منذ الأمس، شغل الميدان الليبي أذهان الكثيرين وخاصة بعد إعلان القاهرة لتسوية الأزمة الليبية بحضور كل من رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح، والقائد العام للجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر. وكان من أبرز المسؤولين المصريين الحاضرين، وزيري الدفاع والمخابرات العامة.
نظراً لسطوة الآلة الإعلامية التركية وأدواتها في الإقليم كـ "شبكة قنوات الجزيرة"، وذيولها من منصات صحافية وإعلامية تبدوا ظاهرياً مستقلة؛ تم تصدير صورة مبالغة بعض الشئ عن التطورات في الغرب الليبي في ضوء سيطرة ميليشيات الوفاق على مساحات كبيرة من الأراضي والمواقع الهامة استراتيجياً، مقابل تراجع لوحدات الجيش الليبي، ما أصاب العديد من المتابعين والمهتمين بالقلق، وخاصة بعد نجاح الآلة الإعلامية التركية في ترسيخ "هزيمة الجيش الليبي" علي نطاق واسع وإبراز التقدمات الميدانية للوفاق على أنها نصر ساحق ونهائي.. لكن قبل الخوض في حقيقة الوضع الميداني وخباياه وتأثيره علي الأمن القومي المصري، يجب أولاً الوقوف علي أهم مرتكزات إعلان القاهرة لتسوية الأزمة، مش لأنه مهم فقط، بل لتوقيته ومردوده علي المستويين الإقليمي والدولي، وقبل ده، لانه بيعكس تقديرات صانع القرار المصري..
------------------------------------------------------------------
إعلان القاهرة لتسوية الأزمة الليبية ارتكز علي ثلاثة نقاط رئيسية:
1- تكملة مسارات المؤتمرات والمساعي الدولية السابقة لتسوية الأزمة الليبية، مؤتمرات "باليرمو - باريس - روما - موسكو - برلين"، وخاصة الارتكاز على مخرجات مؤتمر برلين، ومساراته الثلاثة "سياسي - أمني - اقتصادي".
2- تفكيك الميليشيات المسلحة وتسليم أسلحتها.
3- استئناف مسار اللجنة العسكرية (5+5)، وإلزام "كل الجهات الأجنبية" بإخراج المرتزقة الأجانب من كافة الأراضي الليبية.
دي اهم ثلاث نقاط في المبادرة المصرية "إعلان القاهرة"، والحقيقة إن النقاط دي عبّرت وبوضوح عن رؤية صانع القرار للأزمة وتقديراته الميدانية لتطورات الصراع وكانت كالاتي:
1- إدراك صانع القرار المصري، بوجود فرصة حقيقية لحشد دعم دولي مؤثر لحل الصراع الليبي سياساً، أو علي الأقل يدفع بتهدئة وتيرة الاقتتال الداخلي وتعقُد شبكة الفاعلين بما يسببه ذلك من توليد أخطار جسيمة محدقة ليس بالامن القومي المصري فحسب، وبدول الجوار الليبي وحوض المتوسط "جنوب اوروبا".
2-المباردة المصرية عبرت عن نهج مصري متبع قبل أية احتمالات لاستخدام القوة لحماية مصالح وأمن الدولة المصرية، النهج ده بيكون دايما تقديم مبادرات للحل السلمي يليها إجراءات حازمة فيما لو ظل التهديد مستمراً.
3- المباردة أوضحت الهدف الأساسي لمصر من تسوية الصراع في ليبيا، وهو منع "سورنة" الصراع، أو بالأحري جعل الجغرافيا الليبية بيئة قاذفة بالتهديدات الغير نمطية للدولة المصرية، وهنا جاءت الصياغة متينة في " إلزام كافة الجهات الأجنية بإخراج المرتزقة من كافة الاراضي الليبية (روسيا +تركيا). إذ شوهدت عناصر فاغنر في محاور بني وليد وجنوب العاصمة كما وصل عدد المرتزقة السوريين في ليبيا 11 ألف من بينهم عناصر من تنظيمي داعش والقاعدة. هذا الكم الكبير من المرتزقة علي بعد 2000 كلم من الخاصرة الغربية المصرية يمثل تحدياً امنياً يجب تحجيمه على الفور.
لتصبح المحصلة؛ مباردة تحظي بدعم إقليمي (الامارات - السعودية - البحرين - الاردن - البرلمان العربي - الكويت)، و دولي (الولايات المتحدة - روسيا - بريطانيا - فرنسا - اليونان - ايطاليا).. مصفوفة الدول الاقليمية والدولية التي تدعم المبادرة المصرية أغلبها فاعل في الصراع الليبي بشكل أو بآخر. خلقت مصر مزاج دولي يرعي مبادرة السلام، و ده جعل عدم اللتزام الأطراف الاخري (تركيا - ميليشيات الوفاق) سلوك سيصعب من أي دعم دولي تحظي به انقرة وخاصة من "الناتو". ويضيق من هامش مناورتها أو علي أقل تقدير يدفعها نحو سياسات أحادية أخري غير متسقة مع مبادئ القانون والشرعية الدولية، وشرق المتوسط مثال.
----------------------------------------------------------------
مؤشرات أولية صادرة من حكومة الوفاق، تظهر عدم نية تركيا وميليشياتها في الغرب الالتزام بالمبادرة المصرية او حتي أخذها بمحمل من الجد.
هنا تصريحات وزير داخلية حكومة الوفاق، "فتحي باشا اغا"، بيؤكد علي استمرار الحل العسكري وبيعلن ان مدن سرت والجفرة وقواعدهم ستكون تحت مظلة حكومة الوفاق:
https://twitter.com/fathi_basha…/status/1269601732520226821…
صانع القرار المصري كان مدرك للتعاطي التركي - الميليشاوي مع المبادرة، ولذلك أكد وكرر الرئيس تحذيره لأي طرف من الاستمرار في الحل العسكري، و ده معناه، إن هنالك خطوط حمراء لن يُسمح بتعديها، أو بصورة كلية، لن يسمح بتهديد الخاصرة الجنوبية الغربية المصرية من خلال أي مكتسبات ميدانية آنية - مرحلية، لتركيا وميليشياتها المسلحة.
مصر، تمتلك ثلاثة خطوط دفاع رئيسية في ليبيا، زي ما خطوط الدفاع دي بتقوم بحماية الامن القومي المصري، فهي تُعبر وبحق عن أمل ليبيا في الحصول علي دولة وطنية جامعة لكل الأطياف .. الخطوط الثلاثة دي (طبرق - درنة - بنغازي) + سرت والجفرة.
الخطوط الدفاعية الثلاثة في الشرق الليبي قامت بتأمين الهلال النفطي والحوض الجنوبي الممتد من سبها لـ مرزق. هذه المساحة الشاسعة خالية الآن من أي وجود ميليشاوي او لتنظيمات القاعدة وداعش، لكن مؤخراً عاد تنظيم داعش بالتوازي مع الانخراط العسكري التركي وقام بتنفيذ هجمات صاروخية علي أهداف للجيش الليبي في الجنوب:
https://twitter.com/azelin/status/1263838560983056386?s=20
لكن الهجمات دي لا تعني وجود التنظيمات الارهابية علي الارض كالسابق.
---------------------------------------------------------------
تقديرات الوضع الميداني:
هستأذنك حضراتكم تركزوا معايا في الخرايط الثلاثة المرقمة. ابدأ برقم 3 ثم 2 ثم 1.
اللون الاحمر= الجيش الوطني الليبي
اللون الأزرق= ميليشيات الوفاق "وكلاء تركيا"
رقم 1= الوضع الميداني أواخر 2018
رقم2= الوضع الميداني أواخر 2019
رقم3= الوضع الميداني في وقت كتابة هذه السطور.
ملاحظات أولية:
- الجيش الليبي مازال مسيطراً علي أكثر من 80% من مساحة البلاد بما فيها من مطارات وموانئ مهمة.
- الوضع الحالي يماثل الوضع في إبريل 2019، لكن لا يطابقه.
- مازالت ميليشيات الوفاق محصورة في جيوب عسكرية - هذه المرة مساحتها تتضاعف -
- خسارة قاعدة الوطية في 19 مايو كان انتكاسة حقيقية للجيش الليبي ولتوزيع حضوره في الغرب.
تهديدات الوضع الميداني الحالي:
- فتح شهية الاتراك وميليشياتهم للتوجه نحو مدينة سرت والجفرة، وبالتالي السيطرة علي منطقة الهلال النفطي.
- التنسيق مع المعارضة التشادية بقيادة تيمان ارديمي المقيم في الدوحة، لتهديد الحوض الجنوبي الليبي. هذه المنطقة شهدت تضافراً بين مختلف التنظيمات الارهابية علي مدار السنوات الثلاث الماضية في استهداف الجيش الليبي. لكن حتي الان تعتبر جبهة الجنوب هي الأكثر هدوءاً.
----------------------------------------------------------------
صانع القرار المصري .. الاستراتيجية الشاملة في مواجهة التحركات التكتيكية قصيرة المدي
مصر في مايو من العام 2017، نفذت غارات جوية دقيقة للغاية باستخدام مقاتلات الرفال لضرب أهداف "معادية" داخل مدينة الجفرة في الوسط الليبي. وقبلها بعامين، نفذت القاهرة واحدة من أكبر عمليات القصف الجراحي الدقيق لأهداف داعش والقاعدة داخل مدينة درنة.
- مصر تظهر عدم تردد في استخدام القوة العسكرية.
- مصر لديها فائض كبير من القوة العسكرية لكن لا تسمح باستنزافه في معارك وافخاخ مخطط لها بعناية.. بمعني، تحقيق أقصي حماية للأمن القومي المصري بأقل تكلفة ممكنة، وذلك لتوجيه كافة الموارد نحو المعركة الأهم والأصعب .. معركة التنمية. لأنها ببساطة أصل الدفاع.
الكثير ممتعض من التعاطي المصري بالأزمة الليبية وكأن التحركات العسكرية عبارة عن نٌزهة مسلية. الموقف الميداني الحالي في ليبيا ليس في أفضل احواله، ولكنه ليس في اكثر مراحله سوءاً.
التدخل العسكري المصري اتخذ النهج الاستباقي، ولن يتخذ نهجاً استعمارياً تحت مزاعم الدفاع عن النفس. لذلك فإن منظومة الردع المصرية ولأول مرة تأخذ نمطاً مٌركبّاً (قدرة عسكرية + تحالفات استراتيجية تقوم علي مصالح اقتصادية وليست اعتبارات ايديولوجية او امنية بحتة) و ده معناه ثبات هذه التحالفات أمام بلطجة تركية تحظي بضوء أخضر من بعض الفاعلين الدوليين.
تركيا تقتات علي معادلة بسيطة، تخفيف انخراط القوي الدولية عسكرياً في المنطقة، مقابل اقرار هذه القوي بأدوار تركيا التوسعية ولو بصورة ضمنية. و ده بيخلي المعركة تطول، لكن ما بيديش قوة مضاعفة لتركيا اللي أصبحت في مبارزة استراتيجية حامية الوطيس مع العقل المصري، بل ومجمل القدرات المصرية. ليبيا مسرح من مسارح ونقاط هذه المبارز الاستراتيجية. الرئيس المصري لا يمتهن العنتريات، لكن حينما يتحدث عن تحذير، فيجب أن تضعه بعين الاعتبار.
وعليه، فإن التعاطي المصري مع الأزمة الليبية، سيقوم علي تقديم الحلول السلمية، بالتوازي مع درء أية اخطار ناجمة عن تهور البعض واندفاعهم نحو قلب ميزان القوي لما قبل فترة إبريل 2019.
يجب الا يقع أحداً فريسة لسطوة الالة الاعلامية لتركيا في الاقليم، انظر للأمر بعقل بارد، وقلب مؤمن، وثقة بأن القوات المسلحة المصرية لن تسمح بتوطين الارهاب داخل حدود مصر، وفي مجالها الحيوي.
مصر باقية..