تهرب الضريبي في الجزائر بلغ أكثر من 61 مليار دولار .. هل تُنقذ "المصالحة الجبائية" الخزينة؟
7 نوفمبر 2025
تهرّب ضريبي بأكثر من 61 مليار دولار.. هل تنجح الإصلاحات بالجزائر؟
مع اقتراب نهاية كل سنة، يعود السؤال القديم نفسه ليشغل بال الجزائريين: لماذا تبقى مليارات الدينارات ضائعة خارج الخزينة العامة رغم الجهود الحكومية؟.
أطلقت السلطات خمس تعليمات جديدة، إلى جانب مشروع "المصالحة الجبائية"، في محاولة لإغلاق منافذ التهرب وتعزيز التحصيل الضريبي
كشف مجلس المحاسبة مؤخراً عن رقم صادم، حيث بلغت المبالغ غير المحصلة نحو 61.5 مليار دولار، ما يعكس فجوة ضخمة في النظام الجبائي وغياب الثقة بين الإدارة والمواطنين.
في مواجهة هذا الواقع، أطلقت السلطات خمس تعليمات جديدة، إلى جانب مشروع "المصالحة الجبائية"، في محاولة لإغلاق منافذ التهرب وتعزيز التحصيل الضريبي. لكن يبقى السؤال الأهم: هل تكفي هذه الإجراءات لإعادة الثقة المفقودة بين الدولة والمكلفين بالضرائب؟
في نهاية كل سنة "موعد المساءلة الضريبية"، يعود سؤال قديم جديد إلى الواجهة يشغل بال الجزائريين: لماذا لا تزال الدولة عاجزة عن تحصيل كل الضرائب المستحقة؟
مليارات من الدينارات
في المقاهي، في الإدارات، وحتى بين رجال الأعمال، تتردد القصص نفسها عن من "يجد طريقه للتحايل" ومن "يدفع أكثر مما عليه"، في مشهد يعكس فجوة ثقة مزمنة بين المواطن والإدارة الجبائية، وواقعا جعل مليارات الدينارات تتبخر خارج الخزينة العمومية.
كشف مجلس المحاسبة عن ما يعرف بـ"بواقي التحصيل الجبائي" بلغ 8300 مليار دينار أي نحو 61.5 مليار دولار، وهو رقم صادم يوازي تقريبا قيمة التهرب الضريبي ذاته، وفي مواجهة ذلك، تحركت السلطات بخطوات استعجالية عبر 5 تعليمات جديدة لتطويق محاولات التهرب قبل نهاية العام.
وكشفت المادة 89 من مشروع قانون المالية 2026 المتواجد على طاولة البرلمان للنقاش، ما يشبه لـ"المصالحة الجبائية" مع الفارين من دفع الضريبة.
لكن السؤال المطروح اليوم: هل تنجح هذه المقاربة في إعادة الثقة المفقودة بين الإدارة والمكلفين؟
5 تعليمات جديدة لسدّ ثغرات المتهربين
شرعت المديرية العامة للضرائب بين 14 و27 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي في تطبيق سلسلة من الإصلاحات الجبائية الدقيقة، عبر إصدار 5 تعليمات جديدة تحصل موقع "الترا جزائر" على نسخ منها، تهدف إلى رفع التحصيل الضريبي، تضييق منافذ التهرب الجبائي، وتوحيد الممارسات داخل الإدارات الجبائية عبر البلاد.
هذه التعليمات، التي تأتي في سياق تنفيذ قانون المالية لسنة 2025، تغطي مجالات عدة تشمل الاتصال الجبائي، الإعفاءات المالية على الصكوك السيادية، تحديث العقوبات، ضبط عمليات تحويل الديون، وتوضيح آليات المراقبة الميدانية، في خطوة تحاول من خلالها السلطات جعل المنظومة الجبائية أكثر شفافية وفعالية وقمع أي محاولة للتهرب.
وفي السياق، تكرّس التعليمة رقم 64 الصادرة بتاريخ 14 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي صلاحيات الإدارة الجبائية في ما يُعرف بـ"حق الاتصال"، الذي يتيح لمصالح الضرائب مطالبة مختلف الإدارات والمؤسسات المالية والبنوك والمتعاملين بتزويدها بالمعلومات حول المكلفين بالضريبة.
ويهدف هذا الإجراء إلى كسر حاجز السرية غير المبررة التي كانت تحول دون تبادل البيانات بين الهيئات، مما سمح لعدد من الفاعلين الاقتصاديين بإخفاء أنشطتهم أو التلاعب بفواتيرهم.
ويفترض أن تصبح المديرية العامة للضرائب قادرة على تتبع تدفق الأموال والصفقات التجارية بدقة أكبر، مع ضمان احترام سرية المعلومات في الإطار القانوني، بما يعزز أدوات مكافحة التهرب الجبائي والاقتصاد الموازي.
أما التعليمة الثانية فتخص النظام الجبائي المطبق على الصكوك السيادية التي تصدرها الدولة، إذ منحتها إعفاءات ضريبية كاملة على الأرباح والفوائد ومصاريف الإصدار والتداول.
هذا التوجه يعكس رغبة السلطة في تشجيع أدوات التمويل الإسلامية كخيار بديل لجذب السيولة، خاصة تلك المتداولة خارج النظام المصرفي، وإدماجها في الدورة الاقتصادية الرسمية، وبالتالي رفع نسبة التحصيل الضريبي لاحقا.
عقوبات ضد المتهربين
وجاءت التعليمة رقم 66 لتحديث وتحيين نظام العقوبات المطبقة على المكلفين بالضريبة وأعوان الدولة على حد سواء، فقد تمت عملية مراجعة الغرامات المالية المفروضة على حالات التأخر في التصريح أو الدفع، وعلى المخالفات المرتكبة أثناء أداء المهام الرقابية، بما يعزز الانضباط ويضمن المساواة في المعاملة بين جميع الأطراف.
والغاية من هذا الإجراء ليست العقاب في حد ذاته، بل فرض الانضباط الجبائي وتكريس ثقافة الالتزام الطوعي، في وقت تسعى فيه السلطات إلى بناء علاقة ثقة قائمة على الشفافية والمرافقة بدل الزجر المفرط.
تمت عملية مراجعة الغرامات المالية المفروضة على حالات التأخر في التصريح أو الدفع، وعلى المخالفات المرتكبة أثناء أداء المهام الرقابية
من جهتها، حسمت التعليمة رقم 67 جدلا لغويا وقانونيا طال أمده في تطبيق رسوم التسجيل على تحويل الديون، فقد كانت النصوص السابقة تشير إلى تحويل "الديون" دون الإشارة إلى "المستحقات"، ما خلق التباسا في التطبيق بين الإدارات الجبائية والمكلفين ومكن نسبيا من تهرب بعض الأطراف من السداد.
التعليمة الجديدة أوضحت أنّ عمليات تحويل الديون والمستحقات معا تخضع لرسوم التسجيل، ما يغلق الباب أمام التحايل في العقود التجارية ويضمن توحيد المعاملة الجبائية عبر التراب الوطني.
أما آخر التعليميات، رقم 68، فقد ركزت على إعادة تنظيم إجراءات المراقبة الجبائية الميدانية التي تنفذ مباشرة في مقرات المؤسسات، تحدد التعليمة مراحل الرقابة، آجالها، وحقوق المكلفين وواجباتهم بدقة، مع التأكيد على ضرورة أن تكون المراقبة أداة للمرافقة والتصحيح قبل أن تكون وسيلة للعقاب.
وتسعى المديرية العامة للضرائب من خلال هذا التوضيح إلى ضمان شفافية التعامل بين الإدارة ودافعي الضرائب، وتحسين صورة الرقابة الجبائية في أذهان الفاعلين الاقتصاديين.
هذه خطة مواجهة التهرب الضريبي
وتأتي هذه الإجراءات بعد أن كشف آخر تقرير صادر عن مجلس المحاسبة في إطار تسوية ميزانية سنة 2022، والمنشور سنة 2024، أن بواقي التحصيل الجبائي – أي المبالغ غير المستخلصة من الضرائب والرسوم المستحقة للخزينة العمومية – بلغت ما يقارب 8300 مليار دينار جزائري (ما يعادل نحو 61.5 مليار دولار أمريكي).
ويعكس هذا الرقم الضخم حجم التهرب الجبائي المقدر تقريبا بالقيمة نفسها، ما يجعل ملف التحصيل الجبائي أحد أكبر التحديات التي تواجهها الدولة الجزائرية في الوقت الراهن، خاصة في ظل المساعي الحثيثة لتقليص العجز المالي وتنويع مصادر الدخل بعيدا عن الجباية البترولية.
وفي السياق، يقول عضو لجنة المالية والميزانية بالمجلس الشعبي الوطني عبد القادر بريش في تصريح لـ"الترا جزائر"، إن مكافحة التهرب الضريبي لا يمكن أن تتحقق إلا عبر تحديث وعصرنة النظام الجبائي الجزائري وجعله أكثر مرونة وتبسيطا للإجراءات، إلى جانب تخفيف الضغط الضريبي على المؤسسات والمواطنين، وتوسيع الوعاء الضريبي ليشمل فئات ونشاطات اقتصادية لم تكن خاضعة من قبل.
ويضيف بريش أن أحد أهم مفاتيح الإصلاح يتمثل في تحديث الإدارة الضريبية وتعميم الرقمنة، بما يسمح بتبادل المعلومات بين المصالح الجبائية والمؤسسات المالية، وضمان معالجة رقمية دقيقة وسريعة للملفات، بدل الاعتماد على الإجراءات الورقية التي تستهلك الوقت وتفتح المجال للتأويل أو الخطأ.
كما شدّد المتحدث على ضرورة توفير الوسائل المادية والتقنية لموظفي الضرائب لتمكينهم من أداء مهامهم بفعالية، إلى جانب الاهتمام بالعنصر البشري من خلال تحسين الأجور والمرتبات، واعتماد التكوين المستمر لتطوير كفاءاتهم، مع زيادة التوظيف في قطاع الضرائب لرفع الفعالية في دراسة الملفات ومتابعتها وتصفيتها في آجال معقولة.
عضو لجنة المالية والميزانية بالمجلس الشعبي الوطني عبد القادر بريش في تصريح لـ"الترا جزائر":أحد أهم مفاتيح الإصلاح يتمثل في تحديث الإدارة الضريبية وتعميم الرقمنة، بما يسمح بتبادل المعلومات بين المصالح الجبائية والمؤسسات المالية، وضمان معالجة رقمية دقيقة وسريعة للملفات، بدل الاعتماد على الإجراءات الورقية التي تستهلك الوقت وتفتح المجال للتأويل أو الخطأ
ويرى عضو لجنة المالية أن نجاح الإصلاح الجبائي لا يقوم فقط على الردع والعقوبة، بل على انتهاج مقاربة احتوائية مع المتهربين من الضريبة، من خلال فتح المجال أمامهم لتسوية وضعياتهم طوعا، وتشجيعهم على الاندماج في الدورة الرسمية بدل البقاء في الهامش.
كما دعا إلى نشر الثقافة والوعي الجبائي بين المواطنين عبر الإعلام والمدارس، معتبرا أن "الوعي الضريبي هو الأساس في بناء علاقة ثقة بين الدولة والمكلفين بالضريبة".
ويؤكد بريش على أهمية تدريس مبادئ الالتزام والمواطنة الضريبية ضمن المناهج الدراسية، حتى ينشأ الجيل الجديد على فهم الدور الحيوي للضريبة في تمويل التنمية الوطنية وتحسين الخدمات العمومية، مضيفا أن "المعركة ضد التهرب الجبائي ليست تقنية فقط، بل ثقافية ومؤسساتية بامتياز، تبدأ من المدرسة والإدارة معا وتنتهي ببناء ثقة متبادلة بين الدولة ودافعي الضرائب".
هل تنجح المصالحة الجبائبة؟
أما عضو لجنة المالية والميزانية بالمجلس الشعبي الوطني محمد مير، فيرى في إفادة لـ"الترا جزائر" أن المادة 89 من مشروع قانون المالية لسنة 2026 تمثل أحد أبرز الحلول المقترحة لمواجهة ظاهرة التهرب الضريبي في الجزائر، واصفا ا إياها بأنها “مصالحة جبائية” حقيقية مع الفارين من دفع الضرائب.
وأوضح النائب أن هذا الإجراء الجديد يندرج ضمن رؤية تصالحية تهدف إلى إعادة بناء الثقة بين الإدارة الجبائية ودافعي الضرائب، مشيرًا إلى أن الأشخاص المعنيين بالتسوية الجبائية الودية لن يخضعوا لأي متابعة أو ملاحقة تخص الأموال التي يتم التصريح بها في إطار هذا المسار الجديد.
وأضاف مير أن التسوية الجبائية الطوعية تعد “خطوة تصالحية جريئة” مع فئة من المكلفين بالضريبة الذين يوجدون في وضعيات غير قانونية تجاه الإدارة الجبائية، مؤكدا أن الحكومة تعوّل على هذا الإجراء لتوسيع الوعاء الجبائي من دون المساس بالقدرة الشرائية للمواطنين أو فرض ضرائب جديدة.
عضو لجنة المالية والميزانية بالمجلس الشعبي الوطني محمد مير، فيرى في إفادة لـ"الترا جزائر": المادة 89 من مشروع قانون المالية 2026 تسمح للمكلفين بالضرائب بتسوية وضعياتهم الطوعية قبل 31 ديسمبر 2026.
ويهدف هذا الإجراء، بحسب النائب، إلى احتواء الأموال الموازية وتشجيع أصحابها على الاندماج في الاقتصاد الرسمي، بما يساهم في رفع التحصيل الجبائي وتوسيع قاعدة المصرحين.
وتنص المادة 89 من مشروع قانون المالية لسنة 2026 على إحداث إجراء استثنائي للتسوية الجبائية الطوعية، يمكن بموجبه للأشخاص الطبيعيين أو المعنويين المقيمين في الجزائر، والذين لم يصرحوا سابقا بنشاطاتهم أو مداخيلهم، أن يسووا وضعيتهم قبل 31 ديسمبر 2026.
ويتم ذلك، حسب نص المشروع، عبر تصريح مبسط يودع لدى المدير الولائي للضرائب، يحدد فيه المبلغ الخاضع للضريبة، على أن تطبق ضريبة محرّرة بنسبة 10 بالمائة فقط من دون فرض أي عقوبات أو غرامات مالية.
ويلزم التصريح بأن يتضمن الاسم أو المقر الاجتماعي، العنوان الشخصي أو عنوان النشاط، ورقم التعريف الوطني والجبائي عند الاقتضاء، مع التأكيد على أن "من يلتزم طوعًا بهذا الإجراء لن تفتح ضده أي متابعة بخصوص المبالغ المصرح بها".
ويتوقّع أن يُساهم هذا التدبير في تعزيز الثقة المتبادلة بين الدولة والمكلّفين بالضرائب، وفق مير، ويمهّد الطريق لتوسيع دمج الأموال غير المصرح بها في المنظومة الاقتصادية والمالية، في خطوة وصفها البعض بأنها تصالحية بامتياز وتعكس مقاربة الحكومة في الإصلاح الجبائي الشامل والهادئ.