تعرف رئاسة هيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية مفهوم القيادة والسيطرة بأنه «قيام القيادة بإنجاز أعمال التخطيط والإدارة والتنسيق والسيطرة على القوات والعمليات، من خلال الاعتماد على تنظيم معين من الأفراد والمعدات وشبكات الاتصال والمرافق والإجراءات» وبدءاً من عمليات حفظ السلام إلى سيناريوهات القتال الحقيقية تمثل القيادة والسيطرة الأساس في عملية إدارة الصراعات المسلحة الحديثة وفق أنظمة متطورة، لجمع ورصد المعلومات عن الأهداف وتحليلها والتعامل معها.
وتعتمد أنظمة القيادة والسيطرة الحديثة على الحاسب الآلي في تصنيف وعرض كمية البيانات الهائلة المنتجة بواسطة المستشعرات المختلفة حتى يمكن اتخاذ القرارات بناءً على المتغيرات السريعة في الموقف القتالي وأحدث هذه الأنظمة هي التي يطلق عليها أنظمة «القيادة والسيطرة والاتصالات والحاسب والاستخبارات C4I :Command, Control, Communication, Computer, Intelligence، ولعل أصعب مراحل تصميم هذه الأنظمة هي عملية المواءمة بين المكونات المختلفة لتسهيل عملية تبادل البيانات مع اختلاف أنظمة عملها وخاصة الأنظمة الآلية حيث يلزم الربط بين أنظمة الحاسبات ووصلات نقل المعلومات.
الجزء الأول: نظرة تاريخية من كتاب قائد الدفاع الجوي السعودي السابق
لايمكن للدفاع الجوي أن يكون قوةً مستقلة إلاّ إذا تحقق له التكامل الداخلي وقبل كل شيء توفير اتصالات على درجة عالية من الكفاءة بين أجزائه المختلفة.
كان قد تحقق عند هذه المرحلة، من طريق برامج التسلح المختلفة، تأمين قدر كبير من منظومات الأسلحة ونشرها في شكل مجموعات للدفاع الجوي في أنحاء البلاد المختلفة وفي المناطق الحساسة كالمنطقة الشرقية. لكن أنظمة التسليح تلك لم تكن قادرة على الاتصال بعضها ببعض. ولم يكن في وسع القائد في الرياض أن يحصل على صورة متكاملة للمجال الجوي للبلاد في كل وقت من الأوقات. كنا نحتاج إلى نظام للقيادة والسيطرة والاتصالات، يُرْمَزُ إليه بـ C3 يربط رادارات الإنذار المبكر والمدفعية والصواريخ بمركز سيطرة رئيسي.
اقتنعت السلطات بالسماح لي ببدء المفاوضات مع شركة ليتون litton وهي شركة أمريكية كبيرة تخصصت في إنتاج مثل هذا النظام ( c3 ) وتم توقيع عقد معها قيمته 1.6 مليار من الدولارات في 8 إبريل عام 1979، بعد أكثر من عامين من الجهود المضنية ونظراً إلى ضخامة المشروع وتعقده التقني تحدد يوم 7 فبراير عام 1985 موعداً لإتمامه وتسليمه صالحاً من وجهة النظر العملياتية أي بعد فترة زمنية قدرها 70 شهراً أو ست سنوات إلا شهرين من توقيع العقد. شعرت بسعادة غامرة يوم توقيع العقد، كان إنجازاً باهراً. لكني لم أكن أدري وأنا أعيش تلك الفرحة الغامرة، أن إتمام هذا المشروع سيستغرق 14 عاماً وأنه سيكلفني عناءً كثيراً!
ومن حق القارئ غير المتخصص أن أقدم إليه عرضاً مبسطاً عن الإمكانات التي يتيحها نظام القيادة والسيطرة والاتصالات الذي تعهدت ليتون بتقديمه. كان النظام مصمماً لربط جميع عناصر الدفاع الجوي في أنحاء المملكة بمركز سيطرة رئيسي. فهو عبارة عن شبكة اتصالات تغطي المملكة بكاملها. فترتبط، من جهة، بالرادارات البعيدة المدى القادرة على نقل صورة للمجال الجوي، كما ترتبط، من الجهة الأخرى، بأجهزة القيادة والسيطرة التي تُعرف بـ tsq 73 تتميز هذه الأجهزة بالقدرة على تحليل الصورة الجوية، وتحديد الخطر القادم، واختيار السلاح المناسب لتدمير الأهداف الجوية المعادية. وهذا يعني أن نظام c3 الذي يعمل من طريق التكنولوجيا المتقدمة ذات السيطرة الآلية، يستطيع أن يكتشف الأهداف الجوية في الوقت الحقيقي، ويتتبعها ومن ثَم يعطي الأمر إلى سرايا الدفاع الجوي بالاشتباك معها. وكان مركز شبكة الاتصالات مدينة الرياض وتغطي تلك الشبكة المملكة بأسرها، من تبوك شمالا حتى حدود اليمن جنوباً، ومن الظهران شرقاً حتى جدّة غرباً. والهدف من هذا النظام بجملته هو تأمين صورة كاملة للمجال الجوي لقائد الدفاع الجوي، إضافة إلى تمكينه من السيطرة على جميع أنظمة الأسلحة.
وإن كان المحامون واللجان الفنية قد تولوا التفاوض في شأن كل تفاصيل العقد، كبيرها وصغيرها، إلاّ أنني كنت المحور الأساسي في تحديد محتوى البرنامج وتحمل المسؤولية كاملة. شكلتُ لجنة من كبار ضباط الدفاع الجوي، تم اختيارها من كل الإدارات والأقسام، حددت متطلباتنا من الاتصالات ومن وحدات tsq 73 ووضعت جدولاً زمنياً للتدريب الذي يحتاج إليه رجالنا.
إضافة إلى الأنظمة الإلكترونية المعقدة، كان النظام يتطلب قدراً كبيراً من أعمال الإنشاء لإيواء أجهزة القيادة والسيطرة والرادارات ومعدات الاتصالات، حتى تكون قريبة من سرايا صواريخ هوك والأسلحة الأخرى. كنت أتمنى، في بداية الأمر، أن يتمكن المقاولون المحليون من القيام بعمليات البناء، لكن الطبيعة الفنية المعقدة للمشروع جعلت الشركات المحلية عاجزة عن الإقدام على تلك العملية. وعهدت شركة ليتون بالإنشاءات، بموجب عقد فرعي ( من الباطن )، إلى مؤسسة فرانكفورت التي يمتلكها فيليب هولزمان ونتج من ذلك تأخير البرنامج 18 شهراً تقريباً.
لم يمض وقت طويل حتى أدركنا أن فترة التنفيذ، التي تحددت بسبعين شهراً، كانت مبنية على حسابات مفرطة في التفاؤل. وأضحى من الصعب على الشركة الالتزام بها، إذ واجهت صعوبات فنية جمَّة تتصل بالرادارات ذات المدى البعيد على الساحلين الشرقي والغربي بسبب ارتفاع نسبة الرطوبة في الهواء، والفروق الكبيرة في درجات الحرارة، إضافة إلى الأحوال الجوية المتقلبة. وثمة أمر جعل المهندسين في حيرة من أمرهم، هو ما أطلقوا عليه "البث الشاذ". فعندما تدير جهاز رادار منصوباً على أيًّ من شواطئ شبه الجزيرة العربية، وخاصة الشواطئ الشرقية، تظهر لك صورة فضائية تمتد حتى الهند لكنها صورة مشوشة يصعب فهمها. كان هذا التشويش يحدث في كل من الظهران وجدّة. واحتاج الأمر إلى إجراء تعديلات أساسية في نظام الرادار. وفى نهاية المطاف، نُصبت أجهزة الرادار بنجاح لتغطي كل المملكة، وتم استخدام محطات تقوية لربط محطات الرادار بالشاشة الكبيرة الموجودة في غرفة العمليات في مركز قيادة قوات الدفاع الجوي في الرياض.
ظهرت مشكلة خطيرة أخرى، فشركة ليتون لم توفر الكميات الكافية من قطع الغيار. وكانت تلك المشكلة، من وجهة نظري، هي السبب الرئيسي في تأخر إتمام المشروع. ففي وقت من الأوقات، بلغ العجز في قطع الغيار ما قيمته 100 مليون دولار. واستغرق تصحيح هذا الوضع بضع سنوات، وأصبحت مشكلة العجز في قطع الغيار أكثر إلحاحاً، في الوقت الذي ظهرت فيه مشاكل الرادار في الظهران، وبدأ تدفق بقية المعدات لتركيبها في المباني التي شيدتها شركة فيليب هولزمان.
لم يغب عن تقديري أن شركة ليتون واجهت مشاكل فنية صعبة، لكنني لم أكن راضياً عن أدائها بشكل عام. وأدى ذلك، بطبيعة الحال، إلى تعكير صفو العلاقة بيني وبين فْرِيد أُوجرين. وبعد سلسلة من الاجتماعات المرهقة مرات عدة وسيل متبادل من الخطابات المتحفظة، أُعِيدَ النظر في الجدول الزمني مرات عدة، وتم التفاوض في شأن تعديل بنود العقد الأصلي. واقترحت، بشكل حاسم، سحب روبرت سيتز ممثل شركة ليتون في المملكة، بعد أن فقدت الثقة به. وحل محله جلين جربس، وهو مدير كفء لديه إلمام تام بالأمور الفنية، وكان قد ترك شركة ريثيون، في ذلك الوقت، ليعمل نائباً تنفيذياً لشركة ويتيكر ثم مستشاراً لها. وهي شركة كانت تتولى إدارة بعض المستشفيات في المملكة.
ولا أريد أن أترك لدى القارئ انطباعاً بأن شركة ليتون لم تستطع أن تؤدّي شيئاً بصورة صحيحة. لقد بذلت جهداً مقدراً حين نظمت برنامجاً للتدريب على نظام القيادة والسيطرة في كاليفورنيا وأفاد منه مئات الشباب السعوديين، ويُعَد هذا البرنامج حقاً، من أبرز الخدمات التي قدمَتها إلينا تلك الشركة. كان برنامجاً ناجحاً في كل المقاييس. وساعدتني ليتون في حماية الطلاب المتدربين هناك من إغراءات لوس أنجلوس التي لا تقاوم. فاشترت الشركة "موتيل" صغيراً يبعد كثيراً عن المدينة، ولكن الأمر لم يسلم من بعض المخالفات حين تورط عدد من الطلاب المراهقين في مغامرات طائشة. ففي إحدى المرات، هرب اثنان منهم إلى المكسيك حيث احتجزا ثم أعيدا إلى مقرهما. وإلى جانب برامج التدريب، كانت المعدات التي وردتها الشركة جيدة حقاً، كما أن المباني التي أقامتها شركة هولزمان، لإيواء تلك المعدات مبانٍ متميزة.
ازدادت مشكلة الإدارة في ليتون تعقيداً عندما ظهر الدكتور أوريون هوخ على الساحة. وهو رجل هادئ عنيد من أصل ألماني، وحاصل على درجة الدكتوراة في الفيزياء. أصبح رئيساً للشركة عام 1987 بعد تقاعد فْرِيدْ أُوجرين. وأذكر أنه زارني في مدينة بيرمنجهام في ولاية ألاباما حين كنت في رفقة والدي الذي كان يخضع لعملية جراحية.
بادرني هو قائلاً: "يا سمو الأمير، أريد أن أبدأ معكم صفحة جديدة. فلننسَ المشاكل الماضية". سررت لذلك كل السرور وجرت بيننا مناقشة ودية ووعدته بأنني سأساعد ليتون بكل ما أستطيع. بيد أن المشاكل لم تنتهِ. فقد لاحظت، على وجه الخصوص، أن الدكتور هوخ كان يرغب في أن تكون له ولإدارته السيطرة الكاملة على البرنامج من مقر الشركة في الولايات المتحدة. لكن برنامجاً كالذي كانت ليتون في صدد تنفيذه، لم يكن ليدار من على بعد عشرة آلاف ميلٍ!
طلبت منّا الشركة تسلم النظام وقبوله بعد وضع المعدات في أماكنها. لكنني وزملائي في قيادة قوات الدفاع الجوي، رفضنا تَسلُّم الصفقة قبل أن يُجرى عليها اختبار للتحقق من تكامل النظام ومن جاهزيته للعمل بنسبة 100%. فقد علمتني التجربة أنه لا يمكن التحقق من كفاءة أي سلاح نحصل عليه، إلاّ بإجراء الاختبارات الشاملة الدقيقة.
وبعد مناقشات طويلة، تمت الموافقة والتوقيع على تعديل آخر في العقد في أغسطس عام 1988، وتم بموجب هذا التعديل تأخير التسليم حتى 31 يناير عام 1989، على أن تُجري ليتون قبل التسليم اختباراً متكاملاً للنظام يغطي أرجاء المملكة تمهيداً لقبوله. واستقدمنا مستشارين محايدين لمراقبة الاختبار، منهم العميد المتقاعد جوزيف فيمياني من الجيش الأمريكي وكان يشغل منصب مدير الدفاع الجوي في البنتاجون ( يعرف أيضاً في بعض الأوساط أنه الأب الروحي لبرنامج صواريخ باتريوت إذ كان مديراً لذلك البرنامج في أيامه الأولى عندما كان يسمى sam-d )
تطلب ذلك الاختبار، كما توقعت، قدراً كبيراً من الجهد من جانب الشركة وأيضاً من جانب قيادة قوات الدفاع الجوي. كان ممثلو الجانبين موجودين في كل المواقع حين طلبنا من القوات الجوية السعودية أن تقوم بغارات وهمية وغارات مخطًطة وغارات مفاجئة على النظام ليتأكد لنا أنه يعمل في صورة مرضية.
انتهى الاختبار في ديسمبر عام 1988. وكانت عملية تقييم أداء النظام معقدة للغاية، وظنت ليتون أن الأمر قد انتهى وأن النظام اجتاز الاختبار. وعلى الرغم من اتفاقنا على أن أداء النظام فاق توقعاتنا، إلا أنه تبين لنا ولمستشارينا بعض التناقضات العملياتية. وكانت المشكلة تكمن في مجموعة البرامج التطبيقية (software) كنت حريصاً كل الحرص، أن يعمل النظام بكفاءة تامة، إذ كنّا في أمَسّ الحاجة إليه في وقت تموج فيه منطقتنا بالاضطرابات. كنت أريد أن أثبت أن قرار شراء نظام ( c3 ) كان صائباً. لكن إذا كنّا قد انتظرنا كل هذه المدة لنرى النظام وهو يعمل، فلا ضير من الانتظار قليلاً لنراه يعمل في صورة مرضية تماماً. لم أرَ بأساً في ذلك، فما كان لي أن أقبل النظام إلا وهو يعمل بكفاءة تامة لا تشوبها شائبة. وقررت ألاَّ أعتبر أن ليتون قد وفَّت بالعقد كاملاً إلاّ بعد تصحيح كل التناقضات التي لحظناها.
لم يَرُق رأيي هذا للدكتور هوخ، فبدا شديد الاستياء. واستغرق الأمر أشهراً عدة من المفاوضات الشاقة لإقناع الشركة بإتمام العقد على النحو الذي يرضينا. وبدأ جلين جربس، ممثل ليتون الجديد في المملكة، بحصر كل الأجزاء والقطع الناقصة والتناقضات والأخطاء في أداء النظام وجَمَعَها في ملف ضخم. لكن تصحيح كل تلك الأوضاع لم يتم إلا بعد أن عينت شركة ليتون السيد ألتون بران وهو رجل يفيض حيويةً ونشاطاً وفى منتصف الأربعينات من عمره، رئيساً للشركة ومديراً عاماً لعملياتها عام 1991. وفي تلك الفترة، اندلعت أزمة الخليج وتَسلّمتُ مهام عملي قائداً للقوات المشتركة. وأوْكَلتُ قيادة قوات الدفاع الجوي إلى نائبي اللواء ماجد طلحاب العتيبي.
ولأسدل الستار على هذه القصة، يسعدني أن أقول إن ألتون بران كان نسمة هواء عليل في جو خانق مُفعَمٍ بالغبار. شرع فور تعيينه في تغيير فلسفة الشركة، وقام بتقييم البرنامج، وانتهى إلى أن ليتون ينبغي أن تتولى مسئولية إتمامه على نفقتها. ويسعدني أن أقول إنّ النظام، وقت كتابة هذه السطور، يعمل بدرجة كفاءة 100%.
لقد اتُّهِمْتُ بالتحامل على شركة ليتون! لكنني لا أرى سبباً لذلك، فقد كنت أطالب لبلدي بنظام يعمل بكفاءة تامة مقابل الأموال الطائلة التي أنفقناها. ثم إن حصاد السنين من التجارب مع شركة ريثيون التي تكلَّلت بالوصول إلى علاقة متوازنة معها، جعلني أرفض تماماً أن أترك المجال أمام شركة ليتون أو غيرها من الشركات لتستخف بنا. نحن دولة مستقلة ذات سيادة كاملة، ولن ترهبنا شركة أيّاً كان نفوذها أو كانت حاجتنا إليها.
ولا ريب أن بعض اللوم يقع على عاتقنا نحن. ولعلنا أعطينا ليتون حرية أكثر من المطلوب. ولا أظن أن هذا الخطأ سيتكرر مرة أخرى. لقد علمتنا تجربتنا مع ليتون أن نتوخى الحيطة والحذر في مفاوضاتنا مع الشركات الأجنبية، فأضفنا إلى كل العقود بنوداً وشروطاً كثيرة تحمي مصالحنا وتضمنها.
آتى برنامج ليتون ثماره بالنسبة إليَّ، إذ تعلمتُ الكثير، واتسعت معارفي بلا حدود، وكل ما أرجوه أن تكون ليتون، بالمثل، تعلمت بعض الشيء عن المملكة العربية السعودية وشعبها.