الإعجاز القرآني في قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ (56)﴾ (النساء).
الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسُنة
يتكون الجلد مجهريًا من ثلاث طبقات: البشرة والأدمة والنسيج تحت الجلد, وفي حالة الحروق تدمر تكوينات الجلد, وعلى حسب إصابة الطبقات الثلاث تقسم الحروق إلى درجات ثلاث: سطحي وجزئي وعميق, وفي الدرجة الثانية تصل الإصابة للأدمة ويعاني المصاب من فرط إحساس وآلام شديدة نتيجة لإثارة النهايات العصبية المكشوفة, وفي الدرجة الثالثة تحترق كل الطبقات ويشعر المصاب بخدر ويتوقف الإحساس بالألم نتيجة تحطم النهايات العصبية؛ ولا سبيل لإعادته إلا بتبديل الجلد بآخر حي, وما كان لبشر زمن النبوة إدراك هذه الحقيقة إلا بوحي من الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ (56)﴾ النساء.
وقد كان الاعتقاد السائد قبل عصر الكشوف العلمية أن الجسم كله حساس للآلام، ولم يكن واضحاً لأحد أن هناك نهايات عصبية متخصصة في الجلد لنقل الأحاسيس والألم حتى كُشف حديثا دور النهايات العصبية وتبين أن الجلد هو العضو الأهم لاحتوائه على العدد الأكبر منها, وقد قام الدكتور هيد Head بتقسيم الإحساس الجلدي إلى مجموعتين: إحساس أساسيProtopathic ويختص بالإحساس بالألم ودرجة الحرارة الشديدة؛ وإحساس دقيقEpicritic ويختص بتمييز اللمس الخفيف والفرق البسيط في درجة الحرارة, وكل إحساس منهما: يعمل بنوع مختلف من الوحدات العصبية المجهرية, ومع تجدد الأعصاب في الجروح يعود الإحساس الأساسي سريعا بعد حوالي شهر ونصف, أما الإحساس الدقيق فقد يتأخر إلى عامين وقد لا يعود نهائيا, والنهايات العصبية في الجلد تخصصية الوظيفة؛ كل منها مخصص بإحساس محدد مثل اللمس والضغط والحرارة والبرودة والألم, وتسمى النهايات العصبية في الجلد بمسميات مختلفة تبعا لمن اكتشفها أو قام بدراستها؛ مثل جسيمات مايسنر Meissner وجسيمات ميركلMerkel وبصيلات كروز Krause واسطوانات روفيني Ruffini, وقد أثبت التشريح النسيجي أن الألياف العصبية الخاصة بالألم والحرارة متقاربة ومع اشتداد الحرارة يتحول الإحساس بالحرارة إلى ألم.
والنهايات العصبية المُسماة جسيمات ميسنر Meissner's Corpuscles تخصصها استشعار اللمس والاهتزاز, وأقراص ميركل Merkel's Discs؛ تخصصها استشعار اللمس والضغط, وجسيمات باتشيني Pacinian corpuscles تخصصها استشعار الضغط والاهتزاز, ونهايات عصبية تحيط بالشعرة وتختص باستشعار حركتها, وبصيلات كروزKrause End Bulbs ؛ تخصصها استشعار البرودة, واسطوانات روفيني Ruffini's cylinders تخصصها استشعار الحرارة, وتستشعر النهايات العصبية الحرة Free Nerve Endings المؤثر المؤلم والحرارة.
وتوجد مستقبلات تستشعر تغير الضغط بالأنسجة العميقة وتنقل الإحساس للمخ ببطء مقارنة ببقية المستقبلات, وتشمل جسيمات باتشيني Pacinian Corpuscles بالعضلات والمفاصل, وتتواجد جسيمات رافيني Ruffini's corpuscle التي بالأنسجة العميقة وتحت جلد الأصابع وتستشعر تغير الشد ومن ثم يُستشعر وضع الأصابع, وتعمل أيضًا كمستقبلات حرارية Thermo-receptors؛ ولذا يفقد المصاب الإحساس بالألم في الحروق الشديدة.
والدلالة واضحة لا تحتاج تأويل على وجود تركيبات دقيقة في الجلد تقوم بوظيفة الإحساس؛ وإذا دمرت باحتراق الجلد بحيث ينضج كاملا يتعطل نقل الإحساس؛ ولا سبيل لإعادته سوى بتبديل الجلد التالف بآخر سليم يجدد وظيفة استشعار الألم, وهي عاقبة يستحقها المُكابر أمام تلك الحقيقة الساطعة في التعبير التصويري البليغ: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ (56)﴾ (النساء).
والتعبير { الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا } أي الآيات الساطعة بالحق في القرآن الكريم تعريضًا بالمعرضين من بني إسرائيل, والتعبير
{ سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا } وعيد بذوق عقاب ألم الحريق, والجلود محل استشعاره تحديدًا: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ }, فالدلالة صريحة أن الجلود هي التي تستشعر الألم, وكلمة { نَضِجَتْ } تعني اكتمل احتراقها؛ ودمرت مكونات الإحساس, والتعبير
{ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } صريح بأن إعادة الاستشعار بالألم تطلبت جلد جديد لم تدمر مكوناته, وكان نصيب المعرضين كبرًا فضلا عن الجهل بخفايا التكوين؛ أن أعرض عنهم البيان المعجز وتحدث عنهم بالغيبة!,
قال الدكتور سالم عبد الله المحمود: "توجد (في الجلد).. خلايا تتأثر بالبيئة الخارجية، وهي مخصصة لحاسة اللمس وتشتمل على جسيمات مايسنر MEISSNERS CORPUSCLES وجسيمات ميرگل MERKELS CORPUSCLES, (وجسيمات باتشيني Pacinian corpuscles وتنقل الإحساس بالضغط إلى المخ), وبصيلات كروز KRAUSE END BULBES وهي مخصصة للإحساس بالبرودة, واسطوانات روفيني RUFFINI CYLINDERS وهي مخصصة للإحساس بالحرارة, ونهايات الأعصاب الحرة وهي مخصصة للإحساس بالألم..,(و)الجلد هو من أهم أجزاء جسم الإنسان إحساساً بالألم نظراً لأنه الجزء الأغنى بنهايات الأعصاب الناقلة للألم والحرارة.. (و) لو استعرضنا درجات الحروق التي يصاب بها الإنسان لوجدنا أن هناك حروقاً من الدرجة الأولى وحروقاً من الدرجة الثانية.. ثم حروقا من الدرجة الثالثة.. ولو ألقينا نظرة إلى ما يصيب الجلد نتيجة لهذه الأنواع الثلاثة من الحروق لوجدنا أن حروق الدرجة الأولى تصيب طبقة البشرة القرنية وتظهر على هيئة التهاب جلدي.. وفي هذه الحالة يحدث انتفاخ وألم بسيط لأن الحرق من الدرجة الأولى يصيب خلايا الطبقة السطحية, ومن المعتاد أن ظاهرة الاحمرار والانتفاخ والألم تختفي خلال يومين أو ثلاثة أيام.. وإذا طالت الإصابة ما تحت الطبقة السطحية من الجلد صنفت من الدرجة الثانية.. وهي تنقسم إلى قسمين: سطحي وعميق,(و)يحدث في حالة الحروق السطحية من الدرجة الثانية أن طبقة البشرة (ظاهر الجلد) تنضج وكذلك الأدمة - طبقة باطن الجلد- التي تحت البشرة, ويحدث في هذه الحالة انفصال طبقة البشرة عن طبقة الأدمة ، وتتجمع مواد مفرزة أو نتحات مابين هاتين الطبقتين.. ويعاني المصاب في هذه الحالة من آلام شديدة وزيادة مفرطة في الإحساس بالألم نتيجة لإثارة النهايات العصبية المكشوفة, ويبدأ التئام الجلد خلال أيام قد تصل إلى أربعة عشر يوماً نتيجة لعملية التجدد والانقلاب التي تحدث في الجلد, ولو انتقلنا إلى حروق الدرجة الثالثة لوجدنا أن طبقة الجلد تصاب بكاملها، وربما تصل الإصابة إلى العضلات أو العظام، ويفقد الجلد مرونته ويصبح قاسياً وجافاً.. وفي هذه الحالة فإن المصاب لا يحس بالألم كثيراً لأن نهايات الأعصاب تكون قد تلفت بسبب الاحتراق.., ولقد كشف العلم الحديث أن النهايات العصبية المتخصصة للإحساس بالحرارة وآلام الحريق لا توجد بكثافة إلا في الجلد, وما كان بوسع أحد من البشر قبل اختراع المجهر وتقدم علم الأنسجة وعلم وظائف الأعضاء أن يعرف هذه الحقيقة التي أشار إليها القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً مضت".
قُطُوف تَفْسِيرِيَّة Interpretation picks
قال القاسمي: "{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً } أي عظيمة هائلة, { كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } أي احترقت احتراقا تامّا { بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ } أي ليدوم لهم؛ وذلك أبلغ في العذاب للشخص لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق أبلغ من إحساسه لعملها في المحترق.., { إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً } لا يمتنع عليه ما يريد, { حَكِيماً } فيما يقضيه ومنه هذا التبديل"؛ أي أن حكمة تبديل الجلد المحترق بآخر حي هي { لِيَذُوقُوا الْعَذابَ } بتجدد الإحساس.
وقال الطبري: "هَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلَّذِينَ أَقَامُوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْكُفَّارِ بِرَسُولِهِ, يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ: إِنَّ الَّذِينَ جَحَدُوا مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آيَاتِي , يَعْنِي مِنْ آيَاتِ تَنْزِيلِهِ وَوَحْيِ كِتَابِهِ, وَهِيَ دَلَالَاتُهُ وَحُجَجُهُ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَلَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ
{ سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا } ؛ يَقُولُ: سَوْفَ نُنْضِجُهُمْ فِي نَارٍ يُصْلَوْنَ فِيهَا: أَيْ يُشْوَوْنَ فِيهَا
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } ؛ يَقُولُ: كُلَّمَا انْشَوَتْ بِهَا جُلُودُهُمْ فَاحْتَرَقَتْ
{ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } , يَعْنِي: غَيْرَ الْجُلُودِ الَّتِي قَدْ نَضِجَتْ فَانْشَوَتْ.., وَمَعْنَى قَوْلِهِ:
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } ؛ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَ مُحْتَرِقَةٍ, وَذَلِكَ أَنَّهَا تُعَادُ جَدِيدَةً, وَالْأُولَى كَانَتْ قَدِ احْتَرَقِتْ فَأُعِيدَتْ غَيْرَ مُحْتَرِقَةٍ, فَلِذَلِكَ قِيلَ غَيْرُهَا.., احْتَرَقِتِ الْجُلُودُ ثُمَّ أُعِيدَتْ جَدِيدَةً بَعْدَ الِاحْتِرَاقِ.., وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ:
{ لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ: فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ لِيَجِدُوا أَلَمَ الْعَذَابِ وَكَرْبِهِ وَشِدَّتِهِ بِمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُكَذِّبُونَ آيَاتِ اللَّهِ وَيَجْحَدُونَهَا.,
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا } , يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ عَزِيزًا فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنِ انْتَقَمَ مِنْهُ مِنْ خَلْقِهِ؛ لَا يَقْدِرُ عَلَى الامْتِنَاعِ مِنْهُ أَحَدٌ أَرَادَهُ بِضُرٍّ, وَلَا الِانْتِصَارِ مِنْهُ أَحَدٌ أَحَلَّ بِهِ عُقُوبَةً, حَكِيمًا فِي تَدْبِيرِهِ وَقَضَائِهِ".
وقال محمد رشيد رضا: "قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: { فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ }, وَتَوَعَّدَ مَنْ صَدَّ عَنْهُ بِسَعِيرِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ فَصَّلَ هَذَا الْوَعِيدَ بِقَوْلِهِ:
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا }.., وَالْوَعِيدُ إِنَّمَا هُوَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ..، وَقَدِ ابْتَدَأَ الْآيَةَ بِذِكْرِ { الَّذِينَ كَفَرُوا }؛ لِيَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لَيْسَ خَاصًّا بِأُولَئِكَ الْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ (فحسب)، وَالْمُرَادُ بِآيَاتِ اللهِ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى حَقِّيَّةِ دِينِهِ مُطْلَقًا، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْقُرْآنُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا؛ لِأَنَّهُ أَدَلُّ الدَّلَائِلِ وَأَظْهَرُ الْآيَاتِ وَأَوْضَحُهَا،
وَ{ نُصْلِيهِمْ نَارًا } مَعْنَاهُ نَجْعَلُهُمْ يَصْلَوْنَهَا، أَيْ: يَدْخُلُونَهَا وَيُعَذَّبُونَ بِهَا..,
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ (محمد عبده): نُضْجُ الْجُلُودِ هُوَ نَحْوُ نُضْجِ الثِّمَارِ وَالطَّعَامِ؛ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ فَقْدِ التَّمَاسُكِ الْحَيَوِيِّ وَالْبُعْدِ عَنِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا تَتَبَدَّلُ لِأَنَّ النُّضْجَ يُذْهِبُ الْقُوَّةَ الْحَيَوِيَّةَ الَّتِي بِهَا الْإِحْسَاسُ، فَإِذَا بَقِيَتْ نَاضِجَةً يَقِلُّ الْإِحْسَاسُ بِمَا يَمَسُّهَا أَوْ يَزُولُ; لِذَلِكَ تَتَبَدَّلُ بِهَا جُلُودًا حَيَّةً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ, لِأَنَّ الذَّوْقَ وَالْإِحْسَاسَ يَصِلُ إِلَى النَّفْسِ بِوَاسِطَةِ الْحَيَاةِ فِي الْجِلْدِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِتَبْدِيلِ الْجُلُودِ دَوَامُ الْعَذَابِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ دَوَامِ الْإِحْسَاسِ بِالْعَذَابِ..، أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ نُضْجَ الْجُلُودِ مِنَ الْعَذَابِ إِنْ كَانَ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا؛ يَكُونُ هُوَ أَثَرُ لَفْحِ النَّارِ بِسَمُومِهَا لِأَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)} ( المؤمنون)، وَمَتَى لُفِحَ الْجِلْدُ مِرَارًا يَبْطُلُ إِحْسَاسُهُ وَيَنْفَصِلُ عَنِ الْبَشَرَةِ وَيَتَرَبَّى تَحْتَ جِلْدٍ آخَرَ؛ (تمثيلاً للغيب بما) هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الدُّنْيَا.. (أو) أَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ عَنِ الدَّوَامِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ..، يَعْنِي.. الْمَقْصُودُ (في هذه الصورة البيانية) دَوَامَ الْعَذَابِ وَعَدَمَ انْقِطَاعِهِ.., وَيُؤَيِّدُ.. أَنَّ النَّفْسَ هِيَ الَّتِي تَذُوقُ الْعَذَابَ كَلِمَةُ { لِيَذُوقُوا }؛ وَلَمْ يَقِلْ لِتَذُوقَ أَيِ الْجُلُودُ (فهي إذن أداة استشعار فحسب).., (و) الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الذَّوْقِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ إِحْسَاسَهُمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ.. يَكُونُ كَإِحْسَاسِ الذَّائِقِ.. مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ (مستمر) لَا يَدْخُلُ فِيهِ.. زَوَالٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاحْتِرَاقِ..,
{ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا } أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ؛ حَكِيمٌ فِي فِعْلِه".
وفي تفسير مجمع البحوث: "المعنى: إنَّ الَّذِينَ جحدوا آياتنا الدالَّةَ على ألوهيتنا، والمنزلة على أنبيائنا عليهم الصلاة والسلام، وفي مقدمتها القرآن الكريم: الذي هو آخر الكتب وأوفاها وأوضحها دلالة,
{ سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا }: أي سوف ندخلهم نارا هائلة يوم القيامة,
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ }: أي كلما احترقت جلودهم، وتعطلت عن الإِحساس بِالألم؛
{ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا }: أي جلودا جديدة أخرى؛ ليستمر عذابهم ويدوم لهم بها وذوقهم لها؛ لأنهم كانوا مصرين على الكفر..، { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا }: أي.. لا يعجزه شيء ولا يستعصى عليه أمر؛ حكيم في أفعاله".
وقال ابن عاشور: "{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً } تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَافِرِينَ، فَهِيَ أَعَمُّ مِمَّا قَبْلَهَا، فَلَهَا حُكْمُ التَّذْيِيلِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ, وَالْإِصْلَاءُ: مَصْدَرُ أَصْلَاهُ، وَيُقَالُ: صَلَاهُ صَلْيًا، وَمَعْنَاهُ شَيُّ اللَّحْمِ عَلَى النَّارِ..، (ومنه) قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً(10)}(النِّسَاء), وَقَوْلُهُ: { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا(30)}(النِّسَاء),..
و{ نَضِجَتْ } بلغت نِهَايَة الشّيء، يُقَالُ: نَضِجَ الشِّوَاءُ إِذَا بلغ حدّ الشّيء، وَيُقَالُ: نَضِجَ الطَّبِيخُ إِذَا بَلَغَ حَدَّ الطَّبْخِ, وَالْمَعْنَى: كُلَّمَا احْتَرَقَتْ جُلُودُهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا حَيَاةٌ وَإِحْسَاسٌ؛
{ بَدَّلْنَاهُمْ }، أَيْ عَوَّضْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا، وَالتَّبْدِيلُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ..
فَقَوْلُهُ: { غَيْرَها } تَأْكِيدٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ التَّبْدِيلِ..,
وَقَوْلُهُ: { لِيَذُوقُوا الْعَذابَ } تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: { بَدَّلْناهُمْ }؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ هُوَ الَّذِي يُوَصِّلُ إِحْسَاسَ الْعَذَابِ إِلَى النَّفْسِ.. فَلَوْ لَمْ يُبَدَّلِ الْجِلْدُ بَعْدَ احْتِرَاقِهِ لَمَا وَصَلَ عَذَابُ النَّارِ إِلَى النَّفْسِ, وَتَبْدِيلُ الْجِلْدِ مَعَ بَقَاءِ نَفْسِ صَاحِبِهِ لَا يُنَافِي الْعَدْلَ لِأَنَّ الْجِلْدَ وَسِيلَةُ إِبْلَاغِ الْعَذَابِ وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بالتعذيب..،
وَقَوْلُهُ: { إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً } وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهُ، فَالْعِزَّةُ يَتَأَتَّى بِهَا تَمَامُ الْقُدْرَةِ فِي عُقُوبَةِ الْمُجْتَرِئِ عَلَى اللَّهِ، وَالْحِكْمَةُ يَتَأَتَّى بِهَا تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ فِي إِصْلَائِهِمُ النَّارَ".
وقال المراغي: "{ نُصْلِيهِمْ }: نشويهم بالنار، يقال شاة مصلية أي مشوية،
و{ نَضِجَتْ }: احترقت وتهرأت..، من قولهم نضج الثمر واللحم نضجًا..,
{ لِيَذُوقُوا الْعَذابَ }: أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع؛ كما تقول للعزيز: أعزك الله: أي أدام لك العز وزادك فيه, والعزيز هو القادر الغالب على أمره؛ والحكيم: هو المدبر للأشياء وفق الحكمة والصواب..، والآيات: الأدلة التي ترشد إلى أن هذا الدين حق، ومن أجلّها القرآن لأنه أول الدلائل وأظهر الآيات وأوضحها، والكفر بها يعم إنكارها والغفلة عن النظر فيها وإلقاء الشبهات والشكوك مع العلم بصحتها عنادا وحسدا..، (والإيضاح أنه) بعد أن ذكر عز اسمه في الآية السالفة أن ممن دعوا إلى التصديق بالأنبياء فريقا نأى وأعرض عن إتباع الحق، ثم توعد من أعرض بسعير جهنم؛ فَصَّلَ هنا الوعيد بذكر أحوال الفريقين وما يلاقيه كل منهم من الجزاء يوم القيامة:
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً } أي إن الله تعالى قد أعد لمن جحد بآياته التي أنزلها على أنبيائه نارا مسعرة تشويهم وتحرق أجسامهم حتى تفقدها الحس والإدراك,
{ كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها } أي كلما فقدت التماسك الحيوي وبعدت عن الحس والحياة بدلها جلودا أخرى حية تشعر بالألم وتحس بالعذاب, قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا عليه سحائب الرحمة فى كتابه (الإسلام والطب الحديث): والحكمة في تبديل جلود الكفار؛ أن أعصاب الألم هي في الطبقة الجلدية، وأما الأنسجة والعضلات والأعضاء الداخلية فالإحساس فيها ضعيف، ولذلك يعلم الطبيب أن الحرق البسيط الذي لا يتجاوز الجلد يحدث ألما شديدا؛ بخلاف الحرق الشديد الذي يتجاوز الجلد إلى الأنسجة، لأنه مع شدته وخطره لا يحدث ألما كثيرا، فالله يقول لنا إن النار كلما أكلت الجلد الذي فيه الأعصاب نجدده كي يستمر الألم بلا انقطاع ويذوقوا العذاب الأليم، وهنا تظهر حكمة الله قبل أن يعرفها الإنسان.., ثم ذكر السبب فيما تقدم فقال:
{ لِيَذُوقُوا الْعَذابَ } ليدوم لهم ذوق العذاب، لأن الإحساس يصل إلى النفس بواسطة الحياة في الجلد وفى التعبير { لِيَذُوقُوا } إيماء إلى أن إحساسهم بذلك العذاب يكون كإحساس الذائق (قوي ومستمر).. لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق.., ثم أكد سابق الكلام وبين علته فقال:
{ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً }, أي إنه تعالى عزيز قادر لا يمتنع عليه شىء مما توعد به أو وعد؛ حكيم يعاقب من يعاقبه وفق الحكمة، ومن حكمته أن ربط الأسباب بالمسببات".
وقال الشعراوي: "{ نُصْلِيهِمْ } من الاصطلاء..، وكلنا يعرف أن نار الدنيا حين تحرق شيئاً ينتهي إلى عدم، وحين ينتهي إلى عدم إذن فلا يوجد ألم!.. (ولكن) نار الدنيا تحرق وتنتهي المسألة؛ أما نار الآخرة فإنها عذاب سرمدي دائم مكرر:
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب }, فإذا ما حرّقت الجلود فإن جلوداً أخرى ستأتي..، فالألم ليس للعضو بل للنفس الواعية؛ بدليل أننا عندما ارتقينا في الطب قلنا إن النفس الواعية نستطيع أن نخدرها بحيث يحدث الألم ولا تشعر به..، وهكذا تجد أن الجلود.. آلة لتوصيل العذاب.. توصل لهم العذاب.., إذن فقوله: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب }؛ أي أن الجلود تبدل وتنشأ جلود أخرى من نفس مادتها توصل العذاب للنفس الواعية..، وكل هذه الآيات الكونية لم يعط الله أسرارها إلا بقدر ما تتسع العقول، وترك في كتابه ما يدل على ما يمكن أن تنتهي إليه العقول الطموحة بالبحث العلمي, وعندما نتعرف نحن المسلمين على اكتشاف علمي جديد في الكون نقول: إن القرآن قد أشار له؛ لكن قبل ذلك لا يصح أن نقول ذلك حتى لا يكذب الناس هذا الكتاب المعجز، فسبحانه القائل: { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ..(39)} (يونس)", "لذلك فعندما يبتكر العقل البشري شيئاً جديداً نقول له: أنت لم تبتكر؛ بل اكتشفت فقط..، والبشرية عندما تكتشف شيئاً جديداً، نقول لهم: القرآن مسّها وجاء بها، فيقولون: عجباً هل فعل القرآن ذلك منذ أربعة عشر قرناً، على الرغم من أنه نزل ليخاطب أمة أمية وجاء على لسان رسول أميّ!. ونقول: نعم, والآية التي نحن بصددها فيها هذا: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } ,.. أرادوا أن يعرفوا كيف نحسّ؟.. ثم انتهوا إلى أن الإحساس إنما ينشأ بشعيرات (مستقبلات) حسية (في).. الجلد..؛ بدليل أن ربنا أوضح: أنه عندما يحترق الجلد يمتنع الإحساس؛ فأنا أبدل لهم الجلد ليستمر الإحساس: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ}, أي صارت محترقة احتراقاً تاما وتعطلت عن الإحساس بالألم؛ آتيهم بجلد آخر لأديم عليهم العذاب, لأنه هو الذي سيوصل للنفس الواعية فتتألم، إذن فالآية مسّت قضية علمية معملية، لو أن القرآن تعرض لها بصراحة وجاء بصورة في الإحساس تقول: يا بني آدم محلّ (استقبال) الإحساس عندكم الجلد؛ لما فهموا شيئاً, لكنه تركها لتنضج في العقول على مهل.., فتكون علّة التبديل للجلود التي أحرقت بجلود جديدة كي يدوم العذاب", "لأن الجلود إذا نضجتْ وتفحَّمت امتنع الحِسُّ، وبالتالي امتنعتْ إذاقة العذاب، إذن: العلة من تبديل الجلود تجديد الحسِّ ليذوقوا العذاب إذاقةً مستديمة.., (وقد) توالت البحوث للتعرف على مناط الحسِّ في الإنسان أيْن هي؟ إلى أن انتهت تلك الأبحاث إلى ما أخبر به القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، من أن الجلد هو.. (أهم عضو لاستقبال) الإحساس في الإنسان..، (فمتى عرفت) هذه النظريات العلمية الدقيقة؟ ومَنْ أخبر بها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم؟ إنه لَوْنٌ من ألوان الإعجاز القرآني للعرب ولغيرهم", إذن: لم يكن الإسلام معجزة لقومه فقط بل لكل الدنيا، ويتحقق دائماً قول الحق سبحانه:
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق ..(53)} (فصلت)".
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ (56)﴾ (النساء).
الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسُنة
يتكون الجلد مجهريًا من ثلاث طبقات: البشرة والأدمة والنسيج تحت الجلد, وفي حالة الحروق تدمر تكوينات الجلد, وعلى حسب إصابة الطبقات الثلاث تقسم الحروق إلى درجات ثلاث: سطحي وجزئي وعميق, وفي الدرجة الثانية تصل الإصابة للأدمة ويعاني المصاب من فرط إحساس وآلام شديدة نتيجة لإثارة النهايات العصبية المكشوفة, وفي الدرجة الثالثة تحترق كل الطبقات ويشعر المصاب بخدر ويتوقف الإحساس بالألم نتيجة تحطم النهايات العصبية؛ ولا سبيل لإعادته إلا بتبديل الجلد بآخر حي, وما كان لبشر زمن النبوة إدراك هذه الحقيقة إلا بوحي من الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ (56)﴾ النساء.
وقد كان الاعتقاد السائد قبل عصر الكشوف العلمية أن الجسم كله حساس للآلام، ولم يكن واضحاً لأحد أن هناك نهايات عصبية متخصصة في الجلد لنقل الأحاسيس والألم حتى كُشف حديثا دور النهايات العصبية وتبين أن الجلد هو العضو الأهم لاحتوائه على العدد الأكبر منها, وقد قام الدكتور هيد Head بتقسيم الإحساس الجلدي إلى مجموعتين: إحساس أساسيProtopathic ويختص بالإحساس بالألم ودرجة الحرارة الشديدة؛ وإحساس دقيقEpicritic ويختص بتمييز اللمس الخفيف والفرق البسيط في درجة الحرارة, وكل إحساس منهما: يعمل بنوع مختلف من الوحدات العصبية المجهرية, ومع تجدد الأعصاب في الجروح يعود الإحساس الأساسي سريعا بعد حوالي شهر ونصف, أما الإحساس الدقيق فقد يتأخر إلى عامين وقد لا يعود نهائيا, والنهايات العصبية في الجلد تخصصية الوظيفة؛ كل منها مخصص بإحساس محدد مثل اللمس والضغط والحرارة والبرودة والألم, وتسمى النهايات العصبية في الجلد بمسميات مختلفة تبعا لمن اكتشفها أو قام بدراستها؛ مثل جسيمات مايسنر Meissner وجسيمات ميركلMerkel وبصيلات كروز Krause واسطوانات روفيني Ruffini, وقد أثبت التشريح النسيجي أن الألياف العصبية الخاصة بالألم والحرارة متقاربة ومع اشتداد الحرارة يتحول الإحساس بالحرارة إلى ألم.
والنهايات العصبية المُسماة جسيمات ميسنر Meissner's Corpuscles تخصصها استشعار اللمس والاهتزاز, وأقراص ميركل Merkel's Discs؛ تخصصها استشعار اللمس والضغط, وجسيمات باتشيني Pacinian corpuscles تخصصها استشعار الضغط والاهتزاز, ونهايات عصبية تحيط بالشعرة وتختص باستشعار حركتها, وبصيلات كروزKrause End Bulbs ؛ تخصصها استشعار البرودة, واسطوانات روفيني Ruffini's cylinders تخصصها استشعار الحرارة, وتستشعر النهايات العصبية الحرة Free Nerve Endings المؤثر المؤلم والحرارة.
وتوجد مستقبلات تستشعر تغير الضغط بالأنسجة العميقة وتنقل الإحساس للمخ ببطء مقارنة ببقية المستقبلات, وتشمل جسيمات باتشيني Pacinian Corpuscles بالعضلات والمفاصل, وتتواجد جسيمات رافيني Ruffini's corpuscle التي بالأنسجة العميقة وتحت جلد الأصابع وتستشعر تغير الشد ومن ثم يُستشعر وضع الأصابع, وتعمل أيضًا كمستقبلات حرارية Thermo-receptors؛ ولذا يفقد المصاب الإحساس بالألم في الحروق الشديدة.
والدلالة واضحة لا تحتاج تأويل على وجود تركيبات دقيقة في الجلد تقوم بوظيفة الإحساس؛ وإذا دمرت باحتراق الجلد بحيث ينضج كاملا يتعطل نقل الإحساس؛ ولا سبيل لإعادته سوى بتبديل الجلد التالف بآخر سليم يجدد وظيفة استشعار الألم, وهي عاقبة يستحقها المُكابر أمام تلك الحقيقة الساطعة في التعبير التصويري البليغ: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ (56)﴾ (النساء).
والتعبير { الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا } أي الآيات الساطعة بالحق في القرآن الكريم تعريضًا بالمعرضين من بني إسرائيل, والتعبير
{ سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا } وعيد بذوق عقاب ألم الحريق, والجلود محل استشعاره تحديدًا: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ }, فالدلالة صريحة أن الجلود هي التي تستشعر الألم, وكلمة { نَضِجَتْ } تعني اكتمل احتراقها؛ ودمرت مكونات الإحساس, والتعبير
{ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } صريح بأن إعادة الاستشعار بالألم تطلبت جلد جديد لم تدمر مكوناته, وكان نصيب المعرضين كبرًا فضلا عن الجهل بخفايا التكوين؛ أن أعرض عنهم البيان المعجز وتحدث عنهم بالغيبة!,
قال الدكتور سالم عبد الله المحمود: "توجد (في الجلد).. خلايا تتأثر بالبيئة الخارجية، وهي مخصصة لحاسة اللمس وتشتمل على جسيمات مايسنر MEISSNERS CORPUSCLES وجسيمات ميرگل MERKELS CORPUSCLES, (وجسيمات باتشيني Pacinian corpuscles وتنقل الإحساس بالضغط إلى المخ), وبصيلات كروز KRAUSE END BULBES وهي مخصصة للإحساس بالبرودة, واسطوانات روفيني RUFFINI CYLINDERS وهي مخصصة للإحساس بالحرارة, ونهايات الأعصاب الحرة وهي مخصصة للإحساس بالألم..,(و)الجلد هو من أهم أجزاء جسم الإنسان إحساساً بالألم نظراً لأنه الجزء الأغنى بنهايات الأعصاب الناقلة للألم والحرارة.. (و) لو استعرضنا درجات الحروق التي يصاب بها الإنسان لوجدنا أن هناك حروقاً من الدرجة الأولى وحروقاً من الدرجة الثانية.. ثم حروقا من الدرجة الثالثة.. ولو ألقينا نظرة إلى ما يصيب الجلد نتيجة لهذه الأنواع الثلاثة من الحروق لوجدنا أن حروق الدرجة الأولى تصيب طبقة البشرة القرنية وتظهر على هيئة التهاب جلدي.. وفي هذه الحالة يحدث انتفاخ وألم بسيط لأن الحرق من الدرجة الأولى يصيب خلايا الطبقة السطحية, ومن المعتاد أن ظاهرة الاحمرار والانتفاخ والألم تختفي خلال يومين أو ثلاثة أيام.. وإذا طالت الإصابة ما تحت الطبقة السطحية من الجلد صنفت من الدرجة الثانية.. وهي تنقسم إلى قسمين: سطحي وعميق,(و)يحدث في حالة الحروق السطحية من الدرجة الثانية أن طبقة البشرة (ظاهر الجلد) تنضج وكذلك الأدمة - طبقة باطن الجلد- التي تحت البشرة, ويحدث في هذه الحالة انفصال طبقة البشرة عن طبقة الأدمة ، وتتجمع مواد مفرزة أو نتحات مابين هاتين الطبقتين.. ويعاني المصاب في هذه الحالة من آلام شديدة وزيادة مفرطة في الإحساس بالألم نتيجة لإثارة النهايات العصبية المكشوفة, ويبدأ التئام الجلد خلال أيام قد تصل إلى أربعة عشر يوماً نتيجة لعملية التجدد والانقلاب التي تحدث في الجلد, ولو انتقلنا إلى حروق الدرجة الثالثة لوجدنا أن طبقة الجلد تصاب بكاملها، وربما تصل الإصابة إلى العضلات أو العظام، ويفقد الجلد مرونته ويصبح قاسياً وجافاً.. وفي هذه الحالة فإن المصاب لا يحس بالألم كثيراً لأن نهايات الأعصاب تكون قد تلفت بسبب الاحتراق.., ولقد كشف العلم الحديث أن النهايات العصبية المتخصصة للإحساس بالحرارة وآلام الحريق لا توجد بكثافة إلا في الجلد, وما كان بوسع أحد من البشر قبل اختراع المجهر وتقدم علم الأنسجة وعلم وظائف الأعضاء أن يعرف هذه الحقيقة التي أشار إليها القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً مضت".
قُطُوف تَفْسِيرِيَّة Interpretation picks
قال القاسمي: "{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً } أي عظيمة هائلة, { كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } أي احترقت احتراقا تامّا { بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ } أي ليدوم لهم؛ وذلك أبلغ في العذاب للشخص لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق أبلغ من إحساسه لعملها في المحترق.., { إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً } لا يمتنع عليه ما يريد, { حَكِيماً } فيما يقضيه ومنه هذا التبديل"؛ أي أن حكمة تبديل الجلد المحترق بآخر حي هي { لِيَذُوقُوا الْعَذابَ } بتجدد الإحساس.
وقال الطبري: "هَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِلَّذِينَ أَقَامُوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْكُفَّارِ بِرَسُولِهِ, يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ: إِنَّ الَّذِينَ جَحَدُوا مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آيَاتِي , يَعْنِي مِنْ آيَاتِ تَنْزِيلِهِ وَوَحْيِ كِتَابِهِ, وَهِيَ دَلَالَاتُهُ وَحُجَجُهُ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَلَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ
{ سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا } ؛ يَقُولُ: سَوْفَ نُنْضِجُهُمْ فِي نَارٍ يُصْلَوْنَ فِيهَا: أَيْ يُشْوَوْنَ فِيهَا
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } ؛ يَقُولُ: كُلَّمَا انْشَوَتْ بِهَا جُلُودُهُمْ فَاحْتَرَقَتْ
{ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } , يَعْنِي: غَيْرَ الْجُلُودِ الَّتِي قَدْ نَضِجَتْ فَانْشَوَتْ.., وَمَعْنَى قَوْلِهِ:
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } ؛ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَ مُحْتَرِقَةٍ, وَذَلِكَ أَنَّهَا تُعَادُ جَدِيدَةً, وَالْأُولَى كَانَتْ قَدِ احْتَرَقِتْ فَأُعِيدَتْ غَيْرَ مُحْتَرِقَةٍ, فَلِذَلِكَ قِيلَ غَيْرُهَا.., احْتَرَقِتِ الْجُلُودُ ثُمَّ أُعِيدَتْ جَدِيدَةً بَعْدَ الِاحْتِرَاقِ.., وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ:
{ لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ: فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ لِيَجِدُوا أَلَمَ الْعَذَابِ وَكَرْبِهِ وَشِدَّتِهِ بِمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُكَذِّبُونَ آيَاتِ اللَّهِ وَيَجْحَدُونَهَا.,
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا } , يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ عَزِيزًا فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنِ انْتَقَمَ مِنْهُ مِنْ خَلْقِهِ؛ لَا يَقْدِرُ عَلَى الامْتِنَاعِ مِنْهُ أَحَدٌ أَرَادَهُ بِضُرٍّ, وَلَا الِانْتِصَارِ مِنْهُ أَحَدٌ أَحَلَّ بِهِ عُقُوبَةً, حَكِيمًا فِي تَدْبِيرِهِ وَقَضَائِهِ".
وقال محمد رشيد رضا: "قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: { فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ }, وَتَوَعَّدَ مَنْ صَدَّ عَنْهُ بِسَعِيرِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ فَصَّلَ هَذَا الْوَعِيدَ بِقَوْلِهِ:
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا }.., وَالْوَعِيدُ إِنَّمَا هُوَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ..، وَقَدِ ابْتَدَأَ الْآيَةَ بِذِكْرِ { الَّذِينَ كَفَرُوا }؛ لِيَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لَيْسَ خَاصًّا بِأُولَئِكَ الْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ (فحسب)، وَالْمُرَادُ بِآيَاتِ اللهِ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى حَقِّيَّةِ دِينِهِ مُطْلَقًا، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْقُرْآنُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا؛ لِأَنَّهُ أَدَلُّ الدَّلَائِلِ وَأَظْهَرُ الْآيَاتِ وَأَوْضَحُهَا،
وَ{ نُصْلِيهِمْ نَارًا } مَعْنَاهُ نَجْعَلُهُمْ يَصْلَوْنَهَا، أَيْ: يَدْخُلُونَهَا وَيُعَذَّبُونَ بِهَا..,
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ (محمد عبده): نُضْجُ الْجُلُودِ هُوَ نَحْوُ نُضْجِ الثِّمَارِ وَالطَّعَامِ؛ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ فَقْدِ التَّمَاسُكِ الْحَيَوِيِّ وَالْبُعْدِ عَنِ الْحَيَاةِ، وَإِنَّمَا تَتَبَدَّلُ لِأَنَّ النُّضْجَ يُذْهِبُ الْقُوَّةَ الْحَيَوِيَّةَ الَّتِي بِهَا الْإِحْسَاسُ، فَإِذَا بَقِيَتْ نَاضِجَةً يَقِلُّ الْإِحْسَاسُ بِمَا يَمَسُّهَا أَوْ يَزُولُ; لِذَلِكَ تَتَبَدَّلُ بِهَا جُلُودًا حَيَّةً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ, لِأَنَّ الذَّوْقَ وَالْإِحْسَاسَ يَصِلُ إِلَى النَّفْسِ بِوَاسِطَةِ الْحَيَاةِ فِي الْجِلْدِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِتَبْدِيلِ الْجُلُودِ دَوَامُ الْعَذَابِ، فَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ دَوَامِ الْإِحْسَاسِ بِالْعَذَابِ..، أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ نُضْجَ الْجُلُودِ مِنَ الْعَذَابِ إِنْ كَانَ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا؛ يَكُونُ هُوَ أَثَرُ لَفْحِ النَّارِ بِسَمُومِهَا لِأَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)} ( المؤمنون)، وَمَتَى لُفِحَ الْجِلْدُ مِرَارًا يَبْطُلُ إِحْسَاسُهُ وَيَنْفَصِلُ عَنِ الْبَشَرَةِ وَيَتَرَبَّى تَحْتَ جِلْدٍ آخَرَ؛ (تمثيلاً للغيب بما) هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الدُّنْيَا.. (أو) أَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ عَنِ الدَّوَامِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ..، يَعْنِي.. الْمَقْصُودُ (في هذه الصورة البيانية) دَوَامَ الْعَذَابِ وَعَدَمَ انْقِطَاعِهِ.., وَيُؤَيِّدُ.. أَنَّ النَّفْسَ هِيَ الَّتِي تَذُوقُ الْعَذَابَ كَلِمَةُ { لِيَذُوقُوا }؛ وَلَمْ يَقِلْ لِتَذُوقَ أَيِ الْجُلُودُ (فهي إذن أداة استشعار فحسب).., (و) الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الذَّوْقِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ إِحْسَاسَهُمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ.. يَكُونُ كَإِحْسَاسِ الذَّائِقِ.. مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ (مستمر) لَا يَدْخُلُ فِيهِ.. زَوَالٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاحْتِرَاقِ..,
{ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا } أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ؛ حَكِيمٌ فِي فِعْلِه".
وفي تفسير مجمع البحوث: "المعنى: إنَّ الَّذِينَ جحدوا آياتنا الدالَّةَ على ألوهيتنا، والمنزلة على أنبيائنا عليهم الصلاة والسلام، وفي مقدمتها القرآن الكريم: الذي هو آخر الكتب وأوفاها وأوضحها دلالة,
{ سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا }: أي سوف ندخلهم نارا هائلة يوم القيامة,
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ }: أي كلما احترقت جلودهم، وتعطلت عن الإِحساس بِالألم؛
{ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا }: أي جلودا جديدة أخرى؛ ليستمر عذابهم ويدوم لهم بها وذوقهم لها؛ لأنهم كانوا مصرين على الكفر..، { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا }: أي.. لا يعجزه شيء ولا يستعصى عليه أمر؛ حكيم في أفعاله".
وقال ابن عاشور: "{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً } تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَافِرِينَ، فَهِيَ أَعَمُّ مِمَّا قَبْلَهَا، فَلَهَا حُكْمُ التَّذْيِيلِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ, وَالْإِصْلَاءُ: مَصْدَرُ أَصْلَاهُ، وَيُقَالُ: صَلَاهُ صَلْيًا، وَمَعْنَاهُ شَيُّ اللَّحْمِ عَلَى النَّارِ..، (ومنه) قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً(10)}(النِّسَاء), وَقَوْلُهُ: { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا(30)}(النِّسَاء),..
و{ نَضِجَتْ } بلغت نِهَايَة الشّيء، يُقَالُ: نَضِجَ الشِّوَاءُ إِذَا بلغ حدّ الشّيء، وَيُقَالُ: نَضِجَ الطَّبِيخُ إِذَا بَلَغَ حَدَّ الطَّبْخِ, وَالْمَعْنَى: كُلَّمَا احْتَرَقَتْ جُلُودُهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا حَيَاةٌ وَإِحْسَاسٌ؛
{ بَدَّلْنَاهُمْ }، أَيْ عَوَّضْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا، وَالتَّبْدِيلُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ..
فَقَوْلُهُ: { غَيْرَها } تَأْكِيدٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ التَّبْدِيلِ..,
وَقَوْلُهُ: { لِيَذُوقُوا الْعَذابَ } تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: { بَدَّلْناهُمْ }؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ هُوَ الَّذِي يُوَصِّلُ إِحْسَاسَ الْعَذَابِ إِلَى النَّفْسِ.. فَلَوْ لَمْ يُبَدَّلِ الْجِلْدُ بَعْدَ احْتِرَاقِهِ لَمَا وَصَلَ عَذَابُ النَّارِ إِلَى النَّفْسِ, وَتَبْدِيلُ الْجِلْدِ مَعَ بَقَاءِ نَفْسِ صَاحِبِهِ لَا يُنَافِي الْعَدْلَ لِأَنَّ الْجِلْدَ وَسِيلَةُ إِبْلَاغِ الْعَذَابِ وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بالتعذيب..،
وَقَوْلُهُ: { إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً } وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِمَا قَبْلَهُ، فَالْعِزَّةُ يَتَأَتَّى بِهَا تَمَامُ الْقُدْرَةِ فِي عُقُوبَةِ الْمُجْتَرِئِ عَلَى اللَّهِ، وَالْحِكْمَةُ يَتَأَتَّى بِهَا تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ فِي إِصْلَائِهِمُ النَّارَ".
وقال المراغي: "{ نُصْلِيهِمْ }: نشويهم بالنار، يقال شاة مصلية أي مشوية،
و{ نَضِجَتْ }: احترقت وتهرأت..، من قولهم نضج الثمر واللحم نضجًا..,
{ لِيَذُوقُوا الْعَذابَ }: أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع؛ كما تقول للعزيز: أعزك الله: أي أدام لك العز وزادك فيه, والعزيز هو القادر الغالب على أمره؛ والحكيم: هو المدبر للأشياء وفق الحكمة والصواب..، والآيات: الأدلة التي ترشد إلى أن هذا الدين حق، ومن أجلّها القرآن لأنه أول الدلائل وأظهر الآيات وأوضحها، والكفر بها يعم إنكارها والغفلة عن النظر فيها وإلقاء الشبهات والشكوك مع العلم بصحتها عنادا وحسدا..، (والإيضاح أنه) بعد أن ذكر عز اسمه في الآية السالفة أن ممن دعوا إلى التصديق بالأنبياء فريقا نأى وأعرض عن إتباع الحق، ثم توعد من أعرض بسعير جهنم؛ فَصَّلَ هنا الوعيد بذكر أحوال الفريقين وما يلاقيه كل منهم من الجزاء يوم القيامة:
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً } أي إن الله تعالى قد أعد لمن جحد بآياته التي أنزلها على أنبيائه نارا مسعرة تشويهم وتحرق أجسامهم حتى تفقدها الحس والإدراك,
{ كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها } أي كلما فقدت التماسك الحيوي وبعدت عن الحس والحياة بدلها جلودا أخرى حية تشعر بالألم وتحس بالعذاب, قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا عليه سحائب الرحمة فى كتابه (الإسلام والطب الحديث): والحكمة في تبديل جلود الكفار؛ أن أعصاب الألم هي في الطبقة الجلدية، وأما الأنسجة والعضلات والأعضاء الداخلية فالإحساس فيها ضعيف، ولذلك يعلم الطبيب أن الحرق البسيط الذي لا يتجاوز الجلد يحدث ألما شديدا؛ بخلاف الحرق الشديد الذي يتجاوز الجلد إلى الأنسجة، لأنه مع شدته وخطره لا يحدث ألما كثيرا، فالله يقول لنا إن النار كلما أكلت الجلد الذي فيه الأعصاب نجدده كي يستمر الألم بلا انقطاع ويذوقوا العذاب الأليم، وهنا تظهر حكمة الله قبل أن يعرفها الإنسان.., ثم ذكر السبب فيما تقدم فقال:
{ لِيَذُوقُوا الْعَذابَ } ليدوم لهم ذوق العذاب، لأن الإحساس يصل إلى النفس بواسطة الحياة في الجلد وفى التعبير { لِيَذُوقُوا } إيماء إلى أن إحساسهم بذلك العذاب يكون كإحساس الذائق (قوي ومستمر).. لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق.., ثم أكد سابق الكلام وبين علته فقال:
{ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً }, أي إنه تعالى عزيز قادر لا يمتنع عليه شىء مما توعد به أو وعد؛ حكيم يعاقب من يعاقبه وفق الحكمة، ومن حكمته أن ربط الأسباب بالمسببات".
وقال الشعراوي: "{ نُصْلِيهِمْ } من الاصطلاء..، وكلنا يعرف أن نار الدنيا حين تحرق شيئاً ينتهي إلى عدم، وحين ينتهي إلى عدم إذن فلا يوجد ألم!.. (ولكن) نار الدنيا تحرق وتنتهي المسألة؛ أما نار الآخرة فإنها عذاب سرمدي دائم مكرر:
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب }, فإذا ما حرّقت الجلود فإن جلوداً أخرى ستأتي..، فالألم ليس للعضو بل للنفس الواعية؛ بدليل أننا عندما ارتقينا في الطب قلنا إن النفس الواعية نستطيع أن نخدرها بحيث يحدث الألم ولا تشعر به..، وهكذا تجد أن الجلود.. آلة لتوصيل العذاب.. توصل لهم العذاب.., إذن فقوله: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب }؛ أي أن الجلود تبدل وتنشأ جلود أخرى من نفس مادتها توصل العذاب للنفس الواعية..، وكل هذه الآيات الكونية لم يعط الله أسرارها إلا بقدر ما تتسع العقول، وترك في كتابه ما يدل على ما يمكن أن تنتهي إليه العقول الطموحة بالبحث العلمي, وعندما نتعرف نحن المسلمين على اكتشاف علمي جديد في الكون نقول: إن القرآن قد أشار له؛ لكن قبل ذلك لا يصح أن نقول ذلك حتى لا يكذب الناس هذا الكتاب المعجز، فسبحانه القائل: { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ..(39)} (يونس)", "لذلك فعندما يبتكر العقل البشري شيئاً جديداً نقول له: أنت لم تبتكر؛ بل اكتشفت فقط..، والبشرية عندما تكتشف شيئاً جديداً، نقول لهم: القرآن مسّها وجاء بها، فيقولون: عجباً هل فعل القرآن ذلك منذ أربعة عشر قرناً، على الرغم من أنه نزل ليخاطب أمة أمية وجاء على لسان رسول أميّ!. ونقول: نعم, والآية التي نحن بصددها فيها هذا: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } ,.. أرادوا أن يعرفوا كيف نحسّ؟.. ثم انتهوا إلى أن الإحساس إنما ينشأ بشعيرات (مستقبلات) حسية (في).. الجلد..؛ بدليل أن ربنا أوضح: أنه عندما يحترق الجلد يمتنع الإحساس؛ فأنا أبدل لهم الجلد ليستمر الإحساس: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ}, أي صارت محترقة احتراقاً تاما وتعطلت عن الإحساس بالألم؛ آتيهم بجلد آخر لأديم عليهم العذاب, لأنه هو الذي سيوصل للنفس الواعية فتتألم، إذن فالآية مسّت قضية علمية معملية، لو أن القرآن تعرض لها بصراحة وجاء بصورة في الإحساس تقول: يا بني آدم محلّ (استقبال) الإحساس عندكم الجلد؛ لما فهموا شيئاً, لكنه تركها لتنضج في العقول على مهل.., فتكون علّة التبديل للجلود التي أحرقت بجلود جديدة كي يدوم العذاب", "لأن الجلود إذا نضجتْ وتفحَّمت امتنع الحِسُّ، وبالتالي امتنعتْ إذاقة العذاب، إذن: العلة من تبديل الجلود تجديد الحسِّ ليذوقوا العذاب إذاقةً مستديمة.., (وقد) توالت البحوث للتعرف على مناط الحسِّ في الإنسان أيْن هي؟ إلى أن انتهت تلك الأبحاث إلى ما أخبر به القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، من أن الجلد هو.. (أهم عضو لاستقبال) الإحساس في الإنسان..، (فمتى عرفت) هذه النظريات العلمية الدقيقة؟ ومَنْ أخبر بها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم؟ إنه لَوْنٌ من ألوان الإعجاز القرآني للعرب ولغيرهم", إذن: لم يكن الإسلام معجزة لقومه فقط بل لكل الدنيا، ويتحقق دائماً قول الحق سبحانه:
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق ..(53)} (فصلت)".