شكرا "دولة الرئيس"
عوني القلمجي
ليس من السهل التصدي للحكومة الجديدة بعد تشكيلها بايام معدودات، او قبل ان يتبين خيرها من شرها، لولا المساعدة القيمة التي قدمها مشكورا رئيسها عادل عبد المهدي. ففي الوقت الذي كال لها المديح ووصفها بانها "حكومة تكنوقراط نزيهة وبعيدة عن المحاصصة الطائفية وبعيدة عن الفساد والفاسدين والوجوه القديمة"، اظهرت نتائج تشكيلها غير ذلك تماما، الى درجة تجعل الدفاع عنها، من قبل اقرب الناس اليها، مهمة صعبة وشاقة، على الرغم من الدعم والاسناد الذي حظيت به من قبل المرجعية الدينية ذات التاثير الواسع، ومن قبل مقتدى الصدر الذي يمثل اكبر تيار شعبي في العراق.
دعونا نتفحص هذه المسالة ونسطر تفاصيلها على الصفحة الاولى في سجل حكومة الاحتلال الخامسة. فمن بين ال 14 وزير الذين نالو ثقة البرلمان، كان نصيب الكتل والاحزاب الطائفية منها 11 وزير، والثلاثة الباقين هم بمثابة اعضاء في هذه الكتل والاحزاب، حيث قدم كل واحد منهم تعهد لهذه الكتلة او هذا الحزب الذي رشحه، حسب تصريح زعيم كتلة الفتح هادي العامري. ولا يفيد عادل عبد المهدي الهروب من هذه الحقيقة، حين حول هذه الارقام الى نسب مئوية بقوله، ان 70% من الوزراء كانت من نصيب الكتل والاحزاب، و 30% من نصيب "المستقلين". ليس هذا فحسب، فالمحاصصة جرى تثبيتها ايضا بالنسبة للوزارات السيادية، حيث احتفظ "المكون الشيعي" بوزارة الخارجية والنفط والداخلية لاحقا، واحتفظ "المكون الكردي" بوزارة المالية، وتم حجز مقعد وزارة الدفاع "للمكون السني"، بالضبط كما حدث مع الرئاسات الثلاثة، حيث نال الكرد رئاسة الجمهورية و"السنة" رئاسة البرلمان و"الشيعة" رئاسة الحكومة.
اما الفاسدون والفساد، فقد اختفى اثرهما في برنامج الحكومة، الذي تم عرضه على البرلمان. حيث شدد البرنامج على خمسة محاور، حصرت ب "استكمال بناء أسس الدولة الاتحادية الواحدة، ونظامها الجمهوري النيابي الديمقراطي، وسيادة النظام والقانون وتعزيز الأمن الداخلي والخارجي، والاستثمار الأمثل للطاقة والموارد المائية، وتقوية الاقتصاد، والخدمات والتنمية البشرية والمجتمعية. وهذا امر طبيعي جدا، اذا كيف يقضي الفاسدون على الفساد، وكيف يحاسب الفاسدون انفسهم. وكان اكثر ما يدعو للسخرية، هي الوجوه القديمة، فبدل ان يختفي هؤلاء في مثل هذه المناسبة احتراما للناس، او خشية من التعرض لهم بالسباب والشتائم، تصدرت هذه الوجوه الكالحة قاعة البرلمان وشاشات التلفزة وصفحات الجرائد والمجلات. ومعلوم ان عادل عبد المهدي نفسه من هذه الوجوه القديمة، اضافة الى كونه زميل مبدع في منظومة الفساد والفاسدين.
يبقى الختام الذي اسمه التكنوقراط، فالله سبحانه وتعالى قد ختم، في هذا الخصوص بالذات، على قلب عادل عبد المهدي وعلى سمعه وعلى بصره غشاوة. اذ لم يحسن وضع هذا التكنوقراط او ذاك في مكانه المناسب. فخريج الادب الانكليزي صار وزير للمالية، والمهندس المدني نسب لوزارة التجارة، والمختص بالتربية والاحصاء تلقد منصب وزير الخارجية، وصاحب شهادة العلوم السياسية لوزارة الكهرباء، والمختص في علوم الفيزياء لوزارة الشباب والرياضة. والخبير بعلم الرياضيات اصبح وزير الاعمار والاسكان، ولولا الفضيحة لقبل عادل عبد المهدي تنسيب زعيم ميليشيا عصائب الحق، قيس الخزعلي، لوزارة الثقافة.
ومع ذلك فاصحاب الشهادات او التكنوقراطي ليس بالضرورة ان يكون وطنيا او نزيها او حتى كفوءا. فتجربة التكنوقراط مع مجلس الحكم، الذي اسسه الحاكم المدني بول بريمر خير دليل، حيث توزع اعضائه ال 25 ما بين طبيب مثل ابراهيم الجعفري واياد علاوي وموفق الربيعي ومحمود عثمان وسلامة الخفاجي، ورجال قانون مثل دارا نوري وجلال الطالباني وعدنان الباجه جي ونصير الجادرجي، ومهندس مثل ويونادم كنة ورجال اقتصاد مثل احمد الجلبي وحميد مجيد موسى، واكاديميون مثل محسن عبد الحميد ورجاء الخزاعي. وحتى الرجل العشائري الذي يرتدي العباءة والعقال، عجيل الياور، فهو مهندس مدني وماجيستير من جامعة واشنطن. وفي ظل هؤلاء التكنوقراط دمر العراق وسرقت امواله وبددت ثرواته وشرد ابنائه وهجرت عوائله وهدمت مدنه، وانتهك استقلاله وسيادته، والقائمة بهذا الخصوص طويلة ومؤلمة.
وفق هذا السياق، فان المشكلة الرئيسية التي كانت سببا في دمار والبلاد والعباد، ليس لها علاقة بصفة الحكومة، اذا كانت حكومة تكنوقراط او حكومة اميين، عابرة للطائفية او بعيدة عنها، قوية او ضعيفة، مستقلة او حزبية، حكومة اغلبية او توافقية. ولا علاقة لها ايضا بصفة رئيسها، اذا كان، دكتاتورا او ديمقراطيا، متساهلا او متشددا، قاسيا او رحيما. وانما تكمن المشكلة اصلا في صفات اخرى، لا يمكن من دون توفرها تحقيق اي مكسب وطني. فبالاضافة الى توفر النزاهة والكفاءة وحب الوطن، ينبغي ان تكون الحكومة وطنية ومستقلة وبعيدة عن اية تدخلات اجنبية او تاثيرات خارجية. ترى هل تمتلك حكومات ما بعد الاحتلال هذه المواصفات حتى تكون في خدمة الشعب؟ ام ان حكوماتنا جميعا تعمل باراد المحتل، الذي من بين اهم اهدافه تدمير العراق دولة ومجتمع؟ هنا بيت القصيد ومربط الفرس.
لا يوجد سبب واحد يدعوني الى انكار الحقيقة القائلة، بان امريكا على وجه الخصوص ووصيفتها ايران، هما من يهيمن على العراق ويتحكم في ادارة شؤونه ويرسم قراراته، ومنها تشكيل الحكومة وتسمية رئيسها واعضاء وزارتها، وحتى تحديد يوم اعلانها، اما العملية السياسية التي تعد الغطاء القانوني للحكومة، فقد جرى تصميمها بما لا تسمح لاي وطني او كفاءه علمية او سياسية بتحقيق اي برنامج وطني، حتى في حدوده الدنيا، وما حدث فيما يخص تشكيل الحكومة الجديدة يؤكد هذه الحقيقة. ففي الوقت الذي كانت فيه القوائم الفائزة تتصارع فيما بينها لتشكيل الكتلة الاكبر والفوز بتشكيل الحكومة، اتفق في وضح النهار مندوب امريكا بريت ماكغورك ومندوب ايران قاسم سليماني على تسمية رئيس الوزراء، من خارج هذه الكتل، وهو عادل عبد المهدي، دون ان يتمكن احدا من الاعتراض او ينبس ببنت شفة، بل قدموا فروض الولاء والطاعة للقدام الجديد لنيل حصة اكبر في الحكومة الجديدة.
ما يحدث ليس بجديد، فالمحتل لم يات بما لم يات به الاوائل، فكل حكومات الاحتلال المنصبة من قبله، وعبر عصور التاريخ المختلفة، يجري توظيفها، شاءت ام ابت، لخدمة المحتل وتكريس احتلاله، وليس من اجل خدمة البلد المحتل واهله . ليس هذا فحسب، وانما يصبح من واجبات هذه الحكومات تسهيل مخطط المحتل لتهديم البلد وتقسيمه وتمزيق وحدة مجتمعه. ولقد اثبتت حكومات الاحتلال الخمسة في العراق هذه الحقيقة، وجسدتها باجلى صورها، حيث امعنت جميعها في سياسة تخريب البلاد دولة ومجتمع. ولضمان بقاء المحتل لعقود طويلة من الزمن ترغم هذه الحكومات على ربط العراق باتفاقيات ومعاهدات جائرة، منها عسكرية وامنية واقتصادية، تجعل من العراق ولاية تابعة للمحتل. وخير مثال على ذلك، الاتفاقية الامنية التي عقدتها امريكا مع العراق والتي اصبح البلد بموجبها مستعمرة امريكية بامتياز.
دعونا نغير الاتجاه قليلا ونسير مع الكذاب الى حد الباب كما يقال، ونعتبر حكومة عبد المهدي جادة في تنفيذ برنامجها الاصلاحي المفبرك، وان المحتلين قد اجبروا على السكوت لاي سبب كان، ترى الا يتطلب الاصلاح وجود دولة مدنية مستقلة، تعتمد على دستور وطني، وعلى بناء اقتصادي واجتماعي وبنى تحتية مؤهلة وخدمات متطورة؟
من الصعب الاعتراف بوجود مثل هذه الدولة في العراق، او ادنى منها بكثير، اذ لا يكفي وجود حكومة وبرلمان وقضاء ومحاكم، فكل هذه العناصر تمثل مكونات الدولة وليس مقوماتها، ومعلوم حجم الفرق الكبير بين الاثنين. فالدستور مثلا ، كونه الركن الاول في هذه المقومات، كتبه المحتل الامريكي وعلى يد، الصهيوني نوح فلدمان وباللغة بالانكليزية، ثم تمت ترجمته في العراق الى اللغة العربية حسب اعتراف اكثر من مسؤول عراقي، ولم يجر اي تعديل عليه، سوى بعض الاضافات التي ضمنت مكاسب وحماية هذه الجهة او تلك.
وبالاضافة الى الدستور ياتي القانون، الذي من مظاهر قوته خضوع الحاكم والمحكوم له، لكي تصبح الدولة بموجبه دولة قانون فعلا، وليس دولة قانون كما يراها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. ولا يختلف اثنان بان الدولة في العراق لا يحكمها القانون، وانما تحكمها المليشيات المسلحة من جهة، والدولة العميقة من جهة اخرى.
اما البناء الاقتصادي والاجتماعي والتنمية، فسنجد نموذجا سيئا عنه في العراق المحتل، حيث تم تحطيم الاقتصاد العراقي عبر افة الفساد والفاسدين، وتدمير جميع البنى التحتية وتحطيم كافة المؤسسات الخدمية والتعليمية والصحية، اما الديمقراطية التي هي من مقومات الدولة الاساسية، والتي احتل العراق تحت يافطتها، فاننا لا نجد فيها ما يمت بصلة لتعريف الديمقراطية من قبل عالم الاجتماع الفرنسي الشهير الان تورين بقوله، "ان الديمقراطية نسق مركب من عدة عناصر اجتماعية وحقوقية واقتصادية وفردية ومعرفية مترابطة ومتفاعلة قائمة على الفصل بين المجتمع السياسي والمجتمع الأهلي، حيث لا قيمة للعملية الانتخابية اذا لم ترافقها حريات واسعة للتجمع والتعبير وخطط التنمية البشرية المستدامة وإصلاح سياسي يؤدي الى الفصل بين الدولة والدين.
ولكي لا نطيل اكثر، وباختصار شديد جدا جدا، فان اية مراهنة على تحقيق الاصلاح على يد حكومة عادل عبد المهدي او غيرها، انما هو ضرب من الخيال، كونها تفتقد الى جميع مكونات ومقومات الدولة، ولا يغير من هذه الحقيقة قيام الحكومة الجديدة في الشهور القادمة ببعض الاصلاحات الشكلية، فهذه ليست سوى ذر الرماد في العيون، الهدف منها امتصاص نقمة العراقيين وغضبهم من جهة، ومن جهة اخرى قطع الطريق على اية انتفاضية شعبية قد تندلع في اي وقت وتجبرها، اما على الرحيل ومواجهة مصيرها الاسود، او المثول امام الشعب والاستجابة الى جميع مطالبه السياسية والاجتماعية والخدمية كاملة غير منقوصة، وفي كلا الحالتين سينتصر العراق واهله ويهزم المحتل وعملائه واتباعه ومريديه.
عن موقع العراق للجميع