو أي قانون شرعي، فقد كان الشعب معظماً تماماً للدين ومحباً للإسلام، ولهذه القيمة العالية للعلم والعلماء في مصر كانت مصر ملاذاً للعلماء الذين لا يجدون في بلادهم فرصة لتعليم الناس،
لهذا فزيادة على علماء مصر وعلماء الأزهر الشريف-والأزهر الشريف في ذلك الوقت كان سنياً تماماً بعد ذهاب الدولة الفاطمية- جاء إلى مصر علماء أفاضل من بلاد إسلامية أخرى، ولا شك أن هؤلاء العلماء أضافوا إضافات جليلة لحركة العلم في مصر، ومن أشهر هؤلاء العلماء الذين جاءوا إلى مصر في ذلك الوقت العز بن عبد السلام رحمه الله، وهو من أعظم علماء المسلمين والملقب بـسلطان العلماء، فهذا العالم الجليل كان يعيش في دمشق، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان يحكم دمشق في تلك الفترة الملك الصالح إسماعيل أخو الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان الملك الصالح إسماعيل على خلاف كبير جداً مع أخيه، وكان على غير شاكلته تماماً، فقد كان موالياً للصليبيين متعاوناً معهم، خائناً لبلاده، وكثيراً ما أنكر على العز بن عبد السلام رحمه الله دعوته إلى الجهاد في سبيل الله، وأنكر عليه دعوته لقتال الصليبيين والتتار، وسجنه أكثر من مرة لما اعترض عليه، ثم نفاه إلى القدس، وفي سلسلة طويلة جداً من الأحداث استقدم الملك الصالح نجم الدين أيوبالعز بن عبد السلام رحمه الله إلى مصر، وعاش فيها من سنة (643هـ) إلى هذه الأحداث، ونحن الآن في سنة (658)،
يعني: أن العز بن عبد السلام رحمه الله قدم إلى مصر قبل هذه الأحداث بخمس عشرة سنة، قضاها في تعليم شعب مصر وتربيته على كل الأمور الفضلى، التي كان يقوم بها رحمه الله في حياته قبل ذلك في دمشق، وكان يمنع منها.
فقيمة العلم والعلماء التي حفظت في مصر كانت هامة جداً لتغيير واقع المسلمين بعد ذلك في مصر، وإن سقطت هذه القيمة فلا أمل في القيادة؛ لأن الذي يحفز الناس دائماً باستمرار على الجهاد في سبيل الله هم العلماء، فإن ضاعت قيمة العلم والعلماء والدين فلا أمل في الأمة في هذا الزمن.
والعز بن عبد السلام رحمه الله له مواقف كثيرة وعظيمة جداً مشهودة في مصر، ومنها قصة بيع أمراء المماليك، والوقت لا يتسع في هذه المحاضرة لهذه التفصيلات، وسنفرد لها حديثاً خاصاً بإذن الله عند الحديث عن مجموعة دولة المماليك.
القيمة الثانية: الجهاد في سبيل الله ================
القيمة الثانية بعد قيمة العلم والعلماء التي كانت محفوظة في مصر: هي قيمة الجهاد في سبيل الله، فالمسلمون في مصر في تلك الآونة كانوا يؤمنون إيماناً عميقاً بحتمية الجهاد في سبيل الله للأمة التي تريد أن تعيش، وما سقطت قيمة الجهاد أبداً حتى في أوقات الضعف، والصراع على السلطة، ولا حتى في أوقات الأزمات الاقتصادية.
وقد كانت الحملات الصليبية المتتالية على مصر والشام سبباً في بقاء هذا الشعور عند المسلمين في مصر، وقد علم المسلمون في مصر أنه من المستحيل أن يكون هناك ما يسمى بالسلام الدائم، وهذا أمر مستحيل؛ لأن من سنن الله عز وجل أن يظل الصراع دائراً إلى يوم القيامة بين أهل الحق وأهل الباطل، وسيظل الحق والباطل موجودين إلى يوم القيامة، ولذلك فلن يقف الصراع أبداً، إلا أن يتحول كل أهل الباطل إلى الحق، أو يتحول كل أهل الحق إلى الباطل، وهذا افتراض مستحيل. وكان المسلمون في مصر في ذلك الوقت يعظمون جداً كلمة الجهاد في سبيل الله، ويربطونها دائماً بالله عز وجل، فمادام هناك جهاد فلا بد أن يكون في سبيل الله، وبسبب أن الجيوش الصليبية كانت دائماً أكثر عدداً من الجيوش المسلمة، كانت الجيوش المسلمة شديدة الارتباط بربها عند المعارك، وشديدة التضرع إليه، وحريصة دائماً على توجيه النية كاملة لله عز وجل، ولذلك ما سقطت أبداً قيمة الجهاد في سبيل الله، وما وجد في ذلك الزمان من يسفه أمر الجهاد، أو يتهم من أراد الجهاد بأنه إرهابي أو متطرف أو أصولي، ولم تكن كلمة الجهاد سبة أبداً، وإنما كانت فضلاً عظيماً وهدفاً سامياً،
وكان هناك أناس يقدرون عليه وأناس لا يقدرون عليه، والذي لا يقدر عليه لم يكن يمكنه أن يلوم على من جاهد في سبيل الله، ولذلك فالجيش المصري كان في ذلك الوقت مستعداً، وحريصاً دائماً على استكمال كل أسباب القوى والإعداد،
ولم يفرغ الجيش أبداً لأعمال مدنية كما كانت تفعل الدول التي لا تجاهد ولا تنوي الجهاد، وإنما كان الجيش متفرغاً تماماً للتدريب العسكري، ولتحديث السلاح، وللتمرين على الخطط المختلفة للحروب، وعلى تخريج القيادات الجديدة الماهرة، وعلى حماية البلاد من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، وكان متدرباً على نجدة المسلمين في البقاع المختلفة، ومستعداً دائماً،
وكان الشعب المصري معظماً لهذه القيمة في ذلك الوقت، وقطز رحمه الله كما رأينا كان واضعاً قضية التتار نصب عينيه من أول يوم حكم فيه البلاد، بل كان واضعاً هذه القضية نصب عينيه في كل حياته، يوم أن كان طفلاً، ويوم أن كان شاباً، ويوم أن كان قائداً للجيش، و يوم أن كان حاكماً لكل للبلاد، ففي كل مراحل حياته كان يضع نصب عينيه الجهاد في سبيل الله.
رسالة هولاكو الى السلطان المظفر قطز
=================
وبينما قطز رحمه الله في إعداده وتجهيزه جاءته أربعة من رسل التتار برسالة عجيبة من هولاكو يعلن فيها الحرب عليه إن فكر في أي مقاومة، وكانت الرسالة تحمل تهديداً ووعيداً وإرهاباً،
(( من ملك الملوك شرقًا وغربًا القان الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء يعلم الملك المظفر قطز، الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمون بأنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك، يعلم الملك المظفر قطز، وسائر أمراء دولته وأهل مملكته، بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، أنا نحن جند الله في أرضه ، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه.
فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن اشتكى، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد ، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب، فأي أرض تأويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ومطركم علينا لايُسمع فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفون عند كلام، وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان،
( فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون) - (سورة الأحقاف آية 20)
(وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)(سورة الشعراء آية 237).
فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم. فإن أنتم لشرطنا وأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذر من أنذر، وقد ثبت عندكم أن نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سلطناا عليكم من له الأمور المقدّرة والأحكام المدبرة، فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، وبغير الأهنة لملوككم عندنا سبيل.
فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزًا، ولا كافيًا ولا حرزًا، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفنا إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم، والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى.
ألا قل لمصر ها هُلاون قد أتى ..بحد سيوف تُنتضى وبواتر
يصير أعز القوم منا أذلة .. ويُلحق أطفالاً لهم بالأكابر
))))
انعقاد المجلس الاستشاري المصري والحلول المطروحة على تهديد هولاكو ====================
عقد قطز رحمه الله مجلساً استشارياً أعلى، جمع فيه كبار القادة والأمراء والوزراء والعلماء، وبدءوا في مناقشة القضية الخطيرة التي طرحت أمامهم، وكانت الخيارات محدودة جداً، إما الحرب بكل تبعاتها، وإما التسليم غير المشروط، وقطز رحمه الله كانت القضية واضحة في ذهنه تمام الوضوح، فهو لم يطرح الخيارين على نفسه للتفكير، خيار السلام أو الاستسلام، فهذا الموقف غير وارد أبداً عنده، فهو يعلم تمام العلم أن الحقوق لا توهب بل تؤخذ، وأن الجيوش المعتدية لا تقنع بالعودة إلى بلادها أبداً، بل ترغم على ذلك.
لكن الأمراء الذين اجتمعوا معه لم يكونوا على نفس الدرجة العالية جداً من الفقه والفهم، صحيح أنهم كانت لديهم حمية دينية عالية جداً، وأنهم يحبون الإسلام حباً جماً، وعلى درجة راقية من الفروسية والمهارة القتالية، ولكن الاختبار صعب جداً.
وقد كانت الفجوة هائلة فعلاً بين إمكانيات التتار كدولة من كوريا شرقاً إلى بولندا غرباً، وبين إمكانيات مصر التي مهما زادت فهي محدودة، وبين أعداد التتار وأسلحتهم، وأعداد المصريين وأسلحتهم، هذا فوق السمعة الرهيبة لجيوش التتار، وفوق الملايين المسلمة التي ذبحت على أيدي التتار، بالإضافة إلى الجيوش الخوارزمية والأرمينية والكرجية والعباسية والأوروبية والشامية التي هزمت هزيمة ساحقة من جيوش التتار قبل ذلك.
وكان قد شاع في هذا الزمن مقولة ذكرناها قبل ذلك قالها العوام وقالها الخواص كذلك، فقد كانوا يقولون: إذا أخبرك أحد أن التتار يهزمون فلا تصدق. كل هذه التراكمات جعلت الأمراء يترددون في قبول ما رآه قطز رحمه الله أمراً واضحاً جداً لا تردد فيه، وظهر على معظم الأمراء الهلع والضعف والتثاقل إلى الأرض.
معالجة قظز لتردد الأمراء عن الجهاد ==================
قد سلك قطز طريقين من أعظم طرق التربية ومن أبلغ وسائل التحميس والتحفيز على عمل قد يستصعبه كثير من الناس لينزع الخوف والرهبة من القلوب، وليقنع قادة جيشه بأمر يعتقدونه مستحيلاً.
1- التربية بالقدوة ---------
الطريق الأول: طريق التريبة بالقدوة، ففعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل، فقال لهم في شجاعة وعزم: أنا ألقى التتار بنفسي، فـقطز رحمه الله الذي يجلس على عرش الدولة العظيمة مصر، والذي لم يستمتع أو يستفد بعد من كرسيه ومنصبه، والذي ما زالت أمامه الحياة طويلة، فهو ما زال شاباً سيخرج بنفسه للقاء التتار وللجهاد وللموت في سبيل الله، ولن يرسل جيشاً لمقابلة التتار، ويبقى هو في قصره الآمن في القاهرة، بل سيتحمل مع شعبه ما يتحمل، وسيعاني مع جيشه ما يعاني.
ولو أنه أرسل جيشاً وبقي هو في القاهرة لما لامه أحد، فهو قائد المسلمين، والآمال معقودة عليه، ولو مات فقد ينفرط عقد الأمة، ولكن قطز لم يجد وسيلة أفضل من هذه الوسيلة؛ لتحميس القلوب الخائفة، ولتثبيت الأفئدة المضطربة، كما أنه كان يشتاق إلى الجهاد وإلى الشهادة والجنة، وهو لن يموت قبل الموعد الذي حدده الله عز وجل له، فلقد فقه عملياً ما أدركه كل المسلمين نظرياً، وهو أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، ولكن مَنْ مِنَ المسلمين يعيش واقع حياته فعلاً بهذا المفهوم الذي عرفه نظرياً؟ فالناس عادة يتصارعون دائماً لأجل زيادة الرزق والعمر، ولكن الذي لا يعرفه كثير من الناس أن الشجاعة لا تقلل أبداً من الأرزاق، ولا تقصر مطلقاً من الأعمار، وأن الجبن لا يكثر من المال المقسوم للإنسان، ولا يخلده أبداً في الحياة.
فقه قطز رحمه الله هذه الحقيقة الرائعة، وفقه كذلك أن الحياة بعزة ولو ساعة خير من البقاء أبد الدهر في ذل وهوان، فلما رأى الأمراء قطز رحمه الله الأمير الممكن الذي يجلس على العرش يقول: أنا ألقى التتار بنفسي، تحركت الحمية في قلوبهم، وتحمسوا حماسة كبيرة جداً، وهذا هو فعل القدوة، فقد تحركت الحمية في قلوب الأمراء، وقاموا جميعاً يوافقون قطز رحمه الله على لقاء التتار.
والقائد مهما قام بجولات بين جنوده وقواده وشعبه يحمسهم ويشجعهم، وهم يعلمون أنه عند الضوائق والشدائد لن يخرج معهم، بل سيتركهم ويؤمن نفسه وأحبابه فقط، فإن هذه الجولات والخطب لا تؤثر شيئاً مطلقاً في الناس.
وقد تحدثنا قبل ذلك عن محمد بن خوارزم وعن ابنه جلال الدين بن خوارزم وغيرهما من الزعامات التافهة، وكيف كانوا يتكلمون ويخطبون ويتحمسون، ثم عند اللقاء هم أول من يفر.
إذاً: هذه كانت أول طريقة استخدمها قطز رحمه الله في تحفيز الناس وتحميسهم على القتال في سبيل الله، وهذه هي التربية بالقدوة.
2- تعظيم غاية الإنسان وهدفه في الحياة =========
الطريق الثاني الذي اتخذه قطز رحمه الله: هو التذكير بعظم الهدف الذي من أجله خلق الإنسان، وبنبل الغاية التي من أجلها يعيش على الأرض، فارتفع بنفوس الناس من مطامعهم المادية البحتة إلى آفاق عالية جداً، وكان يربط كل عمل يعملونه بإرضاء الله عز وجل وبنصرة الدين.
وإذا عظم كل واحد منا أمر الإسلام في قلبه، فإنه سيستصغر أي تضحية في سبيل نصرة هذا الدين، وهذه من أبلغ وسائل التحميس والتحفيز، تعظيم الغاية والهدف إلى أقصى درجة، فيصبح جهادنا واستعدادنا وحركتنا نوعاً من العبادة لله رب العالمين فـقطز لم يحفزهم لاتباع شخص معين، ولم يحفزهم بقومية مصرية أو عربية أو غيرها، ولم يحفزهم حتى بحب البقاء في هذه الحياة، والدفاع عن النفس ضد الموت، بل إنه حفزهم على الموت.
وشتان يا إخواني! بين من يجاهد وهو حريص على أن يموت، ومن يجاهد وهو حريص على ألا يموت.
واسمعوا ما قال قطز للأمراء المسلمين في هذا الاجتماع الخطير، قال لهم في صراحة: (يا أمراء المسلمين! لكم زمان تأكلون من بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، وإن الله مطلع عليه).
أي: أنا لن أحاسبكم أو أراقبكم، إنما الذي سيراقبكم ويحاسبكم هو الله عز وجل.
ثم قال: وخطيئة حريم المسلمين -فهو يحرك في قلوبهم النخوة- في رقاب المتأخرين عن القتال).
وهذا كلام في منتهى الدقة والروعة، فالقضية بوضوح قضية إيمان، وإذا علمت أن الله عز وجل مراقب لك وخالفت، فإن وبال ذلك عليك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكره منافقاً على الخروج معه للقتال أبداً، بل كان يترك الأمر على السعة، فالذي يريد يخرج يخرج، والذي لا يريد أن يخرج لا يخرج، بل في غزوة تبوك ذكر له أن رجلاً تخلف، فقال: (دعوه، فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه). وهكذا فعل قطز رحمه الله، فمن أراد أن يخرج للجهاد في سبيل الله فليفعل، ومن أراد النكوص على عقبيه والركون إلى الدنيا، فليعلم أن الله مطلع عليه، وليعلم أن حرمات المسلمين والمسلمات التي تنتهك في رقبته.
وهنا شيء مهم جداً، ولا يخفى علينا الإشارة المهمة التي ذكرها قطز رحمه الله من أن هؤلاء الأمراء والوزراء قد عاشوا سنوات يأكلون من بيت مال المسلمين، بل ويكثرون من الأكل والجمع، حتى فقدت وظائفهم كل معنى، ولم يبق لها إلا معنى واحد، وهو استغلال المنصب إلى أقصى درجة لزيادة الثروة من الحلال وغير الحلال على السواء، ولم يعد الوزير يعتقد أنه موظف عند الشعب، وليس سيداً عليهم أبداً، وأن له حقوقاً كما أن عليه واجبات، وأنه مسئول ومحاسب من الله عز وجل ومن شعبه على كل خطوة، وعلى كل درهم ودينار. فكانت هذه الكلمات من قطز رحمه الله إلى كل وزير وأمير تهدف إلى أيقاظ الضمير وإحياء الأمانة، وكشفت هذه الكلمات الوزراء أمام أنفسهم.
ثم تحركت المشاعر بصورة أكبر وأكبر في صدر قطز رحمه الله، حتى وقف يخطب في الأمراء وهو يبكي ويقول: يا أمراء المسلمين! من للإسلام إن لم نكن نحن.
وهذه كلمة رائعة هائلة، تصلح أن تكون منهجاً للحياة، إذا قالها كل مسلم فلن تسقط أمة الإسلام أبداً، فأحياناً ينتظر المسلم أن يأتي النصر من مسلمين آخرين، وينتظر أن يتحرك للإسلام فلان أو غيره، وقليلاً ما يفكر هو في التحرك، بل كثيراً ما يقوم بعملية تحليل وتعليق على أفعال وأقوال العاملين للإسلام، وهو لا يتحرك، وينتظر أن يخرج صلاح أو خالد أو قطز أو القعقاع من بيت جاره أو من بلد آخر، ولا يفترض أن يخرجوا من بيته هو شخصياً، فلماذا لا يكون هو صلاح الدين الأيوبي أو يوسف بن تاشفين أو نور الدين محمود الشهيد؟ وهؤلاء لا يزيدون ولا يقلون عن البشر شيئاً، إلا أنهم آمنوا بالله عز وجل، وساروا في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونحن معنا كتاب الله عز وجل ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم، فلماذا ننتظر أن يكون التغيير من غيرنا وليس منا، فمن للإسلام إن لم نكن نحن؟
وقعت هذه الكلمات في قلوب الأمراء فضجوا جميعاً بالبكاء، وخشعت قلوبهم، ومن خشع قلبه فيرجى منه الخير كله، فقام بعض الأمراء وتكلموا بخير، وقام البقية يعلنون موافقتهم على الجهاد، وعلى مواجهة التتار مهما كان الثمن. وهكذا نجح قطز في خطوة هي من أصعب وأعظم خطوات حياته، ومن أصعب القرارات فعلاً، فهو قرار الجهاد، وأعلنت مصر الحرب على التتار، فكان هذا القرار من أخطر القرارات في تاريخ مصر مطلقاً، وهو قرار لا ينفع أن يرجع فيه القائد أو الجيش أو الشعب.
قتل قطز لرسل التتار ===============
كان قطز رحمه الله يعلم أن قلوب الأمراء وافقت تحت تأثير القدوة والتذكير بالله وبالواجب نحو الإسلام، ومن الممكن لهذه القلوب أن تتردد أو تخاف، فأراد رحمه الله أن يفعل أمراً يقطع به خط الرجعة تماماً على الأمراء، ويقطع به الأمل في الاستسلام، ولا يبقي أمامهم غير الخيار العسكري فقط، فقرر بعد أن استشار مجلسه العسكري أن يقتل رسل هولاكو الأربعة الذين جاءوا بالرسالة التهديدية، وأن يعلق رءوسهم على باب زويلة في القاهرة؛ حتى يراها أكبر عدد من المسلمين في مصر، وكان يرمي بذلك إلى طمأنة الشعب بأن قائدهم لا يخاف التتار، ويرفع من معنويات الشعب بذلك، والإعلان للتتار أنهم قادمون على قوم يختلفون كثيراً عن الأقوام الذين قابلوهم من قبل، ولا شك أن هذا سيؤثر سلباً على التتار، ويلقي في قلوبهم ولو شيئاً من الرعب أو التردد، وكان الهدف الأكبر من قتل هؤلاء الرسل الأربعة هو قطع التفكير في أي حل سلمي للقضية، والاستعداد الكامل والجاد للجهاد بعد قتل الرسل الأربعة، فلن يقبل التتار استسلام مصر حتى لو قبل بذلك المسلمون، فقد انتهت القضية، وأصبحت الحرب معلنة تماماً، كان هذا هو اجتهاد قطز رحمه الله والأمراء.
بعد هذا الاجتماع الخطير والقرار الصعب وقتل الرسل بدأ قطز رحمه الله في التجهيز السريع للجيش، فقد اقتربت جداً لحظة المواجهة، ووصلت الرسالة إلى التتار بأن المسلمين في مصر سيقاتلونهم حتماً، ولا مهرب من القتال.
إن قطز تولى الحكم في (24) من ذي القعدة سنة (657) من الهجرة، ورسالة هولاكو جاءته قبل أن يغادر هولاكو أرض الشام عائداً إلى منغوليا، بعد وفاة زعيم التتار منكو خان وبعد سقوط حلب بقليل وقبل سقوط دمشق، ثم احتل دمشق كتبغانوين ، وحلب سقطت في صفر سنة ( 658 هـ )، ودمشق سقطت في ربيع أول ( 658 هـ)، يعني: أن الرسالة وصلت لـقطز رحمه الله إما في آخر صفر أو في أول ربيع الأول، يعني: بعد ثلاثة أشهر فقط من توليه الحكم رحمه الله.
فكل هذه الترتيبات والخطوات التي عملها قطز رحمه الله لم تستغرق إلا ثلاثة أشهر فقط، فكل المشاكل التي قابلها وحلها أخذت منه ثلاثة أشهر فقط، وهذه المشاكل تحتاج إلى سنوات، بل إلى عقود كاملة حتى يتم حلها على الوجه الأمثل، ولكنه استعان بالله عز وجل، وبدأ يتعامل بحمية ونشاط مع المشكلة تلو الأخرى، وكان الهدف في ذهنه واضحاً جداً، فلا بد من القضاء على هذه القوة الهمجية -قوة التتار-، وتحرير كل بلاد المسلمين.
إذاً: فكل ما قلناه في الدرس الماضي: من استقرار الوضع الداخلي، وتوحيد الصف، وعفوه عن المماليك البحرية، واستقدامه لهم من بلاد الشام وتركيا.. وغيرها، ومراسلة أمراء الأيوبيين، وتجميع الجيش، وتجهيز الشعب لقضية الجهاد في سبيل الله، وتحميس الأمراء كل هذا المجهود كان في ثلاثة أشهر فقط.
المشكلة المالية في تجهيز الجيش وحلها
==================
ظهرت لـقطز مشكلة جديدة ضخمة فوق كل المشاكل التي فاتت، وهي المشكلة الاقتصادية، فلا بد من تجهيز الجيش المسلم وإعداد التموين، وإصلاح الجسور والقلاع والحصون، وإعداد العدة اللازمة للحرب، وتخزين ما يكفي للشعب في حال الحصار، وهذه أمور ضخمة جداً، وكانت تمر بالبلاد أزمة اقتصادية طاحنة، وليس هناك وقت لخطة خمسية أو عشرية، فالتتار على الأبواب في غزة، على بعد (35) كيلو متر فقط من سيناء.
وأما كيف عالج قطز المشكلة الاقتصادية الكبيرة، ووفر المال لتجهيز الجيش الكبير وبناء الحصون والقلاع والسلاح، وتوفير المؤن والذخيرة للشعب الذي قد يحاصر من التتار حصاراً طويلاً، فقد عقد رحمه الله مجلساً استشارياً، وكان كل شيء بشورى في حياته رحمه الله، ودعا إلى هذا المجلس كبار القادة والأمراء والعلماء والفقهاء،
وكان على رأس العلماء الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله، وبدءوا جميعاً يفكرون في حل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بالبلاد، وكيفية توفير الدعم لهذا الجيش الكبير الخارج لملاقاة التتار، ففتح قطز رحمه الله الكلام، واقترح فرض ضرائب على الشعب للإنفاق على الجيش الذي سيخرج للجهاد في سبيل الله، ولكن هذا القرار كان يحتاج إلى فتوى شرعية؛ لأن المسلمين في دولة الإسلام لا يدفعون إلا الزكاة، ولا تدفع إلا بشروط خاصة معروفة، وأما فرض الضرائب فوق الزكاة فهذا لا يكون إلا في ظروف خاصة ومؤقتة جداً، ولا بد من وجود سند شرعي يبيح ذلك، وإلا صارت هذه الضرائب مكوساً، وفارضها بغير حق عقابه عند الله عز وجل أليم جداً، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود رحمهما الله عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة صاحب مكس)، أي: فارض الضرائب.
وهذا فيه تقبيح شديد جداً لعملية فرض الضرائب، إن فرضت بغير حق وصرفت في غير حق.
يقول الإمام النووي رحمه الله تعليقاً على هذا الحديث: إن المكس -الضرائب- من أقبح المعاصي، ومن الذنوب الموبقات؛ وذلك لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده، وأخذ أموالهم بغير حقها، وصرفها في غير وجهها.
فـقطز رحمه الله اقترح فرض الضرائب للقضية الكبيرة جداً، قضية الجهاد في سبيل الله، ومع أن الغاية نبيلة والمال مطلوب لتجهيز الجيش للقتال في سبيل الله، ومقاتلة التتار أعتى قوة في الأرض في ذلك الزمن، إلا أنه ينتظر رأي العلماء في هذه القضية.
فتوى الشيخ العز بن عبد السلام حول اقتراح قطز بفرض الضرائب على الشعب
=========================
كان للشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله تحفظ خطير على قرار فرض ضرائب على الشعب لتجهيز الجيش، ولم يوافق عليه إلا بشرطين عسيرين جداً، فقال رحمه الله: إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم يعني: كل العالم الإسلامي وجب عليه أن يقاتل العدو؛ لأنه احتل بلداً من بلاد المسلمين، فتعين الجهاد عند ذلك، ولم يصبح فرض كفاية، ولكن أصبح فرض عين. ثم يقول: وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم -يعني: فوق الزكاة- بشرطين:
الشرط الأول: ألا يبقى في بيت المال شيء، فإذا استنفذت أموال الدولة وفنيت في تجهيز الجيش جاز فرض الضرائب بالقدر الذي يسمح فقط بتجهيز الجيش لا أكثر من ذلك.
الشرط الثاني: أن تبيعوا ما لكم من الممتلكات والآلات، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه وتتساووا في ذلك أنتم والعامة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا.
وهذه فتوى في منتهى الجرأة، يقولها أمام سلطان مصر وأمرائها ووزرائها. وهذه الفتوى وإن كانت عجيبة في جرأتها فاستجابة قطز رحمه الله كانت أعجب من الفتوى، فقد قبل رحمه الله كلام الشيخ العز بن عبد السلام ببساطة، فبدأ بنفسه فباع كل ما يملك، وأمر الوزراء والأمراء أن يفعلوا ذلك فانصاع الجميع، وتم تجهيز الجيش المسلم بالطريقة الشرعية من أموال الوزراء والأمراء، وما احتاجوا أن يفرضوا ضرائب على الشعب.
واكتشف المسلمون في مصر اكتشافاً عجيباً، اكتشفوا أن مصر غنية جداً، وأن البلد ليس فقيراً، بل فيه أموال هائلة برغم الأزمة الاقتصادية الطاحنة، فقد امتلأت جيوب كثير من الوزراء والأمراء بأموال البلد الهائلة، وأصبحت ثروات بعضهم تساوي ميزانيات بعض الدول، وتكفي لسداد الديون المتراكمة على البلد، وسد حاجة الفقراء والمساكين، وإصلاح الوضع الاقتصادي، ومع ذلك كانوا يحتفظون بهذه الأموال، فأصبحت البلاد ضعيفة وفقيرة مع غناها وعظم مصادرها.
وللأسف الشديد فإن كثيراً من هذه الأموال الطائلة دخلت جيوب الأمراء والوزراء بطرق غير مشروعة، وبغير وجه حق، فهذا يختلس، وهذا يرتشي، وهذا يظلم، وهذا يأخذ نسبة، وهذا ينفق في سفه، وهذا يعطي من لا يستحق، وهكذا بُددت أموال الدولة العظيمة مصر وأصبحت دولة فقيرة نامية، بينما إمكانياتها تسمح لها بأن تكون من دول الصدارة.
فجاء قطز رحمه الله فغير كل هذه الأوضاع، وبدأ رحمه الله في عملية تنظيف منظمة للبلد، تنظيف الأيدي والقلوب.
فاصطلح القائد مع شعبه أخيراً بعد سنوات من القطيعة بين الحكام والشعوب، فكانت النتيجة تجهيز جيش عظيم مهيب، غايته نبيلة، وأمواله حلال، ودعاء الناس له مستفيض، وإعداده جيد، وكيف لا يُنصر جيش مثل هذا؟! فمعادلة النصر في الإسلام ليست صعبة، بل تقول:
[محمد:7]. ونصر الله عز وجل لا يكون إلا بتطبيق شرعه.
فالجيش المسلم الذي يخالف قاعدة شرعية لا يمكن أن ينصره الله عز وجل، فالأمر واضح جداً، والبداية بيد المسلمين، انصروا الله عز وجل ينصركم الله عز وجل، وهكذا جُهّز الجيش المصري المسلم، وأعد إعداداً عظيماً وبأموال حلال.
وجهات نظر قطز والأمراء حول الخروج لحرب التتار في فلسطين
============================
نظرة قطز رحمه الله في مواجهة التتار خارج مصر
توعية الشعب المصري بالجهاد في سبيل الله
مشكلة وجود الإمارات الصليبية في طريق الحرب مع التتار وحلها
هروب المتخاذلين من الجيش المصري
تجمع الجيش المصري واستعداده للخروج لجهاد التتار
جاء وقت إعداد الخطة، ووضع تحركات الجيش المسلم، فاجتمع قطز كالمعتاد مع مجلسه العسكري لبحث أفضل طريقة لحرب التتار، وأفضل الظروف التي تحقق الانتصار عليهم، وقام قطز رحمه الله بإلقاء البيان الذي يوضح فيه الخطة العسكرية التي يراها، وبمجرد أن ألقى برأيه قام المجلس ولم يقعد، وأحدث رأيه دوياً هائلاً في المجلس العسكري، فقد أراد قطز رحمه الله أن يخرج بجيشه لمقابلة جيش التتار في فلسطين، وألا ينتظر في مصر حتى يأتي التتار، واعترض أغلب الأمراء على ذلك، وأرادوا بقاء قطز في مصر ليدافع عنها، فمصر في رأي الأمراء هي مملكته، أما فلسطين فهي مملكة أخرى. فنظر الأمراء إلى القضية نظرة قومية بحتة، بمعنى أنه لو لم يدخل التتار مصر فإننا نكون قد تجنبنا لقاءً دموياً هائلاً، أما إذا ذهبنا نحن إليهم فلا خيار حينئذ في المعركة، بل لا بد أن نقاتل، فقد ذهبنا إليهم بأرجلنا.
نظرة قطز رحمه الله في مواجهة التتار خارج مصر
----------------------------
كانت نظرة قطز رحمه الله أوسع من نظرة الأمراء، وبدأ رحمه الله يناقش الأمراء، ويشرح لهم مزايا خطته، وأبعاد نظرته، وأهداف الحرب في رأيه، ومهمة الجيش في اعتقاده، وأفهمهم رحمه الله حقائق غابت ولمدة سنوات طويلة جداً عن أذهان الكثيرين منهم، ومن هذه الحقائق مثلاً:
أولاً: أمن مصر القومي يبدأ من حدودها الشرقية وليس من داخل البلد نفسه، وإلا فكيف يأمن المصريون على أنفسهم وإلى جوارهم في فلسطين دولة قوية معادية: التتار أو غيرهم؟! فالعقل يؤكد أنه من المتوقع جداً أن تنتهز هذه الدولة المعادية أي فرصة ضعف، وتجتاح مصر من شرقها، وستأخذ سيناء في أيام معدودات، ثم تهدد مصر في عمقها، فلا بد إذن من إضعاف الجيش المعادي الرابض في فلسطين، إما بقتاله هناك، أو على الأقل بمساعدة من يقاتلونه هناك. هذا هو التفكير العقلي والمنطقي حتى دون الدخول في حديث الشرع والدين الآن.
ثانياً: من الأفضل عسكرياً أن ينقل قطز المعركة إلى ميدان خصمه؛ لأن ذلك سوف يؤثر سلباً على نفوس أعدائه، كما أنه سيجعل له خط رجعة إذا حدثت هزيمة للجيش المسلم، فلو غلب في فلسطين فعنده فرصة للرجوع إلى مصر، ولو غلب في مصر فسيفتح الطريق إلى القاهرة لا محالة، وستسقط البلاد بكاملها.
ثالثاً: من الأفضل عسكرياً كذلك أن يمتلك المسلمون عنصر المفاجأة، ويختارون هم ميعاد ومكان المعركة بدلاً من أن يختار العدو ذلك، وعنصر المفاجأة هذا ليس للقيمة العسكرية فقط، بل له قيمة معنوية عالية جداً، فالهزيمة النفسية ستكون كبيرة جداً في صف الفريق الذي يفاجأ بالقتال، ولم يعد له العدة الكافية.
رابعاً: أن على المسلمين في مصر دوراً هاماً جداً ناحية إخوانهم المسلمين في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق وأفغانستان وأذربيجان والشيشان، وفي كل المناطق التي ابتليت بالتتار، فلا يستقيم أبداً أن تُقام المذابح للمسلمين في هذه البلاد وتُنتهك الحرمات وتُهدم الديار ولا يتحرك المسلمون في مصر، فحركة المسلمين في مصر لنجدة إخوانهم في فلسطين وغيرها ليست فضلاً أو نافلة أبداً، وإنما هي فرض عليهم، وليست فرض كفاية إنما فرض عين؛ لأن العدو قد دهم فعلاً أرض فلسطين فتعيّن القتال على أهلها لدفعه، فإن لم يكفِ أهلها للقتال تعيّن القتال على من جاورهم من الأقطار الإسلامية، يعني: مصر والأقطار الأخرى لها، سوريا والأردن ولبنان.. وغيره، فإن لم يكفِ أهل مصر والأقطار الأخرى تعيّن على الأقطار الأبعد، وهكذا وهكذا حتى لو احتاج القتال لكل مسلم على وجه الأرض.
فالقضية في منتهى الخطورة، فانتهاك حرمات المسلمين في بلد ما، وسكوت المسلمين في البلاد الأخرى عن هذا الانتهاك جريمة كبرى، ومخالفة شرعية هائلة، ولذلك قرر قطز رحمه الله الخروج لنجدة أهل فلسطين وسوريا وغيرها حتى لو لم يفكر التتار أصلاً في غزو مصر، وهذا هو التفكير الشرعي السليم الذي كان عند قطز رحمه الله، والذي أيده بعد ذلك علماء مصر عندما قال هذا الرأي.
خامساً: أن على المسلمين دوراً ناحية التتار أنفسهم، فهم إن رفضوا الإسلام أو الجزية وجب على المسلمين قتالهم، ثم إن التتار ليسوا في بلادهم، وإنما هم الآن في بلاد المسلمين، فوجود التتار بهذه المعتقدات الفاسدة والحروب الهمجية يمثل فتنة كبيرة جداً في الأرض، ولا بد للمسلمين أن يقمعوا هذه الفتنة، ودور المسلمين في الأرض أكبر بكثير جداً من مجرد تأمين حدود القطر الذي يعيشون فيه، فإن عليهم نشر هذا الدين في ربوع الدنيا كلها، وعليهم أن يعلموا الناس الإسلام، ويأخذوا بأيديهم في كل بقعة من بقاع الأرض إلى الله عز وجل.
وهكذا اقتنع الحضور في هذا المجلس العسكري الكبير بحجة قطز رحمه الله، وبأهمية القتال في أرض فلسطين وليس في أرض مصر، وبدءوا بالفعل في تجهيز الجيش وإعداده لعبور سيناء ولقاء التتار في فلسطين.
توعية الشعب المصري بالجهاد في سبيل الله
-------------------------
بدأت حملة إعلامية تربوية في غاية الأهمية، حملة ليست للقادة والجيش فقط بل للشعب بكامله، فلا بد أن يجهز الشعب لهذا اللقاء الهام، ولا بد أن يعيش الشعب حياة الجد والكفاح ويترك حياة اللهو واللعب، ولا بد أن يحب الشعب الجهاد وتتضح في عينه الأهداف، ولا بد أن يقوم بالحملة الإعلامية رجال مخلصون، وليس بعض المنافقين الذين يتحدثون عن الجهاد، ويشرحون مآسي المسلمين في قطر ما لمصلحة سياسية مؤقتة، فإذا انقضت هذه المصلحة انقطع الوازع وانقطع معه الكلام عن الجهاد والحرب، فهؤلاء الخطباء المنافقون وهذه الأقلام المأجورة لا تصلح لهذه المهمات النبيلة، لذلك كان لا بد أن يحمل مسئولية الدعاية الإعلامية لحرب التتار علماء الأمة وفقهاؤها.
فانطلق الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله ومن معه من علماء الأمة يصعدون منابر المساجد، ويلهبون مشاعر الناس بحديث الجهاد -وما أجمل حديث الجهاد!-، ورغّبوا الناس في الجنة، وزهّدوهم في الدنيا، وعظّموا لهم أجر الشهداء، وحدثوهم عن عظماء المسلمين المجاهدين كـخالد والقعقاع والزبير والنعمان وطارق بن زياد وموسى بن نصير ويوسف بن تاشفين وعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي ، وذكّروهم بأيام الله، كيوم بدر والأحزاب وفتح مكة، واليرموك والقادسية ونهاوند، وذكّروهم بموقعة حطين الخالدة التي لم يمضِ عليها إلا (75) عاماً، وبموقعتي المنصورة وفارسكور اللتين لم يمض عليهما سوى عشر سنين.
فاشتعل الحماس في قلوب الشعب، فلا بد من تأهيل الشعب لهذا اليوم، وأن يُربى الأطفال والشباب على حب الموت في سبيل الله، وعلى تعظيم أمر الجهاد، وعلى حب الجنة، ولا بد أن يُربى الآباء والأمهات على أن يشجعوا أبناءهم على الجهاد، لا على أن يبعدوا أبناءهم عن كل ما يسبب المشاكل كما يقول الناس، ولا على أن يبعدوهم عما يهدد الروح ولو كان الدين.
ولابد أن تُربى الزوجات على حياة الجهاد، فتحفز الزوجة زوجها على الخروج للجهاد في سبيل الله، وترعى أولادها حق الرعاية في غياب زوجها، وتُربى على استقبال خبر الشهادة بصبر واحتساب، بل وبفرح، فلقد صعد الشهيد من أرض الموقعة إلى الجنة مباشرة، وهذا يدعو للفرح.
وإعداد الشعب ليوم الجهاد مهمة عظيمة، وليست سهلة أو بسيطة أبداً، بل هي صعبة جداً، وتحتاج إلى مجهود كبير وإلى مناهج مكثفة وإخلاص عميق ووقت طويل، وبدون هذا التأهيل لن يصبر الشعب على حياة الجهاد، والحروب والحصار.
والأمر في غاية الجدّية، فليس هناك وقت للترفيه ولا للّعب ولا للمزاح، وليس معنى هذا أن الترفيه واللعب والمزاح بالضوابط الشرعية حرام، لا، ولكن حياة الأمة المجاهدة تختلف عن حياة غيرها من الأمم، فهي أمة جادة فيها شيء من الترفيه، ولسنا أمة لاهية فيها شيء من الجد.
وهذه التربية المركزة جداً تحتاج إلى تغيير جذري في كيان الشعب وفي طريقة تفكيره، وهذا يحتاج إلى مربين من نوع خاص، ولابد من تفعيل دور العلماء للقيام بهذا الواجب العظيم.
وانطلق علماء الأزهر ليقوموا بمهمتهم النبيلة جداً، فقد فقه علماء الأزهر أن عملهم بالأزهر ليس مجرد وظيفة تدر دخلاً لمجابهة متطلبات الحياة، ولا لمجرد الظهور في المحافل المختلفة، ولا لإرضاء حاكم أو أمير، وإنما هي لتعبيد الناس لرب العالمين، وبالطريقة التي أرادها رب العالمين. فانطلقوا يقومون بالدور الذي طالما قاموا به منذ أن أقر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله المذهب السني في مصر، وهو الدور الذي قاموا به أيام الحملات الصليبية والتتار، والذي قاموا به بعد ذلك في معارك المسلمين اللاحقة مع الصليبيين، ومع الحملة الفرنسية على مصر، ومع الاحتلال الإنجليزي لمصر، ومع الاحتلال اليهودي لها. ونسأل الله عز وجل أن يضع أقدام علماء الأزهر على الطريق الصحيح لقيادة الأمة في قضاياها الحرجة، وفي مواقفها الخطيرة.
وأصبح شعب مصر مؤهلاً تماماً ليوم اللقاء، واستمر إعداد الجيش وتجهيزه وجمع المتطوعين وتدريب المجاهدين مدة خمسة أشهر، من شهر ربيع الأول سنة (658) هجرية عندما جاءت الرسالة من هولاكو إلى نهاية شهر رجب من نفس السنة.
مشكلة وجود الإمارات الصليبية في طريق الحرب مع التتار وحلها
===================
في أثناء إعداد هذا الجيش وفي هذه الشهور الخمسة ظهرت أيضاً مشكلة جديدة أمام قطز رحمه الله، فقد كانت المشاكل كثيرة جداً، فالجهاد صعب.
وهذه المشكلة لم تكن جديدة، وإنما هي قديمة جداً، ولكن لا بد أن تحل في هذا الوقت، وهذه المشكلة هي أن هناك أجزاء ليست بالقليلة من فلسطين ولبنان وسوريا، وبالذات على ساحل البحر الأبيض المتوسط محتلة من قبل الصليبيين، فقد كان هناك إمارات صليبية في عكا وحيفا وصيدا وصور وبيروت واللاذقية وأنطاكية.. وغيرها وغيرها، وكانت أقوى هذه الإمارات مطلقاً هي إمارة عكا في فلسطين، وهي تقع في طريق قطز رحمه الله إذا أراد أن يحارب التتار في فلسطين، ففكر قطز رحمه الله بالآتي:
أولا: الصليبيون أعداء الأمة كما أن التتار أعداؤها، بل إن الصليبيين أشد خطراً على الإسلام من التتار، لأن حروب التتار حروباً همجية، ليست لها جذور ولا أهداف ولا قواعد، بل لمجرد التدمير، لا لشيء غيره، وأما المشروع الصليبي في أرض الإسلام فهو مشروع مختلف، فالصليبيون يحاربون المسلمين حرباً عقائدية، والكراهية شديدة في قلوبهم للمسلمين، وتخطيطهم هو لحرب الإسلام نفسه، فهم يحاربون الإسلام لذات الإسلام، وأما التتار فهم يحاربون أي بشر وأي حضارة.
والمشروع الصليبي مع أنه يحارب الإسلام لذاته، فهو يهدف إلى الاستيطان في بلاد المسلمين، وإحلال النصارى مكان سكان البلد المسلمين الأصليين، سواء في فلسطين أو في سوريا أو في لبنان.. أو في غيرها، وشتان بين احتلال الشعوب واحتلال الجيوش، فالجيوش التترية ستغادر البلاد في المستقبل لا محالة.
وأما الشعوب الصليبية المستوطنة فقد جاءت لتعيش في هذا المكان، فكون الصليبيين يحاربون من منطلق عقائدي، ويحاربون ليستوطنوا البلاد ويعيشون فيها يجعل خطورتهم أكبر من خطورة التتار، مع أن الحروب التترية في ظاهر الأمر أشد فتكاً وأكثر تدميراً من حروب الصليبيين، فكلاهما مر، فـقطز رحمه الله يعلم أن الصليبيين أعداؤه كما أن التتار أعداؤه، ولا بد أن يوضع هذا في الحسبان.
ثانياً: تاريخ التعاون الصليبي مع التتري قديم، فالتتار رغبوا في بلاد المسلمين عن طريق الصليبيين من أيام جنكيزخان ، والنصارى الصليبيون هم الذين ساعدوا هولاكو في إسقاط بغداد ومدن الشام، وما تحالف التتار مع الأرمن والكرج وأنطاكية ببعيد، وقد رأينا كل ذلك، ومن المحتمل جداً أن يصل التتار إلى تحالف إستراتيجي خطير مع الصليبيين في الإمارات الصليبية في فلسطين والشام. وهذه نقطة ثانية مهمة جداً.
ثالثاً: مع كون هذا التحالف الصليبي التتري أمر وارد، إلا أن قطز رحمه الله كان يعلم أن الصليبيين في عكا يكرهون التتار أيضا كما يكرهون المسلمين، وهم لا يكرهونهم فقط، بل يخافون منهم كذلك؛ لأنهم لا عهد لهم، وممكن أن يتفقوا اليوم على شيء وغداً يخالفونه، ومذابح التتار الجماعية مشهورة، وفظائعهم في شرق أوروبا وفي روسيا النصرانية كثيرة جداً ولا تنسى، وأعداد النصارى الذين قتلوا على أيدي التتار لا تحصى.
هذا كله بالإضافة إلى الحقد الصليبي الرهيب على هولاكو ؛ لأنه فرض بطريركاً أرثوذكسياً يونانياً على كنائس أنطاكية الكاثوليكية الإيطالية في سابقة لم تحدث قبل ذلك أبداً، وكل الناس يعرفون العداء المستحكم بين الأرثوذوكس والكاثوليك، ونصارى عكا كانوا من الكاثوليك المتعصبين جداً، ولا يتصورون أن يحدث ذلك في أنطاكية فضلاً عن أن يحدث في عكا نفسها.
كل هذه الخلفيات كانت تجعل الصليبيين في عكا يتوجسون خيفة من التتار، ويعاملونهم في حذر شديد، ففكر قطز بأن التتار قد يتحالفون مع الصليبيين، ولكن الصليبيون في عكا لن يرغبوا في التحالف مع التتار إلا إذا أرغموا على ذلك، فلو أراد أن يعاهدهم فمن الممكن أن يسبق التتار.
رابعاً: أن الصليبيين في ذلك الوقت في سنة (658) هجرية يعانون من ضعف شديد. فعكا وإن كانت هي أقوى الإمارات الصليبية في ذلك الوقت، إلا أنها كانت تعاني من ضعف شديد منذ هزيمة المنصورة سنة (648) هجرية، ومنذ رحيل لويس التاسع ملك فرنسا إلى بلده، وقتل عدد كبير جداً من الجنود الصليبيين في هذه المعركة، وأسر كل الجيش الباقي، فمنذ كل هذه الأحداث والصليبيون في تدهور مستمر، وهناك هبوط كبير جداً في إمكانيات وقدرات ومعنويات الجيش الصليبي في عكا، وكان قطز يعلم أنه وإن كان يتعامل مع عدو شديد الكراهية، لكنه عدو ليس شديد القوة بل ضعيف.
خامساً: إن إمارة عكا إمارة حصينة جداً، وهي أحصن مدينة على الإطلاق في الشام وفلسطين، وقد استولى عليها النصارى سنة (492) هجرية، يعني: قبل (166) سنة، ومنذ ذلك التاريخ والقواد المسلمون بما فيهم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله يفشلون دائماً في فتحها، فكان قطز يعلم أن فتح المدينة صعب جداً، حتى وإن كانت الإمارة في أشد حالات ضعفها، ولو حاصر المدينة فسيأخذ وقتاً طويلاً جداً حتى يفتحها.
وخلاصة هذه الأمور أن الصليبيين أعداء المسلمين كما أن التتار أعداؤهم، وتحالف الصليبيين في عكا مع التتار أمر وارد، وإن كان الصليبيون في عكا يكرهون التتار ويخافون منهم، والصليبيون في أشد حالات ضعفهم المادي والمعنوي، وإن كانت مدينتهم عكا ما زالت أحصن مدن الشام وفلسطين.
في ضوء هذه المعطيات وجد قطز رحمه الله أن قتال الصليبيين في عكا سيؤثر سلباً على جيشه، صحيح أن الهدف العام والنهائي لـقطز هو تحرير كل البلاد الإسلامية من أي احتلال، سواء كان هذا الاحتلال تترياً أو صليبياً أو غيره، ولكن الهدف المرحلي هذا الوقت هو قتال التتار، وحصار عكا وقتال حاميتها سيضعف جيش المسلمين، ويضيع عليهم وقتاً، ويبدد طاقاتهم، ويرهق جيشهم قبل الموقعة الكبيرة مع التتار، وفي نفس الوقت فـقطز لا يستطيع أن يحارب التتار في فلسطين دون الانتهاء من مشكلة الصليبيين في عكا، فلو حدث تعاون صليبي تتري، فإن هذا سيضع الجيش المسلم بين فكي كماشة، بين التتار من جهة، وبين الصليبيين من جهة أخرى.
ومن ثم وجد قطز رحمه الله أن أفضل الحلول هو الإسراع بعقد معاهدة مع الصليبيين في عكا، قبل أن يتحالفوا مع التتار، فأرسل رحمه الله سفارة سريعة جداً إلى عكا للتباحث في إمكانية إقامة هدنة سلام مؤقتة بين المسلمين والصليبيين، وجلس الوفد المسلم مع أمراء الصليبيين يتباحثون في أمر هذه الهدنة، ومثلما اعتقد قطز رحمه الله فقد كان الصليبيون من الضعف بحيث إنهم خافوا إذا لم يظفروا من المسلمين بعهد فينقلب عليهم المسلمون بعد ذلك، ولذلك قبلوا جداً فكرة الهدنة، بل إن بعضهم عرض فكرة التحالف العسكري لقتال التتار، ولكن هذه الفكرة لم تجد موافقة عند قطز رحمه الله، فقد خاف من خيانة الصليبيين أثناء القتال، وبالذات أن جيش التتار متعاون مع بعض ملوك النصارى، مثل: ملك أرمينيا، وملك الكرج، وأمير أنطاكية، وقائد التتار كتبغا نفسه نصراني.
ولذلك لم يعقد قطز رحمه الله تحالفاً عسكرياً مع الصليبيين، وإنما عقد هدنة مؤقتة فقط، تنتهي بانتهاء حرب التتار؛ لأنه ليس من المقبول شرعاً أن يقر المسلمون بسلام دائم مع مغتصب الأرض الإسلامية، وليس من الشرع أن يعترف المسلمون بدولة صليبية أو غيرها فوق الأرض الإسلامية مهما تقادم الزمان عليها في احتلال الأرض أو استيطانها.
وقد كان الصليبيون يعيشون في عكا منذ ( 166)، أي: أن هناك أجيالاً كاملة ولدت وعاشت وماتت في عكا، ومع ذلك لم يعترف قطز أبداً بأحقية هؤلاء المغتصبين في الأرض الفلسطينية المسلمة.
فعاهد قطز رحمه الله الصليبيين على عدم القتال، وعلى الهدنة المؤقتة لمدة معلومة، وعلى أن يمدوا الجيش المسلم بالمؤن والطعام أثناء تواجد الجيش المسلم في أرض فلسطين، ووافق الصليبيون على ذلك، وأصبح بذلك الطريق إلى لقاء التتار آمناً، وبدأ قطز رحمه الله يضع اللمسات الأخيرة في جيشه استعداداً للإنطلاق.
برغم كل هذا الإعداد المادي والدبلوماسي والمعنوي والاقتصادي لهذا الجيش، وبرغم التحفيز العظيم الذي قام به العلماء لحث الناس على الجهاد، إلا أنه كان هناك بعض المسلمين الضعفاء، لم يصدقوا أن القتال أصبح أمراً واقعاً، وهؤلاء هم ضعفاء القلب لا ضعفاء البدن، فطوال هذه الفترة السابقة كان هؤلاء الضعفاء يعتقدون أن هذه مجرد نفرة حماسية، وسوف تهدأ الأمور بعدها، ولم يصدقوا أنه سيكون هناك قتال مع التتار، وكانوا يعتقدون أن هذه مجرد كلمات تقال من قطز كعادة الزعماء في الضحك على شعوبهم؛ لمجرد التنفيس عن الضغوط؛ لكي لا يحدث انفجار، ولم يعتقدوا أبداً أن قطز رحمه الله يعد العدة الحقيقية للقتال، فلما اقتربت ساعة الصفر وعلموا أن القتال حقيقياً وقريباً تزعزعت قلوبهم، وبدءا يفكرون في الهرب من الجيش، وهرب بعضهم فعلاً، واختبأ عن أعين المراقبين, بل إن منهم من خرج بالكلية من مصر ليهرب إلى قطر آخر، فمنهم من هرب إلى الحجاز، ومنهم من هرب إلى اليمن, بل إن منهم من وصل في هروبه إلى بلاد المغرب.
وبعض المحللين يعتقد أن ذلك خسارة، وأن الجيش فقد بعضاً من عناصره الهامة، أو أنه على الأقل سيصبح قليلاً في أعين الأعداء، لكن كان الخير كل الخير في هروب هؤلاء في هذه اللحظات الحقيقية في القتال، والله عز وجل يصعب أحياناً جداً من أمر اللقاء قبل أن يحدث؛ حتى ينقي الصف المسلم، فلا يخرج إلى القتال إلا من ينوي أن يثبت في أرض القتال.
وأما ماذا كان سيحدث لو خرج هؤلاء المتذبذبون في جيش المسلمين؟ فقد وضح الله عز وجل ذلك في سورة التوبة،
فهؤلاء المذبذبون لو خرجوا في الجيش المسلم لأضعفوا قوته، ولبثوا فيه الاضطراب والقلق، وتارة يفعلون ذلك عن غير عمد بخوفهم وجبنهم، وتارة عن عمد بغية إثارة الفتنة، والمشكلة الكبرى كما قال ربنا في كتابه:
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ
[التوبة:47]. أي: أن بعض المسلمين الصادقين سيستمعون لهم، وسيتشككون، وسيقتنعون بكلامهم، وهذه مصيبة كبيرة جداً.
ولذلك كان خروج هؤلاء من الصف في هذا الوقت المبكر مصلحة عظيمة جداً للجيش المسلم، وبذلك طهر الجيش المسلم وأصبح نقياً خالصاً، فكل من خرج إلى عين جالوت كان يعلم أنه سيلقى التتار، ويتمنى أن يموت شهيداً في سبيل الله.
تجمع الجيش المصري واستعداده للخروج لجهاد التتار
=====================
بدأ تجمع الجيش المسلم في معسكر الانطلاق في منطقة الصالحية في المحافظة الشرقية الآن، وهي منطقة صحراوية واسعة، تستوعب الفرق العسكرية الضخمة التي تأتي من كل مكان، وكانت نقطة انطلاق للجيوش المصرية المتجهة إلى الشرق.
وتجمعت الفرق العسكرية من معسكرات التدريب المنتشرة في القاهرة والمدن الكبرى، ثم أعطى قطز رحمه الله إشارة البدء والتحرك في اتجاه فلسطين.
هذا التحرك كان في أوائل شهر شعبان سنة (658هـ) الموافق شهر يوليو /تموز سنة (1260م). أي: أن هذا التحرك كان في أشد شهور السنة حراً، فكان السفر من الصالحية باتجاه الشمال الشرقي إلى سيناء، ثم سلوك طريق الساحل الشمالي لسيناء بحذاء البحر الأبيض المتوسط حتى غزة شديد المشقة، لأن الجيش سيخترق الصحراء الشرقية في مصر، ثم يخترق صحراء سيناء بكاملها حتى يصل إلى غزة، ومع ذلك صبر الجيش المجاهد، وتذكر الجميع غزوة تبوك وما صاحبها من صعوبات شديدة الشبه بما يصاحب هذه الموقعة.
فالمسلمون في تبوك كونهم في الحر، والأزمة الاقتصادية التي كانت تمر بالمدينة، وقطع المسافة الصحراوية الطويلة كانوا ذاهبين لقتال قوة هائلة من قوى الأرض في ذلك الزمن، وهي قوة الرومان، وفي هذه المرة كذلك قطع المسلمون المسافة الطويلة في هذا الحر، وفي هذه الأزمة الاقتصادية؛ ليقابلوا جيشاً هائلاً كذلك هو جيش التتار، والتاريخ يكرر نفسه، غير أن المسلمين في تبوك لم يجدوا الرومان في انتظارهم، فلم تتم المعركة، وأما في موقفنا هذا فالتتار كانوا في الانتظار، وستتم الموقعة كما تعلمون.
تحرك قطز رحمه الله وقد رتب جيشه الترتيب الذي سيقاتل به لو حدث قتال، وذلك حتى إذا فاجأه أحد جيوش التتار كان مستعداً للقتال، فوضع رحمه الله على مقدمة جيشه ركن الدين بيبرس رحمه الله القائد العسكري الفذ؛ ليكون أول من يصطدم بالتتار، وقطز رحمه الله كان يهدف من ذلك أن يجعل الفرقة الأولى التي تصطدم بالتتار على رأسها قائد عسكري فذ، حتى تُحدث هذه الفرقة نصراً ولو جزئياً، وهذا النصر وإن كان صغيراً إلا أنه سوف يرفع من معنويات الجيش المسلم لا شك، ولذلك جعل أقوى فرق الجيش هي الفرقة الأمامية الأولى التي تتقدم الجيش، وليس هذا فقط، بل وأيضاً فصل المقدمة تماماً عن بقية الجيش، وجعل المقدمة على مسافة طويلة من الجيش بحيث إذا كانت هناك عيون للجيش التتري تراقب خط سير الجيش المسلم، فستكتشف المقدمة فقط وتظن أنها هي كل الجيش المسلم، وبذلك يستطيع قطز رحمه الله أن يخفي بقية الجيش ويناور به ويحاور ويختبئ، ويفعل خططاً قد لا تخطر على بال التتار.
موقعة غزة
======
اجتاز ركن الدين بيبرس رحمه الله الحدود المصرية في (26) يوليو سنة (1260م) ودخل فلسطين، وكان بقية الجيش المسلم لا يزال في الطريق، وبمجرد دخول المقدمة الإسلامية أرض فلسطين، اجتازت بسرعة رفح وخان يونس ودير البلح واقتربوا جداً من غزة، ورآهم التتار هناك بعد أن اكتشفت عيونهم هذه المقدمة، وحدث ما توقعه قطز رحمه الله، ظنوا أن المقدمة هي كل الجيش، والتقت الحامية التترية التي كانت في غزة مع مقدمة الجيش المسلم في موقعة غزة،
وكما ذكرنا قبل ذلك كانت مقدمة الجيش المسلم مقدمة قوية قائدها ركن الدين بيبرس القائد البارع، والحامية التترية في غزة صغيرة نسبياً، والجيش التتري الرئيسي معسكر على مسافة بعيدة جداً، على مسافة حوالي (300) كيلو متر من غزة في سهل البقاع في لبنان، وكانت كل الحسابات تعطي فرصة كبيرة للجيش المسلم أن يحقق انتصاراً ولو بسيطاً، وبالفعل انتصر ركن الدين بيبرس رحمه الله بمن معه من الجنود على الحامية التترية الصغيرة وقتلوا منها بعضها، وفر الباقون إلى الشمال؛ ليخبروا كتبغا الذي يعسكر في سهل البقاع بالهزيمة النسبية التي وقعت للحامية التترية في غزة، ويخبرونه كذلك أن الجيوش الإسلامية تتقدم في اتجاه الشمال.
الحامية التترية في غزة فوجئت بالجيش المسلم، وكانت مفاجئة كبيرة جداً لهذه الحامية، ولم تكن المفاجأة مفاجأة المباغتة أو الخطة العسكرية أو الإستراتيجية، أو اتخاذ مواقع معينة، أو فنون الحرب بصفة عامة، وإنما كانت المفاجأة الحقيقية أن التتار اكتشفوا أن هناك طائفة من المسلمين ما زالت تقاتل وتحمل السيوف، وتدافع عن دينها وعن أرضها وعن شرفها وعن عرضها وعن كرامتها، وكان قد ألِف التتار في كل السنوات السابقة أن يروا المسلمين يفرون ويهربون، وألِف زعماء التتار أن يروا زعماء المسلمين يطلبون دائماً التحالف المخزي والركوع المذل، وما توقعوا أبداً أن تظل هناك طائفة مسلمة تدافع عن دينها وحقها، ولكن هذه الأمة مهما ضعفت فإنها لن تموت، ومهما ركع منها رجال فسيظل منها آخرون يدافعون عنها ما بقيت الحياة.
مع أن الذين قاتلوا في غزة ثم بعد ذلك في عين جالوت لم يكن معظمهم من أهل بيت المقدس ولا من أهل فلسطين، إلا أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا المكان الطاهر فلسطين موطناً لانتصارات متكررة للمسلمين، وانظروا التاريخ، فقد تكون هناك هنات وسقطات، ولكن حتماً ما يكون هناك قيام، وكثيراً ما يكون القيام على أرض فلسطين، مهما اشتدت الأزمة بالمسلمين.
فعلى أرض فلسطين وما حولها من أرض الشام وجّهت ضربات إسلامية موجعة للإمبراطورية الرومانية، في أجنادين وبيسان واليرموك.. وغيرها.
وعلى أرض فلسطين وما حولها وجّهت ضربات إسلامية موجعة للصليبيين في حطين وطبرية وبيت المقدس.
وعلى أرض فلسطين وجّهت ضربات إسلامية موجعة للتتار في غزة ثم في عين جالوت ثم في بيسان كما سنرى.
وعلى أرض فلسطين وجّهت ضربات إسلامية موجعة لبقايا الصليبيين بعد ذلك في عكا وعسقلان وحيفا وغيرها.
وعلى أرض فلسطين وجّهت ضربات إسلامية موجعة للفرنسيين في عكا.
وعلى أرض فلسطين وجّهت كذلك ضربات إسلامية موجعة للإنجليز في الثورات المختلفة، وأشهرها ثورة (1936م) التي استمرت قرابة أربع سنوات، وقد تكلمنا عليها بالتفصيل في دروس فلسطين.
وعلى أرض فلسطين وجّهت وما زالت توجه ضربات إسلامية موجعة لليهود، وسيكون هلاك اليهود بإذن الله على هذه الأرض، وهذا ليس استنتاجاً أو استنباطاً، وإنما هو حقيقة كونية وبشارة نبوية.
انتصر المسلمون على التتار في غزة، وهذا الانتصار كان نتصاراً جزئياً أو مرحلياً أو بسيطاً، وبعض المؤرخين يقللون جداً من شأن معركة غزة، حتى يتغافلها تماماً بعضهم، وأنا في الحقيقة أرى أنها من أهم المواقع الحربية في تاريخ المسلمين، ليس لكثرة قتلى التتار، فقد كان القتلى قليلين جداً، ولا لأهمية غزة الإستراتيجية في ذلك الوقت، ولا لغير ذلك من أمور الحرب، ولكن لأنها أساساً عالجت الهزيمة النفسية عند المسلمين، فالمسلمون رأوا بأعينهم أن التتار يفرون، وسقطت المقولة التي انتشرت في تلك الآونة: من قال لك: إن التتار يهزمون فلا تصدقه. فالآن من الممكن أن تصدقه، وهذه أول مرة يهزم فيها التتار منذ سنين طويلة، فموقعة غزة كان لها أثر إيجابي هائل على الجيش المسلم، وكذلك كان لها أثر سلبي هائل على جيش التتار، فعلى المسلمين ألا يستصغروا أبداً أي عمل من الأعمال، فلا يستصغر مسلم أن تلقى حجارة على يهودي فيجري اليهودي ويهرب، فهذه كبيرة جداً، ولا يستقلنّ مسلم أن يُقتل جندي يهودي أو أمريكي في فلسطين أو في العراق.. أو في غيرها، فالهزيمة الحقيقية هي هزيمة الروح والنفس، والانتصارات المرحلية البسيطة -وإن كانت عسكرياً لا تمثل الكثير- تفيد كثيراً جداً في رفع الروح المعنوية للأمة، والجيش المحبط من المستحيل أن ينتصر.
تأكيد الهدنة بين المسلمين والصليبين في عكا
=============
اتجه الجيش المسلم بعد انتصار غزة إلى ناحية الشمال، ومشوا بحذاء البحر الأبيض المتوسط، يعني: في غرب فلسطين، ومروا على المدن الإسلامية العظيمة الواحدة تلو الأخرى، فمروا على عسقلان ثم على يافا ثم مروا غرباً بطولكرم، ثم وصلوا إلى مدينة حيفا، ثم اتجهوا شمالاً بعدها إلى عكا المدينة المسلمة المحتلة من قبل الصليبيين، وعسكر قطز رحمه الله خارج عكا في الحدائق المحيطة بحصن عكا، وبدأت المراسلات بين قطز رحمه الله وبين أمراء عكا الصليبيين، يريد أن يؤكد على الاتفاقيات السابقة، ويرى هل ما يزال الصليبيون عند عهودهم أو خالفوا؟ فأرسل وفداً من الأمراء المسلمين فدخلوا حصن عكا، وأحسن الأمراء الصليبيون استقبال المسلمين، وأكد الطرفان على ما سبق الاتفاق عليه، وتكررت الزيارات أكثر من مرة، واطمأن الطرفان إلى استقرار الوضع، ومن ثم عزم قطز رحمه الله على الرحيل واختيار مكان مناسب للقاء الهام الذي سيجري بعد أيام مع التتار.
وعندما بدأ قطز رحمه الله يغادر منطقة عكا، أشار عليه أحد الأمراء المسلمين الذين قاموا بالسفارة بينه وبين الأمراء الصليبيين أن عكا الآن في أشد حالات الضعف، وأنهم مطمئنون إلى المعاهدة الإسلامية، وغير جاهزين للقتال، فإذا انقلب عليهم قطز فجأة فقد يتمكن من إسقاط حصن عكا وتحرير المدينة الإسلامية، وهذه المدينة الإسلامية محتلة منذ (166) سنة، فقال الأمير لـقطز : هذه فرصة أن نحرر هذه المدينة المحتلة، فرد عليه قطز رحمه الله رداً واضحاً قاطعاً صارماً بقوله: نحن لا نخون العهود، فالرؤية واضحة جداً في عين قطز رحمه الله، فقد كان يأخذ بأسباب النصر الحقيقي، التي منها: اتباع شرع الله عز وجل، وحفظ العقود، وعدم نقض المواثيق من صميم شرع الله عز وجل، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم:
[المائدة:1]. فهذا هو الدين والشرع الإسلامي، وهذه هي قوانين الإسلام، وهؤلاء هم قادة الإسلام.
رعب كتبغا نوين قائد المغول التتار في الشام من المسلمين
=========
ترك قطز رحمه الله عكا واتجه إلى الجنوب الشرقي؛ ليبحث عن مكان يصلح للمعركة القادمة، وفي هذه الأثناء وصلت الأخبار إلى كتبغا بعد أن وصل إليه فلول جيش التتار الذي هُزم في غزة،وغضب غضباً شديداً، فهذه أول مرة تُهزم الجيوش التترية في هذه المنطقة بكاملها، ومن قبل هذا لم نسمع هزيمة للتتار، فجهّز جيشه وبدأ يأتي من اتجاه الشمال إلى الجنوب ليقابل الجيش المسلم في فلسطين، والمسافة بين سهل البقاع وبين الحدود الفلسطينية اللبنانية شمال فلسطين حوالي (100) كيلو متر، وبين أول سهل البقاع إلى غزة (600) كيلو متر، (100) كيلو متر من أرض لبنان والباقي في فلسطين، والجيوش تقطع هذه المسافة عادة في يومين أو ثلاثة، ولكن كتبغا قطعها في أكثر من شهر، فقد علم أن هناك رجالاً يقاتلون من المسلمين فتثاقلت خطاه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الشريف: (نصرت بالرعب مسيرة شهر).
وهذا الرعب كثيراً ما يكون غير مبرر بالأسباب المادية، وليس له تفسير إلا أن الله عز وجل ألقاه في قلوب أعدائه، كما قال ربنا في كتابه الكريم في سورة الأنفال:
[آل عمران:151]. فالله عز وجل يلقي الرعب في قلوب الجيوش الضخمة الهائلة إذا رأت أمامها جيشاً مؤمناً يقاتل في سبيل الله عز وجل، وهذه حقيقة كونية متكررة في كل مواقع المسلمين، فالجيش التتري جاء إلى هذه المنطقة بعد مرور شهر من علم كتبغا بتجمع المسلمين لقتاله في فلسطين.
انتهز الجيش الاسلامي هذه الفرصة وغادر عكا باتجاه الجنوب الشرقي وسارع قطز رحمه الله باجتياز مدينة الناصرة وتعمق أكثر في الجنوب الشرقي حتى وصل إلى منطقة تعرف بسهل عين جالوت.
وعين جالوت سهل يقع في الوسط تقريباً بين مدينتي نابلس في الجنوب وبيسان في الشمال، وهي بالقرب جداً من معسكر جنين الآن، ومنطقة جنين هذه دارت فيها بعد ذلك بقرون موقعة هائلة بين المجاهدين الفلسطينيين وبين اليهود، وزاد فيها شهداء المسلمين على (500) شهيد بعد أن صبروا في قتالهم صبراً عجيباً.
وهذا السهل موقعه موقع فريد، فهو على مسافة (65) كيلو متر جنوب منطقة حطين، التي دارت فيها الموقعة الخالدة حطين سنة (583 هـ)، يعني: قبل (75) سنة من موقعة عين جالوت، وكذلك يقع على مسافة حوالي (60) كيلو متر إلى الغرب من منطقة اليرموك التي تمت فيها موقعة اليرموك الخالدة بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه منذ أكثر من ستة قرون، وهكذا ساهمت الذكريات الجميلة حول منطقة عين جالوت في تحميس وتحفيز الجيش المسلم الصابر هناك.
وجد قطز رحمه الله أن سهل عين جالوت منطقة مناسبة جداً للقتال؛ لأنه عبارة عن سهل واسع منبسط تحيط به التلال المتوسطة من كل جوانبه إلا الجانب الشمالي، فهو مفتوح من الجانب الشمالي، كشكل حدوة الحصان، وأما من الغرب والشرق والجنوب فهو عبارة عن تلال متوسطة منخفضة مليئة بالأحراش والأشجار التي تصلح تماماً لتكون مخبأً للجيوش الإسلامية، فيستطيع أن يعمل فيها كمائن كبيرة، ويستطيع أن يحاصر الجيش التتري في داخل هذا السهل الواسع، وعمل مناورات كثيرة جداً، فوجد الأرض مناسبة فرتب جيوشه، وكتبغا لم يأت بعد.
انتهى قطز رحمه الله من ترتيب جيشه ووضع على فتحة السهل الشمالية المفتوحة مقدمة الجيش القوية، التي كان على رأسها ركن الدين بيبرس رحمه الله، وأخفى كل الجيش بعد ذلك وراء الأحراش في الشرق والغرب والجنوب، وانتهى رحمه الله من هذا الإعداد والترتيب في (24) رمضان سنة (658هـ)، أي: أنه كان في العشر الأواخر من شهر رمضان، في الشهر الذي وقعت فيه بدر وفتح مكة وفتح الأندلس. وانتظر المسلمون على تعبئة في هذا الجو الإيماني الجميل جداً.
وصول التتار إلى عين جالوت ===========
وفي ليلة (24) رمضان لم تبق إلا ساعات قليلة جداً ويحدث الصدام المروع بين قوة أمة الإسلام وقوة التتار، فقد جاء جيش كتبغا وقد امتلأ بالصلف والغرور، تسبقه سمعته العالية جداً في سفك الدماء وتخريب الديار وإفناء البشرية،
[الفرقان:21]. فقد مر جيش التتار غرب بيسان وانحدر جنوباً في اتجاه عين جالوت حيث كانت القوات الإسلامية قد أخذت مواقعها ورتبت صفوفها ووقفت في ثبات تنتظر الجيش التتري.
التحاق المتطوعين بالجيش الإسلامي ==========
بينما قطز رحمه الله في سهل عين جالوت إذا بأعداد غفيرة من المتطوعين المسلمين من أهل فلسطين يخرجون من القرى والمدن ليلتحقوا بالجيش المسلم، وقد تيقنوا أن حرباً حقيقية ستحدث قريباً.
ولا بد أن نقف هنا وقفة ونحلل الموقف الغريب هذا؛ وهو أين كان هؤلاء المتطوعون يوم أن جاءت فرقة تترية بسيطة فاخترقت فلسطين بكاملها من شمالها إلى جنوبها، حتى احتلت آخر المدن في فلسطين وهي مدينة غزة؟ وكيف قعد هؤلاء قبل ذلك؟ وكيف قاموا الآن؟ ولماذا تحركوا الآن إلى سهل عين جالوت؟
والإجابة في منتهى البساطة، فهذا أمر رأيناه كثيراً جداً في التاريخ الإسلامي، فهؤلاء القاعدون كانوا يفتقدون إلى القدوة، والتربية بالقدوة كلمة نكررها كثيراً جداً في هذه المجموعة منذ أن ذكرنا قطز رحمه الله.
فالكثير من المؤمنين الصادقين الذين يريدون خدمة الدين ورفعة الإسلام لا يجدون قدوة صالحة يقلدونها، ولا يجدون قائداً مخلصاً يتّبعونه فيقعدون، فقد ألف هؤلاء البسطاء في فلسطين أن يروا قوّادهم في الشام يعقدون الأحلاف المهينة مع التتار، ويفتحون لهم الحصون والديار، ويمهدون لهم الجسور والطرق، فافتقد هؤلاء المسلمون البسطاء القدوة الصالحة، فلم يظهر الخير الكثير الذي بداخلهم، فلما جاء قطز رحمه الله ومن معه من المؤمنين الصادقين، وقطعوا الطريق كله إلى أرض الموقعة، وهم يتقدمون في ثبات، ولم يفعلوا مثل ما فعل الناصر يوسف الأيوبي عندما فر بمجرد سماعه أن جيش التتار قد اقترب، لما رأوا كل ذلك تحمست قلوبهم، وخرجت العواطف الكامنة في صدورهم، وتحركت فيهم الحمية لهذا الدين، وهانت عليهم التضحية، وهان عليهم الجهاد.
وهؤلاء لم يكونوا كالجيش النظامي في قدراته ومهاراته، ولكنهم متحمسون متشوقون إلى العمل في سبيل الله، وهذه الحماسة في ميدان القتال تنفع كثيراً، فـقطز رحمه الله استخدمهم في سلاح الخدمات، ووفر الجنود الذين كانوا في سلاح الخدمات في أعمال أخرى قتالية، وبالإضافة إلى ذلك كان لهم أهمية أخرى كبيرة جداً في تكثير سواد المسلمين، ولا شك أن هذا يبث الرعب في قلوب الكافرين. ثم اجتمع الكثير من الفلاحين من القرى المختلفة ممن لا يستطيع قتالاً ولا خدمة إما لكبر سن أو لعجز أو لمرض، واجتمع كذلك النساء والصبيان، واصطفوا بأعداد كبيرة على طرفي سهل عين جالوت وقد علت أصواتهم بالتكبير والدعاء للمسلمين، وارتفعت صيحاتهم التأييدية للقوات الإسلامية، وتحركت ألسنتهم وأيديهم وقلوبهم بالدعاء لرب العالمين أن ينصر الإسلام وأهله، ويذل الشرك وأهله، كل هذه الأحداث كانت في يوم (24) رمضان من سنة (658هـ) وهو اليوم السابق مباشرة للموقعة الرهيبة عين جالوت.
وكل هذا كان تأييداً للجيش المسلم، ورفعاً لمعنوياته إلى أقصى درجة.
رسول صارم الدين أيبك إلى المسلمين يحمل خبر تعاون صارم الدين مع المسلمين ================
في نفس اليوم أيضاً قبل الموقعة بيوم حدث شيء غريب جداً أن يحدث في هذا التوقيت، وهذا فعل رب العالمين سبحانه وتعالى، فبينما هم في سهل عين جالوت جاء رجل من أهل الشام وهو يُسرع المسير يطلب أن يقابل أمير القوات الإسلامية قطز ومن معه من بقية الأمراء، وقال: إنه رسول من قبل صارم الدين أيبك ، وهو أحد المسلمين الذين أسرهم هولاكو قبل ذلك عند غزوه بلاد الشام، ثم قبِل أن يعمل في الخدمة في صفوف جيش التتار، واشترك معهم في مواقعهم المختلفة، وجاء معهم إلى موقعة عين جالوت، ولا ندري إن كان قد قبِل التعاون مع التتار لرغبة في نفسه، أم قبل ذلك مضطراً وهو يعد العدة لينفع المسلمين؟ لا ندري هذا، فهذا بينه وبين رب العالمين سبحانه وتعالى، ولكن ما نعلمه أنه قبيل موقعة عين جالوت، وفي هذا اليوم الذي سبق الموقعة مباشرة قرر أن يخدم جيش المسلمين بقدر ما يستطيع،
صارم الدين أيبك لا يعرفه قطز ولا يعرفه أمراء الجيش الإسلامي، ولكن الله عز وجل وضعه في هذا المكان؛ ليقدم للمسلمين خدمات جليلة، وليأتي النصر من حيث لا يحتسب المسلمون، وسبحان الذي ساقه في ذلك التوقيت الفريد كما ساق نعيم بن مسعود قبل ذلك في غزوة الأحزاب؛ ليكون سبباً رئيسياً في انتصار المسلمين يوم الأحزاب!
أولاً: جيش التتار ليس بقوته المعهودة؛ فـهولاكو قد أخذ معه عدداً كبيراً من الجيش وهو راجع إلى تبريز بعد أن وصله نبأ موت منكو خان خاقان التتار، فالجيش الذي سيقابل المسلمين الآن ليس على نفس الهيئة التي دخل بها الشام، فلا تخافوهم.
وهذه معلومة في غاية الأهمية؛ فقد طمأنت الجيش المسلم على أنه سيقابل جيشاً أصبح إلى حد ما أضعف من السابق، فيستطيع الجيش المسلم تحقيق الانتصار.
ثانياً:ميمنة التتار أقوى من الميسرة، فعلى جيش المسلمين أن يقوي من الميسرة؛ لأن الميسرة الإسلامية ستقابل الميمنة التترية. وهذه أيضاً معلومة عسكرية في غاية الأهمية.
ثالثاً: أن الأشرف الأيوبي أمير حمص، وهو من الأمراء الموالين للتتار سيكون في جيش التتار، ولكنه راجع نفسه وسيُظهر التعاون مع التتار، بينما في الواقع سينهزم بين يدي المسلمين.
فاجتمع الخبراء العسكريون الإسلاميون في موقعة عين جالوت، وخافوا أن تكون كل هذه الأمور مجرد حيل من التتار، وقالوا: قد يكون هذا شيئاً عمله التتار؛ ليخدعوا به المسلمين ويضلوهم به عن اختيار القرار الصواب، فيجب أن نأخذ الحذر، وبدءوا بالفعل يرتبون صفوفهم مع اعتبار أن هذه الأمور قد تكون من الأمور الحقيقية، ثم اتضح أن هذا الكلام صحيح كما قال صارم الدين أيبك تماماً.
أحداث ليلة ويوم 25 رمضان سنة 658هـ ============
انتهى اليوم الرابع والعشرين من رمضان، وقضى المسلمون هذه الليلة في القيام والابتهال والدعاء والرجاء، وكانت هذه من أعظم ليالي السنة، أولاً: لأنها ليلة وترية، وثانياً وهذا هام جداً جداً: لأنها ليلة تسبق يوم الجهاد في سبيل الله، وفي صباحها سيكون اللقاء العظيم الذي يثأر فيه المسلمون لدماء الملايين من المسلمين التي سفكت على أيدي هؤلاء التتار الهمج، فكانت ليلة خالدة حقاً، ومتعة حقيقية لا يشعر بها إلا المجاهدون في سبيل الله، نسأل الله عز وجل أن يكتب لنا جهاداً في سبيله، وأن يرزقنا ثباتاً في أرض الجهاد.
كان قطز رحمه الله قد اجتهد كثيراً في تربية الزرع وغداً هو يوم الحصاد، وستكون نتائج جميع الأعمال الضخمة التي قام بها قطز رحمه الله قبل ذلك.
جاء وقت الفجر، وصلى المسلمون الفجر في خشوع، ورتبوا صفوفهم بعد الصلاة واستعدوا، وما هي إلا لحظات وأشرقت الشمس، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة، فهو عيد في السماء وعيد في الأرض، وسيكون عيداً للنصر من أعظم أعياد المسلمين إن شاء الله.
فيوم الجمعة (25) من رمضان سنة (658هـ) تاريخ من الواجب على جميع المسلمين ألا ينسوه، فهو من أعظم تواريخ المسلمين مطلقاً، وبشروق الشمس أضاءت الدنيا ورأى المسلمون من بعيد جيش التتار من اتجاه الشمال، جاء الجيش التتري المهول الذي دوّخ العالم، وأسقط نصف العالم الإسلامي ونصف أوروبا، واقترب من سهل عين جالوت، وعلى أبواب السهل في الناحية الشمالية وقف الجيش التتري في عدده الرهيب وعدته القوية، ولم يكن بالسهل أحد من رجال المسلمين، فقد كان السهل خالياً تماماً، فكل المسلمين كانوا مختبئين خلف التلال، حتى المقدمة التي كان على رأسها ركن الدين بيبرس رحمه الله كانت مختبئة في ذلك الصباح.
نزول مقدمة الجيش الإسلامي إلى عين جالوت ورعب التتار منهم =============
بدأت القوات الإسلامية بعد أن أشار لهم قطز رحمه الله تنزل إلى سهل عين جالوت بالتدريج أمام الجيش التتري.
لم تنزل مقدمة الجيش دفعة واحدة، وإنما نزلت على مراحل وفي صورة عجيبة، واسمعوا وصف صارم الدين أيبك الرجل المسلم الذي في جيش التتار، والذي انضم بعد ذلك إلى جيش المسلمين بعد انتهاء الموقعة، وكان يقف إلى جوار كتبغانوين القائد النصراني للجيوش التترية، فوقف يصف هذا النزول لمقدمة الجيش المسلم، ويقول صارم الدين أيبك :
(( فلما طلعت الشمس ظهرت عساكر الإسلام -يقصد المقدمة لجيش المسلمين- وكان أول سنجق أحمر وأبيض -وسنجق يعني: كتيبة، فأول كتيبة نزلت كانت لابسة أحمر وأبيض- وكانوا لابسين العدد المليحة، فكان موقفاً في غاية الروعة، نزلت الكتيبة الإسلامية الأولى وهي تلبس ملابس أنيقة جداً حمراء وبيضاء، وكان كل الفرقة لها زي خاص بها، وكانوا يلبسون العدد المليحة. يعني: أن الدروع والسيوف والرماح والخيول كانت في هيئة جميلة، فنزلوا بخطوات ثابتة وبنظام بديع إلى ساحة المعركة في غاية الأناقة والبهاء، وكأنهم في عرض عسكري، لهم هيبة وعليهم جلال، يوقعون في قلوب من يراهم الرهبة. هذه هي الكتيبة الأولى.
كتبغا جيش المسلمين على هذه الصورة، وقد كان معتاداً أن يراهم وراء الحصون والقلاع يرتجفون ويرتعبون، أو يراهم وهم يتسارعون إلى الهروب فزعاً من جيش التتار، أو يراهم وهم يسلمون رقابهم للذبح الذليل بسيوف التتار.
كان كتبغا معتاداً على رؤية المسلمين في أحد هذه الصور المهينة، أما أن يراهم في هذه الهيئة المهيبة العزيزة فهذا ما لم يحسب له حساباً أبداً.
وكانت فرق المماليك تتميز عن بعضها البعض بلون خاص، فكل فرقة كانت لها لون، فأحدها أبيض وأبيض والأخرى أزرق وأخضر، فكل فرقة لها لون تتميز به، وكل شيء خاص بهذه الفرقة كان عليه إشارات من نفس اللون، فمخازنها في مصر عليها نفس اللون، وبيوتها كذلك عليها نفس اللون، وكل شيء عليه نفس اللون؛ حتى يتميز بعضهم عن بعض.
ومهما صورنا من عظمة هذه الفرقة وحلاوة تنظيمها وإبداع نزولها، فلا يمكن أبداً أن نفهم أن القائد التتري السفاح الجبار صاحب الجيش المهول يُرعب من رؤية كتيبة هي إحدى فرق المقدمة، فهي ليست كل المقدمة، وإنما هي فرقة من فرق المقدمة، ولا يمكن أبداً أن نفسر هذا الرعب إلا في ضوء ما ذكرناه قبل ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم (نُصِرت بالرعب مسيرة شهر). فالله عز وجل هو الذي ألقى الرُعب بنفسه سبحانه وتعالى في قلب كتبغا وقلب الجيش التتري الرهيب.
ثم بعد قليل نزلت كتيبة ثانية تلبس الملابس الصفراء، وعليها من البهاء والجمال ما لا يوصف، فتزلزل كتبغا وقال لـصارم : هذا رُنك من؟
ثم تتابعت الكتائب الإسلامية، وكل هذا كان مقدمة ركن الدين بيبرس رحمه الله تنزل على دفعات، وكل كتيبة تنزل بلون آخر، وكلما نزلت كتيبة يسأل كتبغا : رُنك من هذا؟
يقول صارم الدين أيبك : فصار أي شيء يجري على لساني قلته. أي: أنه بدأ يقول أسماء مخترعة، ويقول: هذه فرقة الأمير الفلاني وهذه فرقة الأمير العلاني، ويذكر أسماء لا أصل لها، يريد أن يكثّر من أسماء المماليك؛ لكي يوهم كتبغانوين أن هذا اتحاد المماليك المصرية والشامية.. وغيرها، فيوقع الرهبة في قلبه.
دور فرقة الطبول العسكرية الإسلامية في عين جالوت ============
عد أن نزلت مقدمة المسلمين بقيادة ركن الدين بيبرس واكتملت، بدأت فرقة الطبول العسكرية الإسلامية المملوكية تظهر على الساحة، وانطلقت في قوة تدق طبولها وتنفخ في أبواقها، وتضرب صنوجها النحاسية، وتعمل دوراً في غاية الأهمية في موقعة عين جالوت، فقد كانت هذه الضربات بمعان معينة، وكانت الجيوش المملوكية تتلقى الأوامر عن طريق هذه الدقات التي لا يعرفها الأعداء، فقد كان هناك ضربات معينة للميمنة، وضربات معينة للميسرة، وضربات معينة للقلب، وهناك ضربات للتقدم وضربات للانسحاب، وهناك ضربات خاصة لكل خطة عسكرية، وبذلك يستطيع القائد قطز رحمه الله أن يقود المعركة من مكان بعيد، وأيضاً يشعر الجنود بمعية القائد معهم، وأنه يرى كل خطوة من خطوات الجنود، ويستطيع أن يسد الثغرات من على بعد وهو يراقب الموقف، كما أن هذه الضربات القوية كانت تزلزل قلوب الأعداء، وتثبت قلوب المسلمين.
ووقف الأمير ركن الدين بيبرس بقواته على المدخل الشمالي لسهل عين جالوت، بينما ترك السهل بكامله خالياً من خلفه، واقتربت جداً ساعة الصفر.
وكان جيش المماليك بكامله مختفياً خلف الأشجار والأحراش وفوق التلال، والذي يظهر منه هو جيش ركن الدين بيبرس فقط، وكانت المعلومات التي جاءت إلى كتبغا قبل ذلك من غزة قد وصفت له الجيش بهذا العدد، فكان كتبغا معتقداً أن جيش المسلمين كله هو فرقة المقدمة الإسلامية التي تقف أمامه، في حين أنها كانت جزءاً قليلاً من الجيش المسلم الكامل.
وللأسف الشديد لم نجد إحصاءً دقيقاً في أي كتاب من الكتب التي روت قصة التتار عن أعداد جيش التتار أو أعداد جيش المسلمين، لكننا نعلم أن الأعداد كانت هائلة في هذه الموقعة الضخمة.
نظر كتبغانوين إلى القوات الإسلامية فوجدها قليلة، فأراد أن يحسم الموقعة من بدايتها، صحيح أنهم كانوا في هيئة حسنة، ومنظرهم مهيب عند كتبغا وعند جيش التتار، ولكن أعدادهم قليلة، فأراد أن يحسم الموقعة بكاملها، فدخل بجل جيشه أو كله إلى سهل عين جالوت.
وهذا تماماً ما كان يريده الملك المظفر قطز رحمه الله.
وأعطى كتبغا قائد التتار إشارة البدء لقواته، وانهمرت جموع التتار الرهيبة، وهي تصيح صيحاتها المفزعة على مقدمة جيش المسلمين، وكانت أعداداً هائلة من الفرسان ينهبون الأرض نهباً في اتجاه القوات الإسلامية.
أما القائد المحنك ركن الدين بيبرس رحمه الله فكان يقف في رباطة جأش عجيبة, ووقف معه الأبطال المسلمون في ثبات ولم يتحركوا، وقد ألقى الله عز وجل عليهم سكينة وأمناً واطمئناناً، فكانوا يرون جحافل التتار الضخمة لا تعدو أن تكون حفنة قليلة من الرجال،
حتى إذا اقتربت جموع التتار من مقدمة الجيش الإسلامي أعطى القائد المحنك الظاهر ركن الدين بيبرس رحمه الله إشارة البدء لرجاله، فانطلقوا في شجاعة نادرة باتجاه جيش التتار، ولا ننسى أن هذه المقدمة الإسلامية قليلة جداً بالنسبة لجيش التتار.
وارتطم الجيشان ارتطاماً مروعاً بمعنى الكلمة، وارتفعت سحب الغبار الكثيف في ساحة المعركة، وتعالت أصوات دقات الطبول وأصوات الآلات المملوكية، وعلت صيحات التكبير من الفلاحين الفلسطينيين الواقفين على جنبات السهل، وامتزجت قوات المسلمين بقوات التتار، وسرعان ما تناثرت الأشلاء وسالت الدماء، وارتفع صليل السيوف وغطى على كل شيء.
احتدمت المعركة في لحظات، ورأى الجميع من الهول ما لم يرونه أبداً في حياتهم قبل ذلك.
وكانت هذه من أكبر المواقع في تاريخ الأرض، وكانت هذه الفرقة المملوكية من أفضل فرق المسلمين، وقد أحسن قطز رحمه الله اختيار أفرادها واحداً واحداً، حتى تستطيع أن تقف هذه الوقفة الجسورة أمام هذه الجحافل من التتار، وثبتت القوات الإسلامية ثباتاً رائعاً مع قلة عددها، فلما رأى كتبغانوين القوات ثابتة ضغط بصورة أكبر وبدأ يستخدم كل الطاقة، وأدخل كل الجنود إلى داخل السهل ولم يترك أي قوات للاحتياط خلف الجيش التتري.
كل هذا وقطز رحمه الله يرقب الموقف عن بعد، ويصبّر نفسه وجنده عن النزول لساحة المعركة حتى تأتي اللحظة المناسبة. ومرت الدقائق والساعات كأنها الأيام والشهور.
ومع أن الفجوة كانت هائلة في العدد والعدة بين الفريقين، إلا أن اللقاء كان سجالاً حتى هذه اللحظات.
وكان هم المسلمين إلى هذه اللحظة هو استنزاف القوات التترية في حرب مرهقة، والتأثير على نفسياتهم عند مشاهدة ثبات المسلمين وقوة بأسهم.
هذا كان الجزء الأول من الخطة الإسلامية، الصبر قدر المستطاع من الجيش حتى تستنزف الطاقات التترية عن آخرها.
سحب قوات التتار إلى داخل سهل عين جالوت ============
جاء وقت تنفيذ الجزء الثاني من الخطة الإسلامية البارعة، ودقت الطبول دقات معينة؛ لتصل بالأخبار من قطز إلى بيبرس ليبدأ في تنفيذ الجزء الثاني الخطير من الخطة.
وكان الجزء الثاني من الخطة عبارة عن محاولة سحب جيش التتار إلى داخل سهل عين جالوت، ويا حبذا لو سُحب الجيش بكامله! بحيث تدخل قوات التتار في الكمائن الإسلامية تمهيداً لحصارها والقضاء عليها.
وبدأ ركن الدين بيبرس في تنفيذ مهمة صعبة جداً، فكان عليه أن يُظهر الانهزام أمام التتار، ويتراجع بظهره وهو يقاتل، على ألا يكون هذا التراجع سريعاً جداً حتى لا يلفت أنظار التتار إلى الخطة، ولا بطيئاً جداً فتهلك القوة الإسلامية القليلة أثناء التراجع تحت الضغط التتري الرهيب، وهذا الميزان في الانسحاب يحتاج إلى قدرة قيادية فائقة، كما يحتاج إلى رجال أشداء مهرة في القتال، ويحتاج فوق كل ذلك وقبل كل ذلك إلى توفيق من رب العالمين سبحانه وتعالى.
وهذه العوامل بفضل الله كانت متوافرة في هذا الجيش، والمحلل لهذه الخطة يجد أنها نفس الخطة الإسلامية في موقعة نهاوند الشهيرة، التي كانت ضد القوات الفارسية وذلك في سنة (19هـ)، وكان يقوم فيها بدور ركن الدين بيبرس من عملية سحب الجيش التتري إلى داخل السهل الصحابي القائد الإسلامي الفذ القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه، وكان يقوم بدور قطز رحمه الله الصحابي الجليل والفارس العظيم النعمان بن مقرن رضي الله عنه.
وقام في وقتها القعقاع بن عمرو التميمي بسحب قوات الفرس الرهيبة في الكمين الإسلامي الخطير، الذي قضى على قوات الفرس تماماً، وهنا في عين جالوت استفاد قطز رحمه الله من التاريخ، ومن تجارب المسلمين السابقة، وطبق خطة موقعة نهاوند بحذافيرها.
وبدأ ركن الدين بيبرس في الانسحاب التدريجي المدروس، وكلما رجع خطوة في السهل تقدم جيش التتار مكانها، وقام المسلمون بتمثيلية الانهزام خير قيام، وتحمس كتبغا ومن معه للضغط على المسلمين، وبدءوا يدخلون السهل وبأعداد كبيرة، ومر الوقت ببطء على الطرفين، ولكن في النهاية دخل جيش التتار بكامله إلى داخل سهل عين جالوت, وانسحب ركن الدين بيبرس بمقدمة الجيش إلى الناحية الجنوبية من سهل عين جالوت، وفي غضون حماسة كتبغا للقضاء على جيش المسلمين لم يترك كتبغا كما أشرنا قبل ذلك أياً من قواته الاحتياطية خارج السهل لحماية مؤخرة الجيش، بل أخذ معه كل الجنود إلى داخل السهل.
كيف فعل كتبغا ذلك وهو بكل وضوح خطأ عسكري شنيع لا ريب ولا شك في ذلك، وهو قائد عسكري بارع، وذو خبرة طويلة جداً في مجال الحروب، فهو على الأقل في هذه الموقعة قد جاوز الستين أو السبعين من عمره؛ فـكتبغانوين من القواد الذين عاصروا جنكيز خان مؤسس دولة التتار، أي: أنه قديم جداً في المعارك، وكان قائداً أيام جنكيز خان ، وجنكيز خان قد مات قبل هذه الموقعة بأربع وثلاثين سنة، وهذه السنوات الطويلة كلها قضاها كتبغا في حروب وقيادة؟
لقد كان من المفروض عليه كقائد محنك أن يترك قواتاً احتياطية خارج السهل؛ لتؤمّن طريق العودة في حال الخسارة، ولتمنع التفاف الجيش الإسلامي حول التتار، ولتراقب أي تحركات مريبة لجيوش أخرى قد تأتي لمساعدة الجيش الإسلامي. لكن كل هذا لم يحدث.
توقفت العقلية التترية عن التفكير السليم في هذا الوقت الحساس من أوقات المعركة، وقد يفسر بعض المحللين ذلك برغبة كتبغا في القضاء الكامل على قوات المسلمين وبحسم.
ويفسره بعضهم بأنه ضعف من المخابرات التترية التي لم تدرك حجم الجيش الإسلامي الحقيقي.
ويفسره آخرون بأنه الغرور والصلف الذي كان يملأ كتبغا من أم رأسه إلى أخمص قدميه.
ويفترض بعض المحللين أن هناك أهدافاً تكتيكية معينة في ذهن القائد العجوز الخبير كتبغا لا نعرفها.
وقد يُفسر الموقف بأي شيء من هذا أو بغيره.
ولكن كل هذه التفاسير لا تعطي مبرراً مقبولاً لهذا الخطأ العسكري الفادح الذي لا يقع فيه مقاتل مغمور في مطلع حياته العسكرية.
ولكن يبقى التفسير الوحيد المقبول عندي في مثل هذا الموقف هو أن الله عز وجل دفعه إلى هذا دفعاً؛ ليخرج عن قياسات البشر، فهو سبحانه وتعالى الذي يدفع أشخاصاً بعينهم لأفعال معينة في ظروف معينة، ولو تكرر نفس الظرف ألف مرة فلعل الرجل لا يأخذ نفس هذا القرار أبداً، ولكن الله عز وجل أراد لهذا الجيش التتري الهلكة، فدفعه إلى أخذ قرار لا يتناسب مطلقاً مع قدرات وخبرات القائد الفذ كتبغا الذي يقود جيوش التتار أبداً، وهذا من مكر رب العالمين سبحانه وتعالى، يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:
أبو جهل جيوشه للهلكة في موقعة بدر، فالكل كان معترضاً، وكان أبو جهل مصراً على دفع الجيوش إلى الهلكة؛ لتُحصد رأسه ورءوس سبعين من صناديد قريش، وهكذا فعل كتبغا في عين جالوت، وسبحان الله الذي قال في كتابه:
كتبغا جيشه دفعاً للدخول بكامله في سهل عين جالوت، وبذلك نجح الجزء الثاني من الخطة الإسلامية نجاحاً مبهراً.
محاصرة جيش التتار =============
بدأ تنفيذ الجزء الثالث بالغ الأهمية في الخطة.
وجاءت إشارة البدء من قطز رحمه الله عن طريق الطبول والأبواق، ونزلت الكتائب الإسلامية العظيمة من خلف التلال إلى ساحة المعركة من كل جوانب الميدان، من الشرق والغرب والجنوب، بل وأسرعت فرقة عسكرية قوية لتغلق المدخل الشمالي لسهل عين جالوت، وبذلك في دقائق معدودات أحاطت القوات الإسلامية بالتتار إحاطة السوار بالمعصم.
واكتشف كتبغا الخطة الإسلامية، ولكن بعد فوات الأوان، فقد حصر هو والتتار في داخل سهل عين جالوت، وبدأ الصراع المرير في واحدة من أشد المعارك التي وقعت في التاريخ بصفة عامة.
فلا مجال للهرب أو المناورات، فالسهل منبسط والمساحات مكشوفة، وليس هناك من حماية إلا خلف السيوف والدروع، ولم يكن هناك بديل عن القتال، فلا بد من القتال حتى الموت.
وكانت حرباً ضارية بشعة، أخرج التتار فيها كل إمكانياتهم، وبدءوا يقاتلون بحمية بالغة، والمسلمون بفضل الله صابرون ثابتون.
تراجع الجناح الأيسر للجيش الإسلامي ونزول قطز إلى ميدان المعركة ================
ظهر تفوق الميمنة التترية كما أخبر بذلك من قبل رسول صارم الدين أيبك ، وبدأت هذه الميمنة تضغط على الجناح الأيسر للقوات الإسلامية، وظهر تأثر القوات الإسلامية بذلك، وأخذت ميسرة المسلمين تتراجع تدريجياً تحت الضغط الرهيب للتتار، وبدأ التتار يخترقون الميسرة الإسلامية، وازداد تساقط الشهداء، وظهرت الأزمة الكبرى، ولو أكمل التتار اختراقهم للميسرة فسيلتفون بذلك حول الجيش الإسلامي، وسوف تتعادل بذلك الكفتان، بل وقد ترجح كفة التتار، وهنا يصبح إغلاق السهل خطراً على المسلمين، كما كان خطراً على التتار.
كان قطز رحمه الله يقف في مكان عال خلف الصفوف يراقب الموقف بكامله، ويوجه الفرق إلى سد الثغرات، ويخطط لكل صغيرة وكبيرة.
حين شاهد قطز رحمه الله المعاناة التي تعيشها ميسرة المسلمين، فدفع إليها بقوات احتياطية الواحدة تلو الأخرى، ولكن الضغط التتري استمر، وبدأ بعض المسلمين يشعر بصعوبة الموقف، وبدأت معنويات البعض تنهار وشكوا في النصر، ولا ننسى السمعة المرعبة لجيش التتار الذي قيل عنه: إنه لا يُهزم.
كان قطز رحمه الله يشاهد كل ذلك، ويدفع بقوات إضافية إلى الميسرة، ولكن الموقف تأزم جداً، وهنا لم يجد قطز رحمه الله إلا حلاً واحداً لا بديل له، فقرر أن ينزل بنفسه رحمه الله إلى ساحة القتال، ويُثبت لجنوده بالطريقة التي اعتادها معهم أن الجهاد في سبيل الله عز وجل أُمنية، وأن الموت في سبيل الله مطلب لكل مسلم صادق، ويعلمهم بالطريقة التي اعتاد أن يعلمهم بها، وهي طريقة التربية بالقدوة، فنزل رحمه الله إلى أرض الموقعة، ولم ينزل بهيئته العسكرية الكاملة، وإنما خلع خوذته وألقاها على الأرض؛ تعبيراً عن اشتياقه للشهادة وعدم خوفه من الموت، وأطلق الصيحة الشهيرة التي قلبت الموازين تماماً في أرض المعركة، فصرخ قطز رحمه الله بأعلى صوته والجميع يسمع: وا إسلاماه! وا إسلاماه! وألقى السلطان المظفر القائد العظيم رحمه الله بنفسه وسط الأمواج المتلاطمة من البشر، وفوجئ الجنود الإسلاميون بوجود القائد الملك المظفر قطز رحمه الله في وسطهم، يعاني مما يعانون ويشعر بما يشعرون ويقاتل كما يقاتلون.
وأصبحت القضية واضحة جداً أمام الجميع، القضية قضية الإسلام، القضية قضية وا إسلاماه، القضية ليست أبداً حفاظاً على ملك أو حماية لكرسي أو حرصاً على توريث لابن أو عائلة، فالقتال لله عز وجل، ويمكن أن تكون نهاية قطز رحمه الله، ويمكن أن يموت وهو في زهرة شبابه، فهو يقاتل في سبيل الله حقيقة، هكذا شعر الجنود، وشتان بين القائد الصادق الذي يعيش لدينه ولشعبه، والقائد الكاذب الذي يتكلم كثيراً عن فضائل الأعمال، وهو لا يعيش إلا لنفسه، فالتهب حماس الجنود، وهانت عليهم تماماً جيوش التتار، وحملوا أرواحهم على أكفهم، وانطلقوا في جسارة نادرة يصدون الهجمة التترية البشعة، فهي ليست هجمة على ذواتهم، بل هي هجمة على الإسلام، واشتعل القتال في سهل عين جالوت، واستحر القتل، وعلت أصوات تكبير الفلاحين على كل شيء، ولجأ المسلمون بصدق إلى ربهم في هذا اليوم المجيد من أيام شهر رمضان.
ثم صوب أحد التتر سهمه نحو قطز رحمه الله، فأخطأه السهم، وأصاب الفرس الذي كان يركب عليه قطز فقُتل الفرس من ساعته، فترجل قطز رحمه الله على الأرض، وقاتل ماشياً لا خيل له وما تردد، وما نكص على عقبيه، وما حرص على حياته رحمه الله، ورآه أحد الأمراء وهو يقاتل ماشياً، فجاء إليه مسرعاً، وتنازل له عن فرسه، إلا أن قطز رحمه الله امتنع، وقال: ما كنت لأحرم المسلمين نفعك، وظل يقاتل ماشياً إلى أن أتوه بفرس من الخيول الاحتياطية.
وبعد هذه الموقعة لامه أحد الأمراء على هذا الموقف، وقال له: لم لمْ تركب فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك، وهلك الإسلام بسببك. فانتفض قطز رحمه الله وقال في يقين رائع: أما أنا لو قتلت فكنت أذهب إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، وقد قُتل فلان وفلان وفلان، حتى عد خلقاً من الملوك، مثل: عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، فأقام الله للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضع الإسلام، فرحمه الله فقد كان وما زال قدوة للمسلمين، وعلى أكتاف أمثاله تنهض الأمم.
نتيجة مثل هذا الموقف أدت القوات الإسلامية أداءً راقياً جداً في القتال، وأخرجت كل إمكانيتها، ولم تكن قضيتها قضية موت أو حياة كالتتار، بل كانت إما نصر أو شهادة.
وبدأت الكفة بفضل الله تميل من جديد لصالح المسلمين، وارتد الضغط على جيش التتار، وأطبق المسلمون الدائرة تدريجيًّا على التتار، وكان يوماً على الكافرين عسيراً
تقدم أمير من أمراء المماليك المهرة من أمراء الشام الذين انضموا إلى جيش قطز رحمه الله قبل موقعة عين جالوت، من أمراء جيش الناصر الأيوبي الذي فر قبل ذلك، وهو الأمير جمال الدين آقوش الشمسي رحمه الله، فتقدم وأبلى بلاء حسناً في القتال، واخترق صفوف التتار حتى وصل إلى كتبغا القائد النصراني العجوز الخبير وقاتله، ورفع المسلم سيفه، ورفع الكافر سيفه، وأهوى المسلم بكل طاقته على الكافر، فأراد الله عز وجل أن يُقتل الكافر
كتبغا على أرض القتال وسقط زعيم التتار، وبسقوطه سقطت كل عزيمة عند جيش التتار،
هزيمة التتار وهروبهم من عين جالوت ================
كان مقتل كتبغا نقطة محورية في القتال، وتغير السيناريو تماماً عند التتار، فما أصبح لهم من هَمّ إلا أن يفتحوا لأنفسهم طريقاً في المدخل الشمالي لسهل عين جالوت ليتمكنوا من الهرب، وانطلق المسلمون الصادقون خلف التتار يقتلون فريقاً ويأسرون فريقاً.
وسقطت جحافل التتار تحت أقدام المسلمين صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فضاعت السمعة، وضاعت الهيبة، ومُزّق الجيش الرهيب تمزيقاً، وركز جهده على فتح ثغرة في مدخل سهل عين جالوت الشمالي، واستطاعوا بعد جهد شديد أن يفتحوا ثغرة، ووصلوا بالفعل إلى الخروج من سهل عين جالوت، وبدءوا في الفرار في اتجاه الشمال، ولكن جيوش المسلمين كانت تجري خلفهم، فلم يكن الغرض أبداً في هذه الموقعة هو الانتصار في موقعة عابرة، أو تحقيق كسب سياسي مؤقت يتفاوضون بعده أبداً، وإنما كان الغرض الواضح هو تحرير البلاد بكاملها عن طريق الجهاد في سبيل الله.
معركة بيسان وإبادة جيش التتار ===============
كان التتار يقطعون الأرض شمالاً، والمسلمون لا يتركونهم، ووصل التتار الفارون إلى بيسان، وهي على بعد حوالي (20) كيلو متر شمال شرق عين جالوت، فوجدوا أن المسلمين جادون في طلبهم، فلم يجدوا إلا أن يصطفوا من جديد للقتال، ولتدور موقعة أخرى عند بيسان، أجمع المؤرخون على أنها أصعب من عين جالوت وقاتل التتار قتالاً رهيباً، ودافعوا عن حياتهم بكل قوة، وبدءوا يضغطون على المسلمين, وكادوا أن يقلبوا الأمور لمصلحتهم، وابتلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً، وكانت هذه اللحظات من أحرج اللحظات في حياة القوات الإسلامية مطلقاً، ورأى قطز رحمه الله كل ذلك، فهو لم يكن أبداً قريباً من الأحداث، وإنما كان في وسطها رحمه الله، فانطلق رحمه الله يحفز الناس، ويدعوهم للثبات، ثم أطلق صيحته الخالدة مرة أخرى وقال: وا إسلاماه، وا إسلاماه، وا إسلاماه، قالها ثلاث مرات، ثم قال في تضرع: يا الله! انصر عبدك قطز على التتار.
الله أكبر، ما أحسن اعترافك يا قطز بعبوديتك في هذا المقام! فلستُ أنا الملكَ المظفر، ولستُ أنا أميرَ المسلمين، ولستُ أنا سلطانَ مصر، وإنما أنا عبدك.
ويا أيها المؤمنون الصادقون! كيف يلجأ العبد بصدق إلى الله عز وجل ويتركه الله عز وجل؟ هذا أبداً لا يكون.
دق قطز رحمه الله على الباب الذي ما طرقه صادق إلا وفُتح له، وتقرب رحمه الله إلى من بيده ملكوت السماوات والأرض، وعندما يخشع ملوك الأرض فلابد أن يرحم جبار السماوات والأرض، وكان خشوع قطز الصادق هو الجبل الذي وقع على جيش التتار، فأهلكهم بكاملهم، فما إن انتهى من دعائه وطلبه رحمه الله إلا وخارت قوى التتار تماماً، وبدأ الجنود الذين روعوا الأرض قبل ذلك يتساقطون كالذباب على أرض بيسان، وقضى المسلمون تماماً على أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وارتفعت راية الإسلام وتهاوت راية التتار.
وجاءت اللحظة التي انتظرها المسلمون منذ أربعين سنة أو يزيد،
وتخيلوا أنه في موقعة عين جالوت أُبيد جيش التتار بكامله، هل سمعتم عن هذا؟! أو هل سمعتم عن مثل ذلك؟! لقد أبيد جيش التتار بكامله! ولم يبق على قيد الحياة من هذا الجيش أحد أبداً، وفني الجيش الذي اجتاح نصف الكرة الأرضية، وسفك دماء الملايين وخرّب مئات المدن، وعاث في الأرض فساداً، وانتصر الجيش الإسلامي العظيم.
فهنيئاً لكم أيها المسلمون! بالنصر العظيم، وهنيئاً لك يا قطز ! فقد حان وقت قطف الثمار.
ولما رأى قطز رحمه الله جموع التتار صرعى على أرض بيسان المباركة، لم يفق ليتلقى التهنئة في ذلك الوقت ويرفع رأسه ويفتخر، بل إن أول شيء فعله رحمه الله أن نزل من على فرسه، ومرّغ وجهه على الأرض يسجد لله شكراً، ولم يدخله غرور المنتصرين، أو يرفع رأسه بزهو المتكبرين، ولم يشعر أنه قد فعل شيئاً، بل إن الفضل والمنة لله عز وجل، فهو الذي أنعم عليه واختاره ليكون مجاهداً، وهو الذي منّ عليه بالثبات، وهو الذي ألهمه الحكمة في القتال، والصواب في الرأي، وهو الذي هداه السبيل.
وهنا أيها المؤمنون! بيت القصيد، أن تعرف أنك عبد لله عز وجل، لا تُنصر إلا بنصره، ولا تنجو إلا برحمته، ولا تتحرك إلا بإرادته
إذا أردتم أن تعرفوا قيمة قطز رحمه الله في ميزان الإسلام، فانظروا إلى كثير من الزعماء الذين ينتفخون كِبراً وزهواً وفخراً، ويتطاولون على خلق الله، ويُصَعِّرون خدودهم للناس، ويمشون في الأرض مرحاً، وكأنهم يخرقون الأرض أو يبلغون الجبال طولاً! وما فعلوا لأمتهم معشار ما فعله قطز رحمه الله، بل على العكس كانوا وبالاً على شعوبهم، وكانوا مصيبة على أممهم.
وهنا تبرز قيمة قطز الحقيقية، وبضدها تتميز الأشياء.
ومن هنا فلا عجب أبداً أن يُنصر قطز رحمه الله، ولا عجب أيضاً أن يُخذل غيره، والله عز وجل لا يظلم أحداً أبداً.
يقول تعالى في كتابه الكريم:
وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ
قطز رحمه الله في زمان تمكين ولا سيادة، ولا في ظروف طيبة ومريحة، ولم يحكم البلاد وهي قوية قاهرة، لم يجلس على الكرسي وأموال دولته لا تحصى، بل كانت كل الظروف تقريباً ضده، لكنه استعان بالله، وعمل بصدق وإخلاص، وحفّز الآخرين على العمل معه، فكان لابد من الوصول.
ويوم يعمل المسلمون كما عمل قطز رحمه الله سيصلون حتماً إلى ما وصل إليه، وليس بالضرورة -كما تبين لنا في هذه القصة- أن يحتاج التغيير إلى سنوات أو قرون أو عقود، فقد كانت عين جالوت بعد عشرة أشهر فقط من تولي قطز مقاليد الأمور، ولكن من الضروري فعلاً أن يوجد المخلصون الصادقون العالمون العاملون، ووعد الله عز وجل لا يُخلف أبداً، وقد قال ربنا في كتابه الكريم:
إن معركة عين جالوت من أعظم المعارك في تاريخ الأرض، ولا شك أن آثارها لا تحصى ونتائجها لا تُعد، لا شك أن وراء هذا النصر أسباباً معروفة ووسائل معلومة، ولكن هذا الحديث يطول شرحه، وسنتحدث عنه بإذن الله في المحاضرة القادمة.
أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه،