إدارة الحروب وحوار الإرادات

a_aziz

عضو
إنضم
23 ديسمبر 2007
المشاركات
9,399
التفاعل
267 0 0
بسام العسلي

خاضت الجيوش الأمريكية في السنوات الأخيرة مجموعة من الحروب، كان من أبرزها حرب كوسوفو 1999م، والحرب الأفغانية 2001م، علاوة على حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت 1991م)، وجرى تصنيف إدارة هذه الحروب جميعاً في إطار (الحروب النظامية التقليدية غير المتماثلة). ومقابل ذلك لم تكن ردود الفعل الدفاعية في مواجهة هذه الحروب الهجومية متماثلة، إذ احتفظت كل حرب بخصائصها المميزة، وكان ذلك برهاناً حاسماً على التمايز في حوار الإرادات المتصارعة تبعاً للعوامل المكونة للصراع المسلح على الجبهتين الهجومية والدفاعية، وإذا ما أضيفت إلى ذلك تجربة حرب القوات الروسية في الشيشان، والحرب الإسرائيلية في فلسطين، فسيظهر بوضوح أن حوار الإرادات المتصارعة هو حوار شديد الاتصال بخلاصة التجارب التاريخية للحروب، إلا أنه في الوقت ذاته حوار يحدد لحروب المستقبل نماذج مميزة للصراع تتجاوز حدود توازنات وأثقال موازين القوى العسكرية التقليدية لتتصل بعدالة قضية الحرب.

1 محاولة التعلم في مدرسة الحرب


عمل الرئيس الأمريكي (جورج بوش) على تقليد أعلى وسام مدني لكل من الحاكم الإداري السابق في العراق (بول بريمر)، والجنرال المتقاعد (توني فرانكس)، والمدير السابق لوكالة المخابرات الأمريكية المركزية (سي آي إيه) (جورج تينت)، وذلك يوم 14 كانون الأول ديسمبر 2004م، على اعتبار أن الثلاثة قد ساهموا بشكل خاص في الأمن القومي والمصلحة الأمريكية العليا والسلام العالمي.
ويُذكر أن (بول بريمر) بقي حاكماً للعراق حتى 28 حزيران يونيو 2004م، حيث عمل يومها على تسليم السلطة للحكومة العراقية المؤقتة. وبهذه المناسبة صرح وزير الدفاع الأمريكي (دونالد رامسفيلد) بالحقيقة التالية: "لقد قللنا قبل الحرب من قوة المقاومة العراقية التي ستواجهها القوات الأمريكية هناك في العراق". وقبل ذلك، وعندما فجّر (أريئيل شارون) انتفاضة الأقصى يوم 28 أيلول سبتمبر 2000م، تعهد الرئيس الأمريكي جورج بوش بالقضاء على الانتفاضة في غضون ثلاثة أشهر، وحصل (شارون) على حرية العمل العسكري الكاملة، وانقضت المهلة المحددة، ولحقت بها مهلة أخرى، فثالثة، ودخلت الانتفاضة سنتها الخامسة، وبقي (شارون) محتفظاً بموقعه وأفكاره وإحباطاته. ويعني ذلك بوضوح أن (شارون) لم يتمكن من معرفة الشعب الفلسطيني وقدراته الكامنة، مثلما فشلت القيادة الأمريكية في معرفة الشعب العراقي وقدراته، رغم توافر مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية والعسكرية والسياسية والاجتماعية في كل من إسرائيل والولايات المتحدة، ورغم وفرة الإنتاج في هذه المراكز لمساعدة القيادات في اتخاذ القرارات الصحيحة.
لقد صرّح الكولونيل الأمريكي (مايك غرير) نائب مدير القيادة المركزية الأمريكية التي تضطلع بمسؤولية الأعمال العسكرية في الشرق الأوسط، والقرن الأفريقي، وآسيا الوسطى بأن الولايات المتحدة أجرت استشارات مكثفة طوال العامين الماضيين مع مجموعة من القادة العسكريين ضمت (26) ضابطاً من (20) دولة من أوروبا، وباكستان، واستراليا، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، وأمريكا... وسواها، وحملت هذه المجموعة اسم (مجموعة التخطيط الموحدة)، وقدمت نصائح شجاعة وصريحة كان لها أثر بالغ على الاستراتيجية الأمريكية، ولكن وبينما كان (الكولونيك مايك غرير) يدلي بتصريحه هذا يوم 8 كانون الثاني يناير 2005م، كانت الساحة العراقية تشهد تصعيداً خطيراً في الأعمال القتالية، مع إصدار بيانات عن المقاومة بأن الحرب ضد القوات الأجنبية ستستمر حتى يتم إخراجها من العراق، فيما كانت القيادة الأمريكية تؤكد بدورها أن (قوات التحالف) ستمكث في العراق إلى ما بعد الانتخابات طالما بقيت ضرورة لبقائها من أجل ضمان (الأمن والاستقرار).
ويظهر ذلك بوضوح أن الطرف الأمريكي مصمم على التمسُّك بخيار الحسم في حوار الإرادات المتصارعة قدر التزام المقاومة العراقية بخيار الحسم أيضاً حتى بلوغ هدف الحرب، ويحاول كل طرف استثمار أخطاء الطرف الآخر لحمله على تغيير قناعاته، ولإرغامه على تغيير وسائل الحوار. وقد يختلف شكل الحوار وطريقته بين إسرائيل والشعب الفلسطيني أيضاً، غير أن سياسة الحروب بقيت هي المهيمنة وهي المسيطرة على مسارح الصراع وعلى كل الجبهات في العراق وفلسطين كما في أفغانستان والشيشان، فهل هناك ما يمكن تعلمه في مدرسة الحرب الحديثة؟
ربما كان من المحال الإحاطة بذلك الركام الهائل من الأبحاث والدراسات والمؤلفات والمناظرات التي تلاحقت للظهور خلال مرحلة (ما أُطلق عليه اسم الحرب على الإرهاب)، غير أن هذا المجموع الهائل من الجهد الفكري يؤكد حقيقة الحاجة للتعلم من الحرب في إطار تطور حوار الإرادات المتصارعة بطرائقه وأساليبه الجديدة.
ومن هنا، فإن ما تضمنه التقرير السنوي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية لندن، والذي صدر في 18 تشرين الأول أكتوبر 2004م لا يشكِّل أكثر من نموذج لمحاولة التعلم من مدرسة الحرب العراقية بخاصة. وكان مما تضمنه هذا التقرير الذي سبقت الإشارة إليه ما يلي: "... أصبحت عقول أهل الأرض وقلوبهم موجهة نحو الأرض التي يتم الاستيلاء عليها خلال مرحلة ما بعد الحرب، ويجب على حكومات دول التحالف أن تدرك بأن هذه العملية تحتاج لكثافة بشرية عالية للمحافظة على الأمن وحماية السلام، حيث يحل العامل البشري محل منظومات الأسلحة المشاركة في الحرب، وذلك لتحقيق النجاح، وأصبح لزاماً على الولايات المتحدة الأمريكية أن تتعلم من تجربة العراق، بأنها تحتاج لقدرة بشرية أكبر، وذات كفاءات عالية ومهارات إضافية للتعامل مع أوضاع ما بعد الحرب؛ فالمجندون وجنود الاحتياط غير المدربين بدرجة كافية، وشركات الجيوش الخاصة المرتزقة لا يمكن أن تضطلع بتنفيذ واجبات جنود القوات النظامية ذات التدريب
الجيد.
لقد أمكن التحوُّل بسرعة من حالة الحرب إلى حالة جديدة كانت تحتاج لدعم السكان المدنيين بصورة أساسية . ولم يكن استخدام جنود الاحتياط الذين توافرت لهم درجة محدودة من التدريب، أو مهارات غير مطلوبة هو البديل المناسب عن الجنود الذين تتوافر لهم ظروف التدريب الكامل. وكان لزاماً على الولايات المتحدة أن تتعلم من هذه التجربة التي أبرزتها فضيحة (سجن أبو غريب في العراق)، وأن يكون ثمن هذا الدرس غالياً، كما أن هذا الإدارة الأمريكية أعلنت صراحة عندما قامت بغزو العراق واحتلاله أنها تريد تغيير الوضع القائم في العالم العربي لتحقيق مصالح سياسية واستراتيجية أمريكية، لذلك فمن المرجح أن يؤدي ذلك مباشرة إلى تجنيد مجاهدين وتكثيف دوافع القاعدة، لتشجيع ومساعدة الأعمال الإرهابية. ولقد كان عدد كبار وقادة تنظيم القاعدة في حدود (30) رجلاً، أمكن قتل نصفهم أو اعتقالهم منذ هجمات 11 أيلول سبتمبر 2001م، لكن هناك أكثر من (20) ألف مقاتل ممن تلقوا تدريبهم على أرض أفغانستان، وهؤلاء مازالوا أحراراً طلقاء ولديهم قدرات ودوافع قوية، بحيث يمكن القول إن مخاطر الإرهاب على الغربيين قد زادت بعد شن الحرب على العراق.
ويظهر من خلال استعراض معظم ما ظهر من أبحاث ودراسات للتعلم من تجربة حرب العراق بخاصة، أن هناك قواسم مشتركة تمارس دورها في توجيه تلك الأبحاث على محاور محددة منها:

أولاً: تجاهل قضية الحرب ذاتها، أو التعرُّض لشرعيتها وعدالتها، أو معالجة أهدافها، والتعامل مع الهجوم على أفغانستان ثم على العراق، باعتبار أن ذلك (قرار سياسي عسكري) لا يقبل الجدل ولا النقاش ولا التقويم.
ثانياً: أن أهداف الأبحاث هو مساعدة القوات على تنفيذ واجباتها بنجاح، وبالحد الأدنى من الخسائر، عبر عمل سياسي واقتصادي وإعلامي وعسكري متكامل، مع التركيز على دور القوات الأمريكية ذات الكفاءة العالية.

ثالثاً: إضفاء صفة (الشرعية) على عمل القوات الأمريكية (أو قوات التحالف)، وحرمان المقاومة من صفتها الشرعية، سواء عبر تصنيفها مع الأعمال الإرهابية أو وصفها بالتمرد أو العصيان، وذلك في محاولة تطوير الحرب إلى أعمال اقتتال محلية (أو حروب أهلية) كما في التجربة الكورية ثم الفيتنامية وأخيراً العراقية.

رابعاً: لقد كان هدف الحرب على العراق هو تكوين القاعدة الصلبة لبناء النظام العالمي الجديد، ولقد تراجع هذا الهدف مرحلياً عن دائرة الضوء، غير أنه بقي ماثلاً بوضوح أمام أنظار صانعي القرارات السياسية العسكرية في البيت الأبيض والبنتاجون، كما هو أيضاً أمام أنظار مراكز الأبحاث السياسية والاستراتيجية.
2 الإعداد للحروب القادمة
عمل (المجلس القومي للمخابرات الأمريكية) على إعداد تقرير موضوعه: (التخطيط لمستقبل العالم)، وتم نشره في 13 كانون الثاني يناير 2005م، وكان مما تضمنه هذا التقرير ما يلي: "تتغذى جماعات متطرفة عديدة وغير مركزية على العولمة، وستحل هذه الجماعات محل تنظيم القاعدة في شن هجمات جديدة في العالم، ذلك في حدود الأفق المنظور حتى سنة 2020م، وإن الحرب على العراق والصراعات الأخرى المحتملة في المستقبل ستتيح فرص تجنيد أعضاء جدد، وتنظيم مراكز للتدريب وتوفير مهارات فنية متنوعة، وتكوين كفاءات عفوية لطبعة جديدة من الإرهابيين.
وعلى الرغم من أن أعضاء هذه التنظيمات سيستخدمون على الأغلب أسلحة ووسائط تقليدية، إلا أن هناك قلقاً كبيراً بشأن احتمال حصول هذه الجماعات على مواد بيولوجية أو معدات نووية، بحيث يمكن لأي منها في حال استخدامها التسبب في وقوع خسائر بشرية كبيرة. إن أوضاع العالم ستتطور خلال الخمس عشرة سنة القادمة، مما يفرض على أجهزة المخابرات ورجال الساسة وكبار القادة الاستعداد لمواجهة هذه التحديات، وستكون العولمة هي الجهاز المحرّك في تشكيل كل التيارات، إذ على الرغم من أن هذه العولمة ستساعد الاقتصاد العالمي على النمو بزيادة قد تصل إلى ثمانين بالمئة حتى العام 2020م، مما سيؤدي إلى ارتفاع دخل الفرد بنسبة خمسين بالمئة، إلاّ أن ذلك سيؤدي في الوقت ذاته إلى زيادة تباعد طرفي الهوة الفاصلة بين من يملكون وبين من لا يملكون، بين الأغنياء وبين الفقراء، مما سيشكّل التربة الخصبة لتجنيد المزيد من المتطرفين، وإن الدول التي ستتكيف بشكل أفضل مع التقدم التكنولوجي ستنتعش بدرجة أكبر، وبذلك لن تكون فوائد العولمة متساوية في العالم، ولن يكون تأثيرها جيداً، لأن قطاعاً كبيراً من العالم سيتخلف".
ومما هو جدير بالذكر أن هذا التقرير ليس سرِّياً، إذ قام بإشهار مضمونه نائب رئيس المجلس القومي للمخابرات الأمريكية (ديفيد غوردون) في مؤتمر صحفي، وقد تم إعداده بالتشاور مع أكثر من ألف خبير من العاملين في أجهزة الاستخبارات في قارات العالم الخمس، وأحد مضامينه يتركز على موضوع (السلام الأمريكي) واستمرار الهيمنة الأمريكية في عالم سياسي غير مستقر، وبالتالي فإنه لا يمكن اعتبار هذا التقرير ونظائره حالة من حالات (الترف الفكري)، أو أنه إفراز (رجال فكر متبطرين) لا صلة لهم بالواقع العالمي، إذ إن مضمون التقرير لا يتجاهل حقيقة احتمال تشكّل حركة عقائدية (دينية) ذات قوة عالمية، وتمتلك القدرة على تحدي (العولمة)، كما أنه يستخلص من تجربة حرب العراق بخاصة أنواع التنظيمات القتالية والأسلحة وطرائق العمل لمواجهة التحديات المحتملة والمتوقعة.
يبدو بالتالي أنه لابد من وقفة عجلى عند ما تعده الولايات المتحدة أو حتى بعض ما تعده للحروب القادمة، على أن هذا الإعداد يعني ببساطة تصنيع الظروف السياسية والمناخ الفكري العقائدي، وتهيئة الوسائط العسكرية لمجابهة متطلبات مثل هذه الحرب، وحتى وضع (سيناريوهات) أو حوارات ما هو متوقع للتطورات المحتملة في حدود ميادين القتال بخاصة، ومن ذلك:

أولاً: الابتعاد عن التعامل مع مكونات حروب المستقبل، والتركيز على عامل (الإرهاب الديني الإسلامي) بعد أن ظهرت النتائج الإيجابية في زج معظم قوي العالم الكبرى والصغرى في تيار (محاربة الإرهاب)، مما يسمح بإهمال عوامل الخلاف أو التناقضات التي قد تقترن بتفجر الحروب، ويعني ذلك تجاهل عدد من الحقائق التي أكّدتها تجربة (الحرب على الإرهاب في فلسطين والعراق وحتى أفغانستان والشيشان)، ومنها حقيقة أن المبالغة في استخدام أية وسيلة أو طريقة، تشكّل سلاحاً ذا حدين، مما يؤدي إلى استنزاف تلك الوسيلة وإسقاطها، ومن ذلك أيضاً أن الدول الكبرى وهي الأطراف المباشرة أو غير المباشرة في مثل هذه الحروب ستترجم أهداف الحروب بلغاتها الخاصة وفي إطار مصالحها الذاتية، مما يضع أعباء هذه الحروب على كاهل أمريكا، ومما يقدم ثمار الحروب ونتائجها صافية ونظيفة لتلك الدول.
ومن المؤكد أن تُوجَّه مراكز الأبحاث والدراسات الأمريكية للتعرُّف على (قواعد الحروب الإسلامية)، ومبادئ الجهاد في سبيل الله، ومضامين الجهاد وأهدافه حيث يشكل ذلك التوجيه حلقة في مسلسل الإعداد الفكري والسياسي (العقائدي) لما هو متوقع من تطورات الحروب القادمة.

ثانياً: التركيز على (العامل الاقتصادي) باعتباره هو الذي يصنع التربة الخصبة لزراعة بذور الإرهاب وتشكيلات الإرهابيين، وليس هناك يقيناً من ينكر دور العامل الاقتصادي في تكوين الظروف التي تشكل التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية، ولكن، ألم تعترف الإدارة الأمريكية منذ بداية إعلان الحرب على تنظيم (طالبان) و (تنظيم القاعدة) أن هذه التنظيمات لا تريد (مالاً)، ولا تعتمد على أرصدتها المادية المحدودة التي لا يمكن مقارنتها أبداً بالقدرات الاقتصادية الأمريكية من أجل ممارسة أعمال الإرهاب؟ ألم يكن ذلك اعترافاً ضمنياً بأن العامل المادي (المالي) ليس أكثر من مجرد وسيلة لتأمين متطلبات الأعمال الموصوفة بالتطرف والإرهاب؟ وهل كانت الوسائل التي استخدمت في أحداث يوم 11 أيلول سبتمبر 2001م، هي ذات طابع مالي، أم كانت ثمرة جهد فكري أمكن من خلاله الإفادة من القدرات الأمريكية والأموال الأمريكية؟ وهل كان العامل المادي الاقتصادي هو العامل المحرّك لصانعي ما يسمى بأحداث الإرهاب، أم كان هو العامل الفكري العقائدي الذي شكلته التحديات الأمريكية الإسرائيلية بخاصة؟
لاريب أن اعتماد مخططات حروب المستقبل الأمريكية على العامل الاقتصادي إنما يستجيب للأهداف الأمريكية الموجهة لتلك الحروب ولسياسات الحروب، والتي ستشكِّل القاعدة لبناء النظام العالمي الجديد (أو العصر الأمريكي).

ثالثاً: تكاد الأبحاث والدراسات الأمريكية في موضوع الإعداد للحروب القادمة تتفق على حقيقة أن (التحديات الثقيلة) هي العامل المكوِّن للحروب والمفجرلها، وهذا ما يفسِّر بشكل واضح العناد الأمريكي والتصميم الثابت لفرض التحديات على الوطن العربي والعالم الإسلامي بأكثر مما تستطيع احتماله الشعوب العربية والإسلامية. وهل كانت تحديات (أريئيل شارون) في تدنيس المسجد الأقصى يوم 28 أيلول سبتمبر 2000م إلا البرهان الثابت على دور التحديات الثقيلة في تفجير (انتفاضة الأقصى)؟ ثم هل كانت التحديات التي فرضت على الشعب العراقي ومنها فضائح سجن أبو غريب واستباحة الفلوجة إلا البرهان أيضاً على دور التحديات الثقيلة في تفجير الحروب وتصعيد درجة الأعمال القتالية؟ وإذن فستحتل استراتيجية إعداد التحديات الثقيلة وتفجيرها في الزمان والمكان المناسبين المرتبة المتقدمة في مجموعة استراتيجيات الإعداد للحروب القادمة.
 
رابعاً: لقد برهنت تجربة الحرب في أفغانستان ثم العراق على وجود قصور كبير في معرفة طبيعة مسرح العمليات، وتقصير كبير في إعداد مسرح الأعمال القتالية للحرب، وذلك رغم كل ما تم اتخاذه من تدابير مسبقة لجمع المعلومات وحشد الأنصار، وتنظيم الاتصالات بالجماهير. وعندما تم اكتشاف وجود مثل هذا القصور والتقصير، كان الوقت متأخراً جداً، ونتج عن ذلك تشكل ما أصبح معروفاً باسم (المأزق الأمريكي في حرب العراق) مع ما نتج عن ذلك من تآكل (اهتراء) لرداء الهيبة المعنوية الأمريكية في العالم جميعه، ومن استنزاف كبير بالقوى والوسائط القتالية، ومن استطالة لم تكن متوقعة في أمد الحرب، والأهم من ذلك كله هو تعرُّض أهداف الغزو ذاتها للانهيار والسقوط على أيدي عناصر المقاومة وتنظيماتها على مسارح العمليات.
فقد أخذت كل المراكز المسؤولة عن الإعداد لحروب المستقبل في مراكز الأبحاث والدراسات السياسية والاستراتيجية والعسكرية، كما في مراكز الاستخبارات وأوساط القيادات صانعة القرارات تعمل من أجل إعداد مسارح الأعمال القتالية في إطار مخططات متكاملة ومحكمة ودقيقية، وقد ظهرت بواكير ذلك في استخدام لغة الاعتدال في البيانات الرسمية والتصريحات القيادية، والابتعاد قدر المستطاع عن مواطن الإثارة، ومحاولة إقامة روابط وثيقة مع السكان وكذلك محاولة تحسين صورة أمريكا في الخارج وكل ذلك في إطار التمسك بثبات بأهداف السياسة الاستراتيجية الأمريكية.


3 تناقضات في الأهداف والوسائل


على الرغم مما أظهرته إدارة الرئيس (جورج بوش) من حرص على تجنُّب إغضاب واستثارة جماهير الشعوب العربية والإسلامية، وعلى الرغم أيضاً مما بذل من جهود في محاولات تحسين صورة أمريكا في الخارج بما في ذلك اعتذار الرئيس (جورج بوش) يوم 14 كانون الثاني يناير 2005م عما صدر عنه من عبارات خلال مرحلة إطلاق الحرب ضد أفغانستان والقاعدة (مثل قوله: بن لادن مطلوب حياً أو ميتاً) على طريقة رعاة البقر الأمريكيين وقطع الوعود بعدم تكرار مثل هذه العبارات، إلاّ أنه من الواضح أن الإدارة الأمريكية لا تهتم كثيراً بالرأي العام الدولي إذا ما تعارض هذا الرأي العام مع مصالحها الاستراتيجية، وبالتالي فإن التظاهر بالحرص على إرضاء الرأي العام سيبقى في حدود (التظاهر الخداعي) أو في حدود (لغة النفاق السياسي والدبلوماسي).

وغريب ما في الأمر أن صانعي القرارات الأمريكية يعرفون يقيناً سقوط استراتيجيات الكذب والخداع والتضليل، ولكنهم يحتفظون أيضاً بكل الوسائل لاستخدام هذه الاستراتيجيات، ومن هنا يظهر التناقض الفاضح بين ما يقوله الأمريكيون وبين ما يفعلونه، إلى جانب التناقض في الأعمال والممارسات التي تبدو متنافرة ومتضادة، سواء في أهدافها أو وسائلها، وهذا التناقض على ما يبدو هو إحدى السمات المميزة للاستراتيجية الأمريكية في حاضرها ومستقبلها، إذ من المعروف على سبيل المثال أن الحرب على العراق قد شكّلت حالة من الفوضى العامة والاضطراب المدمّر الذي تجاوز في حدوده المسرح الجغرافي للعراق ليتصل بكل أرجاء العالم؛ مما دفع لتكوين قناعة عالمية بأن أمريكا تعمل على تشكيل حالة من الفوضى العالمية التي يمكن تمويهها أو تغطيتها تحت ستار ضباب الحرب، لتعمل من خلالها على تحقيق أهدافها الاستراتيجية والتي قد يصعب تحقيقها بصورة مباشرة أو واضحة وصريحة. ومن هنا يمكن التساؤل: هل يمكن تصديق ما يصدر عن الدوائر الأمريكية من معلومات وبيانات ومشاريع، أم أن محاولات جمع التناقضات لن تؤدي إلاّ إلى الفشل الحتمي للسياسات الاستراتيجية الأمريكية؟ وما هي مقاييس الفشل أو النجاح للوصول إلى معرفة بشأن احتمالات حروب المستقبل وتطورها؟
الشواهد للإجابة على مثل هذه التساؤلات، ومن ذلك ما أُعلن في العاصمة الأمريكية (واشنطن) يوم 14 كانون الأول ديسمبر 2004م، وتضمن ما يلي: "يخوض كبار المسؤولين في وزارة الدفاع الأمريكية في هذه الأيام غمار مناظرات حادة تشغل كل وقتهم في معالجة قضية استخدام المعلومات والتضليل الإعلامي، واعتماد ذلك عبر سياسة تجيزها القوانين والإجراءات ذات العلاقة بالأوضاع السياسية والدفاعية الحالية للولايات المتحدة، والحاجة لكسب الرأي العام العالمي، والرأي العام العربي بصورة خاصة، ذلك أن مهمات كهذه عند التصديق عليها يصبح بالمستطاع تنفيذها ليس في حدود المناطق التي تجري فيها معارك عسكرية فحسب، وإنما أيضاً في دول تعتبر محايدة أو حتى صديقة. وتتضمن المقترحات التي تجري مناقشتها ضمن هذا الإطار: زرع تقارير إخبارية في الإعلام الأجنبي، وتقديم وثائق مزورة ومترجمة إلى اللغة العربية على صفحات الشبكات العالمية (الانترنت) ضمن جهود هدفها التأثير على نفوذ بعض المراكز والمدارس الدينية الإسلامية، ولقد جابهت هذه السياسات انتقادات وتحذيرات من حيث التأثير على مصداقية الولايات المتحدة داخلياً وعالمياً".
ولم يمض وقت طويل حتى أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون يوم 17 كانون الأول ديسمبر 2004م، ما يلي: "تم إنجاز خطة متكاملة شارك في إعدادها ووضعها عدد من المسؤولين والاختصاصيين الأمريكيين لتنظيم هيئة إعلامية تتولى نشر الأخبار الكاذبة بطرائق فعّالة في العالم العربي، لمواجهة المشاعر المعادية للولايات المتحدة التي تتصاعد، وكذلك الآثار السيئة التي تركتها الحرب على العراق في محيط الرأي العام العالمي، وأكّد خبراء (البنتاجون) ضرورة القيام بعملية غسل دماغ نفسية سيكولوجية بارعة. وقد اقترن ذلك بإصدار تعليمات سرية ضمتها نشرة من (74) صفحة في موضوع أزمة الاتصالات والإعلام في القوات المسلحة الأمريكية".

يظهر أنه لابد من التوقُّف عند بعض
وإقراراً بالواقع، لابد من العودة إلى المراحل الأولى من بداية ما حمل اسم (الحرب على الإرهاب) في أفغانستان ثم في العراق، حيث سقطت على أرض الأعمال القتالية كل المخططات الخداعية التي وضعت لتحويل الأنظار عربياً وإسلامياً وعالمياً عن الأهداف الحقيقية للغزو، وأصبحت (التناقضات) هي السمة المميزة للازدواجية أو حتى التعددية في المقاييس والمعايير، وكان مسرح الأعمال القتالية في فلسطين قد أسقط بدوره كل المزاعم الإسرائيلية الأمريكية التي حاولت تصنيف المقاومة الفلسطينية في قوائم (الإرهاب)، ولكن لا القيادة الأمريكية، ولا السلطة الإسرائيلية، استخلصت الدروس من تجاربها في الانتقاص من حق المقاومة عبر وصفها (بالتمرد، أو العصيان، أو الإرهاب)، أو غير ذلك من المسميات. واحتفظت المقاومة على كل مسارح العمليات العربية والإسلامية بأصالتها الثورية على قاعدة أنها تعبير عن رفض الظلم وانتقاص السيادة، وانتهاك القيم والفضائل والمبادئ على تحكم المجتمع الإسلامي العربي وغير العربي سواء بسواء.

ولاريب أن توجّه القيادات الأمريكية والإسرائيلية بخاصة لتجديد سلاح الخداع والكذب والتضليل، رغم البراهين الكثيرة على فشله في تحقيق ما هو مطلوب منه، إنما هو برهان جديد أيضاً على أن الشعوب ستبقى في الحرب الحالية وفي حروب المستقبل حقلاً للتجارب العدوانية المتجددة.
وقد يكون من المناسب التوقُّف عند بعض نتائج (استراتيجية الكذب والخداع والتضليل)، ونموذج ذلك الأول هو إعلان مراكز السلطة في واشنطن ولندن بخاصة عن احتمال قيام (القاعدة) بشن هجمات إرهابية، ورفع درجة الاستعداد حتى أعلى درجاتها ومرتباتها، وتكرار ذلك في عدد من المناسبات لأسباب داخلية على الأغلب وكانت النتيجة فشل سياسة التخويف، واستقبال الجماهير الأمريكية والبريطانية للإنذارات بكثير من البرود وعدم الاهتمام. وأدركت الحكومتان الأمريكية والبريطانية فشل هذه الاستراتيجية في تحقيق أهدافها السياسية، فتم سحبها من التداول.

كذلك، تحدثت أجهزة الاستخبارات الأمريكية البريطانية بخاصة عن محاولات التنظيمات الإرهابية للحصول على أسلحة نووية أو إنتاجها أيضاً كمثل ما أعلنته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) يوم 24 تشرين الثاني نوفمبر 2004م عن محاولات القاعدة لإنتاج سلاح نووي وكان لزاماً سقوط هذه المزاعم التي أفرزها خيال خصب لا علاقة له بالواقع، على أن الظاهرة الأشد إثارة هي تأكيد الإدارة الأمريكية في مناسبات كثيرة، على أن المقاومة العراقية هي من عمل تنظيمات غير عراقية (وأنها من صنع تنظيمات عربية وإسلامية تتسلل عبر الحدود العراقية من دول الجوار).

وفي يوم 19 تشرين الثاني نوفمبر 2004م، أعلن نائب رئيس القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط (الجنرال لانسن سميث) ما يلي: "إن نسبة المقاتلين الأجانب في صفوف المقاومة العراقية هي نسبة ضعيفة جداً، ومن بين ألف معتقل لم يتجاوز عدد المقاتلين غير العراقيين حدود (10) حتى (20) أجنبياً من دول المنطقة"، وكذلك ففي يوم 12 كانون الأول ديسمبر 2004م، أعلن نائب وزير الخارجية الأمريكي (ريتشارد أرميتاج) بأن تنظيم القاعدة مازال مصمماً على مهاجمة أهداف أمريكية، وعندما لم يقع مثل هذا الهجوم تبين أن التدابير المضادة قد أحبطت الهجوم، وحرمت القاعدة من القدرة على تنفيذ عملياتها.
 
وتبقى قصة (أبو مصعب الزرقاوي) من أكثر القصص إثارة، فقد نسبت القيادة الأمريكية معظم الأعمال القتالية والتدميرية التي وقعت في العراق والتي انطلقت من (الفلوجة) إليه، وكان ذلك ذريعة الهجوم على المدينة، حيث جرى تدميرها وتشريد أهلها حتى لم تعد المدينة صالحة للسكن باعتراف القيادة الأمريكية وهيئة الأمم المتحدة، ولكن بعد أن تصاعدت حدة القتال في أعقاب تدمير (الفلوجة) تبيَّن للقيادة الأمريكية أن (أبو مصعب الزرقاوي) وتنظيمه قد تركا الفلوجة قبل وقوع الهجوم، فلم يتم إلقاء القبض على عدد كبير منهم، ولم يعد (الزرقاوي) وحده هو بطل المقاومة الإسلامية في بلاد (الرافدين)، ولهذا لم تعد تنسب إليه أعمال إرهابية.


4 المقاومة وإرادة النصر



هناك ثمة حقيقة لابد من تأكيد وجودها، مما أظهرته التحديات الثقيلة التي تم فرضها على الشعوب العربية والإسلامية، وهي توافر قدر كبير من المناعة الذاتية الكامنة في أعماق هذه الشعوب، والتي أُمكن لها تجاوز تلك التحديات بكل ما تضمنته مخططاته من قدرات مادية ومعنوية، فلا سلاح التدمير والإبادة أحبط إرادة القتال لدى تنظيمات المقاومة، ولا سلاح التضليل والكذب والخداع نجح في تحويل أنظار الشعوب عن أهدافها الأساسية، والمتمثلة بدفع الظلم ومجابهة العدوان، وانتزاع ما يجري انتهاكه من حقوق وما يتم استباحته من محرمات.


وهكذا استمر الصراع بين إرادة لا تحمل الأمل بنصر حاسم، وبين إرادة تعمل لبلوغ النصر الحاسم. غير أن إحدى الظواهر المثيرة، هي التصميم العنيد على التمسُّك بطرائق ثبت فشلها لإحباط إرادة النصر لدى المقاومة، ومن ذلك على سبيل المثال، ما أُعلن في (البنتاجون) يوم 9 كانون الثاني يناير 2005م من أن: "وزارة الدفاع الأمريكية تعمل على تنظيم فرق اغتيالات من القوات الخاصة للقضاء على قادة المقاومة العراقية في إطار استراتيجية جديدة، مع إرسال وحدات من هذه القوات الخاصة لتدريب ودعم الفرق العراقية لملاحقة المقاتلين العراقيين والمتعاونين معهم". فهل هذه الاستراتيجية جديدة حقاً؟ أم أنها استراتيجية قديمة جداً ومتجددة دائماً؟ ألم تلجأ القيادات الأمريكية لاستخدامها في بلاد كثيرة للقضاء على معارضيها، كما عرفت السلفادرو؟ ألم تعمد وحدات (الموساد الإسرائيلي) و (تنظيمات الجيوش الخاصة المرتزقة) في العراق إلى اغتيال أعداد كبيرة من القادة السياسيين والزعماء الدينيين، وحتى العلماء الاختصاصيين؟ وقبل ذلك وبعده، ألم يشهد العام الماضي (2004م) اغتيال زعيم حماس (الشيخ أحمد ياسين)، ثم (الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي)، علاوة على غياب الزعيم التاريخي (ياسر عرفات) دون أن يضعف ذلك من المقاومة، أو ينتقص من قدراتها القتالية وأعمالها البطولية؟ أليس ذلك وحده برهاناً على عقم سلاح الاغتيالات الذي أتقنه الإسرائيليون والمميز بصفات الجبن والغدر والنذالة والحطة، والذي لم يتمكن أبداً وعبر تاريخ الاغتيالات من تغيير الاتجاهات السياسية أو القواعد الجهادية أو القناعات الفكرية؟

لقد أكّدت ضربات المقاومة العراقية حقيقة أن قيادات التنظيمات تعرف بدقة أهدافها، وتختار الوقت المناسب والمكان الصحيح لتنفيذ عملياتها، وهذا مما أحبط من الروح المعنوية لقوات التحالف وقياداتها، فجاءت ردود الفعل عشوائية وغير محكمة ولا دقيقة، ولا تعتمد سوى عامل التفوق العسكري بالقوى والوسائط القتالية، والذي أبرزته العمليات الانتقامية للقوات الأمريكية في تدمير الفلوجة وقصف سامراء والنجف من قبل. وتأتي عمليات الاغتيال لقادة العراق وزعمائه وشيوخه ضمن هذا الإطار، إذ إنها تبرهن على صراع المعرفة العراقية للعدو، والجهل الأمريكي للعراقيين، وإذن فالحرب على أرض العراق هي حرب بين المعرفة والجهل، وتأكيد لمقولة عربية قديمة جداً هي: "النملة تعرف عن داخل بيت الفيل ما لا يعرفه الفيل عن بيت النملة".


ومن المناسب هنا التوقُّف عند فقرات مما تضمنه تقرير عن الوضع العراقي نشرته صحيفة (الحياة)، العدد (15193) ص2، يوم 1 تشرين الثاني نوفمبر 2004م، حيث ورد ما يلي: "عبّر قادة عسكريون ودبلوماسيون أمريكيون في العراق عن الخوف من أن المصاعب الأمنية والاقتصادية في العراق تتهدد خططهم للقضاء على التمرد المسلح الذي يتزايد شدة ويتسع نطاقه، إلى جانب اعتبارات أخرى ستؤدي إلى استمرار تدهور الوضع الأمني، وتوقف العملية السياسية. ولقد اعترف هؤلاء القادة من العسكريين والمدنيين الأمريكيين أن المتمردين العراقيين قد نجحوا في اختراق التنظيمات الأمنية الجديدة التي تم تشكيلها في العراق، وأن التقديرات الحالية لعددهم تتراوح بين (8) آلاف و (12) ألفاً، وهؤلاء يشكّلون النواة الصلبة للمتمردين ولديهم موارد مالية تزيد كثيراً على التقديرات السابقة.

وتبقى الظاهرة الأشد إثارة لقلق الأمريكيين، وهي نجاح المتمردين في نشر الخوف والإرهاب عبر الاغتيالات والتفجيرات وقطع الرؤوس، لوقف التعاون مع الأمريكيين ومع الحكومة المؤقتة. وعلى هذا، فإن قوات مشاة البحرية الأمريكية المارينز المنتشرة في غرب العراق وجنوبه ستفشل في مهامها إذا لم تتمكن من القضاء على هذا الترهيب".
لقد مر عامان حتى الآن على بداية الغزو الأنجلو أمريكي للعراق، وأصبح بالمستطاع من خلال استقراء مسيرة الأعمال القتالية وتطورها القول إن ثمة أخطاء كبيرة قد وقعت منذ الأيام الأولى لعمليات الغزو، تعود في معظمها إلى استهانة القيادة الأمريكية وقواتها بالقدرات العراقية، وتؤكد في الوقت ذاته تصميم أبناء العراق على المقاومة بكل جهد مستطاع منذ الأيام الأولى لسقوط نظام (صدام حسين) في 10 نيسان أبريل 2003م. وأفضل الشواهد على ذلك هو اختفاء مئات الأطنان من المتفجرات والذخائر التي كانت مخزونة في (مستودعات القعقاع وفي بعقوبة حيث الكلية الحربية)، والتي أُثيرت قصتها في نهاية شهر تشرين الأول أكتوبر 2004م، حيث أكّدت المعلومات أن شاحنات ضخمة قد اقتحمت هذه المخازن، وأن قوات مجهولة الهوية عملت على إزالة الأختام التي وضعتها (الوكالة الدولية للطاقة الذرية) على الأبواب والمداخل، فيما تجاهلت قيادة قوات الغزو التحذيرات التي أطلقها رجال من (فريق المجموعة الدولية للطوارئ).

وعندما حاولت القوات الأمريكية البحث عن هذه المستودعات ومصادرة محتوياتها، كانت أطنان الذخائر قد اختفت، ولم تلبث أن شكّلت المادة الأولية لصنع القنابل البدائية ذات القدرة التدميرية العالية، والتي أصبحت مصدر القلق الأول للقوات الأمريكية وقياداتها.


ومن المعروف أن القيادة الأمريكية قد حرصت منذ الأيام الأولى للغزو على تدمير أسلحة الجيش العراقي (القديم)، فتم تحويل الدبابات والمدفعية والأعتدة الهندسية الثقيلة وسواها إلى ركام ضخم من الحديد الذي تم إرساله إلى الولايات المتحدة لإعادة تصنيعه في أسلحة جديدة ذات قيمة عالية، ولكن المقاومة العراقية لم تكن بحاجة لكل تلك الوسائط (التقليدية)، والتي تتباهى بها الجيوش النظامية وتتفاخر، فتوجّه اهتمام المقاومة للحصول على ما هو ضروري من الذخائر والأسلحة الصاروخية الخفيفة (المحمولة على الكتف)، وكان حصاد ذلك تدمير مئات العربات المدرعة الأمريكية والدبابات وقوافل التموين والطائرات العمودية...إلخ.
فقضية الصراع هنا وكما يظهر بوضوح هي إرادة القتال حتى بلوغ النصر؛ فهل ستنجح (قوات التمرد) في انتزاع النصر؟ وما هي قيمة هذا النصر عندما يصبح العراق مدمراً في موارده، مستنزفاً في قدراته، ومجرداً من كفاءاته، ومحروماً من بنائه، ومعزولاً عن محيطه كما يُراد له أن يكون؟ ولكن، هل يختلف وضع شعب العراق بعد الغزو عن وضع شعب فلسطين تحت الاحتلال، أو عن أوضاع شعب الشيشان تحت وطأة الاستعمار الروسي، أو وضع شعب أفغانستان بعد الاجتياح الأمريكي؟ ليس بالمستطاع هنا المفاضلة بين مثل هذه الأوضاع، وبين ما كان يجب أن تكون عليه أوضاع الشعوب في حالات التطور الطبيعي، ذلك أنه لم تكن أمام هذه الشعوب خيارات أخرى غير خيار المقاومة أو (التمرد والعصيان على إرادة السادة الاستعماريين).


غير أنه بالمستطاع القول وربما بقدر كبير من الدقة إن الحرب الأمريكية على العراق هي من أغنى تجارب الحروب في الأزمنة الحديثة، سواء في محيط العلاقات الدولية، أو على مسارح الأعمال القتالية، أو حتى في تنظيمات القوات المقاتلة وأسلحتها ووسائطها القتالية. ولا ريب أن الدروس المستخلصة من تجربة الحرب العراقية قد جعلت القيادات صانعة قرارات الحرب أكثر عقلانية، وأفضل توازناً، وأشد حذراً عند التعامل مع قضايا حروب المستقبل.
ومرة أخرى، لعل من أبرز ظواهر الحروب الحديثة هي ابتعادها عن الحسم العسكري، سواء بالنسبة لقوات وجحافل الغزو، أو بالنسبة لتنظيمات (قوات المقاومة والتمرد)، وربما كانت هذه الظاهرة وحدها وإذا ما تم الإحاطة بأبعادها كافية لإقناع صانعي الحروب بنبذ سياسات الحروب
منقول من مجلة كلية الملك خالد العسكرية
 
ان الحرب الحديثة تعتمد على المعلومة بشكل كبير بغض النظر ضد من توجه فلاحظنا كيف كانت المعلومة والدعاية وادارة الحرب الامريكية تتلاعب بالمشاهد الامريكي والعالمي
 
ان الحرب الحديثة تعتمد على المعلومة بشكل كبير بغض النظر ضد من توجه فلاحظنا كيف كانت المعلومة والدعاية وادارة الحرب الامريكية تتلاعب بالمشاهد الامريكي والعالمي
رغم ذالك فالكذب لن يطول ويكشف والدليل ما تعانيه اليوم امريكا في بلاد الافغان والعراق ما يكشف ضعف ادارتها للحروب تنجح في البداية عند الهجوم لكن لن تتمكن من الصمود
 
عودة
أعلى