موضوع أعجبني و أردت مشاركاتكم فيه
• الدول التى أخذت بمبدأ الجيش كملاذ أخير فقط هى الأنجح فى كل المستويات.. أما تلك التى أخذت بمبدأ أنه هو المؤتمن الوحيد والقادر على كل شىء فلم يثبت نجاح أى حالة منها
• فى فرنسا كان الجيش والشعب يدا واحدة فى قبضة الإمبراطور بونابرت
• الجيش طلب استدعاء ديجول لرئاسة الحكومة بعد هزيمة فرنسا فى فيتنام وفشلها فى السويس وترنحها فى الجزائر
• سحق دبابات الجيش الصينى للشباب المطالب بالديمقراطية فى الميدان السماوى كان بقرار سياسى من ينج شياو بينج
• ظل الجيش التركى حارسا للجمهورية العلمانية منذ سقوط الخلافة العثمانية
• تداول باكستان بين حكم الجنرالات أو مناصرتهم لحزب على حساب آخر أهلها لأن تصبح دول فاشلة
• الجيش الجزائرى يوصف بأنه جماعة وظيفية لا تهتم سوى بمصالحها
• حرصت السلطة فى مصر دائما على تعجيز الأحزاب بدءا من تصنيع قوانين الانتخابات والتزوير والتشويه الإعلامى وصولا إلى الحصار البوليسى
هذه الدول الست هى فرنسا والصين وتركيا وباكستان ومصر والجزائر. كل واحدة من هذه الدول اقتضى تطورها الحديث دورا سياسيا للجيش، ولكن مدى هذا الدور، والغرض منه تفاوتا من دولة إلى أخرى فى هذه القائمة، وسنرى بعد المقارنة أن أنجح نموذج فيها هو الذى التزم الدور السياسى للجيش فيها بمهام «الملاذ الأخير» فى النظرية وفى التطبيق.. والنجاح هنا كان للدولة كلها جيشا ومجتمعا.
فرنسا
فى فرنسا كان الجيش بقيادة نابليون الأول هو الذى أنهى الفوضى التى لم تكن تتوقف إلا لتستأنف من جديد، منذ اندلاع الثورة الكبرى، وقد فعل نابليون ذلك جزئيا عدة مرات، منذ كان ضابطا صغيرا، حتى تمكن من فرض سيطرته العسكرية المطلقة عبر انقلاب، سرعان ما أقام بعده امبراطوريته «الشعبية»، أى كان الجيش والشعب يدا واحدة فى قبضة الامبراطور.
لم يسقط حكم نابليون الا بهزيمته عسكريا فى معركة ووترلو، لكن فرنسا لم تكن قد تأهلت للاستقرار السياسى، وجربت العودة للنظام الملكى، الذى نشبت ضده ثورتان، أطاحت الأخيرة به عام 1848، وكان هذا هو آخر العهد بالملكية القديمة فى فرنسا، إذ انتخب ابن شقيق نابليون الأول المدعو لويس نابليون رئيسا للجمهورية، لكنه بدوره انقلب على الجمهورية، وأقام الامبراطورية الشعبية الثانية اعتمادا على الجيش الذى كان قادته يشعرون بحنين مرضى لأمجاد نابليون الأول، ويرومون استئنافها مع ابن أخيه الذى تسمى بالامبراطور نابليون الثالث.
وكما أقام نابليون الثالث امبراطوريته على أكتاف الجيش، فإنه سقط، ومعه الامبراطورية بسقوط هذا الجيش وسقوط باريس نفسها تحت أقدام الجيش االألمانى فى آخر معارك بسمارك لتوحيد ألمانيا عام 1870.
اعتبارا من تلك اللحظة يبدأ فصل جديد فى الدور السياسى للجيش الفرنسى، ليقترب شيئا فشيئا من دور الملاذ الأخير كما سنشرحه فيما بعد.
استغل الشيوعيون الفرنسيون ظروف الهزيمة، واستولوا على السلطة فى العاصمة، وأسسوا ما يعرف فى التاريخ باسم كوميونة باريس، فى أول ثورة ماركسية فى تاريخ العالم، وبالطبع لم تكن أغلبية الفرنسيين مؤيدة لهذه الثورة ــ على عكس الثورات السابقة، وكذلك لم تكن أغلبية أوروبا دولا وشعوبا لتقبل بحكم شيوعى فى فرنسا، المهم هنا أن القوة التى قضت على كوميونة باريس هى بقايا الجيش الفرنسى.
قلنا إن الجيش الفرنسى بقضائه على كوميونة باريس اقترب من نموذج العمل كملاذ أخير للدولة والمجتمع معا، فالذى حدث أن أدولف تيير (رئيس الحكومة المؤقتة) الذى أمر بسحق الكوميونة لم يستول على السلطة فى هذه اللحظة، كما لم يفكر الجنرالات فى ذلك، واكتفى الجميع بذلك الدور، تاركين الارادة الشعبية الحرة تؤسس الجمهورية الثالثة البرلمانية، برئاسة (باتريس مكماهون)، الذى كان فى الأصل ماريشال، ولكنه كان شديد الاخلاص للديمقراطية، فوضع الأساس لحقبة طويلة من الاستقرار، تخللتها الحرب العالمية الأولى، التى كانت فرنسا فى الكفة المنتصرة فيها.
ويلفت النظر فى السنوات القليلة السابقة على الحرب العالمية الثانية أن التدهور الذى أصاب الحياة السياسية الفرنسية فى أثنائها قابله تدهور مماثل فى روح وثقافة واستعداد الجيش، وتمثل هذا التدهور أساسا فى السرعة المتزايدة لسقوط وتكوين الحكومات، وبالتالى فقدان العزيمة التى توقف عدوانية النازية الألمانية فى بدايتها، وفى الاستجابة للنظريات العسكرية الجديدة التى كان يبشر بها العقيد شارل ديجول لمواجهة الثورة «الميكانيكية» فى الجيش الألمانى، حتى وقعت الواقعة، واحتل الألمان باريس، ولكن ذلك العقيد المغمور (ديجول) لم يقبل ذلك، وانشق هاربا ليعيد بعث دور الجيش كملاذ أخير، بتأسيس حركة فرنسا الحرة، وبإعادة بلاده إلى الحرب، ولو من وراء البحار، ولقيادة المقاومة الشعبية من الخارج.
بعد تحرير فرنسا وهزيمة ألمانيا اختلف السياسيون مع ديجول الذى كان يرأس الحكومة المؤقتة، لأنه كان يريد إقامة نظام حكم تختفى منه عيوب الجمهورية الثالثة، التى أدت إلى الهزيمة المخزية، أى إقامة نظام يجمع ما بين النظامين الرئاسى والبرلمانى، بحيث لا ترتهن القرارات الكبرى لمناورات الأحزاب فى البرلمان، وأما السياسيون فقد كانوا يخشون أن يتحول ديجول إلى نابليون أول أو نابليون ثالث.. فماذا فعل هو؟
كان بوسعه بالطبع أن يقود انقلابا، فالجيش معه، ولكنه انسحب، وأعلن اعتزاله الحياة السياسية، بعد أن قال عبارته الشهيرة: «إننى سأجلس فى منزلى بقريتى بجانب الهاتف أنتظر استدعاء جديدا من فرنسا».
لقد طال انتظار ديجول حتى عام 1958.. وبعد أن هزمت فرنسا فى فيتنام عام 1954، وفشلت فى السويس عام 1956، وأخذت تترنح فى الجزائر، تدخل الجيش مرة أخرى، ولكن كملاذ أخير، وطلبت هيئة أركانه رسميا من البرلمان استدعاء الجنرال ديجول لرئاسة الحكومة.
بالطبع كان بوسع قيادة الجيش أن تستولى على السلطة مباشرة، ولكن الجنرالات الفرنسيين علموا، كما كان يعلم تييرو جنرالاته سنة 1870 أن ذلك ليس هو الحل، إذ سوف تتمزق فرنسا من الداخل، وربما تندلع فيها حرب أهلية، رفضا للحكم العسكرى، فى حين أن المطلوب فقط هو إعادة العربة التى خرجت عن القضبان إلى مسارها الصحيح.
بقية القصة هى أن ديجول طلب تفويضه فى استفتاء الشعب الفرنسى على دستور جديد يقيم النظام الرئاسى المطعم بخصائص الديمقراطية البرلمانية، فأقام هذا النظام، دون أن يتحول إلى ديكتاتور كما كان يخشى معارضوه، لكن لم تكن هذه نهاية القصة، إذ عاد الدور السياسى للجيش للبروز فى مناسبتين، الأولى هى محاولة «تنظيم الجيش السرى» الانقلاب على ديجول نفسه، عندما بدا أنه (أى ديجول ) مستعد لقبول مبدأ استقلال الجزائر، ولكنه كان انقلابا صريحا، وليس إعمالا لمبدأ الملاذ الأخير.
أما المناسبة الثانية التى برز فيها الدور السياسى للجيش الفرنسى، ولكن كملاذ أخير (محتمل ) فى عهد ديجول، فقد كانت إبان ثورة الطلبة فى فرنسا ومعظم أوروبا الغربية عام 1968، فقد اختفى ديجول لمدة 12 ساعة من قصر الإليزيه، وعلم أنه ذهب إلى مقر قيادة حامية باريس للاتفاق مع هيئة الأركان على التدخل، إذا حاول الشيوعيون مرة أخرى (وبعد قرابة مائة سنة من كوميونة باريس ) الاستيلاء على السلطة، وبذلك ظلت ثورة الطلبة ثورة مدنية ديمقراطية.. توالت نتائجها فيما بعد، وكان من بينها استقالة الجنرال ديجول نفسه من رئاسة فرنسا، واعتزاله السياسة حتى وفاته، لكنه ترك فرنسا فى أوج لياقتها سياسيا واقتصاديا وعسكريا على المستوى العالمى.
الصين
وفى الصين، بدأت الثورة التحديثية فى أوائل القرن العشرين بقيادة الحزب الوطنى (الكومنتانج) بزعامة صن يات سن، ولكن صراع القوى الأوروبية الاستعمارية، مضافا إليها اليابان الطامحة إلى دور استعمارى، دفع الجيش الصينى التقليدى إلى صدارة المشهد، فورث الجنرال شيان كاى شيك رئاسة البلاد، وقيادة الحزب فى آن واحد.
كان الحزب الشيوعى بقيادة ماو تس تونج قد تأسس فى غضون تلك السنوات، وأسس بدوره جيشه الخاص تحت اسم جيش التحرير الشعبى، وهكذا فإن الحياة السياسية الصينية عرفت وأقرت مبدأ الدور السياسى للجيش، وازداد هذا المبدأ رسوخا تحت الحكم الشيوعى، لأن جيش التحرير الشعبى كان هو أداة الحزب فى الاستيلاء على السلطة من حزب الكومنتانج، ولكن لأن الحزب قوى وهو الأسبق والأصل، ولأن الجيش عقائدى، فقد ظلت السيادة لقيادة الحزب، وذلك من خلال اللجنة العسكرية الحزبية التى يرأسها زعيم الحزب نفسه.
لذا فشلت المحاولة الوحيدة للقيام بانقلاب عسكرى حتى من داخل الحزب، وهى التى قادها عام 1971 الماريشال لين بياو الذى كان زعيم الحزب التاريخى ماو تس تونج قد اختاره لخلافته فى كل مناصبه، واضطر بياو إلى الهرب فى طائرة سقطت به فوق منغوليا.
الآن يبدو أن لين بياو كان مستاء من الآثار المدمرة للثورة الثقافية البروليتارية العظمى التى أطلقها ماو، واتضح فيما بعد أنها كانت مناورة كبيرة للاحتفاظ بقبضته على السلطة، بعد أن كان عديد من رفاقه قد تبنوا ودعوا علانية إلى إصلاحات اقتصادية تأخذ ببعض أساليب السوق الرأسمالية، ولكن رفاق بياو تعلموا الدرس، وانتظروا الفرصة المناسبة، وكانت هذه الفرصة هى وفاة ماو، وتزعم أرملته مع بعض قادة الحزب (فيما عرف باسم مؤامرة عصابة الأربعة) محاولة للسيطرة على السلطة، لإعادة انتاج الثورة الثقافية، خاصة أن أكبر أعدائهم «شواين لاى» زعيم الاصلاحيين كان قد توفى قبل ماو، وكان ماو يحتفظ به ليس فقط للزمالة القديمة، ولكن لحفظ التوازن بين أجنحة الحزب، ومن ثم فإن استيلاء عصابة الأربعة على السلطة فى غياب ماو وشواين لاى يعنى جنوحا كاملا للسفينة، أو خروجا لجميع عجلات العربة عن القضبان.
هنا تدخل الجيش (من خلال اللجنة العسكرية فى الحزب ) وأحبط انقلاب العصابة الرباعية، ثم ما لبثت اللجنة العسكرية نفسها أن أقالت زعيم الحزب الذى كان ماو قد اختاره (هوا كوفينج) مع أنه كان خصما لعصابة الأربعة، ليعود دينج شياو بينج تلميذ شواين لاى، وزعيم الاصلاحيين بعده إلى قيادة الحزب واللجنة والدولة، ويضع الصين عبر برنامج التحديثات الأربعة الذى أعلنه على المسار الذى أوصلها إلى ما وصلت اليه حاليا.. ليس فقط باعتبارها الاقتصاد التالى فى الحجم للاقتصاد الأمريكى، ولكن أيضا بالاصلاح السياسى الذى ابتكر صيغة خاصة لتداول السلطة، والرقابة والتوازن، ومكافحة الفساد، ضمانا لاستمرار التقدم، وكان دينج نفسه أول من تقاعد اختياريا من الزعماء الصينيين، بعد أن ترسخ النظام الجديد.
فى هذه التجربة الصينية عمل الجيش ( من خلال اللجنة العسكرية فى الحزب ) كملاذ أخير، يعيد وضع البلاد على المسار، ويترك إدارتها للسياسيين، وبالرغم من أن دبابات هذا الجيش هى التى سحقت الشباب المعتصمين للمطالبة بالديمقراطية فى ميدان السلام السماوى ( تيان آن مين) فى عام 1989، فإن ذلك كان بقرار سياسى من دينج شياو بينج، وبقية أعضاء اللجنة العسكرية، وبحسب تبريراتهم اللاحقة (والتى نتحفظ عليها) فإن دوافع ذلك القراركانت المخاوف من عودة الحرب الأهلية قبل الثورة الشيوعية، وانقسام الأقاليم، قبل أن يؤتى برنامج التحديثات الأربعة ثماره، وفى المقدمة منها اصلاح الحزب، والتنمية الاقتصادية.
هنا أيضا كان الجيش ملاذا أخيرا من وجهة نظر القيادة السياسية، التى قدمت للشعب الصينى بالفعل تنمية اقتصادية مذهلة، ومكانة دولية رفيعة، ونظاما سياسيا لا يعرف أبدية السلطة، ويبدع آليات للوقاية من الفساد، ولمكافحته بحزم وعزم لا يلينان.
تركيا
أما تركيا، فالجيش هو الذى جعل القبيلة دولة فى موقعها الحالى، وفتوحاته هى التى أقامت امبراطوريتها العثمانية، وتركيا الحديثة أسسها جيش مصطفى كمال أتاتورك بانقاذها من التقسيم والاحتلال بعد الحرب العالمية الأولى، ثم باسقاط الخلافة، وتأسيس الجمهورية العلمانية.
وقد ظل الجيش التركى منذ ذلك الحين يحتفظ لنفسه بدور حارس الجمهورية، فقام منذ ستينيات القرن الماضى بسلسلة من الانقلابات، تحت هذه اللافتة، ولكنه فى كل مرة كان يصل إلى طريق مسدود، فيسلم السلطة إلى مدنيين منتخبين.
التفاصيل هنا لا لزوم لها، لأنها قريبة منا زمانا ومكانا، على عكس الحالتين الفرنسية والصينية، ولكن العبرة هى أن تركيا عسكريين وساسة ومجتمعا تسعى إلى تطبيق نموذج الجيش كملاذ أخير بمعنى التدخل لانقاذ السفينة من الجنوح أو الشحوط، وليس التدخل للاستيلاء على السلطة.. فهذا هو جوهر احباط محاولة انقلاب الصيف الماضى، فقد وقفت القيادة العسكرية، ومجمل القوات إلى جانب الاحزاب والمجتمع ضد هذا الانقلاب حتى فشل فشلا مدويا.
باكستان
على الرغم من أن دولة باكستان أسست بفضل حزب سياسى أولا، هو حزب الرابطة الاسلامية، فإن جيشها انقلب على حكومات هذا الحزب ذاته أكثر من مرة، أولها تحت قيادة الماريشال أيوب خان فى خمسينيات القرن الماضى، وآخرها تحت قيادة الجنرال برويز مشرف منذ عشر سنة، وبين ذلك انقلب الجنرال ضياء الحق على حكومة حزب الشعب بزعامة ذو الفقار على بوتو.. وأعدم هذا الأخير.
انقلابات باكستان لم تكن قط اعمالا لمبدأ الملاذ الأخير، ولكنها كانت تعبيرا عن مطامع للجنرالات تستغل التناحر الحزبى الحاد.
لذا يبقى الحال فى باكستان على ما هو عليه، حتى يتبين – الخيط الأبيض من الخيط الأسود فى قادم الأيام، لكن العبرة تبقى أن تداول باكستان بين حكم الجنرالات، أو مناصرة الجنرالات لحزب على آخر، كل ذلك جعلها مؤهلة دائما لأن تصبح دولة فاشلة.
وماذا عن الجزائر؟
يأتى الدور الخاص للجيش الجزائرى فى حياة البلاد السياسية من حقيقة أنه امتداد باللحم والدم والتراث لجيش التحرير الذى قام بالثورة المسلحة، ضد الاستعمار الفرنسى، ومنذ اللحظة الأولى للاستقلال أصبحت جبهة التحرير الوطنى الجزائرى كحزب سياسى ظلا للجيش رغم أنها هى التى أسسته، وترسخ هذا الوضع بانقلاب هوارى بومدين (القائد الميدانى لجيش التحرير) على أحمد بن بلة زعيم ومؤسس جبهة التحرير.
قيادة الجيش هى التى اختارت خليفة بومدين، الشاذلى بن جديد، وهى التى أطاحت به لوقف المسار الانتخابى بعد أن تأكد فوز الاسلاميين بالأغلبية، وهى التى جاءت بأحد القيادات التاريخية لجبهة التحرير ( أى محمد أبو ضياف) لخلافته، ثم هى التى سهلت التخلص منه بالاغتيال، عندما تبين أنه يأخذ قضية الاصلاح السياسى بالجدية التى تستلزم ابعاد هذه القيادة عن التدخل المباشر فى الحياة السياسية والاقتصادية، وظلت هذه القيادة تأتى بالرؤساء وتبعدهم، من على كافى إلى اليمين زروال حتى استقرت على الرئيس الحالى «المسن القعيد بالمرض» بوتفليقة.. وها هى تتخبط فى أمر خلافته.
حسب رأى القيادة العسكرية الجزائرية فإنها تصرفت «كملاذ أخير» لانقاذ البلاد من فاشية دينية، ومن حرب أهلية، ولكن ما حدث بعد ذلك لا ينطبق عليه مبدأ الملاذ الأخير، وانما ينطبق عليه مبدأ استمرار احتكار السلطة والهيمنة والفساد، نقصد اغتيال بو ضياف، وإجبار زروال على الاستقالة، والصراعات حول بوتفليقة..الخ.. ولذا فالمستقبل غامض.. وبدورها تقف البلاد دائما فى طابور المؤهلين لوصمة الدولة الفاشلة، ويوصف جيشها بأنه جماعة وظيفية لا تهتم سوى بمصالحها.
النموذج المصرى
يشترك النموذج المصرى مع النماذج الخمسة السابقة فى بعض الخصائص، ويختلف عنها فى خصائص أخرى، فالدولة المصرية الحديثة التى أسسها محمد على قامت حول مشروع بناء جيش قوى لتحقيق طموحات الوالى، وفى هذا فإن لحظة التأسيس تشبه لحظات التأسيس فى تلك النماذج، لكنها تختلف عنها جميعا فى أنه فى جميع تلك البلاد كان التنظيم السياسى (بمعنى الحزب) إما سابقا على تأسيس الجيش أو متزامنا معه، وفى الحالة المصرية، تراجع دور الجيش كمؤسسة قائدة للمجتمع ككل منذ هزيمة محمد على، وفرض معاهدة لندن عليه عام 1840، إذ لم تنص هذه المعاهدة على تحديد حجم الجيش بما لا يزيد على 18 الف جندى فقط، ولكنها أجبرت محمد على على إلغاء نظام احتكار الوالى للتجارة الخارجية ومن ثم الداخلية، ومن ثم بدأت بوادر استقلال المجتمع عن الجيش فى الظهور والتراكم، وجاءت اللائحة السعيدية التى أقرت نظام تملك الأفراد للأراضى الزراعية، والانفتاح الاقتصادى على العالم وقتها، لكى تظهر نخبة قائدة جديدة من الملاك والتجار والمهنيين خصوصا الموظفين والقضاة والمحامين.
تجربة الثورة العرابية لم تكتمل وهى التى شهدت ميلاد ثم وفاة أول وآخر تجربة لتسييس دور الجيش فى إطار حزبى مدنى، هو الحزب الوطنى الأول، والسبب بالطبع هو االاحتلال البريطانى، لذا جاء استيلاء الضباط على الحكم فى 23 يوليو ليؤسس لنظام يهيمن عليه الضباط، ويستمد من الجيش المصدر الوحيد للقوة السياسية (المنظمة).
من يتذكرون المبادئ الستة الشهيرة لحركة الضباط عام 1952 سوف يستنتجون منها بسهولة أنها كانت تعهدا بما سبق وصفه باعادة وضع العربة على القضبان التى خرجت عنها.. فقد كان هناك تعهد ببناء حياة ديمقراطية سليمة، وإقامة عدالة اجتماعية، وهذا ما تكرر بعد ثورة يناير 2011، وفى يوليو 2013.
ولكن فى التطبيق حرصت السلطة دائما على تعجيز الأحزاب بوسائل شتى، تبدأ من تصنيع قوانين الانتخابات إلى تزوير هذه الانتخابات، ومن التشويه الاعلامى إلى التجريم القضائى، ومن الاضطهاد البوليسى إلى الحصار الادارى والخدمى.. وهكذا.
عبرة العرض السابق كله هى أن الدول التى أخذت بمبدأ الجيش كملاذ أخير فقط هى الأنجح فى كل المستويات.. وأما تلك التى أخذت بمبدأ أن الجيش هو المؤتمن الوحيد، وأنه قادر على كل شىء، فلم يثبت نجاح أى حالة منها، لا فى النماذج الستة التى تحدثنا عنها، ولا فى غيرها، على امتداد خريطة العالم من تايوان إلى شيلى.
• الدول التى أخذت بمبدأ الجيش كملاذ أخير فقط هى الأنجح فى كل المستويات.. أما تلك التى أخذت بمبدأ أنه هو المؤتمن الوحيد والقادر على كل شىء فلم يثبت نجاح أى حالة منها
• فى فرنسا كان الجيش والشعب يدا واحدة فى قبضة الإمبراطور بونابرت
• الجيش طلب استدعاء ديجول لرئاسة الحكومة بعد هزيمة فرنسا فى فيتنام وفشلها فى السويس وترنحها فى الجزائر
• سحق دبابات الجيش الصينى للشباب المطالب بالديمقراطية فى الميدان السماوى كان بقرار سياسى من ينج شياو بينج
• ظل الجيش التركى حارسا للجمهورية العلمانية منذ سقوط الخلافة العثمانية
• تداول باكستان بين حكم الجنرالات أو مناصرتهم لحزب على حساب آخر أهلها لأن تصبح دول فاشلة
• الجيش الجزائرى يوصف بأنه جماعة وظيفية لا تهتم سوى بمصالحها
• حرصت السلطة فى مصر دائما على تعجيز الأحزاب بدءا من تصنيع قوانين الانتخابات والتزوير والتشويه الإعلامى وصولا إلى الحصار البوليسى
هذه الدول الست هى فرنسا والصين وتركيا وباكستان ومصر والجزائر. كل واحدة من هذه الدول اقتضى تطورها الحديث دورا سياسيا للجيش، ولكن مدى هذا الدور، والغرض منه تفاوتا من دولة إلى أخرى فى هذه القائمة، وسنرى بعد المقارنة أن أنجح نموذج فيها هو الذى التزم الدور السياسى للجيش فيها بمهام «الملاذ الأخير» فى النظرية وفى التطبيق.. والنجاح هنا كان للدولة كلها جيشا ومجتمعا.
فرنسا
فى فرنسا كان الجيش بقيادة نابليون الأول هو الذى أنهى الفوضى التى لم تكن تتوقف إلا لتستأنف من جديد، منذ اندلاع الثورة الكبرى، وقد فعل نابليون ذلك جزئيا عدة مرات، منذ كان ضابطا صغيرا، حتى تمكن من فرض سيطرته العسكرية المطلقة عبر انقلاب، سرعان ما أقام بعده امبراطوريته «الشعبية»، أى كان الجيش والشعب يدا واحدة فى قبضة الامبراطور.
لم يسقط حكم نابليون الا بهزيمته عسكريا فى معركة ووترلو، لكن فرنسا لم تكن قد تأهلت للاستقرار السياسى، وجربت العودة للنظام الملكى، الذى نشبت ضده ثورتان، أطاحت الأخيرة به عام 1848، وكان هذا هو آخر العهد بالملكية القديمة فى فرنسا، إذ انتخب ابن شقيق نابليون الأول المدعو لويس نابليون رئيسا للجمهورية، لكنه بدوره انقلب على الجمهورية، وأقام الامبراطورية الشعبية الثانية اعتمادا على الجيش الذى كان قادته يشعرون بحنين مرضى لأمجاد نابليون الأول، ويرومون استئنافها مع ابن أخيه الذى تسمى بالامبراطور نابليون الثالث.
وكما أقام نابليون الثالث امبراطوريته على أكتاف الجيش، فإنه سقط، ومعه الامبراطورية بسقوط هذا الجيش وسقوط باريس نفسها تحت أقدام الجيش االألمانى فى آخر معارك بسمارك لتوحيد ألمانيا عام 1870.
اعتبارا من تلك اللحظة يبدأ فصل جديد فى الدور السياسى للجيش الفرنسى، ليقترب شيئا فشيئا من دور الملاذ الأخير كما سنشرحه فيما بعد.
استغل الشيوعيون الفرنسيون ظروف الهزيمة، واستولوا على السلطة فى العاصمة، وأسسوا ما يعرف فى التاريخ باسم كوميونة باريس، فى أول ثورة ماركسية فى تاريخ العالم، وبالطبع لم تكن أغلبية الفرنسيين مؤيدة لهذه الثورة ــ على عكس الثورات السابقة، وكذلك لم تكن أغلبية أوروبا دولا وشعوبا لتقبل بحكم شيوعى فى فرنسا، المهم هنا أن القوة التى قضت على كوميونة باريس هى بقايا الجيش الفرنسى.
قلنا إن الجيش الفرنسى بقضائه على كوميونة باريس اقترب من نموذج العمل كملاذ أخير للدولة والمجتمع معا، فالذى حدث أن أدولف تيير (رئيس الحكومة المؤقتة) الذى أمر بسحق الكوميونة لم يستول على السلطة فى هذه اللحظة، كما لم يفكر الجنرالات فى ذلك، واكتفى الجميع بذلك الدور، تاركين الارادة الشعبية الحرة تؤسس الجمهورية الثالثة البرلمانية، برئاسة (باتريس مكماهون)، الذى كان فى الأصل ماريشال، ولكنه كان شديد الاخلاص للديمقراطية، فوضع الأساس لحقبة طويلة من الاستقرار، تخللتها الحرب العالمية الأولى، التى كانت فرنسا فى الكفة المنتصرة فيها.
ويلفت النظر فى السنوات القليلة السابقة على الحرب العالمية الثانية أن التدهور الذى أصاب الحياة السياسية الفرنسية فى أثنائها قابله تدهور مماثل فى روح وثقافة واستعداد الجيش، وتمثل هذا التدهور أساسا فى السرعة المتزايدة لسقوط وتكوين الحكومات، وبالتالى فقدان العزيمة التى توقف عدوانية النازية الألمانية فى بدايتها، وفى الاستجابة للنظريات العسكرية الجديدة التى كان يبشر بها العقيد شارل ديجول لمواجهة الثورة «الميكانيكية» فى الجيش الألمانى، حتى وقعت الواقعة، واحتل الألمان باريس، ولكن ذلك العقيد المغمور (ديجول) لم يقبل ذلك، وانشق هاربا ليعيد بعث دور الجيش كملاذ أخير، بتأسيس حركة فرنسا الحرة، وبإعادة بلاده إلى الحرب، ولو من وراء البحار، ولقيادة المقاومة الشعبية من الخارج.
بعد تحرير فرنسا وهزيمة ألمانيا اختلف السياسيون مع ديجول الذى كان يرأس الحكومة المؤقتة، لأنه كان يريد إقامة نظام حكم تختفى منه عيوب الجمهورية الثالثة، التى أدت إلى الهزيمة المخزية، أى إقامة نظام يجمع ما بين النظامين الرئاسى والبرلمانى، بحيث لا ترتهن القرارات الكبرى لمناورات الأحزاب فى البرلمان، وأما السياسيون فقد كانوا يخشون أن يتحول ديجول إلى نابليون أول أو نابليون ثالث.. فماذا فعل هو؟
كان بوسعه بالطبع أن يقود انقلابا، فالجيش معه، ولكنه انسحب، وأعلن اعتزاله الحياة السياسية، بعد أن قال عبارته الشهيرة: «إننى سأجلس فى منزلى بقريتى بجانب الهاتف أنتظر استدعاء جديدا من فرنسا».
لقد طال انتظار ديجول حتى عام 1958.. وبعد أن هزمت فرنسا فى فيتنام عام 1954، وفشلت فى السويس عام 1956، وأخذت تترنح فى الجزائر، تدخل الجيش مرة أخرى، ولكن كملاذ أخير، وطلبت هيئة أركانه رسميا من البرلمان استدعاء الجنرال ديجول لرئاسة الحكومة.
بالطبع كان بوسع قيادة الجيش أن تستولى على السلطة مباشرة، ولكن الجنرالات الفرنسيين علموا، كما كان يعلم تييرو جنرالاته سنة 1870 أن ذلك ليس هو الحل، إذ سوف تتمزق فرنسا من الداخل، وربما تندلع فيها حرب أهلية، رفضا للحكم العسكرى، فى حين أن المطلوب فقط هو إعادة العربة التى خرجت عن القضبان إلى مسارها الصحيح.
بقية القصة هى أن ديجول طلب تفويضه فى استفتاء الشعب الفرنسى على دستور جديد يقيم النظام الرئاسى المطعم بخصائص الديمقراطية البرلمانية، فأقام هذا النظام، دون أن يتحول إلى ديكتاتور كما كان يخشى معارضوه، لكن لم تكن هذه نهاية القصة، إذ عاد الدور السياسى للجيش للبروز فى مناسبتين، الأولى هى محاولة «تنظيم الجيش السرى» الانقلاب على ديجول نفسه، عندما بدا أنه (أى ديجول ) مستعد لقبول مبدأ استقلال الجزائر، ولكنه كان انقلابا صريحا، وليس إعمالا لمبدأ الملاذ الأخير.
أما المناسبة الثانية التى برز فيها الدور السياسى للجيش الفرنسى، ولكن كملاذ أخير (محتمل ) فى عهد ديجول، فقد كانت إبان ثورة الطلبة فى فرنسا ومعظم أوروبا الغربية عام 1968، فقد اختفى ديجول لمدة 12 ساعة من قصر الإليزيه، وعلم أنه ذهب إلى مقر قيادة حامية باريس للاتفاق مع هيئة الأركان على التدخل، إذا حاول الشيوعيون مرة أخرى (وبعد قرابة مائة سنة من كوميونة باريس ) الاستيلاء على السلطة، وبذلك ظلت ثورة الطلبة ثورة مدنية ديمقراطية.. توالت نتائجها فيما بعد، وكان من بينها استقالة الجنرال ديجول نفسه من رئاسة فرنسا، واعتزاله السياسة حتى وفاته، لكنه ترك فرنسا فى أوج لياقتها سياسيا واقتصاديا وعسكريا على المستوى العالمى.
الصين
وفى الصين، بدأت الثورة التحديثية فى أوائل القرن العشرين بقيادة الحزب الوطنى (الكومنتانج) بزعامة صن يات سن، ولكن صراع القوى الأوروبية الاستعمارية، مضافا إليها اليابان الطامحة إلى دور استعمارى، دفع الجيش الصينى التقليدى إلى صدارة المشهد، فورث الجنرال شيان كاى شيك رئاسة البلاد، وقيادة الحزب فى آن واحد.
كان الحزب الشيوعى بقيادة ماو تس تونج قد تأسس فى غضون تلك السنوات، وأسس بدوره جيشه الخاص تحت اسم جيش التحرير الشعبى، وهكذا فإن الحياة السياسية الصينية عرفت وأقرت مبدأ الدور السياسى للجيش، وازداد هذا المبدأ رسوخا تحت الحكم الشيوعى، لأن جيش التحرير الشعبى كان هو أداة الحزب فى الاستيلاء على السلطة من حزب الكومنتانج، ولكن لأن الحزب قوى وهو الأسبق والأصل، ولأن الجيش عقائدى، فقد ظلت السيادة لقيادة الحزب، وذلك من خلال اللجنة العسكرية الحزبية التى يرأسها زعيم الحزب نفسه.
لذا فشلت المحاولة الوحيدة للقيام بانقلاب عسكرى حتى من داخل الحزب، وهى التى قادها عام 1971 الماريشال لين بياو الذى كان زعيم الحزب التاريخى ماو تس تونج قد اختاره لخلافته فى كل مناصبه، واضطر بياو إلى الهرب فى طائرة سقطت به فوق منغوليا.
الآن يبدو أن لين بياو كان مستاء من الآثار المدمرة للثورة الثقافية البروليتارية العظمى التى أطلقها ماو، واتضح فيما بعد أنها كانت مناورة كبيرة للاحتفاظ بقبضته على السلطة، بعد أن كان عديد من رفاقه قد تبنوا ودعوا علانية إلى إصلاحات اقتصادية تأخذ ببعض أساليب السوق الرأسمالية، ولكن رفاق بياو تعلموا الدرس، وانتظروا الفرصة المناسبة، وكانت هذه الفرصة هى وفاة ماو، وتزعم أرملته مع بعض قادة الحزب (فيما عرف باسم مؤامرة عصابة الأربعة) محاولة للسيطرة على السلطة، لإعادة انتاج الثورة الثقافية، خاصة أن أكبر أعدائهم «شواين لاى» زعيم الاصلاحيين كان قد توفى قبل ماو، وكان ماو يحتفظ به ليس فقط للزمالة القديمة، ولكن لحفظ التوازن بين أجنحة الحزب، ومن ثم فإن استيلاء عصابة الأربعة على السلطة فى غياب ماو وشواين لاى يعنى جنوحا كاملا للسفينة، أو خروجا لجميع عجلات العربة عن القضبان.
هنا تدخل الجيش (من خلال اللجنة العسكرية فى الحزب ) وأحبط انقلاب العصابة الرباعية، ثم ما لبثت اللجنة العسكرية نفسها أن أقالت زعيم الحزب الذى كان ماو قد اختاره (هوا كوفينج) مع أنه كان خصما لعصابة الأربعة، ليعود دينج شياو بينج تلميذ شواين لاى، وزعيم الاصلاحيين بعده إلى قيادة الحزب واللجنة والدولة، ويضع الصين عبر برنامج التحديثات الأربعة الذى أعلنه على المسار الذى أوصلها إلى ما وصلت اليه حاليا.. ليس فقط باعتبارها الاقتصاد التالى فى الحجم للاقتصاد الأمريكى، ولكن أيضا بالاصلاح السياسى الذى ابتكر صيغة خاصة لتداول السلطة، والرقابة والتوازن، ومكافحة الفساد، ضمانا لاستمرار التقدم، وكان دينج نفسه أول من تقاعد اختياريا من الزعماء الصينيين، بعد أن ترسخ النظام الجديد.
فى هذه التجربة الصينية عمل الجيش ( من خلال اللجنة العسكرية فى الحزب ) كملاذ أخير، يعيد وضع البلاد على المسار، ويترك إدارتها للسياسيين، وبالرغم من أن دبابات هذا الجيش هى التى سحقت الشباب المعتصمين للمطالبة بالديمقراطية فى ميدان السلام السماوى ( تيان آن مين) فى عام 1989، فإن ذلك كان بقرار سياسى من دينج شياو بينج، وبقية أعضاء اللجنة العسكرية، وبحسب تبريراتهم اللاحقة (والتى نتحفظ عليها) فإن دوافع ذلك القراركانت المخاوف من عودة الحرب الأهلية قبل الثورة الشيوعية، وانقسام الأقاليم، قبل أن يؤتى برنامج التحديثات الأربعة ثماره، وفى المقدمة منها اصلاح الحزب، والتنمية الاقتصادية.
هنا أيضا كان الجيش ملاذا أخيرا من وجهة نظر القيادة السياسية، التى قدمت للشعب الصينى بالفعل تنمية اقتصادية مذهلة، ومكانة دولية رفيعة، ونظاما سياسيا لا يعرف أبدية السلطة، ويبدع آليات للوقاية من الفساد، ولمكافحته بحزم وعزم لا يلينان.
تركيا
أما تركيا، فالجيش هو الذى جعل القبيلة دولة فى موقعها الحالى، وفتوحاته هى التى أقامت امبراطوريتها العثمانية، وتركيا الحديثة أسسها جيش مصطفى كمال أتاتورك بانقاذها من التقسيم والاحتلال بعد الحرب العالمية الأولى، ثم باسقاط الخلافة، وتأسيس الجمهورية العلمانية.
وقد ظل الجيش التركى منذ ذلك الحين يحتفظ لنفسه بدور حارس الجمهورية، فقام منذ ستينيات القرن الماضى بسلسلة من الانقلابات، تحت هذه اللافتة، ولكنه فى كل مرة كان يصل إلى طريق مسدود، فيسلم السلطة إلى مدنيين منتخبين.
التفاصيل هنا لا لزوم لها، لأنها قريبة منا زمانا ومكانا، على عكس الحالتين الفرنسية والصينية، ولكن العبرة هى أن تركيا عسكريين وساسة ومجتمعا تسعى إلى تطبيق نموذج الجيش كملاذ أخير بمعنى التدخل لانقاذ السفينة من الجنوح أو الشحوط، وليس التدخل للاستيلاء على السلطة.. فهذا هو جوهر احباط محاولة انقلاب الصيف الماضى، فقد وقفت القيادة العسكرية، ومجمل القوات إلى جانب الاحزاب والمجتمع ضد هذا الانقلاب حتى فشل فشلا مدويا.
باكستان
على الرغم من أن دولة باكستان أسست بفضل حزب سياسى أولا، هو حزب الرابطة الاسلامية، فإن جيشها انقلب على حكومات هذا الحزب ذاته أكثر من مرة، أولها تحت قيادة الماريشال أيوب خان فى خمسينيات القرن الماضى، وآخرها تحت قيادة الجنرال برويز مشرف منذ عشر سنة، وبين ذلك انقلب الجنرال ضياء الحق على حكومة حزب الشعب بزعامة ذو الفقار على بوتو.. وأعدم هذا الأخير.
انقلابات باكستان لم تكن قط اعمالا لمبدأ الملاذ الأخير، ولكنها كانت تعبيرا عن مطامع للجنرالات تستغل التناحر الحزبى الحاد.
لذا يبقى الحال فى باكستان على ما هو عليه، حتى يتبين – الخيط الأبيض من الخيط الأسود فى قادم الأيام، لكن العبرة تبقى أن تداول باكستان بين حكم الجنرالات، أو مناصرة الجنرالات لحزب على آخر، كل ذلك جعلها مؤهلة دائما لأن تصبح دولة فاشلة.
وماذا عن الجزائر؟
يأتى الدور الخاص للجيش الجزائرى فى حياة البلاد السياسية من حقيقة أنه امتداد باللحم والدم والتراث لجيش التحرير الذى قام بالثورة المسلحة، ضد الاستعمار الفرنسى، ومنذ اللحظة الأولى للاستقلال أصبحت جبهة التحرير الوطنى الجزائرى كحزب سياسى ظلا للجيش رغم أنها هى التى أسسته، وترسخ هذا الوضع بانقلاب هوارى بومدين (القائد الميدانى لجيش التحرير) على أحمد بن بلة زعيم ومؤسس جبهة التحرير.
قيادة الجيش هى التى اختارت خليفة بومدين، الشاذلى بن جديد، وهى التى أطاحت به لوقف المسار الانتخابى بعد أن تأكد فوز الاسلاميين بالأغلبية، وهى التى جاءت بأحد القيادات التاريخية لجبهة التحرير ( أى محمد أبو ضياف) لخلافته، ثم هى التى سهلت التخلص منه بالاغتيال، عندما تبين أنه يأخذ قضية الاصلاح السياسى بالجدية التى تستلزم ابعاد هذه القيادة عن التدخل المباشر فى الحياة السياسية والاقتصادية، وظلت هذه القيادة تأتى بالرؤساء وتبعدهم، من على كافى إلى اليمين زروال حتى استقرت على الرئيس الحالى «المسن القعيد بالمرض» بوتفليقة.. وها هى تتخبط فى أمر خلافته.
حسب رأى القيادة العسكرية الجزائرية فإنها تصرفت «كملاذ أخير» لانقاذ البلاد من فاشية دينية، ومن حرب أهلية، ولكن ما حدث بعد ذلك لا ينطبق عليه مبدأ الملاذ الأخير، وانما ينطبق عليه مبدأ استمرار احتكار السلطة والهيمنة والفساد، نقصد اغتيال بو ضياف، وإجبار زروال على الاستقالة، والصراعات حول بوتفليقة..الخ.. ولذا فالمستقبل غامض.. وبدورها تقف البلاد دائما فى طابور المؤهلين لوصمة الدولة الفاشلة، ويوصف جيشها بأنه جماعة وظيفية لا تهتم سوى بمصالحها.
النموذج المصرى
يشترك النموذج المصرى مع النماذج الخمسة السابقة فى بعض الخصائص، ويختلف عنها فى خصائص أخرى، فالدولة المصرية الحديثة التى أسسها محمد على قامت حول مشروع بناء جيش قوى لتحقيق طموحات الوالى، وفى هذا فإن لحظة التأسيس تشبه لحظات التأسيس فى تلك النماذج، لكنها تختلف عنها جميعا فى أنه فى جميع تلك البلاد كان التنظيم السياسى (بمعنى الحزب) إما سابقا على تأسيس الجيش أو متزامنا معه، وفى الحالة المصرية، تراجع دور الجيش كمؤسسة قائدة للمجتمع ككل منذ هزيمة محمد على، وفرض معاهدة لندن عليه عام 1840، إذ لم تنص هذه المعاهدة على تحديد حجم الجيش بما لا يزيد على 18 الف جندى فقط، ولكنها أجبرت محمد على على إلغاء نظام احتكار الوالى للتجارة الخارجية ومن ثم الداخلية، ومن ثم بدأت بوادر استقلال المجتمع عن الجيش فى الظهور والتراكم، وجاءت اللائحة السعيدية التى أقرت نظام تملك الأفراد للأراضى الزراعية، والانفتاح الاقتصادى على العالم وقتها، لكى تظهر نخبة قائدة جديدة من الملاك والتجار والمهنيين خصوصا الموظفين والقضاة والمحامين.
تجربة الثورة العرابية لم تكتمل وهى التى شهدت ميلاد ثم وفاة أول وآخر تجربة لتسييس دور الجيش فى إطار حزبى مدنى، هو الحزب الوطنى الأول، والسبب بالطبع هو االاحتلال البريطانى، لذا جاء استيلاء الضباط على الحكم فى 23 يوليو ليؤسس لنظام يهيمن عليه الضباط، ويستمد من الجيش المصدر الوحيد للقوة السياسية (المنظمة).
من يتذكرون المبادئ الستة الشهيرة لحركة الضباط عام 1952 سوف يستنتجون منها بسهولة أنها كانت تعهدا بما سبق وصفه باعادة وضع العربة على القضبان التى خرجت عنها.. فقد كان هناك تعهد ببناء حياة ديمقراطية سليمة، وإقامة عدالة اجتماعية، وهذا ما تكرر بعد ثورة يناير 2011، وفى يوليو 2013.
ولكن فى التطبيق حرصت السلطة دائما على تعجيز الأحزاب بوسائل شتى، تبدأ من تصنيع قوانين الانتخابات إلى تزوير هذه الانتخابات، ومن التشويه الاعلامى إلى التجريم القضائى، ومن الاضطهاد البوليسى إلى الحصار الادارى والخدمى.. وهكذا.
عبرة العرض السابق كله هى أن الدول التى أخذت بمبدأ الجيش كملاذ أخير فقط هى الأنجح فى كل المستويات.. وأما تلك التى أخذت بمبدأ أن الجيش هو المؤتمن الوحيد، وأنه قادر على كل شىء، فلم يثبت نجاح أى حالة منها، لا فى النماذج الستة التى تحدثنا عنها، ولا فى غيرها، على امتداد خريطة العالم من تايوان إلى شيلى.