محنة شيخ الإسلام ابن تيمية
الجزء الأول
شريف عبد العزيز
تعتبر المحنة التي تعرض إليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله محنة من طراز خاص، حيث لا نظير لها في تاريخ محن علماء الأمة؛ ذلك أن حياة شيخ الإسلام ابن تيمية بطولها من أولها لآخرها كانت عبارة عن محنة مستمرة، فقد ظل طوال حياته ينتقل من محنة لأخرى ومن ابتلاء لآخر ومن سجن لمعتقل، ومن الشام لمصر، ومن سلطان جائر لفقيه متعصب، ومن حاسد لحاقد، وذلك كله لأن الشيخ رحمه الله قد أنار الله قلبه وعقله، فخلع عباءة التقليد وكسر أصنام الجمود، وفتح باب التجديد، وثار على كل أشكال التعصب المذهبي والجمود الفقهي.
محنة ابن تيمية أنه كان مجددًا مجتهدًا مطلقًا، فقيهًا كاملاً، محنته أنه كان مصلحًا يريد النهوض بالأمة من كبوتها التي أسقطت الخلافة وسلطت العدو عليها، ومحنته أنه قد جمع بين العلم والعمل والتجديد والإصلاح والاجتهاد والجهاد، وذلك كله في زمان الجمود والتحجر والتعصب والتمذهب والتقليد المقيت، هذه بصفة عامة أسباب محنة شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي قضى معظم حياته يتنقل في سجون الظلم والبهتان بسبب آرائه وفتاويه، وكما قيل قديمًا: ويل لمن سبق عقله زمانه.
شيخ الإسلام ابن تيمية ومكانته العلمية:
ولد شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني ثم الدمشقي تقي الدين أبو العباس سنة 661هـ في مدينة حرَّان بالشام، في أسرة علمية حنبلية المذهب راسخة الدعائم قوية الأركان في الفقه والحديث، فوالده الشيخ عبد الحليم كان عالمًا محدثًا، وجده مجد الدين أبو البركات صاحب متن «منتقى الأخبار» والذي يعتبر كتاب نيل الأوطار للشوكاني أحد شروحه وأشهرها، وهذه البيئة العلمية ساهمت في نبوغ ابن تيمية؛ حيث أقبل منذ نعومة أظافره على العلم، فحفظ المتون وحاز الفنون وحصل الأجزاء، وتفقه وتمهر وتقدم وتميز ودرس وأفتى وصنف، وفاق الأقران وصار أعجوبة الزمان في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول، والتبحر في مذاهب السلف والخلف، وصار علمًا مقدمًا وإمامًا فردًا في علوم شتى خاصة علم التفسير والعقائد والأصول، حتى أنه جلس للتدريس بدار الحديث في دمشق سنة 683هـ أي وهو في الثانية والعشرين، وكان يحضر درسه قاضي القضاة وشيوخ المذاهب على رأسهم الشيخ تاج الدين الفزاري شيخ الشافعية، ولبراعة إلقاء ابن تيمية للدرس، جعلوه يجلس في الجامع الأموي أكبر مساجد دمشق والشام وأشهرها لشرح التفسير وذلك في نفس السنة 683هـ.
ورغم كثرة مخالفيه من علماء وفقهاء عصره الذين غلب عليهم الجمود والتعصب المذهبي إلا إنهم كانوا معترفين بفضله مقرين بإمامته، خاضعين لتفوقه وبراعته العلمية الفذة، أما تلاميذه ومحبوه وحتى أهل الإنصاف فيعظمون الشيخ رحمه الله بما يليق بمكانته العلمية، وهذه طائفة من ثناء الناس عليه من الطائفتين جميعًا على حد السواء.
قال تلميذه الذهبي: (وما رأيت أسرع انتزاعًا للآيات الدالة التي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه، كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحة، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، أما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره، وكان قوالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، له باع طويلة في معرفة أقوال السلف وقل أن تذكر مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأئمة، وقد احتج على طريقة السلف بأدلة وأمور لم يسبق إليها وأطلق عبارات أحجم عنها غيره، حتى قام عليه خلق من العلماء المصريين فبدعوه وناظروه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق إذا أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته، فجرى بينهم حملات حربية ووقائع شامية ومصرية، ورموه عن قوس واحدة، ثم نجاه الله تعالى وكان دائم الابتهال، كثير الاستغاثة، قوي التوكل، رابط الجأش له أوراد وأذكار يدمنها).
قال تلميذه الحافظ بهاء الدين عبد الله بن محمد بن خليل: (هو الشيخ الإمام، العالم الرباني، والحبر البحر، القطب النوراني، إمام الأئمة وبركة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، شيخ الإسلام، حجة الأعلام، قدوة الأنام، برهان المتعلمين، قامع المبتدعين، سيف المناظرين، بحر العلوم، كنز المستفيدين، ترجمان القرآن، أعجوبة الزمان، فريد العصر والأوان، مفتي الفرق وناصر الحق، وعلامة الهدى، عمدة الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، ركن الشريعة، ذو الفنون البديعة أبو العباس ابن تيمية).
قال عنه جمال الدين السرمري: (ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل زماننا أن ابن تيمية كان يمر بالكتاب مطالعة مرة واحدة فينتفش في ذهنه وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه).
وقال عنه نجم الدين الطوفي وهو من أشد معارضيه: (كان ابن تيمية يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث، فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد على أن يورده في عدة مجالس، كأن هذه العلوم بين عينيه).
وقال عنه ابن الزملكاني وهو من مخالفيه: (اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وأن له اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدين).
وقال عنه تلميذه ابن كثير: (هو الشيخ الإمام، العالم العلم العلامة، الفقيه الحافظ الزاهد العابد المجاهد القدوة شيخ الإسلام، كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره، عالمًا باختلاف العلماء، عالمًا في الأصول والفروع، والنحو واللغة وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما قطع في مجلس ولا تكلم فيه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه).
قال الإمام الحافظ المزي: (ما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أتبع لهما منه، وكل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث).
قال ابن الجزري المؤرخ المعاصر له وقد شهد جنازته: (الإمام العالم، العامل العلامة، الزاهد، العابد، الورع، الخاشع الناسك، القدوة العارف المحقق، شيخ الإسلام ومفتي الأنام، حافظ وقته، محدث زمانه، له اليد العالية في العلوم، صالحًا زاهدًا ورعًا، متقشفًا متقيًا، قائمًا بالحق وأمارًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، صاحب الفتاوى الشهيرة والتصانيف المذكورة، لم يكن في وقته أحفظ منه ولا للنقل في التفسير وأقوال العلماء فيه، ولا في الحديث واختلاف الصحابة منه).
ونختم ثناء الناس عليه وعلى علمه وخدمته للإسلام والمسلمين بهذه الكلمة الرائعة للإمام الحافظ الذهبي، والذي قال: (هو أكبر من أن يُنبَّه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله).
صفاته:
لقد خلّف شيخ الإسلام ابن تيمية من الآثار والمؤلفات والفتاوى والآراء ما يزيد على أربعة آلاف كراسة، غطت مختلف ميادين الفنون ـ من الأصول إلى الفقه إلى التفسير إلى الحديث إلى السياسة الشرعية إلى الفلسفة والمنطق، هذا كله بجانب الثروة الهائلة من الفتاوى الجريئة والمعاصرة والتي جمعت في سبعة وثلاثين مجلدًا ضخمًا، والتي عكست مدى فهمه العميق وفقهه الدين لقضايا المسلمين عامة وعصره خاصة، ومدى سعة أفقه، ووعيه بمكمن الداء للأمة ومدى المخاطر المحدقة بها، وهي الفتاوى التي جلبت عليه الكثير من المحن والابتلاءات من سدنة الجمود وأساطين التعصب، ومن أهم مصنفات هذا الجبل العلامة:
1ـ الإيمان. 2ـ منهاج السنة النبوية.
3ـ درء تعارض صريح المعقول مع صحيح المنقول.
4ـ الرد على المنطقيين. 5ـ نقض المنطق.
6ـ الفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان.
7ـ اقتضاء الصراط المستقيم. 8ـ الصارم المسلول.
9ـ رفع الملام عن الأئمة الأعلام. 10ـ نظرية العقد.
11ـ السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية. 12ـ التوسل والوسيلة.
هذا غير عشرات الرسائل التي رد فيها على المخالفين من المسلمين وغير المسلمين، وهذه الثروة العلمية التي خلفها ابن تيمية كانت وما زالت مصدر إلهام لكثير من الحركات الإسلامية وقادة الصحوة، وأكبر باعث للتجديد على مر العصور، ونلمس هذا في تلاميذ الشيخ ومريديه ومن تأثر به، فبعضهم من المشرق وبعضهم من المغرب، وبعضهم من العرب، وبعضهم من العجم، بل من البربر أيضًا، وذلك عبر عصور متتالية، وكثير من تلاميذه ومن تأثر بفكره، صاروا أئمة وأعلامًا وقادة للصحوة الإسلامية، فمن تلاميذه: ابن القيم والمزي وابن كثير والذهبي والكتبي وابن عبد الهادي والبزار، وكلهم أئمة أعلام. وممن تأثر به ابن حجر العسقلاني والواسطي والعيني والبلقيني وابن فضل العمري والشوكاني...، أما من قادة الدعوات ومجددي الإسلام فلقد أثر ابن تيمية وفكره في العديد، منهم:
الشيخ البشير الإبراهيمي، وعبد الحميد بن باديس قادة جمعية العلماء المسلمين الجزائرية والتي قاومت الاحتلال الفرنسي وحافظت على الهوية العربية والإسلامية من الضياع والطمس، وكلا الرجلين قد تأثر بابن تيمية بشدة، فيقول الشيخ الإبراهيمي: "وما زلنا نلمح وراء كل داجية في تاريخ الإسلام نجمًا يشرق ونسمع بعد كل خفته فيه صوتًا يخرق، من عالم يعيش شاهدًا ويموت شهيدًا ويترك بعده ما تتركه الشمس من شفق يهدي السارين المدلجين إلى حين، وما علمنا فيمن قرأنا أخبارهم، وتقفينا آثارهم من علماء الإسلام، ولا علمنا فيه مثالاً في شجاعة الرأي العام أكمل من الإمام ابن تيمية، فقد شنها حربًا شعواء على البدع والضلالات أقوى ما كانت رسوخًا وشموخًا، وأكثر أتباعًا وشيوخًا، يظاهرها الولاة القاسطون ويؤازرها العلماء المستأهلون والمتأولون.
الشيخ طاهر الجزائري من مجددي الدعوة بالجزائر، وقد ولع في صباه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان جمهرة الفقهاء في عصره تكفّر ابن تيمية تعصبًا وتقليدًا لمشايخهم، فلم ير الشيخ طاهر لتحبيبهم في ابن تيمية إلا نشر كتبه بينهم من حيث لا يدرون، وبذلك وصل إلى غرضه من نشر آراء شيخ الإسلام التي هي لباب الشريعة.
وفي بلاد الهند البعيدة تأثر العلامة ولي الله الدهلوي بفكر ابن تيمية فراح ينشره في أرجاء الهند ولاقى معارضة شديدة وعنتًا من فقهاء الهند المتعصبين بشدة للمذهب الحنفي، ومن بعده قام الشهيد أحمد السرهندي بثورة كبيرة على الاحتلال الإنجليزي والبدع والخرافات المنتشرة جدًا في بلاد الهند، من بعدهما جاء الشيخ أبو الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية وتأثر بمنهج وفكر ابن تيمية الإصلاحي، واستمد من مشروعه التجديدي النظرية التي أقام عليها منهج الجماعة الحركي.
وفي مصر تأثر الشيخ محمد عبده بابن تيمية وقد كان يقول عنه: ابن تيمية أعلم الناس بالسنة وأشدهم غيرة على الدين، وكذلك تأثر الشيخ رشيد رضا بابن تيمية ونشر فكره في مجلة "المنار" وحارب البدع والخرافات والغزو الفكري والثقافي.
خصاله:
سبق وأن ذكرنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد فاق معاصريه بكثير من المزايا والخصال التي لم تجتمع في أحد من علماء الزمان، هذه الخصال والصفات الحميدة كانت أيضًا سبب النقمة والحسد عليه من جانب كثير من معارضيه ومخالفيه، فالرجل كان نسيجًا وحده، وقد جمع الله عز وجل فيه بين العلم والعمل والفقه والعقل والجهاد وقوة النفس وجراءة القلب وثبات الجنان، والفهم العميق لقضايا الأمة وإدراك آفاتها وأسباب وهنها، فلقد كان ابن تيمية بحق من أصدق رجال الأمة تصويرًا للعقلية الإسلامية، ومن أهم خصال الشيخ رحمه الله والتي جعلته قرة عيون الناس في عصره وأيضًا جلبت عليه متاعب كثيرة ومحنًا متتالية مع معاصريه ما يلي:
أولاً: أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:
هذه الميزة كانت من أهم مزايا الشيخ رحمه الله، وأيضًا من أهم أسباب نقمة الكثيرين عليه، فلقد كان جريء القلب، ثابت الجنان، قوي اللسان، واضح البرهان، لا يبالي على من ينكر أو لمن يأمر، سلطانًا كان أو أميرًا، كبيرًا كان أو صغيرًا، لا يطيق أن يرى منكرًا ولا يصبر حتى يحيي شعيرة الأمر والنهي، وله في ذلك أمثلة سائرة ومواقف مشهودة، منها:
ـ ما حدث سنة 693هـ عندما سب أحد النصارى الكفرة من أهل السويداء وهي قرية من قرى الشام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قام ابن تيمية بقيادة جمع غفير من الناس للقصاص من هذا الكافر المجرم وجرت خطوب كثيرة بسبب حماية أحد الأمراء الأتراك لهذا الكافر وآل الأمر إلى ضرب ابن تيمية وحبسه، وقد صنف ابن تيمية في هذه الواقعة كتابه الشهير [الصارم المسلول على ساب الرسول].
ـ وفي شوال سنة 699هـ خرج ابن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة وأهل حوران لقتال أهل جبل الجرد وكسروان وهم من النصيرية الكفرة بسبب تعاونهم مع التتار وكفرهم وضلالهم وخروجهم على الطاعة.
ـ وفي سنة 699هـ دار ابن تيمية وأصحابه على الحانات والخمارات التي فتحت في دمشق بعد دخول التتار إليها فأراقوا الخمور وعزروا أصحاب الحانات ومنعوهم من العودة لمثل هذه الفواحش.
ـ وفي سنة 701هـ ثار جماعة من الحسدة على الشيخ ابن تيمية، وشكوا منه أن يقيم الحدود ويعزر ويحلق رءوس الصبيان، ولكن الشيخ أصر على مواصلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ـ وفي سنة 704هـ أمر ابن تيمية بعض جهلة المتصوفة بترك ما هم عليه، مثل الشيخ إبراهيم القطان وكان يتشبه بالحيوانات في هيئته، ومحمد الخباز البلاسي وكان يتعاطى المحرمات، وفي نفس السنة راح ابن تيمية إلى مسجد التاريخ بدمشق وأمر أصحابه ومعهم حجارون بقطع صخرة كان الناس ينذرون إليها ويزورونها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك الذي يقع عندها.
وقد بلغ الحسد بخصومه لأن يزوروا عليه جوابًا ليتهموه بأنه يصانع التتار وأنه جاسوس لهم بدمشق، وذلك سنة 702هـ، وكانت هذه التهمة كفيلة بإعدام ابن تيمية لو وجدت من يصدقها، وكان الساعي فيها رجلين من أهل الشر والحسد وهما: أحمد الغناري واليعفوري، فبان كذبهما وانكشفت مؤامرتهما، فأمر الوالي بقتلهما.
ثانيًا: جهاده:
يعتبر ابن تيمية واحدًا من أبرز المجددين في عصره وما تلى ذلك من أعصر، إذ جمع على الاجتهاد والريادة العلمية والمكانة السامقة في أهل العلم، الجهاد ضد الغزاة بنفسه وبسيفه، فجمع بين جهاد الفكر والسيف، فلم يكن ابن تيمية ذلك العالم الفقيه الذي يجلس في زاوية منعزلاً عن أحوال أمته، حبيس أوراقه وأقلامه، بل كان من كبار المجاهدين تمامًا مثلما كان من كبار العلماء، بل كان في هذا الميدان شديد الوعي بفقه الأولويات، حتى أنه قد حمل السلاح وجاهد تحت راية وقيادة السلطة التي مات مظلومًا في سجونها، فضرب لنا مثلاً في الوعي الحضاري بفقه الأولويات، نحن الآن في أمس الحاجة لفهمه في واقعنا المعاصر، وهذه طائفة من أخباره الجهادية التي كانت تملأ السمع والبصر وجعلت الناس تجمع على إمامته.
* جهاده في معركة قازان سنة 699هـ، عندما هجم التتار بقيادة محمود قازان على بلاد الشام وهزموا جيوش المماليك بقيادة الناصر محمد بن قلاوون، وعاثوا في الأرض فسادًا، فاجتمع ابن تيمية مع أعيان دمشق من القادة والعلماء واتفقوا على السير إلى قازان وأخذ الأمان منه لأهل دمشق، وبالفعل اجتمعوا مع قازان وكلمه ابن تيمية كلامًا قويًا شديدًا فيه مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين، ثم عاد ابن تيمية إلى دمشق وحض أمير القلعة وهو الأمير أرجواش على ألا يسلم القلعة للتتار مهما كانت الظروف، وبالفعل عمل أرجواش بالنصيحة وحاول التتار فتحها لعدة شهور ولكنهم فشلوا، وبصمود القلعة صمدت دمشق أمام الهجوم التتاري.
* ثم عاود ابن تيمية الكرة وذهب إلى مخيم التتار وقابل زعيمهم وأقنعه بإطلاق سراح أسرى المسلمين، بل إن ابن تيمية رحمه الله قد ضرب أروع الأمثلة على سماحة الإسلام والمسلمين ومدى حماية الدولة المسلمة لأهل ذمتها؛ إذ أصر ابن تيمية على إطلاق سراح النصارى الذين أسرهم التتار من بيت المقدس، بل ربط إطلاق أسرى المسلمين بإطلاق أهل الذمة، وهذا الإصرار جعل قطلوشاه أمير جيش التتار يوافق على إطلاق سراح الجميع.
* وأثناء هجوم التتار على دمشق كان ابن تيمية يدور كل ليلة على الأسوار يحرض الناس والمدافعين على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط، ويشد أزر المدافعين عن القلعة، وكان له أعظم الأثر في رفع معنويات الناس، فصمدوا في القتال بشدة.
* وفي سنة 700هـ عندما تواترت الأخبار بعزم التتار على الهجوم مرة أخرى على الشام وعم الذعر بين أهل دمشق وأخذوا في الرحيل وارتفعت الأسعار بشدة، وهرب معظم الأعيان والقضاة والعلماء من البلد إلى مصر خوفًا من التتار، قام ابن تيمية وخطب بالناس في الجامع الأموي بدمشق وحرضهم على القتال والصبر والمرابطة وأوجب عليهم قتال التتار، فسكن الناس قليلاً وربط جأشهم، ثم انتدب أمير دمشق الشيخ ابن تيمية سفيرًا إلى مصر ليستحث السلطان الناصر محمد على المجيء والدفاع عن البلد، وقد كلم ابن تيمية السلطان بمنتهى الجراءة والشدة حتى أنه قال له: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه، وفي ذلك تهديد شديد للسلطان بالعزل إذا لم يقم بواجباته تجاه الأمة، ثم قال له: لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه، واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسئولون عنهم.
* جهاده في معركة شقحب سنة 702هـ، وذلك عندما هجم التتار مرة أخرى على الشام من أجل احتلال دمشق وإسقاط دولة المماليك، ثم الهجوم على مصر بعد ذلك، وفر الناس من دمشق وعادت نفس فصول الاضطراب الذي وقع أيام المعركة الأولى، وفي هذه المعركة قام ابن تيمية بدور أروع من المرة الفائتة؛ إذ قام بدوره المعنوي في تحفيز همم المقاتلين وتسكين روع الخائفين واستنهاض عزائم الأمراء والسلاطين وكان يدور على مخيمات الجند وهو يحلف لهم بالله العظيم أنهم منصورون، فيقول الناس له: قل إن شاء الله، فيرد بعزم المؤمن القوي الواثق بربه المطمئن بنصره وتأييده قائلاً: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا.
ثم رد ابن تيمية على شبهة قوية كادت أن تذهب بجهود المدافعين عن المدينة؛ إذ قال بعض الناس: كيف نقاتل التتار وهم مسلمون وليسوا بغاة على الإمام، إذ لم يدخلوا أصلاً في طاعته حتى يخرجوا عليه، فأجاب ابن تيمية على هذه الشبهة بأوضح بيان؛ إذ قال عن التتار إنهم من جنس الخوارج الذين خرجوا على الصحابة، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهم وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الأمر من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم فيه من المعاصي والظلم وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك واستوثقوا على القتال والدفاع عن مدينتهم.
وقد اشترك ابن تيمية بنفسه في القتال ضد التتار في معركة شقحب، وقد انتدب هو ومجموعة من أصحابه للقتال في أشد مناطق القتال خطورة ـ في المقدمة ـ وأبدى شجاعة وبطولة نادرة، حتى أن السلطان قد طلب منه أن يقف تحت رايته في القتال، وكانت المعركة في 2 رمضان سنة 702هـ، فأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضًا، وكان يدور على الجنود والقادة وفي يده خبز يأكل منه، وكان قتاله يوم شقحب من أعظم أعماله الجهادية رحمه الله.
ثالثًا: إخلاصه وتواضعه:
لقد كان ابن تيمية مخلصًا شديد الإخلاص لدينه وأمته وحضارته، كرس كل حياته وجميع طاقاته لهذه الغاية العظمى، لا يرى لنفسه همًا ولا هدفًا غير ذلك حتى غدا علمًا من كبار علماء المسلمين وبلغ على درب الإخلاص درجة التجديد، فلقد كان مجددًا لفكر الأمة وحياتها وقد جمع بين الجهاد والاجتهاد، حتى أنه من شدة سعيه وإخلاصه لنهضة الأمة لم يتزوج طوال حياته، قال عنه عماد الدين الواسطي: (إن الله عز وجل قد رحم هذه الأمة بإقامة رجل قوي الهمة، ضعيف التركيب ـ يقصد البنية ـ، قد فرق نفسه وهمه في مصالح العالم وإصلاح فسادهم والقيام بحوائجهم ضمن ما هو قائم بصد البدع والضلالات، وتحصيل مواد العلم النبوي الذي يصلح به فساد العالم ويردهم إلى الدين الأول العتيق جهد إمكانه).
وكان مع مكانته العظيمة وقدره الشريف وكثرة أتباعه وخضوع السلاطين له وتعاطف العامة له، كان في غاية التواضع والبساطة مع عوام الناس، لا يرى لنفسه فضلاً على أحد ممن يجالسهم كأنه أدناهم، حتى لما كان في سجنه أيام محنته ما كان يتأفف من مجالسة المذنبين والمجرمين لنصحهم وإرشادهم وتعليمهم أمور دينهم، وكان لين الجانب حسن الأخلاق مع طلبته وتلاميذه، بل كان يخدمهم هو بنفسه وييسر عليهم طريق التعلم.
رابعًا: زهده وعبادته:
كان ابن تيمية على طراز علماء سلف الأمة، من الجمع بين العلم والعمل، فلقد كان رباني العمل والعلم، قريب القلب، سريع الدمعة، له مصابرة عجيبة على العبادة، لا يعرف من أمر الدنيا شيئًا، إنما حياته كلها علم وعبادة وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، حتى أنه لم يتزوج قط، له أوراد وأذكار وأدعية من السنة يدمنها، محافظًا على قيام الليل، والمكث في المسجد حتى الغداة، يرى أن هذا المكث هو غذاؤه الذي يتقوى به، له هيبة وجلال في القلوب، تكاد تنخلع القلوب عندما يكبر تكبيرة الإحرام وما كان ابن تيمية محبًا للشهرة، ولا راغبًا في التميز عن غيره، ولا زاحم في طلب الرئاسات ولا جهد ساعيًا في تحصيل المباحات، مع أن الأمراء والأعيان كانوا طوع أمره، خاضعين لقوله وفعله، ولم يعلم عنه أنه قد تولى منصبًا ولا طلب ولاية، ولا حتى طلب التدريس في مدارس الأوقاف، وهذا العزوف عن الدنيا والزهد في المناصب، قد جلب عليه عداوة خصومه، ذلك أن مقصودهم الأكبر طلب الجاه والرياسة وإقبال الناس عليهم، وهم يبذلون غاية وسعهم من أجل ذلك، في حين أن ابن تيمية قد رقاه الله عز وجل إلى ذروة سنام المحبة في قلوب العامة والخاصة، وهم رغم كل ما يفعلونه لم ينالوا عشر معشار ما وصل إليه ابن تيمية، فامتلأت قلوبهم بالحسد عليه.
خامسًا: جراءته في الحق:
هذه الميزة ربما يربطها البعض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكننا آثرنا أن نفردها بالحديث لأنها كانت أحد أهم أسباب المحن التي تعرض لها الشيخ ابن تيمية رحمه الله، بل هي بعينها التي جلبت عليه عداوة الكثيرين من خصومه، فلقد كان ابن تيمية لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يأخذ بالتقية خيفة من الناس على نفسه، وكان يقول رحمه الله: (ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه)، وكان يصدع بالحق الذي آمن به، ولا يتزعزع ولا يداهن أحدًا، ولو اجتمع الناس كلهم لحربه.
قال عنه المؤرخ ابن فضل العمري: (وكان ابن تيمية لا تأخذه في الحق لومة لائم، وليس عنده مداهنة، وكان مادحه وذامه في الحق عنده سواء)، ومما زاد غيظ خصومه عليه، ما كانوا يقترفونه من مداهنة السلاطين على حساب الحق، فيجاملونهم على حساب دينهم، ويعاونونهم على ظلم الناس تقربًا وتوددًا إليهم، وفي المقابل كان ابن تيمية صادحًا بالحق، ناطقًا بالصدق له في ذلك مواقف مشهودة، منها:
* موقفه مع ملك التتار قازان يوم أن اجتمع به سنة 699هـ.
* موقفه مع السلطان الناصر محمد يوم أن ترك الشام ورجع إلى مصر والذي ذكرناه في الكلام عن جهاد الشيخ رحمه الله.
* موقفه مع السلطان الناصر محمد يوم أن فكر في إعفاء أهل الذمة من الشروط العمرية، وذلك سنة 709هـ، وكان كافة القضاة والفقهاء والعلماء شاهدين للمجلس، ولم يجرؤ أحد منهم على الكلام مع السلطان أو معارضته سوى شيخ الإسلام ابن تيمية الذي جثا على ركبتيه وتكلم بشدة وجهر بالحق وصدع بالصدق، حتى أنه من شدة كلامه كان السلطان الناصر محمد يتلافاه ويسكته بترفق وتوقير، حتى أقنع السلطان برفض فكرة الإعفاء هذه تمامًا.
سادسًا: عفوه وصفحه:
فلقد امتحن الشيخ ابن تيمية وأوذي كثيرًا، وخاض خصومه في حقه وآذوه في كل موطن وهو صابر محتسب، يعفو عن خصومه، ويصفح عن كل من آذاه، لا يزيده جهل الجاهلين عليه إلا حلمًا وصبرًا وصفحًا، يقول رحمه الله عن نفسه في ذلك: (وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه). وقال أيضًا: (فلا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كذبه عليّ أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد بكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حل من جهتي).
ولقد ترجم ابن تيمية كلماته تلك في عدة مواقف مشهودة، أبرزها عفوه عن علماء مصر الذين سعوا في قتله وسجنه، وكفّروه وآذوه وتلاميذه بشدة وذلك سنة 706هـ وتسببوا في حبسه بقلعة الجبل بالقاهرة، وذلك أيام سلطة بيبرس الجاشنكير الذي اغتصب الأمر من السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وكان الجاشنكير من أعداء ابن تيمية، وقد استغل بعض فقهاء مصر من الأشاعرة والصوفية تلك العداوة وتسببوا في محنة الشيخ، فلما زالت أيام الجاشنكير وعاد الناصر محمد للحكم أخرج ابن تيمية من السجن واستشاره في الانتقام من خصومه وقتل بعض الفقهاء والقضاة، فما كان من ابن تيمية إلا أن أعلن عفوه وصفحه عن خصومه، بل دافع عنهم بشدة وقال للسلطان الناصر محمد: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال له السلطان: إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مرارًا، فقال ابن تيمية: من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي.
وهذه الخصلة العظيمة شهد بها ألد خصوم الشيخ وأكثرهم أذية وعداوة له وهو ابن مخلوف شيخ المالكية في مصر إذ قال: (ما رأينا مثل ابن تيمية؛ حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا).
وشهد عليها أيضًا واحد من أشد أعداء ابن تيمية وهو الشيخ الصوفي الضال علي بن يعقوب البكري المصري، وكان من أشد الساعين في ابن تيمية بالقول والفعل، فقد كفر ابن تيمية وأحل دمه، وقاد مجموعة من الصوفية الجهلة سنة 711هـ واعتدوا على ابن تيمية حتى كادوا أن يقتلوه، وقد تجمع عدد كبير من الناس منهم الجند والفرسان إثر هذه الحادثة لينتقموا من البكري، ولكن ابن تيمية عفا عنه وحجز الناس عن الفتك به، ولما انقلب الحال وصار الشيخ البكري مطلوبًا عند السلطان، فر في كل مكان حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت وذهب لابن تيمية وطلب منه الاختباء في بيته، فخبأه ابن تيمية في بيته فترة من الزمان، حتى شفع فيه عند السلطان وعفا عنه، فانظر إلى شهادة الخصوم مع هذا الرجل العظيم صاحب القلب الكبير.