*
آخر تحديث: 2017/3/16 الساعة 15:21 (مكة المكرمة) الموافق1438/6/18 هـ
نهى خالد
محرر سياسي
وقفت وزيرتا الدفاع، الألمانية أورسولا فون در لَين، والهولندية جيني بلاسشِرت، في مدينة ستالِندورف بألمانيا، لتدشنا معًا مراسم اندماج اللواء الحادي العشر الهولندي لأول مرة تحت قيادة فرقة التدخل السريع الألمانية في يونيو/حزيران 2014. (صور). لم تكن مسألة مستحيلة على البلدين بالنظر للتدريبات والعمليات العسكرية المشتركة التي يقومان بها مع غيرهما من أعضاء حلف شمال الأطلسي "الناتو"، لكن الاندماج الكامل، وخضوع جنود هولنديين لضباط ألمان -والعكس-، يظل مسألة جديدة بالكُلية.
لم تتوقف طموحات الوزيرتين عند ملف القوات الخاصة، بل وصلت مطلع العام المنصرم لدمج لواء هولندي آخر هو اللواء 43 بالكامل تحت قيادة الفرقة الأولى الأكبر في الجيش الألماني، ليصبح لواءان هولنديان، من أصل ثلاثة تكوّن الجيش الهولندي كاملًا، مندمجين داخل نظيريهما الألمانيين، على أن تكون اللغة الرسمية المستخدمة على مستوى الكتيبة هي الألمانية، وعلى مستوى اللواء والفرقة هي الإنجليزية، وأن تصبح الفرقة جاهزة لمباشرة مهامها في 2019.
وزيرتا الدفاع، الألمانية أورسولا فون در لَين، والهولندية جيني بلاسشِرت
في الحادي عشر من يناير/كانون الثاني الماضي، وقبل تسعة أيام فقط من بدء ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، كان جنود اللواء 43 قد بدأوا أول تدريب عسكري لهم في شرق ألمانيا، وهو تدريب حمل اسم المقاطعة البولندية "درافسكوا بومورسكي"، حيث شاركت بولندا بخمسمائة جندي في المرحلة الثانية من التدريب والذي تم داخل أراضيها، علاوة على مشاركة الكتيبة 414 المكوّنة من جنود ألمان وهولنديون معًا، تحت قيادة اللواء 43 الهولندي الملتزم بدوره الآن كجزء من الفرقة الأولى الألمانية.
يتداخل إذن الألمان والهولنديون بشكل غير مسبوق عسكريًا، والذين وقفوا وجهًا لوجه أثناء الحرب العالمية الثانية قبل أقل من قرن، لكنه تداخل منطقي بين بلدين تجمعهما الكثير من القواسم المشتركة، ناهيك عن قدرة كل منهما على سد فراغ الآخر، فالهولنديون الذين قلصوا ميزانيتهم الدفاعية على مدار السنوات الماضية، لم يعد لديهم ما يكفي من مال لتشغيل وصيانة ترسانتهم العسكرية، أما الألمان أصحاب الاقتصاد الأكبر في أوروبا، فيحتاجون لخبرات وأسلحة هولندا، صاحبة التاريخ الاستعماري والبحري الطويل، بالنظر لعدم امتلاكهم ترسانة قوية وحديثة بعد عقود طويلة من الالتزام الألماني بعدم التسليح على نطاق واسع.
ليس أدل على ذلك مما شمله الاتفاق بين البلدين بخصوص السفينة الحربية الهولندية الأكبر كارلدورمان، والتي سيصبح بإمكان الألمان ذوي القدرات البحرية المحدودة استخدامها وتلقي التدريب على أيدي ضباطها الهولنديين، مقابل مشاركتهم في الإنفاق عليها بعد تعثر الميزانية الهولندية، وهو اتفاق يشمل أيضًا خُطة لدمج القوة البحرية الألمانية داخل البحرية الملكية الهولندية بحلول العام 2018.
السفينة الحربية الهولندية الأكبر كارل دورمان
ليست تلك التحركات وليدة رغبة ألمانية وهولندية مفاجئة بتوسيع التعاون العسكري، بل هي وليدة رؤية جديدة في وزارة الدفاع الألمانية بالأساس ترى، أولًا، أهمية اضطلاع ألمانيا بدور عسكري أكبر داخل أوروبا، وثانيًا، تعزيز التداخل بين الجيش الألماني والجيوش المجاورة له، لخلق قوة عسكرية أوروبية مشتركة لا تعتمد بشكل مُطلق على الولايات المتحدة، وثالثًا، وهو الأهم، الانتباه للخطر الروسي المتصاعد في بحر البلطيق بشكل خاص، وفي أوروبا بشكل عام، وهو خطر لا يجمع الألمان والهولنديين فقط، بل ويجمع معهم بولندا والسويد والدنمارك وفنلندا، ودول البلطيق الثلاث الخارجة لتوّها من قبضة السوفييت -إستونيا ولاتفيا وليتوانيا-، وأخيرًا بريطانيا.
بينما تنشغل الولايات المتحدة، صاحبة أكبر جيش في الناتو، بما يدور في آسيا على حساب أوروبا، ويستمر انشغال تركيا، صاحبة ثاني أكبر جيش في الناتو، بما يدور في الشرق العربي على حساب الشرق الأوروبي، وتزداد المسافة بُعدًا بين ألمانيا وبريطانيا، صاحبتا الميزانيتين العسكريتين الأكبر في أوروبا، جراء الخروج البريطاني من الاتحاد، تبدو برلين على موعد مع مهمة صعبة لوضع أجندة جديدة للناتو، أو ربما لحلف عسكري يقوم مقام الناتو سابقًا فيما يمكننا أن نطلق عليه "عالم ما بعد الناتو".
الناتو الشمالي: عالم الشراكات المفتوحة
"إن الهدف من حلف شمال الأطلسي هو أن يبقى الروس خارج أوروبا، ويبقى الأمريكيون داخلها، ويبقى الألمان تحت السيطرة"
(البريطاني اللورد هاستينغز إسماي، أمين عام حلف الناتو بين عامي 1952 و1957)
عبّر اللورد هاستينغز عن أهداف التحالف الجديد آنذاك، تحالف اهتم بمنع أية محاولات ألمانية للتسليح من جديد، والحفاظ على ضلوع الأمريكيين في الساحة الأوروبية لتوفير الغطاء العسكري اللازم لموازنة الروس، وأخيرًا كبح تغلغل الروس إلى العُمق الأوروبي ومحاصرته في شرق أوروبا. للمفارقة، يشهد الحلف اليوم رغبة أمريكية جزئية بالخروج من أوروبا، ورغبة روسية واضحة بالدخول لقلب القارة، وأخيرًا رغبة ألمانية بالخروج عن قيود الحرب الباردة، وملئ الفراغ الناشئ داخل الحلف.
بينما تفتر عزيمة البنتاجون الأمريكي في متابعة الشأن الأوروبي عن كثب، تبرز في لندن وبرلين وأنقرة أسئلة حيال ماهية الحلف اليوم، والذي تظل أهدافه نوعًا ما متعلقة بالخطر الروسي، بيد أن المنظومة المركزية والقوية التي وفرها الأمريكيون كدولة واحدة كُبرى تبدو في طريقها للتفكك، مقابل بروز عدد من الشراكات الإقليمية المتعلقة بملفات معيّنة، مثل الشراكة الألمانية الهولندية، وهي شراكات ستشكّل مستقبل القوة العسكرية على الشاطئ الشرقي للأطلسي، بينما تنشغل القوة الأمريكية على شواطئه الغربية بما يدور في محيط آخر بعيد تمامًا عن أوروبا، ولعلها تُحيل قوة الناتو إلى بضعة تحالفات أوروبية ينسّق كل منها ما أمكن الحصول عليه من الدعم الأمريكي.
لم يكن غريبًا أن يتسع نموذج الشراكة الألمانية الهولندية ليشمل دول عديدة في بحر البلطيق، والذي يشهد تمركزًا عسكريًا روسيًا غير مسبوق منذ الحرب الباردة في مقاطعة كالينينغراد بين ليتوانيا وبولندا، بوضع موسكو لصواريخ إسكندر ذات المدى المقدر بـ 5000 كم، والقادرة على حمل رؤوس نووية، فقد حصل البولنديون على اتفاق بخضوع كتائب اللواء 34 البولندي للجيش الألماني، مقابل سيطرة اللواء على عدد من كتائب المُشاة الألمانية، كما قامت بولندا منفردة من ناحيتها بتأسيس لواء عسكري مشترك مع أوكرانيا وليتوانيا يقع مقره في مدينة لوبلين البولندية ومن المنتظر أن يبدأ مهامه خلال هذا العام.
دشنت روسيًا "مناطق حظر جوي" فعلية تتيح لها التحكّم بالمجالات الجوية لدول البلطيق وشمالي شرقي بولندا إن أرادت، وعرقلة حركة السفن ببحر البلطيق، وهو ما يدفع تلك البلدان، وكُلها عضوة بحلف الناتو، إلى تدشين شراكات عسكرية على عدة مستويات وليس على المستوى الأوروبي فقط، وأهمها بالطبع الشراكات الثنائية المباشرة مع الولايات المتحدة، والتي يظل اهتمامها ببحر البلطيق على حاله وإن تراجع اهتمامها بقلب القارة الأوروبية، وهي شراكة تعوّل عليها بولندا أكثر من مظلة حلف الناتو، لتعزيز قدراتها وقدرات دول البلطيق لمواجهة أي هجوم روسي محتمل.
في مساحات البلطيق أيضًا تشعر دول "النورد" أو الشمال بالخطر، وهي السويد وفنلندا غير العضوتين بالناتو، واللتان التزمتا دومًا بنوع من الحياد الرسمي حيال الروس لعدم استثارة مواقف عدوانية من جانب موسكو، إلا أن التحركات الروسية الأخيرة أدت إلى تخوّفات وصلت للرأي العام في البلدين، والذي شهد تصاعد نسبة الراغبين بالانضمام لحلف الناتو في السنوات الأخيرة من 17% في السويد عام 2012 إلى 41% عام 2015، ومن 17% في فنلندا عام 2012 إلى 27% في 2015.
"يظل اهتمام ألمانيا وهولندا ودول النورد منصبًا على بحر البلطيق وشمال القارة بشكل عام، وتظل الأجندات الوطنية لتلك البلدان عنصرًا رئيسيًا في تشكيل إستراتيجيتها الإقليمية"
من جانبها لا تزال السويد مصرّة على سياسة عدم الانضمام للناتو، وارتكاز أولوياتها لحماية أمن دول النورد في المقام الأول، ثم البلطيق، وأوروبا في الأخير، بيد أن ذلك لم يمنعها -مثل بولندا- من البحث عن سُبل الشراكة الثنائية لتعزيز قوتها العسكرية، والتي تشمل شراكة مع حلف الناتو تتيح استضافة قوات من الحلف في حالات الطوارئ، وشراكة ثنائية مع الولايات المتحدة تشمل تدريبات عسكرية مشتركة تتيح للجيش السويدي التناغم مع المنظومة العسكرية الأمريكية على الأرض، وأخيرًا شراكة ثنائية مع بولندا، علاوة على دور السويد القيادي في مجلس دفاع النورد (NORDEFCO) ويضم دول النورد الخمس ودول البلطيق الثلاث، واتجه مؤخرًا لخلق مجموعة عسكرية بين جيوشه الثماني لمواجهة روسيا، ليس فقط في البلطيق، بل وفي القطب الشمالي أيضًا.
يظل اهتمام ألمانيا وهولندا ودول النورد منصبًا على بحر البلطيق وشمال القارة بشكل عام، وتظل الأجندات الوطنية لتلك البلدان عنصرًا رئيسيًا في تشكيل إستراتيجيتها الإقليمية، على عكس الولايات المتحدة التي حملت عبء أمن القارة بكاملها جُملة واحدة من فنلندا إلى إسبانيا، بيد أن الخطر الروسي لا يهدد فقط بحر البلطيق، بل يصل للبحر الأسود والبحر المتوسط أيضًا، حيث استحوذ الروس على شبه جزيرة القرم عام 2014، بالتوازي مع تدشين قاعدة دائمة لهم في طرطوس بسوريا، مما ينقل حالة التوجّس من روسيا لدول أخرى، عضوة أيضًا بالناتو، مثل تركيا ورومانيا وبلغاريا وجيورجيا، ويدفعها هي الأخرى نحو نموذج للشراكات العسكرية الثنائية.
الناتو الجنوبي: عالم الشراكات الكلاسيكية
"مهمة الدفاع هي مهمة وطنية وليست أوروبية، وليست ثمة احتمالية لتغيير موقفنا هذا والمشاركة في جيش أوروبي"
(جويس أنيلاي، سياسية بريطانية بحزب المحافظين، ووزيرة الدولة للشؤون الخارجية)
في مطلع الشهر الماضي، اتجهت سفينة إتش إم إس دايموند التابعة للبحرية الملكية البريطانية إلى البحر الأسود للمشاركة في تدريبات "درع البحر"، إلى جانب 15 سفينة وعشر طائرات حربية وحوالي 2800 جندي وضابط من تركيا والولايات المتحدة وكندا وإسبانيا واليونان ورومانيا وبلغاريا وأوكرانيا. كانت تلك أول مرة تدخل فيها سفينة حربية بريطانية إلى البحر الأسود منذ نهاية الحرب الباردة، في إشارة واضحة لاستمرار الاهتمام البريطاني بأمن البحرين الأسود والمتوسط، ورغبة لندن في المحافظة على دورها العسكري المنفرد عالميًا.
على العكس من نموذج القوات المشتركة أو المندمجة بالكامل، الذي يسود تدريجيًا بين ألمانيا وهولندا ودول النورد والبلطيق وبولندا، والمهتم بالأساس بمساحته الإقليمية في شمال أوروبا، تتسم البلدان المتاخمة للبحرين الأسود والمتوسط بسمات لا تتيح لها الدفاع عن نفسها عبر هذا النوع من الشراكات الثنائية الصغيرة المتداخلة مع بعضها البعض، أولها الفروق الثقافية الكبيرة التي تجعل من المستحيل بمكان تحقيق اندماج بأي صورة بين الدول الرئيسة في المنطقة كتركيا واليونان على سبيل المثال، وثانيها العقيدة الوطنية الكلاسيكية الواضحة لدى كل من بريطانيا وفرنسا وتركيا، ورفض أي منهم لنموذج يشابه من قريب أو بعيد النموذج الألماني الهولندي.
تقوم تركيا منذ العام 2012 برعاية تحالف عسكري ثلاثي مع أذربيجان وجيورجيا تُهيمن فيه أنقرة بشكل واضح، حيث تجري الدول الثلاث تدريبات عسكرية مشتركة لحماية خطوط الغاز بينها، وإلى غربها تقوم برعاية تحالف ثلاثي مع كل من رومانيا وبولندا منذ نفس العام يسعى لتعزيز التكامل العسكري والاقتصادي مع أوكرانيا ومولدوفا وإبعادهما قدر الإمكان عن النفوذ الروسي، وهي مساحة تهتم بها بولندا قدر اهتمامها بأمن البلطيق، وهو تحالف أيضًا تُهيمن فيه تركيا، وبولندا بدرجة أقل.
"بشكل عام، تستمر تُركيا في لعب دورها العسكري وفق قواعد الناتو التقليدية من ناحية، ووفق أجندتها الخاصة كما هو الحال في سوريا والعراق، تمامًا كما تفعل فرنسا في عدة دول أفريقية"
بالنظر للعلاقات المتوترة تاريخيًا بين تركيا وبلغاريا، تلعب بولندا هنا دورًا هامًا كوسيط بعلاقاتها القريبة من بلغاريا لرأب الصدع في تحالف الدول المعارضة لروسيا في البحر الأسود، فقد قامت بولندا على سبيل المثال بتوقيع اتفاق مع بلغاريا لصيانة الطائرات الحربية البلغارية المتبقية من حقبة النفوذ السوفيتي، وهي مهمة اضطلعت بها روسيا قبل أن ينتهي التعاقد بشأنها عام 2015 دون تجديد، لا سيما مع قيام الشركات البولندية بمنح سعر أقل من الروس لصالح الجيش البلغاري.
لا تسع القدرات العسكرية التركية والبولندية منفردة أن تخلق تحالفًا عسكريًا صلبًا بوجه روسيا، ومن ثم يستمر الاعتماد على منظومة الناتو الصاروخية الموجودة في تركيا ورومانيا وبلغاريا لحماية التوازن مع موسكو في البحر الأسود، وهي منظومة لا يبدو الأمريكيون عازمون على تقليصها وإن لم يبدو في نفس الوقت رغبة بتوسيعها كما طلبت تركيا وبولندا ورومانيا، ومن ثم تهتم تركيا وبولندا بشكل خاص بالعلاقات مع القوة البحرية الأكبر في العالم بعد الولايات المتحدة وهي بريطانيا المهتمة بتلك المنطقة، كما تشي بذلك الاتفاقات العسكرية التي وقعتها بريطانيا مع تركيا في الآونة الأخيرة.
بشكل عام، تستمر تُركيا في لعب دورها العسكري وفق قواعد الناتو التقليدية من ناحية، ووفق أجندتها الخاصة كما هو الحال في سوريا والعراق، تمامًا كما تفعل فرنسا في عدة دول أفريقية، في الوقت الذي ترعى فيه بريطانيا شراكاتها الخاصة بمحيط المتوسط والبحر الأسود، وهي المنطقة التي تشهد الالتزام الأقل من جانب الأمريكيين مقارنة بالاهتمام الأكبر من جانب واشنطن والناتو بشكل عام بدول البلطيق.
الناتو "البروتستانتي": ما بعد البنتاجون
"سنكون على استعداد للاضطلاع بواجباتنا كعضو بالناتو تجاه دول البلطيق فقط إن أوفت تلك الدول بواجباتها، هنالك دول عديدة الآن لا تفي بواجباتها"
(الرئيس الأمريكي دونالد ترمب)
بين الشراكات العديدة والمتكافئة الناشئة في الشمال لحماية أمن البلطيق، والشراكات الكلاسيكية الأقل عددًا والأكثر ارتكازًا لدول ثقيلة أو اثنتين بشكل خاص لحماية أمن البحر الأسود والمتوسط، لا يزال الناتو القديم حاضرًا بمنظومته، وفق ما تكشفه تحركاته الأخيرة، على سبيل المثال بإيفاد أربعة كتائب من جيوش الحلف لإستونيا (بقيادة بريطانية) ولاتفيا (بقيادة كندية) وليتوانيا (بقيادة ألمانية) وبولندا (بقيادة أمريكية)، وكذلك وفق تواجده المستمر في تركيا ورومانيا وإيطاليا.
بيد أن الإدارة الأمريكية الجديدة، ومن قبلها توجهات المؤسسة العسكرية الأمريكية في عهد أوباما بإعادة توزيع جزء من القوة الأمريكية من شرق الولايات المتحدة إلى غربها، تشي بأن الاتجاهات الجديدة ستستمر في النمو تدريجيًا، لتصبح شبكة الشراكات الشمالية هي الضامن الرئيسي لأمن البلطيق، بما يشمله ذلك من الشراكات الثنائية بين دول المنطقة والولايات المتحدة، وشبكة شراكات الجنوب المعتمدة على تُركيا وبريطانيا ثم فرنسا وإيطاليا لحماية أمن البحر الأسود وشرق المتوسط، بما يشمله ذلك أيضًا من دور أقل حجمًا للولايات المتحدة.
نقاط الانتشار العسكري الروسي من بحر البلطيق إلى البحر الأسود (الجزيرة)
في نهاية المطاف، لا يبدو الناتو في طريقه للاضمحلال بقدر ما يتجه إلى إعادة تأسيس شاملة ستُحيله إلى حلف «بروتستانتي» إن جاز القول، أكثر تشرذمًا واعتمادًا على تحالفات إقليمية ثنائية محددة كألمانيا وهولندا، وتركيا ورومانيا، والسويد وفنلندا، وهكذا لتلبية الحاجات الأمنية لمناطق بعينها، وأقل اعتمادًا على المظلة الأمريكية الشاملة، والتي لعب فيها البنتاجون دور الكنيسة الكبرى بوجه الروس بطول القارة وعرضها.
قد تكون تلك الشبكة الجديدة أكثر فوضوية وتخبطًا في البداية، لكنها ستلبي على المدى البعيد حاجات البلدان الأوروبية المتخوفة من روسيا، ومن غيرها في المستقبل، بشكل كفء، وستكون مناسبة أكثر للمسرح السياسي والبيروقراطي الأوروبي، والذي يبدو مما جرى مع بريطانيا، وقد يجري مع فرنسا، في طريقه هو الآخر لدرجة من التشرذم واللامركزية مقارنة بصورته المتجانسة الحالية. في تلك الشبكة الأطلسية، لن يكون هنالك "أخ أكبر" ينوب عن القارة بأسرها في مهام الدفاع، بل بضعة بلدان مركزية كبريطانيا وفرنسا وتركيا وبولندا وألمانيا، ستُدير مع الوقت دفة الحلف الأطلسي الجديد، وهو حلف قد يحافظ على مؤسسة الناتو كما نعرفها اليوم، أو يتجاوزها تمامًا لصالح معاهدة جديدة بالكُلية.
http://midan.aljazeera.net/reality/politics/2017/3/16/ما-بعد-الناتو-التأسيس-الثاني-للحلف-الأطلسي