تتنامى الحروب وتتطور عبر التاريخ في فنونها وأدواتها وطرق إدارتها من جيل إلى جيل شأنها شأن أي تطور طبيعي طرأ على مناحي الحياة المختلفة فهي قدر محتوم على البشرية منذ قديم الأزل تكون حيناً واقعاً مفروضاً للدفاع عن الأرض والعرض أو لتحقيق مطلب وحق أستعصي نيله بالطرق السلمية
وتكون في حين آخر صراع بين طائفتين أو فئتين أو دولتين لتحقيق مكاسب معينة سواءاً إقتصادية أو سياسية أو آيدلوجية أو لتحقيق أغراضٍ توسعية يراها كل طرف بمثابة الحاجة الملحة لتأكيد وضع معين ، لكنها تبقى في النهاية تصرف غير عقلاني لا ينجو أحد من عواقبه لقسوتها وفظاظتها ، تصنف بأنها آخر وسيلة من وسائل فض المنازعات وقرارها عادة بيد القادة السياسيين الذين لايقدرون أبداً خطورتها ونتائجها وقلما يذكر التاريخ دورهم في أحداثها وتتضمن أعمالها صراعاً مريراً يشمل إستخداماً مكثفاً لكافة مقومات الدولة والقوات المسلحة بما يحقق الهدف الذي قامت من أجله .
على الرغم مما قدمه الفكر الانساني من أفكار متقدمة لاقامة أنظمة غايتها سعادة الإنسان والمحافظة على كرامته ووطنه ونبذ الحروب وما قد يؤدي إليها من سلوك سياسي ومشاحنات ومنازعات لتحقيق أكبر مستوى من الأمن والآمان تحت قيم ومعايير اخلاقية تضمن للإنسان حقوقه إلا أن القصور البشري في فهم تلك المعايير هو ما يدفع بالحلول العنيفة لتصبح بذلك دول العالم ميادين للقتال والحروب ولعلنا نعيش أحداث حروب مؤلمة في عموم العالم فما أن تنطفىء نار حرب حتى تشتعل أخرى تدمر البشر والحجر فهي تفرض نفسها كواقع إجتماعي يستمد طبائعه من أخلاق الشعوب ذاتها وتؤثر على بنية وسلوك أفراده المجتمع فما تتركه من حقد وخوف يجعلها تستمر في الخفاء حيناً من الزمن يترصد فيه كل طرف بآخر حتى تحين له الفرصة وهكذا تتوالى الحروب حتى أن التاريخ يذكر حروباً قامت وأستمرت ردحاً من الزمان في صراع محتدم ولم تنتهي رسمياً إلا بإعتذار الدول لبعضها وهناك أخرى لاتزال جدوتها مشتعلة ، هذه الإستمرارية في الحروب جعلت الخبراء العسكريون يعملون على تطوير آلياتها حتى تتوافق مع الزمان والمكان والتطور التقني والفني الذي بات يفرض نفسه على نوعية الحروب وبالتالي قسمت الحروب ومعداتها إلى أجيال متعاقبة يتوقف فهمها على طبيعة العمليات العسكرية التي تجرى فيها وطبيعة الأرض وأيضاً طبيعة الخصم.
خلال المراحل التاريخية التي مرت بها الشعوب في صراعاتها تطورت أجيال الحروب المتعاقبة لتلبي الإحتياجات المتزايدة لإدارة تلك الصراعات في شتى أنحاء العالم وبذلك إنتقلت أجيال الحروب عبر السنين من مرحلة إلى أخرى في تطور طبيعي حمل أفكاراً ورؤى أدت إلى تحديث كل منظومة الحرب من تدريب الأفراد إلى نوعية السلاح المستخدم إلى النظريات والخطط العسكرية المتبعة فيها ومن هذا المنطلق صنف خبراء الفكر العسكري الحروب تصنيفاً دقيقاً حسب الفترات التي دارت فيها وكذلك بحسب المعدات التي إستخدمت فيها وأطلق على ذلك تسمية "أجيال الحروب" فكانت حروب الجيل الأول وهكذا حتى الجيل الرابع وأختص كل جيل من الحروب بنوع معين من التكتيكات والعمليات ونوعية الأسلحة والمعدات المستخدمة فيها .
وهنا يجذر القول بأن أجيال الحروب غير محددة بزمن وعدد سنين بل هي رهن لطبيعة الحرب ذاتها وتطورها الذي عادة ما يصاحب التطور الفكري والتقني للأمم والشعوب وبذلك قسمت الحروب إلى أجيال محددة كان آخرها الجيل الرابع والذي ذاع صيته مؤخراً سنتناول بالوصف سمات كل جيل من الحروب حسب تسلسلها بما يعطي نبذة عن مراحل تطور الحروب عبر اجيالها المتعاقبة :
1.حروب الجيل الأول :
أطلقت تسمية الجيل الأول من الحروب على الحروب التقليدية التي تدور رحاها بين جيشين نظاميين على أرض واحدة وفي ميدان محدد تكون فيها المواجهات المباشرة بين الخصمين في جبهة واحدة بشكل تصادمي وهذا الجيل من الحروب سمته الرئيسية بروز مقومات الفروسية والشجاعة والإقدام على مستوى القادة والأفراد والقادة وتسمى أيضاً بالقتال الخطي والمواجهات المباشرة وهي صراع بين خصمين أو أكثر لهما نفس المستوى الحضاري أو باختلاف بسيط وتشترك فيه جميع أنواع الأسلحة والذخائر التقليدية .
نفذت خلال حروب الجيل الأول عدد محدود من العمليات العسكرية وحققت نجاحات كبيرة كعمليات المناورة والإلتفاف لتطويق الخصم وضربه في أجنحته للقضاء عليه وتدميره بدأت هذه النوعية من الحروب مبكراً وعرفتها البشرية وأستمرت حتى فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية.
2.حروب الجيل الثاني :
تطورت الحروب بعد ذلك لتأخذ أشكالاً جديدة وتدخل عملياً لمرحلة الجيل الثاني وهي ما يعرف بحرب العصابات أو الحرب الثورية والتي تكون عادة بين جيش نظامي تقليدي وبين مجموعات مقاتلة ذات هدف واحد صغيرة العدد نسبياً مقارنة بجيش متكامل وهي شبيهة إلى حد ما بحروب الجيل الأول ولكن التطور الذي حصل في تقنيات إستخدام النيران ووسائل قذفها وإدارتها من دبابات وطيران بين الأطراف المتنازعة جعل لها خصوصية أكثر دقة من ناحية القدرة على إحداث أكبر قدر ممكن من الخسائر في طرفي النزاع وهي حرب لها إسترالتيجيتها وفكرها الخاص فهي تنشأ من الصراع المستمر والطويل مما يحتم عليها إتخاذ تدابير معينة ومحددة تتبع فيه أسلوب المفاجأة والمباغتة في القتال ضد التنظيمات العسكرية التقليدية مدعمة بتسليح أقل عدداً ونوعاً من تسليح الجيوش بحيث تقاتل في ظروف غير ملائمة للجيش النظامي بما يحقق ضربات موجعة للعدو في معارك ومواجهات صغيرة ومتعددة تحقق لهم الهدف الأساسي وهو إضعاف قدرة الخصم وجعله يتراجع عن أهدافه تحت وطء الضربات المتلاحقة من خصم يظهر ويختفي ويقاتل وفق إستراتيجية يفرض فيها نفسه وشروطه يحدد فيها مكانها وزمانها بما يضمن له النجاح فيها ، تتميز قيادة حرب العصابات بأحادية القيادة حيث يجمع قياديوها عادةً، بين القيادة العسكرية والسياسة وتعتمد حرب العصابات على مساندة الإعلام بشكل رئيسي وذلك في تصوير ونشر العمليات العسكرية قبل وأثناء وبعد أي عملية عسكرية أو كما يتطلب الموقف كما أن التركيز في استخدام الدعاية والحرب النفسية مهم بالنسبة لعناصر حرب العصابات وذلك لكسب المزيد من الأنصار والتبرعات بالأموال.
أنتشرت هذه النوعية من الحروب في كثير من دول العالم ولعل أهم ما يميزها هو أنه ليس هناك مقياس محدد لتسليح العناصر القتالية في حرب العصابات ولكن لطبيعة ديناميكية الحركة والمناورة المستمرة فيها تكون الأسلحة الخفيفة والمتوسطة بأنواعها المتعددة هي المفضلة والمعتمدة خلال عملياتها.
3. حروب الجيل الثالث:
ظهرت حروب الجيل الثالث من وحي نظرية الردع بالشك وهي نظرية سياسية عسكرية ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق وهي تعني عملياً الضربة الاستباقية وشن الحرب ضد ما من شأنه أن يهدد الأمن القومي الأمريكي أو السلم العالمي على حد تعبير الإدارة الأمريكية.
ويطلق عليها كذلك حرب المناورات وهي إستراتيجية طورت سابقاً من قبل الألمان في الحرب العالمية الثانية وأستخدمت ضد بريطانيا بقصفها المتواصل بالطائرات وصواريخ 2V وتميزت العمليات الخاصة بحروب الجيل الثالث بالمرونة والسرعة في الحركة واستخدم فيها عنصر المفاجأة وأيضاً الضرب بشدة وراء خطوط العدو ويستخدم فيها عادة سلاح الطيران والقاذفات الإستراتيجية البعيدة المدى والصواريخ الموجهة على وجه الخصوص ولعل ما شاهده وسمع العالم عنه في حرب العراق الثانية يلقي كثيراً من الضوء على نوعية هذه الحروب وتصاحبها في العادة حملات إعلامية مركزة .
4.حروب الجيل الرابع :
أطلقت تسمية الجيل الرابع على الحرب على المنظمات الإرهابية حسب المفهوم الأمريكي والتي يكون طرفي الحرب فيها جيش نظامي لدولة ما مقابل لا دولة أو خصم على صورة خلايا خفية منتشرة في أنحاء العالم وقد اتفق الخبراء العسكريين على أن حرب الجيل الرابع هي حرب امريكية النشأة والصناعة طورت من قبل قيادة الجيش الأمريكي وأسموها بـــــالحرب اللا متماثلة.
هذه النوعية من الحروب نشأت عندما وجد الأمريكان أنفسهم يحاربون كياناً لا يعتمد وطناً له ولا دولة ولا جيش نظامي بل تنظيم يحمل طابع ديني أو سياسي بأيدلوجية محددة تنتشر حول العالم ويمتلك إمكانيات جيدة لضرب مصالح حيوية لدول أخرى لإضعافها أمام الرأي العام العالمي ، ومثال على هذه التنظيمات : تنظيم القاعدة بمختلف فروعه ، حزب الله ، أنصار الشريعة ، جماعة الأخوان المسلمين والتي صنفت مؤخراً في مصر على أساس أنها تنظيم إرهابي وفي هذا الجيل من الحروب تستغل وسائل الإعلام الحديثة والتقليدية إلى جانب العمليات الإستخبارية للقيام بدور كبير لإضعاف الخصم والتأثير عليه ومثالها الحرب على الإرهاب التي قادتها في السودان وفي اليمن وفي أفغانستان وفي باكستان بضربات ماحقة وستقودها أينما إستشعرت الخطر على أمنها ومصالحها .
5.حروب الجيل الخامس :
يطلق عليها الحرب الهجينة وهي نوع متميز من القتال يعجز فيه الجيش النظامي على الإطاحة بلاعب يعتقد أنه غير محترف يخوض حرباً غير نظامية بأفكار مبتكرة تعد خليطاً من مفهوم الحرب الشعبية والحرب الثورية وأسلوب حرب العصابات ووسائل الحرب الحديثة التي تتمتع بتكنولوجيا فائقة لا تخضع لشكل معين وقواعد ثابتة بدءاً من القيادة وإنتهاءاً بالعمليات الجارية خلالها.إن مفهوم الجيل الخامس للحروب يترجم حقيقة معنى "قوة الضعيف" تلك القوة التي تتجسد وتتضاعف فعاليتها بغايات ووسائل وأساليب أثبت الواقع نجاحها وفعاليتها في مواجهة قوى نظامية قوية وغير متماثلة ولكن عمليات الجيل الخامس للحروب قد تصبح مجالاً مفتوحاً لصراع ينشأ بين الحكومات والجيوش تنفذ عملياتها دون قيود أخلاقية وتستخدام فيه كافة وسائل القوة المتوفرة المسلحة وغير المسلحة لإجبار الخصوم للخضوع لإرادة من يشن الحرب حتى وإن تضمن ذلك سقوط الضحايا دون وجه حق مع ما يصاحب عمليات الحروب من تعدي وظلم وطغيان حيث لا سبيل لتحقيق الغايات إلا بالدمار والقتل.
ومن مظاهر الجيل الخامس للحروب سعي الأفراد والمجموعات غير الحكومية للوصول إلى المعرفة المتطورة والتكنولوجيا الحديثة واستخدامها كوسائل هجومية في معارك غير متماثلة لتحقيق المصالح الفردية والجماعية وذلك من خلال القدرة على تنفيذ الأعمال التخريبية من خلال الإنترنت والوسائط الإلكترونية المختلفة فيما بات يعرف بالحرب الرقمية وعلى ذلك فإن زمنا قادماً ينبيء بظهور أجيال جديدة للحروب مختلفة كلياً عن كل تلك الحروب المدمرة التي عانى منها العالم وسوف تكون التغيرات السياسية والاجتماعية وتكنولوجيا الصناعة عاملاً مهماً في تحديد الخصوم وطريقة الرد وخوض غمار الحرب وستساهم كل تلك التغييرات في رسم حروب المستقبل وستكون عاملاً مهماً في سباق إدارة الأزمات وفن الحرب واستخدام تكتيكات جديدة في العمليات العسكرية والأمنية