إجــتـــيــاح الـــمغــول الــتـــتـــار لـلـشــــــام 657 و 658 هجري

إنضم
28 مارس 2013
المشاركات
25,052
التفاعل
30,391 0 0

تمهيد
==


بعد تدمير العراق انسحب هولاكو من بغداد إلى همذان بفارس، ثم توجه إلى قلعة تسمى: قلعة شاها على شاطئ بحيرة أرمية، وبحيرة أرمية في الشمال الغربي لإيران، وفي هذه القلعة وضع الكنوز الهائلة التي نهبها من قصور العباسيين، ومن بيت مال المسلمين، ومن بيوت التجار وأصحاب رءوس الأموال.. وغيرهم.

وترك هولاكو حامية تترية حول بغداد، وبدأ يفكر بجدية في الخطوة التالية، لا شك أن الخطوة القادمة ستكون سوريا، فبدأ يدرس الموقف في هذا المنطقة، وبينما هو يقوم بهذه الدراسة ويحدد نقاط الضعف والقوة في هذه المناطق الإسلامية، بدأ بعض الأمراء المسلمين يؤكدون ولاءهم للتتار، وبدأت الوفود الإسلامية الرسمية تتوالى على زعيم التتار، وتطلب عقد الأحلاف والمعاهدات مع الصديق الجديد، رجل الحرب والسلام هولاكو ، ومع أن دماء المليون مسلم الذين قتلوا في بغداد لم تجف بعد، إلا أن هؤلاء الأمراء لم يجدوا أي غضاضة في أن يتحالفوا مع هولاكو، فالفجوة هائلة بينهم وبين هولاكو ، والأفضل في اعتباراتهم أن يفوزوا بأي شيء، وهذا أحسن من لا شيء، أو على الأقل يحيدون جانبه ويأمنون شره.

يقول ربنا سبحانه وتعالى:
sQoos.gif
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا
eQoos.gif
[النساء:72]، فقد فرح هؤلاء الأمراء بعدم الاشتراك في الدفاع عن بغداد وعن العراق؛ لأن بغداد سقطت، وهكذا هم مع المنتصر، يسارعون إليه أياً كان.


وقد كان هؤلاء الأمراء يظهرون أمام شعوبهم بمظهر الحكماء، الذين جنبوا شعوبهم ويلات الحروب، وقد كان لهم خطب قوية نارية حماسية،
sQoos.gif
وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ
eQoos.gif
[المنافقون:4]، وقد كان هناك كثير من العلماء الأصوليين يؤيدون خطوات الأمراء، ويباركون تحركاتهم، ويحضون شعوبهم على اتباع هؤلاء الأمراء، والرضا بأفعالهم مهما كانت، ولا شك أن هؤلاء العلماء كانوا يضربون لهم الأمثال من السنة النبوية المطهرة، ويقولون لهم: لقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية المشركين، فلماذا لا نعاهد نحن التتار الآن؟ ولقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود في المدينة المنورة، فلماذا لا نعاهد نحن التتار في بغداد؟ وهكذا.


ثم يقولون: إن التتار جنحوا للسلام، والله عز وجل يقول:
sQoos.gif
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
eQoos.gif
[الأنفال:61] فالتتار جنحوا للسلم معنا، ويريدون أن يقيموا معنا معاهدات وأحلافاً، أفتريدون أن نقع في مخالفة شرعية ولا نسمع لكلام ربنا؟! وهل تريدون سفك الدماء وتخريب الديار وتدمير الاقتصاد؟!


إن الحكمة كل الحكمة ما فعله أميرنا من التصالح والتعاهد والتحالف مع التتار، ولنبدأ صفحة جديدة من الحب لكل البشرية
sQoos.gif
يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
eQoos.gif
[آل عمران:78].


ذهب هؤلاء الأمراء إلى هولاكو وقلوبهم تدق وأنفاسهم تتسارع، وهم يتساءلون: هل سيقبل سيدهم هولاكو أن يتحالف معهم؟ جاء الزعماء الأشاوس يجددون العهد مع الصديق هولاكو ، فقد جاء الأمير بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل، والأمير كيكاوس الثاني ، والأمير قلج أرسلان الرابع من منطقة الأناضول وسط وغرب تركيا، والأمير الأشرف الأيوبي أمير حمص، والأمير الناصر يوسف حفيد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله أمير حلب ودمشق، وكان هؤلاء الأمراء يمثلون معظم شمال العراق وأرض الشام وتركيا، وهذا يحل مشاكل كثيرة جداً أمام هولاكو ؛ لأن أبواب المسلمين الآن ستفتح دون قتال.

 

حصار المغول التتار لمدينة ميارفيقين
===


ظهرت مشكلة أمام هولاكو ، وهي أن أحد الأمراء الأيوبيين رفض أن يرضخ له، ورفض أن يعقد معاهدات السلام مع التتار، وقرر أن يجاهدهم حتى النهاية، فاعتبر هولاكو أن هذا الرجل إرهابي، يريد زعزعة الاستقرار في المنطقة،

ولا شك أن هولاكو قال: إنه يعلم أن هذا الرجل لا يمثل دين الإسلام؛ لأن الإسلام دين السماحة والرحمة والحب والسلام، وهولاكو ليس عنده أي اعتراض على الإسلام، ولكنه معترض على هذا الذي يريد زعزعة الاستقرار في المنطقة.

وهذا الأمير المسلم الذي ظل محتفظاً بمروءته وكرامته ودينه، هو الأمير الكامل محمد الأيوبي رحمه الله أمير منطقة ميافارقين وهي تقع الآن في شرق تركيا إلى الغرب من بحيرة وان، وجيوش الكامل محمد رحمه الله كانت تسيطر على شرق تركيا، بالإضافة إلى منطقة الجزيرة، وهي المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات من جهة الشمال، فهذا الرجل كان يسيطر على شرق تركيا، وعلى الشمال الغربي من العراق، والشمال الشرقي من سوريا.

كان هولاكو يريد احتلال سوريا، فكان عليه أن يجتاز منطقة الجزيرة الواقعة تحت سيطرة الكامل محمد رحمه الله، وأن يمر في شمال العراق، وعلى الرغم من خنوع وخضوع معظم أمراء المنطقة، إلا أن إخضاع إمارة ميافارقين بالقوة أصبح أمراً لازماً، ومدينة ميافارقين حصينة جداً، وتقع بين سلسلة جبال الأسود، واحتلالها صعب جداً،

وكان هولاكو لا يريد أن يدع أي شيء للمفاجآت، فحتى يخرج من هذا المأزق بدأ بالطرق السهلة وغير المكلفة، فحاول إرهاب الكامل وإقناعه بالتخلي عن فكرة الجهاد الطائشة، فأرسل إليه رسولاً يدعوه فيه إلى التسليم غير المشروط، والدخول فيما دخل فيه غيره، فكل الأمراء الذين حوله قد استسلموا، وهو المعارض الوحيد؛ وقد كان هولاكو في منتهى الذكاء في اختيار الرسول، فلم يرسل رسولاً تترياً، وإنما أرسل رسولاً عربياً نصرانياً اسمه قسيس يعقوبي، فهذا الرسول من ناحية يستطيع التفاهم مع الكامل محمد بلغته، وأن ينقل إليه أخبار هولاكو وقوته وبأسه، ثم هو من ناحية أخرى نصراني فيلفت بذلك نظر الكامل محمد إلى أن النصارى متعاونون مع التتار، وهذا الأمر خطير بالنسبة للكامل محمد جداً، وله بعد إستراتيجي في منتهى الأهمية؛ لأن إمارة ميافارقين الواقعة في شرق تركيا يحدها شرقاً مملكة أرمينيا النصرانية، وهي متحالفة مع التتار، ويحدها من الشمال الشرقي مملكة الكرج(( جورجيا)) النصرانية، وهي أيضاً متحالفة مع التتار،

فإذا ما اعترض الكامل محمد رحمه الله على هولاكو فإنه سيصبح كالجزيرة المحصورة في خضم هائل من المنافقين والمشركين والنصارى، وسيحاصر من كل الجهات، فمن الشرق سيحاصر بمملكة أرمينيا النصرانية، ومن الشمال الشرقي بمملكة الكرج النصرانية، التي هي جورجيا الآن، ومن الجنوب الشرقي بإمارة الموصل العميلة للتتار، فالجانب الشرقي كله محاط بعملاء وبنصارى، وفي الغرب إمارات السلاجقة العميلة للتتار أيضاً، ففي وسط وغرب تركيا كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع ، وهما عميلان للتتار، ومن الجنوب الغربي إمارة حلب الخاضعة للناصر يوسف الأيوبي ، وهي عملية للتتار أيضاً، فلا يوجد أي منفذ للكامل محمد من أي طريق، سواءً من بلاد المسلمين أو من بلاد النصارى، وفوق كل هذا فجيش التتار سيأتي لمحاصرة المنطقة، فالموقف في منتهى الخطورة.

ولكن الكامل محمد رحمه الله أمسك الرسول النصراني قسيس يعقوبي وقتله، وقد كانت الأعراف تقضي ألا يقتل الرسل، ولكن الكامل محمد قام بذلك؛ ليكون إعلاناً رسمياً للحرب على هولاكو ، وكنوع من شفاء الصدور للمسلمين؛ انتقاماً من ذبح مليون مسلم منذ أيام؛ ولأن التتار ما احترموا أعرافاً في حياتهم، وكان قتل قسيس يعقوبي رسالة واضحة من الكامل محمد إلى هولاكو ، فأدرك هولاكو فوراً أنه لن يدخل الشام إلا بعد القضاء على الكامل محمد تماماً، فاهتم هولاكو جداً بهذا الموضوع، فهذا أول صحوة في المنطقة، ولم يضيع الوقت، بل جهز بسرعة جيشاً كبيراً جداً، ووضع على رأسه ابنه أشموط بن هولاكو مباشرة، فتوجه الجيش التتاري إلى ميافارقين مباشرة بعد أن فتح له أمير الموصل العميل بدر الدين لؤلؤ أرضه للمرور، فحاصر جيش التتار ميافارقين حصاراً شديداً، وكما هو متوقع جاءت جيوش مملكتي أرمينيا والكرج لتحاصر ميافارقين من الناحية الشرقية، وكان بداية الحصار الشرس في شهر رجب سنة (656 هـ)، أي: بعد حوالي أربعة أشهر من تدمير بغداد، فصمدت المدينة الباسلة، وظهرت فيها مقاومة ضارية، وقام الأمير الكامل محمد في شجاعة نادرة يشجع شعبه على الثبات والجهاد، فقد كان كريماً في زمان اللئام، وشجاعاً حقاً في زمان الجبناء، وفاهماً جداً في زمان لا يعيش فيه إلا الأغبياء، بل أغبياء الأغبياء.

وكان من المفروض في هذا الحصار البشع الذي ضرب على ميافارقين أن يأتيها المدد من الإمارات الإسلامية الملاصقة لها، ولكن هذا لم يحدث، فلم تتسرب إليها أي أسلحة أو أطعمة أو أدوية، فقد احترم الأمراء المسلمون النظام الدولي الجديد الذي فرضته القوة الأولى في العالم: التتار، على إخوانهم وأخواتهم وأبنائهم وبناتهم وآبائهم وأمهاتهم المسلمين في ميافارقين.






أسباب قعود الشعوب المسلمة عن نصرة المسلمين المحاصرين في ميافارقين
=========

أنا لا أتعجب كثيراً من فعل الأمراء المسلمين؛ لكونهم خونة مطلقاً، ولكني أتعجب من رد فعل الشعوب، فأين كانت الشعوب في هذه البلاد المسلمة؟ فأين كان شعب الموصل وتركيا؟ فقد كان هناك من تربطه صلات رحم بأولئك الذين يعيشون في ميافارقين، فحتى الفطرة تقضي عليهم أن يساعدوهم، وأن يمدوهم بالطعام والسلاح والدواء، وإذا كان الحكام على هذه الصورة الوضيعة من الأخلاق، فلماذا سكتت الشعوب، ولم تتحرك لنجدة إخوانهم في الدين والعقيدة، بل وإخوانهم في الدم والنسب كما ذكرنا؟ لقد سكتت الشعوب، وسكوتها مرده إلى أمور خطيرة:

أولاً: لم تكن الشعوب تختلف كثيراً عن حكامها، فقد كانت تحب الحياة، أي حياة وبأي صورة.

ثانياً: كانت هناك عمليات غسيل مخ مستمرة لكل شعوب المنطقة، فالحكام والوزراء وعلماء الحكام، كانوا يقنعون الناس بحسن سياسة الحكام وحكمة إدارتهم، ولا شك أن هؤلاء الحكام أيضاً كانوا يلومون الكامل محمد على تهوره ودفاعه عن كرامته ودينه وكرامة شعبه، بل وعن كرامة المسلمين جميعاً، ولا شك أنهم كانوا يقولون مثلاً: أما آن للكامل محمد أن يتنحى ليجنب شعبه ويلات الحروب ودمارها؟ ومنهم من يقول: لو سلم الكامل محمد أسلحته لانتهت المشكلة، ولكنه يخفي أسلحته عن عيون الدولة الأولى في الأرض التتار، وهذا خطأ يستحق إبادة شعب ميافارقين بكامله.

ولا شك أن هولاكو كان يرسل برسائل يقول فيها: إنه ما جاء إلى هذه المدينة المسالمة ميافارقين إلا لإزاحة الكامل محمد عن الحكم، وأما شعب ميافارقين فليس بينه وبينهم عداء، ونريد أن نتعايش سلمياً إلى جوار بعضنا البعض، وعمليات غسيل المخ المستمرة تهدئ من حماسة الشعوب، وتقتل المروءة والنخوة.

ثالثاً: من لم تقنعه الكلمات والخطب والحجج والبراهين، فالإقناع له يكون بالسيف، وقد تعودت الشعوب في هذه المناطق على القهر والبطش والظلم من الولاة، وتعودوا على الكراهية المتبادلة بين الحكام والمحكومين، وعلى الظلم.

في ظل هذه الملابسات المخزية والأوضاع المقلوبة نستطيع أن نفهم كيف تم حصار إمارة ميافارقين، وتعرض شعبها المسلم للموت أحياء، ولم يتحرك لها حاكم ولا شعب من الإمارات الإسلامية المجاورة جداً لها.
 

موقف الناصر يوسف الأيوبي (( حاكم دمشق وحلب )) من حصار ميافارقين
==========

إذا كنا نفهم الخزي والعار الذي كان عليه أمير الموصل وأمراء السلاجقة، فإننا لا نستطيع أن نتخيل الخزي والعار الذي وصل إليه الناصر يوسف الأيوبي حاكم حلب ودمشق، فقد كانت تربطه بـالكامل محمد علاقات في منتهى الأهمية فوق علاقات الدين والعقيدة، والجوار، وبينهما علاقات إستراتيجية هامة جداً، فإمارة ميافارقين تقع شمال شرق حلب، ولو سقطت فإن الخطوة القادمة للتتار مباشرة حلب، وفوق كل هذه الأمور فهناك علاقات الدم والرحم، فكلا الأميرين من الأيوبيين، وعهدهما قريب جداً بجدهما البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي ، فلم يمر على وفاته إلا (70) سنة فقط، فقد توفى سنة (589هـ)، ووقفاته ضد أعداء الأمة لا تنسى، فكيف يكون الحفيد الناصر يوسف بهذه الصورة المخزية؟

فليس هناك للناصر يوسف أي مبررات للتخاذل عن نصرة ميافارقين، لا من ناحية الشرع ولا من ناحية العقل. سبحان الله،
sQoos.gif
sQoos.gif
وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ
eQoos.gif
[النحل:8].


الكامل محمد رحمه الله من الناصر يوسف الأيوبي إمداده، بالغذاء والسلاح والأدوية الكافية لشعب ميافارقين، فقد تضرروا من الحصار، ولكن الناصر يوسف الأيوبي رفض رفضاً قاطعاً صريحاً، ولم يتردد أو يفكر، فقد باع كل شيء واشترى ود التتار، وما علم وقت أن فعل ذلك أن التتار لا عهد لهم ولا أمان، حتى لو صدق التتار في عهودهم أيبيع المسلمين للتتار ولو بكنوز الدنيا؟! ولكنه هكذا فعل.



تغيير العلاقة بين هولاكو والناصر يوسف الأيوبي
==========


لم يكتف الناصر يوسف بمنع المساعدة عن الكامل محمد ولا في المشاركة في حصار ميافارقين، بل أرسل رسالة إلى هولاكو مع ابنه العزيز -الذي حاصر بغداد مع جيش التتار ليساعد في إسقاطها- يطلب منه أمراً عجيباً في هذا التوقيت الغريب، فقد طلب من هولاكو أن يعينه بفرقة تترية للهجوم على مصر والاستيلاء عليها من المماليك؛ ليضمها إلى مملكته.



الناصر يوسف الأيوبي يطلب مساعدة هولاكو لاحتلال مصر
===

في هذه الظروف يطلب الناصر يوسف من التتار الهجوم على مصر! ولم ينس الناصر يوسف أن يحمل ابنه العزيز بالهدايا الثمينة والتحف النفيسة إلى صديقه الجديد هولاكو ، ولكن
sQoos.gif
هولاكو أن يرسل الناصر يوسف ابنه العزيز ولا يأتي بنفسه، فكل الأمراء جاءوا بأنفسهم إلا هو، وأيضاً فقد رأى هولاكو أن هناك مشكلة كبيرة جداً: فكيف يطلب مساعدة هولاكو في فتح مصر للناصر فـهولاكو يريد كل شيء له، فلاحظ أن الناصر يوسف بدأ يرى نفسه، وهولاكو لا يريد أحداً مطلقاً إلى جواره.




رسالة هولاكو إلى الناصر
======


أحضر هولاكو الأدباء المسلمين المحترفين التابعين له الذين يصوغون الرسالات، وكتب رسالة مباشرة إلى الناصر يوسف يقول له:

(( إنا قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى، وقتلنا فرسانها، وهدمنا بنيانها، وأسرنا سكانها، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز حكاية عن ملكة سبأ:
sQoos.gif
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ
eQoos.gif
[النمل:34]


واستحضرنا خليفتها، وسألناه عن كلمات فكذب، وسألناه عن الكنوز وعن الأسرار فكذب، فواقعه الندم، واستوجب منا العدم، وكان قد جمع ذخائر نفيسة، وكانت نفسه خسيسة، فجمع المال ولم يعبأ بالرجال، وكان قد نما ذكره وعظم قدره، ونحن نعوذ بالله من التمام والكمال !

إذا وقفت على كتابي هذا فسارع برجالك وأموالك وفرسانك إلى طاعة سلطان الأرض شاهنشاه رويزمين -يعني: ملك الملوك على وجه الأرض- تأمن شره وتنل خيره، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز:
sQoos.gif
وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى
eQoos.gif
[النجم:39-41].


ولا تعوق رسلنا عندك،
sQoos.gif
فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ
eQoos.gif
[البقرة:229]، وقد بلغنا أن تجار الشام وغيرهم انهزموا بحريمهم إلى مصر. فتجار الشام لما عرفوا أن التتار على الأبواب أخذوا الأموال والنساء وهربوا إلى مصر بعيداً عن أرض القتال، فإن كانوا في الجبال نسفناها، وإن كانوا في الأرض خسفناها.


أين النجاة ولا مناص لهارب ولي البسيطان الندى والماء

ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت في قبضة الأمراء والوزراء )))



وانتهت الرسالة التترية المرعبة، فسقط قلب الناصر يوسف بين قدميه، فقد وضحت نوايا هولاكو ، فهو يطلب منه صراحة التسليم الكامل، ويخبره أنه سيتتبع من فر من تجاره وشعبه، وذكره بمصير الخليفة العباسي البائس، فهل يسلم كل شيء لـهولاكو ؟ فماذا يبقى له بعد هذا؟ فحب المال والسلطان يجري في دم الناصر يوسف ، وهو ما والى ملك التتار إلا ليظل ملكاً، ولكن الآن هولاكو يقول له: لا، تعال وأنا الذي سأقسّم التركة، وسأقسم الدنيا كلها، ولو لم تأت سينالك ما نال الخليفة العباسي قبل ذلك، فلو رفعه هولاكو من على كرسي الحكم فلماذا يعيش؟






دعوة الناصر للجهاد ضد التتار
=========

قرر الناصر يوسف أن يأخذ قراراً لم يفكر فيه طيلة حياته، واضطر اضطراراً لأن يأخذ قرار الجهاد ضد التتار، وهذه الدعوة مضحكة، فليست هذه أشكال الناس التي تجاهد، فالجميع يعلم أن الناصر يوسف ليس من أهل الجهاد، وليس عنده أي حمية للدين ولا للعقيدة ولا للمروءة ولا للنخوة، فدعوة الناصر يوسف للجهاد في سبيل الله كانت دعوى مضحكة جداً، فهو رجل اعتاد أن يبيع كل شيء وأي شيء ليشتري ساعة أو ساعتين على كرسي الحكم، لكن هذا ما حدث بالفعل.

ورفع الناصر يوسف راية بلاده، وكتب عليها: الله أكبر، وبدأ يحمس شعبه على الجهاد في سبيل الله -أقصد في سبيل الكرسي- ، وهو الذي راسل لويس التاسع ملك فرنسا قبل ذلك ليساعده في حرب مصر على أن يعطيه بيت المقدس، وهو الذي أيد دخول التتار إلى بغداد، وهنأ هولاكو على نصره العظيم، وتخلى عن الكامل محمد الأيوبي أمير ميافارقين، ولم يمده حتى بالطعام، وقد كان قبل قليل يطلب من هولاكو أن يساعده على غزو مصر، فـالناصر يوسف بكل هذا التاريخ الفاضح يعلن الجهاد، وهذه مهزلة، فـالناصر يوسف كان يتاجر بعواطف شعبه، وقد ظهر سوء خلقه وفساد عقيدته وانعدام رؤيته للناس أجمعين، فكان من الحماقة أن يعتقد بعض المسلمين أن الله عز وجل سينصر الإسلام على يده،
sQoos.gif
للناصر يوسف وجاءوا يقاتلون تحت رايته الجديدة، ولكن استقراء التاريخ والواقع يشير إلى أنه حتماً ولا بد سيفر إذا جاء اللقاء، ولن يمكث في أرض المعركة إلا قليلاً، بل قد يهرب قبل بدء القتال أصلاً؛ وساعتها ينصدم هؤلاء الناس المتحمسون، ويشعرون بالإحباط الشديد، ولذا كان عليهم أن يراجعوا أنفسهم، فخطؤهم الأكبر ليس الإحباط بعد فرار الزعيم، وإنما هو اعتقاد أن الناصر يوسف وأمثاله يستطيعون حمل راية الجهاد الثقيلة جداً.


فإذا سمعتم دعوة الجهاد فانظروا من ينادي بها، فهذه العبادة هي ذروة سنام الإسلام، ولا ينادي بها حقاً إلا أعاظم الرجال.

أعلن الناصر يوسف دعوة الجهاد، وضرب معسكره التابع له في شمال دمشق عند قرية اسمها قرية برزة، مع أنه من المفروض أن يضرب المعسكر التابع له عند حلب؛ لأنها لم تسقط بعد، وهي بجانب ميافارقين، وإذا انتهى هولاكو منها فإنه سيأتي على حلب، ولكنه عسكر بعيداً جداً، حتى إذا سقطت حلب هرب هو من دمشق، فدمشق على بعد (300) كيلو متر من حلب، فهي مسافة كافية جداً للهرب.


بدأ الناصر يوسف يعد العدة ويراسل الأمراء من حوله؛ لينظموا إليه لقتال التتار، فراسل المغيث فتح الدين عمر أمير إمارة الكرك، والكرك شرق البحر الميت وهو الآن في الأردن، وقد كانت إمارة مستقلة، ولم يكن هذا الرجل إلا مغيثاً لنفسه فقط، ولم يكن فتحاً للدين بأي صورة من الصور، ولم يكن شبيهاً بـعمر بأي حال من الأحوال، وإنما كانت أسماؤهم عظيمة في ذلك الزمان وكان رجلاً كـالناصر يوسف يحارب التتار تارة ويطلب عونهم تارة، ويحارب الصليبيين تارة ويطلب عونهم تارة، بحسب الظروف والأحوال.

ثم راسل الناصر يوسف أميراً لم يتخيل أحد أبداً أن يراسله، راسل أمير مصر يطلب معونته في حرب التتار، وقد كان يطلب من التتار معاونتهم في فتح مصر، والآن يستعين بأمير مصر في حرب التتار، وهذا ليس في مبدأ ولا قاعدة أصل، وإنما هي المصلحة ويكفي، فهذا هو القانون الذي كان يحكم حياته بكاملها.



 

أسباب ازدياد قوة العلاقة بين التتار والنصارى
==========


رجع هولاكو من قرية شاها إلى مدينة همذان في إيران، فقد كان فيها القيادة المركزية لإدارة شئون الحرب في منطقة الشرق الأوسط، وكانت على بعد (450) كيلو متر من بغداد، وبدأ هولاكو يعيد ترتيب الأوراق نتيجة التطورات الجديدة، ويحلل الموقف في منطقة الشرق الأوسط الملتهبة، وينظر إلى الأحداث التي توالت في هذه الشهور السابقة،

فوجد الآتي:

أولاً: علاقة التتار بالنصارى تزداد قوة، ولا شك أن هولاكو بحاجة إلى أن يعمق هذه العلاقة بصورة أكبر؛ لمواجهة النماذج الإسلامية المعارضة التي ظهرت مثل: الكامل محمد أو غيره ممن سيظهر بعد هذا، وهنا سيحتاج التتار إلى قوة النصارى للمساعدة في إخماد الثورات من ناحية، ولنقل الخبرة من ناحية أخرى، ولإدارة أمور الشام بعد إسقاطها من ناحية ثالثة، لأجل هذا أراد التتار أن يشتروا ود النصارى إلى آخر درجة، فأغدق هولاكو بالهدايا والمكافآت على هيثوم ملك أرمينيا، وكذلك على ملك الكرج، وكذلك على بوهمند أمير أنطاكية.


النقطة الثانية: الحصار ما زال مضروباً على ميافارقين بقيادة أشموط بن هولاكو ، ومع بسالة المقاومة وشجاعة الكامل محمد إلا أن الحصار كان شديد الإحكام، ويشترك فيه قوات أرمينيا والكرج، ولم يحاول أي أمير مسلم المساعدة في فك هذا الحصار، وهولاكو مطمئن نسبياً إلى حصار ميافارقين.


النقطة الثالثة: ظهر الموقف العدائي من الناصر يوسف الأيوبي أمير حلب ودمشق، وضرب معسكراً جهادياً شمال دمشق، وبدأ في إعداد الجيش لمقابلة التتار، وهذا الإعداد لم يقابل بأي اهتمام من هولاكو ، فهو يعرف الناصر وإمكانياته ونفسيته، ولذلك كانت هذه مسألة تافهة نسبياً بالنسبة لـهولاكو .


النقطة الرابعة: منطقة العراق الأوسط وأهمهما مدينة بغداد أعلنت تسليمها بالكامل للتتار، وأصبحت آمنة تماماً، وكذلك ظهر ولاء أمير الموصل التام للتتار، فالشمال الشرقي من العراق أيضاً أصبح آمناً تماماً.


النقطة الخامسة والأخيرة: إن أقوى المدن الآن في الشام هي مدينة حلب ودمشق، ولو سقطت هاتان المدينتان فإن ذلك يعني سقوط الشام كلية، ومدينة حلب تقع في شمال دمشق على بعد (300) كيلو متر تقريباً.


فقرر هولاكو أن يتوجه مباشرة لإسقاط إحدى المدينتين: حلب، أو دمشق، وأدرك هولاكو أنه لو أراد أن يتوجه إلى حلب، فإن عليه أن يخترق الشمال العراقي أولاً، ثم يدخل سوريا من شمالها الشرقي مخترقاً بذلك شمال سوريا، موازياً لحدود تركيا حتى يصل إلى حلب في شمال سوريا الغربي، وهذه المناطق كثيرة الأنهار، وفيها معوقات كثيرة طبيعية، وبالذات في مناورات الجيوش الضخمة، ففيها نهر دجلة والفرات، وفي نفس الوقت فهذه المناطق خضراء، ووفيرة الزرع والمياه،

يعني: أن الجيش سيمشي فيها وهو مطمئن إلى وفرة الغذاء والماء، بالإضافة إلى أنها قريبة من ميافارقين، فلو احتاج جيش أشموط أي مساعدة فسيكون جيش التتار الرئيسي بجنبه، فاحتلال مدينة حلب يحمل بعض المزايا، وهي أن الطريق إليها فيه الغذاء والماء، وهي قريبة من ميافارقين، ويمر في مناطق آمنة، فهو يمر في أرض أمير الموصل الموالي للتتار، وسيدخل بعد هذا على شمال سوريا وليس فيها الناصر يوسف ، فهو معسكر في الجنوب في دمشق. هذا الاختيار الأول.

وإذا أراد هولاكو أن يتوجه إلى دمشق أولاً فهذا سيمثل عنصر مفاجئة رهيبة للمسلمين في دمشق؛ لأن هولاكو سيأتي من حيث لا يتوقعون، فهم يتوقعون مجيئه من الشمال من ناحية حلب،

فلو جاء من الشرق من ناحية الصحراء فمن الصعب جداً على أهل دمشق أن يتخيلوا مثل هذه المفاجأة، ويستطيع بهذا هولاكو أن يصل إلى الناصر يوسف في عقر داره مباشرة، ولا يتيح له فرصة للفرار،

ولكن هنا مشكلة كبيرة جداً، فحتى يفعل ذلك هولاكو فإن عليه أن يخترق صحراء السماوة، التي تسمى: بادية الشام، والتي تمتد من بغداد إلى دمشق، وهي صحراء قاحلة جداً، والسير فيها بجيش كبير يعتبر مخاطرة مروعة، ولا يستطيع هولاكو أن يقدم على هذه الخطوة، مع أنه لو فعلها لفاجأ جيش الناصر يوسف من حيث لا يتوقع، ولقابل القوة الرئيسية للمسلمين، وبذلك يسقط الشام بكامله.


 

توجه هولاكو إلى حلب
========


اختار هولاكو أن يخترق شمال سوريا والوصول إلى حلب، مع كثرة المعوقات الطبيعية هناك، ولكن هذا آمن للجيش التتري، وقبل هذا بستة قرون كاملة وبإمكانية أقل من ذلك بكثير اجتاز خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه هذه الصحراء الشاسعة بجيشه من العراق إلى الشام؛ ليفاجئ جيوش الرومان بالقرب من دمشق، نفس هذا الموقف تماماً، ولكن خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه اختار دمشق ولم يختر حلب، ونجح في ذلك نجاحاً مبهراً، ولم يفقد من جيشه جندياً واحداً. ولكن شتان بين خالد الصحابي رضي الله عنه وهولاكو السفاح لعنه الله.

المهم وباستقراء الأمور جميعاً قرر هولاكو أن يتوجه بجيشه إلى حلب، على أن يبقى ابنه أشموط محاصراً لميافارقين،

وبدأ جيش التتار الجرار في التحرك من قواعده في همذان إلى سوريا؛ فاجتاز الجبال الواقعة في غرب إيران، ثم دخل حدود العراق من شمالها الشرقي، وتجاوز مدينة أربيل ثم مدينة الموصل الموالية له، وعبر نهر دجلة، وكان نهر دجلة هو العائق المائي الأول في هذه المنطقة، وهو عائق خطير جداً، ولكن هذه المنطقة كانت آمنة تماماً، فعبر الجيش التتري الكبير هذا النهر دون أن تواجهه أي مشاكل في العبور، وسار بحذاء نهر دجلة على شاطئه الغربي في أرض الجزيرة، ليصل إلى مدينة نصيبين في جنوب تركيا ملاصقة للحدود السورية الحالية ، وهي على حوالي سبعين كيلو متر جنوب ميافرقين، وبذلك اقترب جداً من جيش أشموط إلا أنه لم يذهب إليه؛ لأنه كان مطمئناً لقوته.


اختراق جيش هولاكو لأراضي المسلمين دون عوائق
===


احتل هولاكو مدينة نصيبين دون مقاومة تذكر، ثم اتجه غرباً ليحتل مدينة حران ( مسقط رأس شيخ الاسلام ابن تيمية ))، ثم مدينة الرها، ثم مدينة البيرة، وكل هذه المدن في جنوب تركيا، بلاد كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع ، ولم يستطع أحدهما الاعتراض، وعند مدينة البيرة عبر هولاكو نهر الفرات الكبير من شرقه إلى غربه، وبهذا يكون قد مر من العائق المائي الثاني في المنطقة دون أي مشاكل تذكر، وهكذا قرب جداً من الحدود التركية السورية، وتوجه مباشرة إلى مدينة حلب الحصينة، وبينها وبين الحدود التركية حوالي (50) كيلو متر فقط.

واستمرت هذه الاختراقات التترية للأراضي الفارسية أولاً، ثم الأراضي العراقية، ثم التركية، ثم السورية مدة عام (657هـ) كاملاً، وهو العام الذي تلا إسقاط بغداد مباشرة.



محاصرة هولاكو لحلب
=======


وصل هولاكو إلى حلب في المحرم من سنة (658هـ)، وحاصرت الجيوش التترية المدينة المسلمة من كل الجهات، فرفضت التسليم، مع أن زعيمها الناصر يوسف غير موجود فيها، وهو على بعد (300) كيلو متر منها.

وتزعم المقاومة فيها توران شاه عم الناصر يوسف الأيوبي ، وهو غير توران شاه التابع لمصر، فهذا سيأتي ذكره إن شاء الله في الدرس القادم، وكان توران شاه هذا شيخاً كبيراً، ولكنه كان مجاهداً بحق، وليس كابن أخيه.

نصبت المجانيق التترية حول مدينة حلب، وبدأ القصف المتوالي من التتار على المدينة، ولم يفكر أبداً الناصر يوسف في إرسال أي مساعدة لأهل حلب، مع أنها كانت من أهم المدن التي يملكها الناصر يوسف.



سقوط ميافارقين أثناء حصار هولاكو لحلب ومقتل الكامل أمير ميافارقين
==============



في أثناء حصار حلب، والشعب يحاول رد بأس التتار، وصل خبر أليم مفجع إلى المسلمين في حلب، وهو أنه قد سقطت مدينة ميافارقين، ودخلت جيوش التتار الهائلة داخل المدينة بعد حصار بشع استمر عاماً ونصف عام متصلاً بالنضال والكفاح والجهاد، دون أن تتحرك نخوة في قلب أمير من الأمراء أو ملك من الملوك، مدة (18) شهراً والناصر والأشرف والمغيث وغيرهم من الأسماء الضخمة يراقبون الموقف ولا يتحركون، ولما سقطت المدينة الباسلة استبيحت حرماتها تماماً، وجعلها أشموط بن هولاكو عبرة لكل بلد تقاوم في هذه المنطقة، فقد قتل أشموط كل سكان ميافارقين، واحتفظ منهم بالأمير الكامل محمد رحمه الله حياً؛ ليزيد من عذابه، وذهب به إلى أبيه السفاح هولاكو وهو في حصار مدينة حلب وسلمه إياه.


ماذا فعل هولاكو بالكامل محمد
==


فاستجمع هولاكو كل شره في الانتقام من الأمير البطل الكامل محمد الأيوبي رحمه الله، فقيده وصلبه، ثم بدأ يقطع أطرافه وهو حي رحمه الله، ثم أجبره على أن يأكل لحمه، فكان يدس لحمه في فمه رغماً عن أنفه، فكان يقطع من جسمه ويضعه في فمه، وظل على هذا التعذيب البشع إلى أن أذن الله عز وجل للروح المجاهدة أن تصعد إلى بارئها،

sQoos.gif
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ *


الكامل محمد الذي قاوم قتل كما قتل الخليفة المستعصم بالله الذي سلم دون مقاومة، ولكن شتان بين من مات رافعاً رأسه ممسكاً بسيفه، ومن مات ذليلاً منكسراً مطأطأ رأسه رافعاً يده بالتسليم، وشتان بين من مات بسهم في صدره مقبلاً، ومن مات بسهم في ظهره مدبراً.


والكامل محمد رحمه الله مات في الموعد الذي حدده له رب العالمين، لم يتقدم أو يتأخر لحظة، وكذلك مات المستعصم بالله في الموعد الذي حدده له رب العالمين، لم يتقدم أو يتأخر لحظة، وكذلك سيموت الناصر يوسف الأيوبي الذي خان الأمة بكل أنواع الخيانة في الموعد الذي حدده له رب العالمين، لن يتأخر أو يتقدم لحظة، ولن يطيل الجبن عمراً، ولن تقصره الشجاعة، ولكن أين اليقين؟

استشهد البطل الأمير الكامل محمد الأيوبي ، والذي كان بمثابة شمعة مضيئة في عالم كبير جداً من الظلام، وقطع السفاح هولاكو رأسه ووضعه على رمح، وأمر أن يطاف برأسه في كل بلاد الشام، وذلك ليكون رعباً لكل المسلمين، وانتهى المطاف بالرأس بعد ذلك إلى دمشق، وعلِّقَت رأسه فترةً على أحد أبواب دمشق وهو باب الفراديس، ثم انتهى به المقام أن دفن في أحد المساجد، والذي عرف بعد ذلك بمسجد الرأس.

ونسأل الله أن يكون من أهل الجنة.

 




استسلام حلب للتتار
=========


اشتد القصف التتري على حلب، وزادت حماسة التتار جداً بقتل الكامل محمد وسقوط ميافارقين، وفي ذات الوقت خارت قوى المسلمين نتيجة الضرب المكثف، وهبوط المعنويات لمقتل الأمير البطل الكامل محمد رحمه الله.


واستمر الحصار التتري لمدينة حلب سبعة أيام فقط، ثم أعطى التتار الأمان لأهلها إذا فتحوا الأبواب دون مقاومة كعادة التتار، ولكن زعيمهم توران شاه قال لهم: إن هذه خدعة، التتار لا أمان لهم ولا عهد، ولكن الشعب الحلبي كان قد أصيب بالإحباط الشديد من كل شيء، من سقوط ميافارقين، وعدم مساعدة أميرهم الناصر يوسف لهم وتركهم دون مساعدة، وجلوسه على بعد (300) كيلو متر هو والجيش الأصلي الذي كان مفروضاً عليه الدفاع عن حلب، ولم تساعدهم أي مدينة مجاورة لهم، وهم خذلوا قبل ذلك ميافارقين، كما تدين تدان. فهذا الإحباط قاد الشعب إلى الرغبة في التسليم، واتجه عامتهم إلى فتح الأبواب لـهولاكو ، لكن قائدهم توران شاه وبعض المجاهدين رفضوا، واعتصموا بالقلعة داخل المدينة.


انهمرت جيوش التتار داخل مدينة حلب، وما إن سيطروا على محاور حلب حتى ظهرت النوايا الخبيثة، ووضح لشعب حلب ما كان واضحاً من قبل لمجاهدهم البطل توران شاه ، ولكن للأسف كان هذا الإدراك متأخراً جداً، فقد أصدر هولاكو أمراً واضحاً بقتل المسلمين في حلب وترك النصارى، وهذه ولاشك خيانة متوقعة، والخطأ هو خطأ الشعب الذي بنى قصوراً من الرمال على الرمال، وهكذا بدأت المذابح البشعة في رجال ونساء وأطفال حلب، وتم تدمير المدينة تماماً.



سقوط قلعة حلب بأيدي التتار
============


اتجه هولاكو لحصار قلعة حلب، واشتد القصف على القلعة، وانهمرت السهام من كل مكان، ولكنها صمدت وقاومت واستمر الحال على ذلك أربعة أسابيع كاملة، إلى أن سقطت القلعة في النهاية، ودخل هولاكو القلعة وقتل كل من فيها، وأبقى توران شاه لم يقتله، ولم يفعل به ما فعله مع الكامل محمد ، واحتفظ به دون قتل.

وهنا يقول بعض المستشرقين والعلمانيين الذين يحللون الموقف: إن هولاكو قد فعل ذلك إعجاباً بشجاعة الشيخ الكبير توران شاه ، وأن هذه فروسية ونبل من الفاتح هولاكو .



ماذا فعل هولاكو مع قائد المقاومة بقلعة حلب توران شاه
===

فبعد كل الذي فعله هولاكو لا زال هناك من يعتقد أنه نبيل، وأنه فارس! وهذه صفات لا تتناسب مطلقاً مع وصف هولاكو ، فليس هولاكو بالذي يُعجب بمن يقاومه، ولا يتصف بنبل أو فروسية، وهو لم يبق على حياته إلا لأغراض أخرى خبيثة،

1- فهذا العفو من ناحية هو عمل سياسي ماكر، يريد به ألا يثير حفيظة الأيوبيين المنتشرين في كل بلاد الشام، وبالذات أنه قتل منذ أيام الكامل محمد الأيوبي ، فإذا تتبع قوادهم بالقتل فهذا قد يؤدي إلى إثارتهم، وكثير منهم يحالفونه، ومنهم الأشرف الأيوبي أمير حمص، وهو لا يريد أن يقلب عليه الأوضاع في الشام.

2- ومن ناحية أخرى فهو يريد أن يفتح الباب للأمراء المسلمين أن يسلموا أنفسهم إليه دون مقاومة، فكما هو واضح من هذا الفعل أنه رجل وديع ولطيف جداً، ومسالم ونبيل وفارس، يحافظ على القواد الذين يقاومونه، فما بالكم بمن دخل في حلفه!

3- ثم من ناحية ثالثة فإن توران شاه عم الناصر يوسف حاكم دمشق الخائن، والإمساك بـتوران شاه دون قتله قد يكون وسيلة من وسائل المساومة المستقبلية مع الناصر يوسف .


وهذه الدوافع وما على شاكلتها يناسب طبيعة هولاكو الدموية، أما أن يقال: إن هولاكو تأثر بأخلاق وفروسية توران شاه فأصبح هو الآخر أخلاقياً وفارساً، فهذا ما لا يُتوقع من مثله أبداً!


تقليد هولاكو إمارة حلب للأشرف الأيوبي حاكم حمص
===

استقر الوضع لـهولاكو في حلب، وخمدت كل مقاومة، وهدمت كل الأسوار والقلاع، فأراد الانتقال إلى مكان آخر في الشام، فاستقدم الأشرف الأيوبي أمير حمص، وهو ممن والى هولاكو قبل ذلك، فأظهر له هولاكو كرماً غير عادي، وأعطاه إمارة مدينة حلب إلى جوار مدينة حمص؛ وذلك ليضمن ولاءه التام له، ولكنه وضع عليه إشرافاً تترياً دقيقاً من بعض قادة الجند التتر، فأصبح الأمير الأشرف الأيوبي وكأنه الحاكم الإداري للمدينة،

يعني: أصبح صورة حاكم أمام الشعب، بينما كان الحاكم الفعلي هو الحاكم العسكري التتري لحلب، فهو الذي بيده كل مقاليد السلطة والحكم والقوة.


بعد إسقاط مدينة حلب اتجه هولاكو إلى الغرب، وذهب إلى حصن حارم (( ادلب حالياً)) المسلم والذي يقع على بعد حوالي (50) كيلو متر من غرب حلب، وحاصره ثم اقتحمه وذبح كل من فيه.




 

جمع هولاكو لملوك وأمراء المناطق الموالين له في بلاد الشام وما جاورها وإصدار الأوامر لهم
=================


أكمل هولاكو طريقه غرباً بعد ذلك حتى وصل إلى إمارة أنطاكية، وهي في جنوب تركيا، وكانت إمارة حليفه النصراني الأمير بوهمند ، وهناك حول أنطاكية ضرب هولاكو معسكره خارج المدينة، ثم دعا إلى إقامة مؤتمر لبحث الأوضاع في الشرق الأوسط الجديد حسب الرؤية التترية، فبدأ الحلفاء من كل المنطقة يتوافدون على هولاكو ،

فجاء هيثوم ملك أرمينيا، وجاء أمير أنطاكية بوهمند ،

وجاء أميرا السلاجقة المسلمان: كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع ، وهذان بلادهما مجاورة لأنطاكية.

وبدأ هولاكو يصدر مجموعة من الأوامر والقرارات والجميع يستمعون:

أولاً: يكافأ ملك أرمينيا هيثوم بمكافأة كبيرة من غنائم حلب؛ وذلك تقديراً لمساعدات الجيش الأرمني في إسقاط بغداد، ثم ميافارقين، ثم حلب.

ثانياً: على سلطانَيْ السلاجقة كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع أن يعيدا المدن والقلاع التي كان المسلمون قد فتحوها قبل ذلك إلى ملك أرمينيا، وهذا لتوسيع ملك الملك الأرميني على حساب البلاد المسلمة، ولم توجد فرصة واردة للاعتراض عند السلطانين المسلمين، وبالفعل سلما المدن إلى ملك أرمينيا.

ثالثاً: يكافأ بوهمند أمير أنطاكية على تأييده لـهولاكو ، فأعطاه مدينة اللاذقية المسلمة، وكانت قد حررت من الصليبيين أيام صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، وظلت مسلمة إلى هذه اللحظة، ثم أهديت بكلمة واحدة إلى النصارى.

وقرار إعطاء مدن السلاجقة إلى الملك الأرمني، وإعطاء مدينة اللاذقية إلى بوهمند أمير أنطاكية تطبيق للقاعدة الاستعمارية المجحفة المعروفة: وهي أن المحتل يعطي ما لا يملك لمن لا يستحق.

القرار الرابع وقد كان قراراً غريباً جداً من هولاكو ، ولم يكن في مصلحة أمير أنطاكية، بل كان ضده وضد ملك أرمينيا، وكان هذا القرار لإثبات أن كل شيء الآن قد أصبح بيد السيد الجديد هولاكو ، وما هؤلاء الملوك إلا صورة حلفاء فقط، وحتى لا يظن ملك أرمينيا أو أمير أنطاكية أنهما حلفاء على نفس المستوى مع هولاكو

كان هذا القرار الجديد: تعيين بطريرك جديد للكنيسة في أنطاكية، وهي محكومة أصلاً بالنصارى، وحاكم التتار هولاكو ليس نصرانياً، ولا يفهم شيئاً في الديانة النصرانية، ولكنه أصدر قرار تغيير البطريرك وتعيين بطريرك جديد، ليس هذا فقط، بل إن البطريرك الجديد أتى به من مكان غريب جداً، فقد أتى به من اليونان، يعني: أنه عين بطريرك أرثوذوكسي على كنيسة كاثوليكية، وهذه سابقة خطيرة جداً في تاريخ النصارى ، وبالذات أن العلاقات متأزمة للغاية بين الطائفتين الأرثوذوكس والكاثوليك.

فعين هولاكو البطريرك اليوناني يومنيميوس مكان البطريرك اللاتيني الإيطالي الذي قدم من جنوة، وقد كانت الإمارات الصليبية التي في الشام كلها إمارات كاثوليكية.




وقد عين هولاكو هذا البطريرك لعدة أسباب:
=====

أولاً: لإذلال أميرا أنطاكيا وأرمينيا، حتى لا يظنا أنفسهما زعماء إلى جواره.​

ثانياً: كان لا يريد أن يجعل استقراراً في هذه المناطق؛ لكي لا يتوسع أمير أو ملك على غير رغبته، بل كان يريد أن يجعلهم دائماً في التراب.

ثالثاً: كان يريد إقامة علاقات صداقة وجوار مع الإمبراطور اليوناني حاكم الدولة البيزنطية الكبيرة، وذلك إلى أجل، فقد كان تخطيط هولاكو اقتحام الإمبراطورية البيزنطية بعد الانتهاء من بلاد المسلمين.

فلم يكن لدى أمير أنطاكية القدرة على الاعتراض، وإن كان معظم أمراء الإمارات الصليبية معترضين، لكن لم يكن لكلامهم أي نوع من القيمة.




 

استسلام حماة للتتار وأمان حقيقيمن هولاكو لهم
======



استقر الوضع لـهولاكو في شمال سوريا وجنوب تركيا، وبدأ يفكر في التوجه جنوباً لاحتلال مدينة حماة أولاً، ثم المرور بعد ذلك على مدينة حمص وهي بلد الأمير الخائن الأشرف الأيوبي والموالي له، حتى يصل بعد ذلك إلى الناصر يوسف الأيوبي وجيشه الرابض في شمال دمشق.

بدأ الجيش التتري بالتحرك إلى الجنوب، فجاء إليه وفد من أعيان حماة وكبرائها يسلمون له مفاتيح المدينة دون قتال، فقبل منهم هولاكو المفاتيح، وأعطاهم في هذه المرة أماناً حقيقياً؛ وذلك ليشجع الناس في الشام لأن يفتحوا أبواب بلادهم كما فتحت حماة.





توجه التتار إلى دمشق وهروب الناصر وجيشه
================

ترك هولاكو حماة وانتقل إلى حمص بلد صديقه الأشرف الأيوبي ولم يدخلها كذلك، واتجه مباشرة إلى دمشق، وكانت المسافة بين حمص ودمشق (120) كيلومترًا فقط.

سمع الناصر يوسف بالأخبار السيئة من سقوط حصون ميافارقين، وقتل الكامل محمد الأيوبي ، وسقوط مدينة حلب وحارم، وتسليم حماة وحمص، وأن الخطوة القادمة دمشق، فلم يدر الناصر يوسف الملك الجبان ماذا يفعل، وقد أعلن حرباً لا طاقة له بها، ليس لقوة التتار فقط، بل لضعفه هو في الأساس، فعقد مجلساً استشارياً أعلى ضم معظم قادة جنده، فأخذوا في التباحث والتشاور، وطال النقاش والحوار، ووصلوا في النهاية إلى أن قرروا الفرار، فليس عندهم قدرة على الدفاع عن المدينة، ولم يفكروا أصلاً في الدفاع عنها.

قرر الأمير الناصر يوسف والأمراء والجيش الفرار وترك مدينة دمشق وشعبها الكبير دون حماية ولا دفاع، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

خلت دمشق من الأمراء والحراس، وكانت مدينة كبيرة وحصينة، وكان يتوقع لها الثبات فترة طويلة قبل أن تسقط. والأمراء من أمثال الناصر يوسف يأمرون بالمقاومة ويحضون عليها ما دامت بعيدة عن أرضهم، فإذا اقتربت جيوش العدو من مدينتهم كانت الخطة البديلة دائماً هي خطة الفرار، حدث ذلك في دمشق، ويحدث كثيراً إذا وجد أمثال هؤلاء الأمراء الأقزام.








استسلام دمشق للتتار
=========


وقع أهل دمشق في حيرة كبيرة، فجيوش التتار ستأتي إليهم في غضون أيام قليلة، والتتار لا يبقون على أخضر ولا يابس، وشعب دمشق لم يتدرب قبل ذلك على الجهاد، وليست له دراية بفنون القتال، والجند المحترفون والأمراء القواد هربوا وتركوا مواقعهم، فماذا يفعلون وهم في غاية التردي؟

هنا اجتمع أعيان دمشق وكبراؤها، واتفقوا على أن يأخذوا مفاتيح المدينة ويسلموها إلى هولاكو ثم يطلبون الأمان منه كما فعل أهل حماة، ولم يخالف هذا الرأي إلا قلة من المجاهدين، فقد تحصنوا في قلعة دمشق ودافعوا عنها حتى النهاية،

فقد أتى فعل هولاكو في ترك حماة ثماره، فهذا الفعل أثر في دمشق وبدأت تسلم دون قتال، فخرج وفد من أعيان دمشق يستقبل جيش هولاكو وسلمه المفاتيح، وفتحت دمشق أبوابها.



 





موت منكوخان زعيم التتار وتولي قوبيلاي الحكم بعده قبل دخول التتار دمشق
================


قبل أن يدخل هولاكو إلى دمشق حدث ما لم يكن في حسبانهم، فقد مات منكوخان زعيم دولة التتار، وجاءت الأخبار إلى هولاكو قبل أن يصل إلى دمشق بقليل، وكانت هذه أزمة خطيرة جداً، فـمنكوخان يحكم دولة مهولة كبيرة جداً، اتسعت في وقت قياسي، وحدوث أي اضطراب في الحكم قد يؤدي إلى كارثة، وهولاكو هو أحد المرشحين للحكم في هذه الدولة الضخمة، فهو أخو منكوخان ، وهو صاحب الانتصارات العظيمة الكثيرة، فهو الذي أسقط الخلافة العباسية لأول مرة في تاريخ المسلمين.

فكر هولاكو في قيادة دولة التتار بدلاً من قيادة الشام وما حولها، فترك الجيش التتري وسارع بالعودة إلى قراقورم، وعندما وصل إلى تبريز في إيران علم أن التتار قد عينوا قوبيلاي ملكاً على دولة التتار بكاملها، فكان هذا صدمة لـهولاكو ، فلم يكمل الطريق إلى قراقورم وآثر أن يمكث في تبريز، ولم يعد بعد ذلك إلى الشام، وظل يراقب الموقف من تبريز، ومنها كان يدير كل هذه الأملاك الواسعة التي فتحها.






دخول التتار دمشق
======


حمل أعيان دمشق مفاتيح المدينة إلى جيش التتار، فاستقبلهم كتبغانوين القائد الجديد الذي ولاه هولاكو قبل أن يغادر الجيش، فأعطى أهلها الأمان فعلاً، وتقدم بجيشه لدخول المدينة العظيمة الكبيرة دمشق.

وها هي دمشق عاصمة الخلافة الأموية تسقط كما سقطت من قبل بغداد عاصمة الخلافة العباسية.

وكانت دمشق واحدة من أعظم مدن الإسلام قاطبة، ومن أهم ثغور الجهاد، ومن أرقى دور العلم.

زحفت الجيوش التترية على دمشق، وانسابت من أبوابها إلى داخلها دون أدنى مقاومة.

أواه يا درّة الشام، ويا قلب العالم الإسلامي!

أين أبو عبيدة بن الجراح ؟ وأين خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنهم أجمعين؟ أين الذين فتحوا هذه المدينة الحصينة منذ أكثر من ستة قرون؟

أين معاوية رضي الله عنه وأرضاه الذي حكم الدنيا بكاملها من هذا المكان؟

أين خلفاء بني أمية رحمهم الله الذين فتحوا البلاد الواسعة التي أسقطها التتار الآن؟

أين عماد الدين زنكي ونور الدين محمود رحمهما الله اللذان سطّرا بجهادهما آيات من المجد والعزة والفخار؟

أين صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الذي يرقد الآن في مدينة دمشق؟


مرت الأيام وشاهد المسلمون في دمشق ما لم يخطر على أذهانهم مطلقاً، شاهدوا ثلاثة أمراء من النصارى يتبخترون بخيولهم في مقدمة جيوشهم، وهم يخترقون أبواب دمشق، ويسيحون في شوارع المدينة الإسلامية العظيمة، لقد كان يتقدم جيوش التتار كتبغانوين النصراني قائد الجيش التتري، وبصحبته الملك هيثوم النصراني ملك أرمينيا، والأمير بوهمند النصراني أمير أنطاكية.

وهذه أول مرة يدخل أمراء النصارى مدينة دمشق منذ أن تركها أمراء الجيوش الرومانية أيام هرقل قيصر الروم، عند الفتح الإسلامي لها في سنة (14) هجرية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أعطى التتار الأمان فعلاً لأهل دمشق ولم يقتلوا منهم أحداً، إلا أولئك الذين تحصنوا في قلعة دمشق، وكانت سقوط دمشق في أواخر صفر سنة (658هـ)،

يعني: بعد سنتين من سقوط بغداد، وهو زمن قياسي جداً، فقد اجتاح التتار في هاتين السنتين مساحات هائلة من الأراضي، وأسقطوا مدناً كثيرة في العراق وتركيا وسوريا، مع الكثافة السكانية الهائلة في هذه المناطق.




 




تسلط النصارى في دمشق عند دخول التتار
========


بدأ التتار في إدارة مدينة دمشق بواسطة النصارى، فوضعوا على إدارة المدينة رجلاً تترياً اسمه إبل سيان ، وقد كان معظماً ومحابياً جداً للنصارى، وبدأت المدينة تعيش فترة عجيبة جداً في تاريخها.



واسمعوا إلى هذا الكلام الذي يقوله ابن كثير رحمه الله في كتابه (البداية والنهاية) تفصيلاً لهذا الأمر، يقول:

(( اجتمع إبل سيان لعنه الله بأساقفة النصارى وقساوستهم فعظمهم جداً، وزار كنائسهم، فصارت لهم دولة وصولة بسببه، وذهبت طائفة من النصارى إلى هولاكو في تبريز وأخذوا معهم هدايا، فاستقبلهم وأحسن استقبالهم، ثم قدموا بعد ذلك من عنده ومعهم أمان من جهته، ودخلوا من باب توما -هو أحد أبواب دمشق، مسمى على اسم قديس نصراني توما- ومعهم صليب منصوب، يحملونه على رءوس الناس، وهم ينادون بشعارهم ويقولون: ظهر الدين الصحيح دين المسيح، ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أوان فيها خمر، لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عليه خمراً، وقماقم ملآنة خمراً يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون به في الأزقة والأسواق من المسلمين أن يقوم لصليبهم، ووقف خطيبهم إلى دكة دكان في عطفة السوق فمدح دين النصارى، وذم دين الإسلام وأهله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم يقول ابن كثير : ثم إنهم دخلوا الجامع الأموي بخمر، -قبل ذلك كان يرشونه على الباب- فلما وقع ذلك اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء، فدخلوا القلعة يشكون هذه الحال إلى إبل سيان زعيم التتار، فأهينوا وطردوا، وقدم كلام رؤساء النصارى عليهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

هكذا كان الوضع في دمشق.


 
التعديل الأخير:

احتلال التتار لفلسطين
======


أرسل كتبغانوين (( تتري تنصر )) الزعيم الجديد في دمشق، فرقة من جيشه لاحتلال فلسطين، فاحتلت، ثم نابلس، ثم اخترقت كل فلسطين واحتلت غزة، ولم تقترب الجيوش التترية من الإمارات الصليبية الأوروبية المنتشرة في فلسطين، كما لم يقتربوا من إمارات الصليبيين في سوريا ولبنان، وبذلك قسمت فلسطين بين التتار والصليبيين.






وبهذا الاحتلال الأخير لفلسطين يكون التتار قد أسقطوا العراق بكاملها، وأجزاء كبيرة من تركيا، وأسقطوا أيضاً سوريا بكاملها، وكذلك أسقطوا لبنان، ثم فلسطين، وكل هذا في سنتين فقط من (656هـ) إلى (658هـ)، واقترب التتار من سينا على بعد (35) كيلو متر فقط.


 

وفي 658 هجري حدثت معركة عين جالوت بقيادة السلطان المظفر سيف الدين قطز رحمه الله وفيها انتصر المسلمون على التتار ودحروهم من فلسطين وأبيد الجيش التتري بفلسطين وقتل كتبغانوين قائد الحملات التترية على الشام في المعركة


 


اجتياح عام 1271
===


بعد تحرير الشام 658 هجري في 1260 ميلادي ...لم يسكن التتار فقد حوالو عدة مرات احتلال الشام مجدداً

أرسل أباقا خان بن هولاكو حاكم إلخانات إيران عشرة آلاف مغولي بقيادة ساماقر مع بعض الدعم من السلاجقة الروم إلى الشام مرة أخرى عام 1271 بإلحاح من الملك إدوارد الأول ملك إنجلترا (الذي يقود الحملة الصليبية التاسعة) فتحركوا صوب حلب واستولوا عليها وخربوها واجهوا جنوبا نحو دمشق ولكنهم فوجئوا وانهزموا انسحبوا بسرعة وطاردهم جيش المسلمين من محيط دمشق حتى نهر الفرات واسر العديد من المغول.


اجتياح 1281
===



حصلت بتاريخ 29 أكتوبر 1281 وهي المحاولة الثانية لأباقا خان للاستيلاء على الشام مرة أخرى.

فبعد هزيمة المغول بعين جالوت ثم عند بلدة "أبلستين" بآسيا الصغرى عام 1277 التي صادفت 10 ذي القعدة 675 هجري بقيادة بيبرس أيضا.

أرسل أباقا خان هذه المرة أخوه منكوتمر بجيش ضخم يقارب ما بين 50 إلى 80 ألفا من المغول وإسناد 30 ألف أجنبي غالبيتهم من جورجيا بقيادة ملكهم ديمتريوس الثاني والأرمن بقيادة ليو الثالث.

التقى الجيشان جنوب مدينة حمص بمواجهة ضارية, وتمكن الجورجيين والأرمن من اختراق جناحي جيش المماليك مما سبب باضطراب المماليك, لكنهم وبقيادة السلطان قلاوون ثبتوا ثبات المستميت فدمروا قلب الجيش المغولي وجرح منجو تيمور الذي هرب بسرعة وتبعه جيشه بأكمله، وفضل قلاوون عدم ملاحقة المغول مما حدا للأرمن والجورجيين الانسحاب من المعركة, وهي معركة حمص الثانية التي انهزم فيها المغول مرة ثانية في سورية.

بعدها بعام مات أباقا وخلفه أخوه أحمد تكودور الذي غير سياسته بعد إشهار إسلامه وفضل التحالف مع المماليك والمسلمين.

 

الهجمة المغولية في 1299 و 1301
=====



في صيف 1299 أرسل ملك أرمينيا هيتوم الثاني رسالة إلى محمود غازان إلخان مغول فارس يطلب منه الدعم لغزو الشام. فعبر محمود غازان الفرات وغزا الشام مرة أخرى واستمر جنوبا حتى شمال حمص،

خلال تلك المدة كان غازان يرسل الرسل إلى فرنجة قبرص (ملك قبرص وزعيم فرسان الهيكل وفرسان الإسبتاريين والفرسان التويتيين) يحضهم على مساعدته خلال هجومه على المماليك بالشام. وقد أرسل رسالته الأولى بتاريخ 21 أكتوبر ووصلت بعد 15 يوما وأرسل باقي الرسائل في نوفمبر. لم تثبت المصادر على استلامه أي رد مع ذلك استمر بالمضي جنوباً صوب حلب فاحتلها. وهناك انضم إليه الملك هيثوم بقواته التي تحتوي أيضاً بعض فرسان المعبد والهيكل وشاركه بقية الغزو.

المدد المملوكي أرسل من مدينة دمشق بجيش جرار وتقابل الجمعان بوادي الخزندار يبعد من 2 إلى 3 فراسخ شمال شرق حمص وسط سورية, القوات المغولية عددها يقارب ال 60 ألف رجل ومعهم 40 ألف مقاتل من جورجيا والأرمن, المماليك كان عددهم من 20 إلى 30 ألف مقاتل.

وقد تفاوتت المصادر عن نتيجة المعركة, فالمصادر الغربية تؤكد أن المواجهة التي حصلت بتاريخ 23 أو 24 ديسمبر من عام 1299 كانت لصالح المغول ضد المسلمين بينما المصادر الإسلامية تقول أن المسلمين انتصروا بتلك المعركة ولكن وإن كانت خسائر المماليك قليلة (من 200 وحتى الألف شهيد) مقابل خسائر المغول(من 5 إلى 14 ألف قتيل), مع ذلك انسحب المماليك من المعركة. خلال تراجعهم تعرضوا لمضايقات من جانب المارونيين والدروز الذين كانوا يريدون الاستقلال من المماليك وبناء كيانات خاصة لهم. وقد طاردت إحدى الفرق المغولية المماليك حتى غزة لتدفعهم للانسحاب إلى مصر.

تقدم الجيش المغولي بعد تلك المعركة حتى وصل أطراف دمشق أوائل عام 1300, وهي شبه خاوية بعد سماعهم أنباء تقدم المغول صوب مدينتهم وتحصن حاكمها بقلعة دمشق,

وأخيرا دخل المغول المدينة التي هزمتهم ووقفوا امام عظمة وكبرياء المدينة العريقة، ولكن المقاتلين المغول ومن معهم من العسكر بدؤوا بنهب المدينة مما حدا ببقية الجيش أن ينهبوا المناطق المحيطة وقدر بأن مايقرب من 3,600,000 درهم قد نهبت في هذه الفترة من مدينة دمشق المليئة بالنفائس.

حاكم المدينة المسمى أرغواش المملوكي قد تحصن بقلعة دمشق وأخذ جميع السلاح عنده. أما المغول الذين حاصروا المدينة لمدة عشرة أيام (ما بين 30 ديسمبر 1299 و 6 يناير 1300) كانوا تقريباً قد دمرو فيها الكثير رغم مقاومة الكبيرة من القلعة. بعد ذلك أمر محمود غازان بسحب معظم جيشه في فبراير وانسحب شرقا إلى ماوراء الفرات, والسبب في ذلك كما يعتقد إما خوفه من تحرش خانات مغول الجاكاتاي للحدود الشرقية لدولته, أو أنه أراد العودة إلى مناطق رعي أفضل لخيله.

وقد تعلم المماليك بأن وفرة المراعي شيء مهم للمغول, فأخذوا بالاعتبار حرق المراعي حتى يسحبوا هذا المصدر من المعادلة فلا يستفيد منها العدو بشيء. وقد توعد غازان بأنه سيعود شتاء 1300 -1301 ليحتل مصر.

خلال تلك المدة أبقى غازان بعض القوات المغولية (حوالي 10,000 خيال)تحت قيادة مولاي المغولي وحكم سوريا لحوالي 3 أشهر غزا خلالها حتى القدس وغزة, ولكنه ارتد بسرعة عندما علم بعودة المماليك في مايو 1300.

وقد عاد غازان إلى سوريا بعدما انتهى من طرد الجاكاتاي, أواخر العام نفسه وعبر الفرات ما بين 14 ديسمبر 1300 و 1 يناير 1301 واتجهوا من جديد نحو دمشق.وكانت قوة صغيرة من المغول هزموا بالقرب من حلب بواسطة قوة من جيش حماة.

وقد شجع هذا الأمر في دمشق وجهز حاكم دمشق قوة كبيرة لمواجهتهم، ولكن المغول لم يلبثوا إلا قليلا وتراجعوا بعد وصول أخبار التجهيزات والتحصين في محيط دمشق، وارتبك المغول بعد وفاة أحد قادتهم، وتحاشوا مقابلة جيش دمشق وانسحبوا شرقا من جديد.

جبيل لبنان
==

في أوائل 1300 تحرك اثنان من أمراء الفرنجة (جاي دي البليني وجان دي جيبيل) من قبرص صوب الشام استجابة لنداء محمود غازان وكونوا قاعدة بجبيل على الساحل اللبناني مع النية بالانضمام إلى المغول, ولكن غازان كان قد رحل فحاولوا حصار طرابلس ولكن عبثا مماجعلهم يقفلون راجعين إلى قبرص.
 

لمن لايعلم ...

خط تحرك قوات المغول لاحتلال الشام من الموصل الى حلب وادلب الى شمال اللاذقية دون الدخول بأنطاكية = خط الحدود السورية التركية حرفياً كماهي في سايكس بيكو تماما ولم يدخل لواء اسكندرون بتاتا


فتأمل يا رعاك الله !!!!
 

لمن لايعلم ...

خط تحرك قوات المغول لاحتلال الشام من الموصل الى حلب وادلب الى شمال اللاذقية دون الدخول بأنطاكية = خط الحدود السورية التركية حرفياً كماهي في سايكس بيكو تماما ولم يدخل لواء اسكندرون بتاتا


فتأمل يا رعاك الله !!!!
 

كيف حرر الملك المظفر سيف الدين قطز - دمشق - من احتلال التتار
====



ومع الإرهاق الشديد والمعاناة القاسية التي كان يعاني منها الجيش المناضل البطل، الذي عبر صحارى سيناء بكاملها في شهر يوليو، وحارب في غزة، ثم اجتاز فلسطين بكاملها من جنوبها إلى شمالها حتى وصل إلى عكا، ثم عاد بعد ذلك إلى عين جالوت، والذي خاض المعركة الهائلة مع أقوى جيوش الأرض في زمانه في عين جالوت، ثم في بيسان، إلا أن الخطوة التالية المباشرة لـقطز رحمه الله بعد انتصار عين جالوت هي الاتجاه مباشرة ودون أدنى راحة إلى دمشق في الشمال،

فدمشق هي أول المحطات الإسلامية التي تقع تحت سيطرة التتار، بينها وبين عين جالوت (150) كيلو متر تقريباً، ولابد من تطهير هذه المدينة العظيمة من دنس التتار، واستغلال فرصة الانكسار الرهيب لجيش التتار لتحرير دمشق وغيرها، قبل أن تأتي أمداد التتار من فارس أو من أوروبا أو من الصين.. أو من غيرها،

فأراد قطز رحمه الله القائد المحنك أن يهيئ الفرصة العظمى لجيشه؛ لينتصر على قواد التتار في دمشق، وقد كان يعلم أن جيش التتار بكامله قد فني في عين جالوت، ولا يوجد أحد ينقل الأخبار إلى دمشق بأن جيش التتار قد فني، فقام هو رحمه الله بهذا الدور، فأرسل رسالة إلى دمشق يخبر فيها أهلها بأن المسلمين قد انتصروا انتصاراً هائلاً في عين جالوت، وأن الجيش التتاري قد دمر بكامله في هذه الموقعة،

فوصلت الرسالة لتخلق جواً جديداً تماماً على دمشق، فارتفعت معنويات المسلمين إلى أقصى درجة، وهبطت معنويات التتار إلى أدنى درجة، وقام المسلمون في دمشق -الذين كانوا تحت سيطرة التتار لا يتحركون ولا يقاومون- يدافعون عن أنفسهم بعد أن وصل إليهم الكتاب،

وكان الكتاب قد وصل في (27) أو (28) من رمضان في سنة (658هـ)، فقاموا بثورة كبيرة جداً في دمشق، وانقلبوا على الحامية التتارية وقتلوا منها ما قتلوا، وأسروا منها ما أسروا، وفر الباقون إلى الشمال.


وسبحان الله ! فالشعب هو الشعب، والتتار هم التتار!

ولكن الوضع تغير بسماع الأخبار المفرحة التي جاءت من عين جالوت، فقد اكتشف الشعب أنه قادر على المقاومة والدفاع والحرب في سبيل الله، لما رأى القدوة التي كانت في عين جالوت، وأما التتار الذين كانوا يسيطرون على الموقف فقد سقطت هيبتهم تماماً، وما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين.

وانتهى الاحتلال في دمشق في لحظات، لدرجة أن قطز رحمه الله لما وصل إلى المدينة في يوم (30) رمضان، يعني: بعد يومين أو ثلاثة من وصول الرسالة، لم يبق في دمشق تتري واحد، فقد انتهت الحامية التترية التي كانت تسيطر تماماً على الوضع قبل انتصار عين جالوت، وكان انتصاراً مهيباً.




دخول قطز والجيش المملوكي دمشق
---------
---------


دخل قطز رحمه الله دمشق في يوم (30) رمضان كما ذكرنا، وعلقت الزينات في الشوارع، وخرج الرجال والنساء والأطفال يستقبلون البطل المظفر ، وكانت بالفعل أشد لحظات الفرح للمسلمين منذ أربعين سنة، وهذه هي الفرحة الحقيقية،

sQoos.gif
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
eQoos.gif
[يونس:58]


فهي فرحة النصر بدين الله عز وجل، وفرحة الرفعة للإسلام والعزة للمسلمين، وهذه الفرحة لا تقارن أبداً بفرحة الطعام والشراب والمال والجاه والسلطان، وكل أنواع الفرحة في الدنيا، فهي فرحة عزة للإسلام، لا تقارن بغيرها من الأفراح.

دخل الجيش المملوكي دمشق، واستتب الأمن الحقيقي بسرعة عجيبة، ولم يكن الوضع مثل ما يحدث عند دخول المستعمرين البلاد من عموم الفوضى، وترك الحبل على الغارب، وانتهاك الحرمات أمام الأعين، وانتهاب المحلات والديار، فلم يحدث شيء من هذا، وإنما استقر الوضع حقيقة وبسرعة، بل أمن النصارى واليهود على أرواحهم وأموالهم.




تولية القاضي نجم الدين أبو بكر بن السني قضاء دمشق
---------
---------



قام قطز رحمه الله بعزل ابن الزكي قاضي دمشق الذي عينه التتار، وكان موالياً لهم، وعين مكانه نجم الدين أبو بكر بن السني ، وبدأ القاضي الجديد يفصل في القضايا ويحكم في المخالفات التي تمت بين المسلمين والنصارى، وذلك حتى لا يظلم نصراني في بلاد المسلمين، هذا مع كل ما فعله النصارى بالمسلمين وقت احتلال التتار للمدينة.





تحرير بلاد الشام من التتار وتوحيدها مع مصر
------
------


في اليوم التالي مباشرة لدخول قطز رحمه الله إلى دمشق كان عيد الفطر، وكان أعظم عيد مر على المسلمين منذ أربعين سنة، فلم يكن عيداً للفطر فقط، بل كان أيضاً عيداً للنصر والتمكين،
sQoos.gif
قطز رحمه الله وقتاً، بل أرسل مقدمة الجيش بقيادة الظاهر بيبرس رحمه الله لتتبع الفارين من التتار، وتطهير المدن الشامية الأخرى من الحاميات التتارية، حتى وصلت القوات الإسلامية إلى حمص، واقتحمت على التتار معسكراتهم ففروا مذعورين، وانقلبت الصورة تماماً، وأطلق المسلمون آلاف الأسرى المسلمين، وانطلقوا خلف التتار، فقتلوا أكثرهم وأسروا الباقين، ولم يفلت من التتار إلا الشريد، وهكذا حررت حمص بسرعة، واتجهت القوات الإسلامية إلى حلب، ففر منها التتار كالفئران المذعورة، وانطلق المسلمون خلفهم يقتلون ويأسرون، وسبحان مغير الأحوال!


ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال!

طهر المسلمون بلاد الشام بكاملها في غضون أسابيع قليلة جداً، وعادت من جديد أرض الشام إلى ملك الإسلام والمسلمين، ونسأل الله عز وجل لها ولسائر بلاد المسلمين دوام التحرر والعزة.

ثم جاءت بعد ذلك خطوة هامة من أعظم خطوات قطز رحمه الله، فقد أعلن قطز رحمه الله بعد هذا الانتصار المهيب توحيد مصر والشام من جديد في دولة واحدة تحت زعامته، وذلك بعد عشر سنوات كاملة من الفرقة والشتات، منذ وفاة نجم الدين الصالح أيوب رحمه الله في سنة (648هـ)، حيث انفصل في ذلك الوقت الشام عن مصر، حتى عاد الآن قطز رحمه الله ليوحدهما.

والشام يضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، فضم الشام إلى مصر، وأصبحا دولة واحدة، وخطب لـقطز رحمه الله على المنابر في كل المدن المصرية والشامية، حتى خطب له في أعالي بلاد الشام، وفي المدن التي حول نهر الفرات، وعاش المسلمون أياماً من أسعد أيامهم.




تعيين قطز للأمراء على بلاد الشام
--------
--------



بدأ قطز رحمه الله يوزع الولايات الإسلامية على الأمراء المسلمين
ومن حكمته رحمه الله أنه أرجع بعضاً من الأمراء الأيوبيين إلى مناصبهم؛ وذلك ليضمن عدم حدوث فتنة في بلاد الشام، ولاشك أن هؤلاء لهم أتباع من المسلمين، وقطز لا يخشى الآن من خيانتهم؛ لأنه تبين لهم جداً أنهم لا طاقة لهم بـقطز رحمه الله وبجنوده الأبرار،

فأعطى رحمه الله إمارة حمص للأشرف الأيوبي الذي كان موالياً للتتار، ولكنه أظهر الندم والانكسار والتوبة وعاد إلى صف المسلمين، بل وانكسر بين أيديهم في موقعة عين جالوت كما أشار بذلك صارم الدين أيبك في الرسالة التي تحدثنا عنها في الدرس السابق،

وأعطى قطز رحمه الله إمارة حلب لـعلا الدين بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل الذي كان والده بدر الدين لؤلؤ من أشد الموالين للتتار، ومات منذ شهور قليلة ولكن ابنه علاء الدين أظهر الولاء والانقياد لـقطز رحمه الله، وأظهر الحمية للإسلام، فلم يجعل قطز رحمه الله التاريخ الأسود لأبيه حائلاً عن تقليده علاء الدين إمارة حلب، فقد كان يقدر كل رجل بقدره،

وأعطى إمارة حماة إلى صاحبها الأسبق الأمير المنصور ، الذي قاتل مع القوات الإسلامية المشتركة في عين جالوت، واشترك منذ بداية الإعداد مع قطز رحمه الله، وعين الأمير جمال الدين آقوش الذي قتل كتبغاً كما فصلنا في الدرس السابق على فلسطين وغزة.

وأما دمشق فقد عين عليها الأمير علم الدين سنجر الحلبي ، وهكذا استقرت الأوضاع تماماً في بلاد الشام وفلسطين وقويت شوكة الإسلام، واختفى كل تهديد يمس المسلمين من النصارى أو اليهود.

واستمر هذا الإعداد والترتيب قدر حوالي (25) يوماً، وفي يوم (26) من شهر شوال سنة (658هـ) يعني: بعد حوالي شهر كامل من يوم عين جالوت، بدأ السلطان قطز رحمه الله رحلة عودته إلى عاصمته القاهرة في مصر، فكثير من الأوضاع السياسية هناك تحتاج إلى استقرار وإدارة، وأصبحت دولة قطز رحمه الله تمتد من الفرات إلى حدود ليبيا، ولابد من إعادة تنسيق كثير من الأوراق.

ولا ننسى أن قطز رحمه الله لم يمض عليه في الحكم حتى ذلك اليوم إلا أحد عشر شهراً فقط، فقد تولى الحكم في (24) من ذي القعدة سنة (657) من الهجرة، وها هو يعود في أواخر شهر شوال سنة (658) من الهجرة، فما زالت تنتظره آلاف الأعمال في مصر.

وهكذا تم النصر المبين على التتار، واستيقظ المسلمون من الكابوس المزعج الذي آلمهم في كل السنوات الماضية.


 
عودة
أعلى