ســـورية خلال حكم البعث من 1963 وما بعده


عصيان سليم حاطوم في السويداء يوم 8 أيلول 1966

,والحكم البعثي في 1966و 1967 و 1968 من وجهة نظر أحد مفكري البعث مروان حبش
==============



مروان حبش




في بداية الثلث الثاني من شهر شباط 1966 أصدر وزير الدفاع اللواء محمد عمران ، بناء على قرار القيادة القومية ، أمرا بنقل الضابطين الرائد سليم حاطوم والرائد عزت جديد – وهو لا يمت بأية صلة قرابة للواء
image002.jpg

صلاح جديد – من وحداتهم العسكرية ، ويعتبر هذا النقل مساسا بموازين القوى التي كانت في صراع بعد حل القيادة القطرية ، وأن هذا النقل يأتي قبل أيام من موعد محتمل لانعقاد المؤتمر القطري في دورة استثنائية يوم 25/2/1966 لمناقشة الأزمة بين القيادتين القومية والقطرية ، وكان قرار هذا النقل من الأسباب التي حملت القيادة القطرية المؤقتة على تبني العمل العسكري كخيار أخير لحسم الصراع في الحزب .

في ليلة 22/23/شباط 1966 وبعد أن قررت القيادة القطرية المؤقتة بكامل أعضائها القيام بعد منتصف الليل بعمل عسكري تنفذه في دمشق وحدتا الرائد حاطوم المتمركزة في معسكر حرستا والرائد عزت جديد المتمركزة في معسكر القابون .

طلب مني اللواء حمد عبيد ، عضو القيادة القطرية المؤقتة ووزير الدفاع قبل حل القيادة القطرية ، أن نذهب معا إلى منزله في جادة الخطيب ليرتدي بدلته العسكرية ، ثم نعود إلى المنزل الذي اتخذ كمقر للقيادة – منزل جميل شيا في حي المهاجرين – ومن هناك ينطلق اللواء حمد إلى مهمته في معسكرات قطنا . وفي طريق ذهابنا إلى منزله ، طلب اللواء حمد مني أن أرشحه في اجتماع القيادة بعد تنفيذ الحركة إلى منصب وزير الداخلية ، لأن منصب وزير الدفاع كان قد تقرر قبل أيام من تنفيذ الحركة ، وسمي اللواء حافظ الأسد لهذا المنصب .

حين وصل اللواء حمد عبيد إلى معسكرات قطنا ، أبلغ من قبل الضباط الموالين للقيادة القطرية المؤقتة أنهم يسيطرون بشكل كامل على المعسكرات ولا حاجة لوجوده ، وقد تحتاجه القيادة في مكان آخر .

كلفت القيادة القطرية اللواء حمد عبيد الإشراف على النواحي العسكرية والأمنية في حلب ومطاردة الرائد بدر جمعة – من أنصار الفريق أمين الحافظ – الذي استطاع - وكان مديرا للكلية الحربية - أن يسيطر بالتعاون مع الضابط مصطفى عبدو في حماه على بعض الآليات والمدافع ، ويهرب بها نحو حلب .

وصل اللواء حمد عبيد إلى حلب التي وصل إليها أيضا عضو القيادة القطرية مصطفى رستم ليتعاونا في معالجة الوضع المبلبل في حلب ، ولكن اللواء حمد بدأ باتصالات سرية مع بدر جمعة وعبد الغني برو ، رئيس فرع المخابرات في حمص قبل الحركة ، وتمت بينهم عدة اجتماعات في بيت أحمد أبو صالح اتفق خلالها على السيطرة على حلب ، ثم إجراء اتصالات مع المقدم مصطفى طلاس للاستيلاء على المنطقة الوسطى فتكون دعما للجيوب التي تشكل قوة لهم في المنطقة الجنوبية ، وبذلك يقومون بعملية ارتدادية على الحركة .

حضر أحمد أبو صالح يوم 8/3 إلى دمشق والتقى في بيت خالد الحكيم بدوما ببعض الأشخاص من مجموعة " حمود الشوفي " وأبلغهم عن حركة عسكرية ارتدادية سيقوم بها اللواء حمد عبيد والرائد بدر جمعة .

كان المقدم مصطفى طلاس قد أبلغ القيادة عن النشاط التآمري للواء حمد ، كما أبلغ ، أيضا ، بعض من تم الاتصال بهم من الحزبيين المدنيين في حلب القيادة التي أدهشها ما يقوم به اللواء حمد ، وقررت تحريك كتيبة دبابات من اللواء الخامس بحمص ، كما قررت ، بنفس الوقت ، أن يتوجه رئيس الأركان اللواء أحمد السويداني إلى حلب لإنهاء الوضع المبلبل.

لما وجد اللواء حمد عبيد والرائد بدر جمعة وبقية الضباط المتورطون معهم ، أن مخططهم لاقى الفشل ، ومع وصول اللواء السويداني وتوجه كتيبة الدبابات ، فر الرائد بدر جمعة إلى تركيا ومنها إلى لبنان .

عاد اللواء السويداني برفقة الضباط الذين كانوا قد تورطوا مع اللواء حمد إلى دمشق جوا ، بينما عاد الأخير يوم 9/4 برا، ووضع نفسه تحت تصرف القيادة القطرية المؤقتة ، وهو أحد أعضائها ، وقد قررت القيادة اعتقاله وتمت فيما بعد محاسبته من قبل لجنة الكسب الغير مشروع التي كان قد أقرها المؤتمر القطري الاستثنائي لمحاسبة الحزبيين والمسئولين الذين استغلوا وجود الحزب في السلطة .

ما أن انتهت مشكلة حلب بفترة وجيزة ، وتم تشكيل الوزارة ، بدأت الإعدادات لانتخابات حزبية لعقد المؤتمر القطري الثالث ،وانصرفت جهود القيادة للاتصال بالمنظمات الحزبية خارج سورية ، وخاصة منظمة الحزب في العراق ، تمهيدا لعقد مؤتمر قومي ، كما انصرفت جهود القيادة والوزارة ، أيضا ، إلى وضع البرامج العسكرية والاقتصادية والاجتماعية ، والعمل على تنفيذها .

لقد أقدم حكم الحزب على استثمار النفط وطنيا، بعد أن كان وقفا على الاحتكارات البترولية، كما أقدم على مطالبة شركة نفط العراق بمئات الملايين من الليرات السورية، وهي حق الشعب الواضح والصريح لقاء مرور النفط في الأنابيب عبر سورية، كما كان الحكم عازما على اجتثاث كل مظاهر الاستعمار ومصالحه في سورية وداعيا إلى ذلك في بقية أقطار الوطن العربي، وبدأت الخطوات سريعة في هذا النطاق، كما بدأت عملية تعميق التحولات الاشتراكية، وبناء البنية التحتية لاقتصاد متين، وتمثل ذلك أكثر ما تمثل في توقيع اتفاقية بناء سد الفرات -حلم فلاحي سورية - مع الاتحاد السوفييتي ، بعد أن ماطلت المؤسسات الغربية في تمويل إنشائه . وكذلك، فإن من يقرر تبني حرب التحرير الشعبية إستراتيجية له في تحرير فلسطين وتصفية الوجود الاستعماري في المنطقة وصولا إلى الوحدة العربية، ويترجم هذه الإستراتيجية إلى وقائع حقيقية وخطوات عملية، يجب أن يدخل في حسبانه أن الأمر البديهي والطبيعي هو أن يتآمر الاستعمار ويحشد كل طاقاته وإمكانياته في معركته وأساليبه التآمرية ضد الحزب وثورته، ويقف جاهدا لإفشال كل المنجزات التي حققتها الثورة للجماهير في سورية ، وأن لا يغيب عن باله أنه معرض إلى تآمر مستمر، وأن ترصد مئات الملايين من الدولارات لتغذية هذا التآمر بغية تقويض النظام الثوري، والتخلص من قادة هذا النظام الذين أطلقت عليهم الدوائر الاستعمارية " أصحاب الرؤوس الحامية ".

إن قوى الاستعمار تعرف بثاقب نظرها، أنها لا يمكن أن تنال من حركة ثورية أصيلة، بالتآمر الخارجي أو التصدي المباشر، لذلك تلجأ إلى اعتماد أسلوب النفس الطويل، وإلى مقتل مضمون النتائج، ألا وهو البحث عن عناصر وقوى تؤجج بها النزاعات الداخلية، حتى ولو لم تكن مرتبطة بشكل مباشر بها، ولكنها ترعاها وتهيئ لها السبل للتفجير من الداخل.وبحكم المصالح الذاتية التي يكتشفها البعض خارج إطار النضال الثوري، تجعلهم غير قادرين على متابعة النضال ومواكبة مسيرة الحزب والثورة وينزلقون بالتالي إلى المواقع المضادة لمصالح الجماهير الكادحة التي تقوم الثورات أصلا من أجلها.
كان الرجعيون في أوج نشاطهم، وبدؤوا بتحركات مريبة واتصالات مشبوهة قبل المؤامرة بأيام، وكانوا على صلات دائمة ودؤوبة مع العملاء الهاربين في الأردن ولبنان، وبندواتهم المكشوفة كانوا يبشرون بزوال العهد في مدة لا تتعدى الأيام القليلة، حتى أن البعض منهم كان يحدد يوم المؤامرة .
بدأت الأردن بحشد قوات عسكرية على الحدود السورية، وأعطيت مهمات لهذه القوات المحتشدة .
وحينما حقق مع أحد المعتقلين الرجعيين الذي تربطه صلات ود وصداقة مع موظفي السفارة الأمريكية بدمشق، طرحت عليه أسئلة واستفسارات تتعلق بتصريحات السفير الأمريكي في سورية التي جاء فيها :" إن هذا العهد ذاهب خلال أيام " ، فأجاب المحقق معه: أنه لما قيل للسفير الأمريكي، بأن تصريحاتك العلنية، وتأكيدك بزوال العهد، أمر مناف للأصول الدبلوماسية، وخاصة أن هذه الأقوال ستصل إلى المسؤولين، أجاب : لم يعد يهمني العرف الدبلوماسي، لأن البعث سيذهب عما قريب .
وكان قد صدر أمر بمنع دخول أحد المطارنة المعروف بعمالته للسفارة الأمريكية، إلى سورية فقال هذا المطران: ما قيمة هذا المنع، إذا كان الوضع سوف ينهار خلال عدة أيام، فليضبطوا أنفسهم قبل أن يمنعونا من دخول البلد؟ ،وفي اعتراف لجلال السيد، احد مؤسسي البعث وأحد الشخصيات البارزة في تاريخ السياسة السورية، قال: " في المقابلة التي تمت بيني وبين أكرم زعيتر وزير خارجية الأردن، أخبرني بأن الوضع في سورية سينهار، خلال فترة قريبة، ومصير سورية إما إلحاقها بالأردن ، أو تقسيمها وضمها للدول المجاورة، وذلك للتخلص من النظام البعثي الشيوعي الذي أصبح سائدا في سورية " .

في هذا الظرف المشحون بالتآمر، تم تهريب الأستاذ صلاح البيطار والأستاذ شبلي العيسمي من مكان احتجازهما في استراحة وزارة الدفاع بمنطقة القصور بدمشق إلى بيروت ، ورغم معرفة القيادة بأن هذا الهرب قد تم بمعرفة الرائد سليم حاطوم ، لأن عناصر الحراسة من وحدته العسكرية ، و الرائد مصطفى الحاج علي رئيس شعبة المخابرات العسكرية ، ولكن القيادة لم تول الأمر اهتماما لأن المحتجزين سيتم إطلاقهم قريبا .

في العشر الأخير من شهر آب 1966 ، صرح الرائد مصطفى الحاج علي في اللاذقية أمام بعض أصدقائه من البعثيين أننا سنقضي على القيادة القطرية في وقت قريب جدا ، كما تم الكشف في القطاع الأوسط من الجبهة ،عن تنظيم عسكري سري ، واعتقل الرائد محمد أحمد النعيمي مع عدد من أفراد الخلية ورحلوا إلى دمشق للتحقيق معهم.

شكلت القيادة لجنة للتحقيق من بعض الضباط برئاسة الرائد سليم حاطوم ، وكان حث القيادة على السرعة بإنجاز التحقيق لمعرفة المنضمين إلى التنظيم ، دون جدوى ، مما اضطرها إلى تشكيل لجنة جديدة ، من رئيس الأركان اللواء أحمد السويداني ورئيس مكتب الأمن القومي عبد الكريم الجندي ووزير الداخلية محمد عيد عشاوي وقائد الجيش الشعبي محمد رباح الطويل ، وكشف التحقيق أن سليم حاطوم ومصطفى الحاج علي متورطون في هذا التنظيم ، وهما ممن كانوا يلحون ويطالبون القيادة القطرية المؤقتة لاتخاذ قرار بتحرك عسكري لإنهاء الأزمة في الحزب ، وهو القرار الذي نفذ ، أخيرا ، صبيحة 23 شباط .

تبين من التحقيق أن هدف التنظيم العسكري هو القيام بحركة التفاف على حركة شباط وبالتالي ضربها والإطاحة بها، وبكل الأسس التي قامت عليها، وتم الاتفاق بين قادة التنظيم على وضع خطة عسكرية شملت كافة المناطق والقطعات العسكرية، وأصبح كل شيء جاهزا ، ووزعوا المناصب الرئيسية في الجيش والسلطة فيما بينهم، كما أن خطتهم للتعاون مع الفئات السياسية المختلفة أصبحت منتهية، وأصبح الكل في حالة تأهب للانقضاض على الحزب وثورته.

ساعد هذا الكشف المبكر على اعتقال سريع للرؤوس المتآمرة، وأدى إلى إحباط المؤامرة الواسعة ، ولكن القيادة لم تعتقل الرائدين سليم حاطوم ومصطفى الحاج علي ، وأنصارهما ، ودعتهما لحضور جلسات نقد ذاتي تقوم بها القيادة ، وعاملتهما كعضوين

من أعضائها .

تبدأ قصة الاتصالات بين الأطراف المتعددة، بعد حركة 23 شباط بأيام ، وتتحرك أياد خفية لتجمع الخيوط المشدودة لها، إذ نشط كل من خالد الحكيم ونبيل الشويري ومحمود نوفل وأحمد أبو صالح وآخرين ( وهؤلاء كانوا قد قادوا تكتلا في الانتخابات الحزبية أيلول 1963 وأسقطوا الأستاذ صلاح البيطار في الانتخابات ، كما أنهم قاطعوا المؤتمر القومي السابع شباط 1964 وانشقوا عن الحزب وأسسوا بالتعاون مع كتلة علي صالح السعدي ما عرف بحزب البعث اليساري ، ولم يدم هذا الحزب طويلا إذ انشقت كتلة منه بتاريخ 17 نيسان 964 وأسست حزب العمال الثوري العربي ، بينما انفرط عقد الآخرين وطلب بعضهم العودة للحزب ، أما الباقون ومنهم الأسماء المذكورة وعرفوا بمجموعة حمود الشوفي عادوا والتفوا حول الأستاذ صلاح البيطار ) .

نشط الأشخاص المذكورون بإقناع الرائد حاطوم للالتقاء مع الدكتور منيف الرزاز الذي كان متواريا عن الأنظار ومختبئا في بيت المهندس غسان رزق ، ونجحت جهودهم وتم اللقاء في بيت خالد الحكيم بدوما ، وبعد اجتماعات متعددة تم الاتفاق على تشكيل مكتب سياسي من أعضائه " محمود نوفل وخالد الحكيم " و مكتب عسكري مهمته القيام بتنظيم سري لضباط الجيش – يستبعد منه الضباط العلويون – والتحضير لانقلاب على الحزب .

كان الرزاز قد شكل المكتب العسكري من :اللواء المتقاعد فهد الشاعر ، العقيد المتقاعد صلاح نمور ، العقيد إسماعيل هلال ، الرائد مجلي القائد ، الرائد شريف سعود ، النقيب علي سلطان ، النقيب علي الضماد ، وكان هذا المكتب مرتبطا بالدكتور منيف الرزاز بواسطة المحامي نسيم السفرجلاني ، ثم أضيف إليه الرائد سليم حاطوم ، والرائد شريف الشاقي ، والرائد مصطفى الحاج علي ، ولقد تم الاتفاق ، أيضا ، في حال نجاح انقلابهم على أن يكون اللواء الشاعر وزيرا للدفاع ، والرائد الحاج علي رئيسا للأركان ، والرائد سليم حاطوم قائدا للواء السبعين المدرع < المرابط بالكسوة > ، إضافة إلى كتائب المغاوير ،وتبين أن النية مبيتة عند الرزاز والشاعر على التخلص من حاطوم ومجموعته فور نجاح انقلابهم ، وأنه قد تم تشكيل مكتبين عسكريين ، أحدهما بدون الحاطوم والشاقي .

اجتمع الرائد سليم حاطوم مع اللواء فهد الشاعر ، بناء على طلب الدكتور الرزاز ، للتنسيق معه ، وبعد اجتماعات متعددة وفي أمكنة مختلفة ، ضمت الاجتماعات كلا من اللواء فهد والرائد حاطوم والرائد الشاقي والرائد الحاج علي والنقيب فؤاد منذر والنقيب سلامة المغوش وغيرهم من الضباط ... ، وضعت خطة عسكرية تشمل كافة المناطقوالوحدات العسكرية ، وهي خطة مركزية مؤلفة من عشرة صفحات ، وتعتمد على ما يلي :

-يتحرك الرائد حاطوم بكتيبته لاحتلال الأركان والإذاعة ومبنى القيادة القطرية بالمالكي وتجميد مدرسة المدرعات بالقابون .

- تتحرك وحدات من معسكرات قطنا - بعد السيطرة عليها واعتقال أو قتل الضباط الموالين لقيادة الحزب - على محورين : الأول ، نحو الصبورة لاحتلال أجهزة بث إذاعة دمشق ، والثاني ، نحو مطار المزة العسكري للسيطرة عليه ، وتبقى مجموعة ثالثة في المعسكرات لحماية مركز القيادة التي ستكون مقرا لفهد الشاعر وأعوانه .

- خطة الجبهة ، بعد أن تتم السيطرة عليها بقيادة العقيد طلال أبو عسلي ، تتلخص ب :

تحرك ثلاث مجموعات عن طريق سعسع – صحنايا - دمشق و تستهدف هذه القوات تجميد اللواء السبعين في الكسوة واحتلال بعض المناطق والمحاور الرئيسية في مدينة دمشق .

تتم السيطرة على اللواء المدرع الخامس في المنطقة الوسطى- بعد اعتقال آمر اللواء المقدم مصطفى طلاس وقادة الكتائب في منازلهم – بمساعدة طلاب من الكلية الحربية بقيادة أحد الضباط الموالين .

تتم السيطرة على معسكر القطيفة ، من بعض الموالين لهم وتتحرك كتيبة منه نحو حمص ، للدعم ، إذا اقتضت الضرورة .

تجمد بقية القطعات من الداخل وتصبح غير قادرة على الحركة .

" يجدر التنويه بأن كشف هذه المؤامرة كان سببا في تأخير إطلاق الذين احتجزوا من أعضاء القيادة الحزبية صباح 23 شباط " .

حاولت القيادة ومن باب الحرص على الرفاق الحزبيين، وبخاصة من كان لهم دور في ثورة 8 آذار 1963، وفي حركة 23 شباط 1966، أن تحتوي هؤلاء الرفاق، وتتجاوز ما تورطوا به ، وكما ذكرت ، استدعت القيادة الرائدين سليم حاطوم ومصطفى الحاج علي ليحضرا مع أعضاء القيادة القطرية جلسات عقدت خصيصا للقيام بنقد ونقد ذاتي، ولتقييم الفترة الوجيزة من 23 شباط (فبراير) وحتى شهر آب 966، وعاملتهما معاملة أعضاء فيها ،وهيأت لهما ولبقية الحزبيين المتورطين، كافة الظروف لاستعادة ثقتهم بأنفسهم، وبالحزب، ولتبديد كل الشكوك والمخاوف التي يمكن أن تساورهم،

ورأت القيادة أيضا ، أن تعقد لقاءات في منازل بعض أعضائها ، وبعيدا عن الاجتماعات الرسمية ، لتناول الغذاء ، يحضرها كل من الرائدين حاطوم والحاج علي تعزيزا لنفس الهدف، كما وجهت القيادة أعضاءها وبعض أمناء الفروع وبعض أعضاء قيادات المنظمات الشعبية لزيارة الرائد حاطوم وإحاطته بشكل مستمر وإبعاد تأثير المجموعة التي ورطته بلقاء الدكتور الرزاز .

بعد اجتماع للقيادة القطرية في 6 أيلول، صدر عنها بيان تضمن:

- أن كل مؤامرة جديدة ستعجل في قبر فلول الرجعية واليمين وتدفع قضية الجماهير إلى أمام.

- انتهاء مرحلة التسامح واللين ، وأن يد الشعب الجبارة لن ترحم وستضرب الرؤوس المتآمرة .

- أن اعترافات المتآمرين واضحة وسيقدمون إلى محكمة الأمن القومي.

كما قام الأمين القطري رئيس الدولة الدكتور نور الدين الأتاسي ورئيس الأركان اللواء أحمد السويداني يوم 7 أيلول بزيارة إلى الجبهة واجتمعوا ، هناك ، مع الضباط لتوضيح أبعاد المؤامرة المكتشفة .

ولكن، كما تبين بعد أيام قليلة، أن التأثيرات الخارجية على حاطوم وبعض أنصاره كانت أكبر اثر من كل ما فعلته القيادة القطرية لاحتوائهم ، إذ حاول الرائد حاطوم مرتين اغتيال أعضاء القيادة .

المرة الأولى أثناء عشاء في منزل اللواء أحمد السويداني حضره بعض أعضاء القيادة ومن بينهم اللواء صلاح جديد واللواء حافظ الأسد وبحضور الرواد حاطوم والشاقي والحاج علي .

< كان الرائد حاطوم قد وضع كمينا مسلحا من عدة أفراد من كتيبته في الحديقة العامة التي يطل عليها منزل اللواء السويداني بزقاق الصخر بغية القيام بعملية الاقتحام للمنزل واغتيال الموجودين فيه بعد مغادرة سليم والشاقي ، ولكن هذه المحاولة فشلت بعد أن رفض الرائد الشاقي مغادرة المنزل ولم يستجب لتأشيرات الرائد حاطوم الذي خشي من أن ينبه الرائد الشاقي الموجودين في حال مغادرته لوحده > .

والمرة الثانية حين اجتماع لأعضاء القيادة لتناول الغذاء في منزل جميل شيا وبحضور الرائدين حاطوم والحاج علي ، أيضا، ولكن خبر مغامرته وصل إلى القيادة ، وألغيت الدعوة ، ورغم ذلك استمرت القيادة على توجهها بالحرص على هؤلاء الرفاق .

بعد انتشار المعلومات عن تورط سليم حاطوم في تنظيم مع فهد الشاعر لقلب نظام الحزب ، استنكرت منظمة الحزب في السويداء ما أقدم عليه حاطوم ، بينما بعض الحزبيين من المتورطين أو المتعاطفين معه وباتفاق بينه وبينهم - وخاصة ، بعد أن أوحى إليه خالد الحكيم ونبيل الشويري وغيرهم بفكرة العصيان للتفاوض مع القيادة - أخذوا يلحون على قيادة فرع السويداء ضرورة حضور الأمين القطري الدكتور نور الدين الأتاسي والأمين االقطري المساعد اللواء صلاح جديد إلى السويداء للاجتماع مع الحزبيين وتوضيح المؤامرة وأبعادها وقرارات قيادة الحزب لمعالجتها واحتواء سليم حاطوم ومجموعته، لأن حاطوم وأغلب أنصاره هم من نفس المحافظة وتورطهم في المؤامرة خلق بلبلة فيها .

وافقت القيادة على اقتراح فرع السويداء وعلى أن يكون الاجتماع يوم 8 أيلول ، وفي هذا الشهر كانت قد بدأت الانتخابات الحزبية في القطر السوري تمهيدا لانعقاد المؤتمر القطري الثالث .

لم يكن لسليم حاطوم أي امتداد في منظمات الحزب المدنية والعسكرية، كما أن بعض الطامعين الذين تورطوا، كانوا قد تخلوا عنه ، بينما نصحه الدكتور حمدي عبد المجيد " أمين عام حزب العمال الثوري العربي " بعدم القيام بمغامرة مصيرها الفشل والاستنكار معا، كما أنه في خلوة بينه وبين الرائد شريف الشاقي في محطة البث الإذاعي بخرابو ليلة 8 أيلول تظاهر بموافقته على ما طرحه عليه الرائد شريف بالتوقف عن أي تفكير للقيام بمغامرة ما ، ولكن، كما ذكرت، كانت التأثيرات الخارجية عليه قد دغدغت له لتنفيذ ما يطمح إليه، ولذلك ضرب بكل النصائح ومحاولات الاحتواء وخلق الثقة ، وأقدم على عصيانه في مدينة السويداء، يوم الخميس 8 أيلول 1966.

في صباح يوم 8 أيلول ، مر الرائد سليم حاطوم على فرع الشرطة العسكرية الذي يرأسه الرائد عدنان دباغ ، ومن هناك انتقل إلى مبنى وزارة الدفاع والتقى مع اللواء وزير الدفاع ، ثم مع الرائد مصطفى الحاج علي ، ومنها غادر إلى صحنايا وبرفقته الرائد محمد إبراهيم العلي الذي كان قد وصل لتوه من حلب والتقاه في مبنى وزارة الدفاع ودعاه للسفر معه إلى السويداء وتناول طعام الغداء هناك بحضور الأمين القطري والأمين القطري المساعد ، ومن صحنايا رافقهم العقيد طلال أبو عسلي ، وهو من المتورطين بتنظيم فهد الشاعر / منيف الرزاز وشمله توجيه القيادة بعدم الاعتقال .

حين وصولهم إلى السويداء توجهوا ، فورا ، إلى مقر فرع المخابرات العسكرية الذي كان يرأسه النقيب عبد الرحيم بطحيش وهو، أيضا ، من المتورطين في المؤامرة ودعا هذا الأخير قادة كتائب اللواء المرابط في السويداء < منهم النقيب علي غانم ...> لتناول طعام الفطور عنده مع الرائد محمد إبراهيم العلي ، ولبى هؤلاء الدعوة ، واحتجزوا في المقر .

غادر حاطوم المقر وأجرى اتصالات مع بعض الضباط في الوحدات العسكرية بإزرع، كما اتصل ببعض الضباط في القطاع الجنوبي بالجبهة لمؤازرته والتحرك نحو السويداء .

خلال الاجتماع مع أعضاء التنظيم الحزبي في السويداء والذي حضره ، أيضا ، عضو القيادة القطرية جميل شيا ، فوجئ المجتمعون باقتحام سليم حاطوم وبعض العناصر المسلحة < عسكرية ومدنية > قاعة الاجتماع ، وبالتعاون مع بعض المتورطين من المجتمعين احتجزوا الأمين القطري والأمين القطري المساعد واقتادوا كلا منهما إلى مكان .

استطاع سائق اللواء صلاح جديد الفرار بسيارته من السويداء متجها نحو دمشق وأبلغ حين وصوله عما حدث .

حين علم وزير الدفاع بما يحدث في السويداء استدعى رئيس شعبة المخابرات العسكرية الرائد مصطفى الحاج علي الذي أكد للواء الأسد أن لا علم له بما فعله سليم حاطوم ، وحينها أمره اللواء حافظ أن يوعز للضباط المرتبطين به كي لا يتحركوا دعما لسليم حاطوم ، وبتنفيذ هذا الأمر أخذ وعدا بعدم المساس به ، و بعد انتهاء المؤتمر القطري الثالث صدر قرار بنقله إلى السلك الخارجي .

في نفس الوقت الذي تلقى فيه اللواء حافظ تلك المعلومات دعا أعضاء القيادة القطرية لاجتماع في مكتبه بوزارة الدفاع لاطلاعهم على ما يحدث في السويداء واتخاذ التوجيهات اللازمة لإدارة الأزمة .

< كنت أول الواصلين إلى مكتب اللواء حافظ ، ومع وصولي طلب من مدير مكتبه أن يرسل عناصر لإحضار " الكلبين " عبدالله الأحمر وخزاعي ملي - الأول أمين فرع الأطراف والثاني أمين فرع القنيطرة – وسيعدمهما في ساحة مبنى وزارة الدفاع ، فهدأت من ثورة غضبه ، وفهمت أنهما كانا يمران عليه في مبنى أميرية الطيران بشارع مرشد خاطر ، وينقلان له أخبار سليم حاطوم ، ظن اللواء حافظ أنهما على اطلاع بما سيقوم به في السويداء ولم يبلغاه الحقيقة ، واتفقت معه على التحقيق معهما فور القضاء على العصيان ،< أكد لي المرحوم خزاعي ملي ، بعد إطلاقي من المعتقل ، أنه زار الرفيق حافظ برفقة عبدالله الأحمر مرة واحدة فقط ، بعد أن التقيا بسليم حاطوم ، وأبلغاه عن أطروحات سليم > .

التأم شمل القيادة عصر ذلك اليوم وقررت إعلان حالة منع التجول بدءا من الساعة التاسعة من مساء 8 أيلول ولإشعار آخر < تم إنهاء هذه الحالة يوم 9 أيلول > ، كما قررت وبروح المسؤولية، معالجة هذا العصيان ، وباتصال هاتفي مباشر مع الرائد حاطوم أبلغته – بناء على طلب القيادة - أن يفرج عن المحتجزين، ويسلم نفسه للقيادة، ليمثل أمام القضاء ، فلا مساومة لأنها مرفوضة تماما، والالتزام بما قررته القيادة، هي فرصته الوحيدة، وأن القيادة ستنظر بعين العطف تجاهه - كان اتجاه القيادة هو العفو عنه بعد محاكمته، ثم تعيينه في السلك الخارجي بإحدى بعثاتنا الدبلوماسية في أمريكا اللاتينية - فوافق على ذلك، ووعد بإطلاق المحتجزين وتسليم نفسه .

حاول سليم حاطوم مساومة اللواء صلاح جديد الذي رفض أن يستمع إليه أو يعطيه أي وعد ، واكتفى بإجابة واحدة " أن أي موضوع يجب أن يناقش مع القيادة ، وهو غير مخول ببحث أي موضوع " ، كما أنه سمع نفس الجواب من الأمين القطري الدكتور الأتاسي .

في الوقت الذي كانت القيادة تقوم فيه باتصالاتها مع سليم حاطوم ، حامت بعض الطائرات فوق مدينة السويداء ، كما تحركت بعض الوحدات العسكرية نحوها، بقيادة عضو القيادة القطرية عبد الكريم الجندي _ ولأن بشرة الجندي شقراء نشرت بعض وكالات الأنباء أن ضابطا سوفييتيا يقود القوات العسكرية -، بهدف تطويق المدينة ، وحظر عليها إطلاق النيران والاكتفاء بالتهديد بالقوة.

وتحركت وحدة عسكرية من القطاع الأوسط بالجبهة بقيادة النقيب كاسر محمود على محور الرفيد – إزرع لمنع تحرك وحدات عسكرية من الجبهة لمؤازرة حاطوم.

مع غروب الشمس وصل حمود القباني أمين فرع السويداء إلى مبنى وزارة الدفاع وأطلع القيادة على تفصيل ما حدث وأن جهودا حثيثة تبذل لإنهاء المشكلة ، وزودته القيادة برسالة مفادها أن لا مساومة أبدا مع العصاة وما من سبيل أمامهم إلا تسليم أنفسهم .

ما إن وصلت القوات ، قبل حلول الظلام ، إلى مشارف المدينة حتى أطلق سراح الأمين القطري الذي وصل إلى مبنى وزارة الدفاع بعد غروب الشمس ، وأطلع القيادة على ما حدث وأنه لا يعلم شيئا عن اللواء صلاح جديد .

بعد أن وصل العصاة إلى الطريق المسدود ، وفشلوا في كسب أي دعم من الوحدات العسكرية - عدا دعم الرائد فواز أبو الفضل من مؤيديه والنقيب ابراهيم نور الدين وبعض الضباط من مؤيدي الفريق أمين الحافظ في معسكرات ازرع - وأدركوا أنهم أصبحوا محاصرين من القوات العسكرية ، أطلقوا سراح اللواء جديد .

وهنا تأتي الروايات على لسان العصاة من أنصار سليم - سردوها بعد عودتهم من الأردن - فإحداها ، أن الرائد حاطوم اتصل بوزير الدفاع قائلا :أنه سيحضر إلى دمشق مع بقية العصاة لتسليم أنفسهم ، ولكن وزير الدفاع حذره من الوقوع بيد عبد الكريم الجندي فيما إذا جاء بالطريق البري ، وأنه ، أي وزير الدفاع سيرسل حوامة لتنقلهم إلى دمشق ، وحينما تأخر وزير الدفاع بإرسال الحوامة ، توجس العصاة ولم يجدوا أمامهم إلا الهرب نحو الأردن .

أما الحقيقة ، وتجاوزا للروايات ، فهي أن العصاة كانوا ينتظرون نتيجة الاتصال مع المسؤولين في الأردن وحينما تلقوا الضوء الأخضر لجؤوا إليه ، وهذا ما يؤكده نبيل الشويري في كتاب " سورية وحطام المراكب المبعثرة " لصقر أبو فخر ، إذ يقول : " كان هناك خط مع الأردن ، رصدته فيما بعد ، له صلة ببعض الأشخاص من آل الأطرش ، وكان همزة الوصل مع سليم حاطوم شخص يدعى صابر المعاز " .

ورد نبأ فرار حاطوم مع بعض أعوانه، ، ومنهم من قاده تحت التهديد، باتجاه الحدود الأردنية، حيث كان بعض المسؤولين الأردنيين باستقبالهم، وتبين، بعد فرار حاطوم، بأنه أثناء اجتماعه مع بعض الضباط في 8 أيلول ، كان قد أجابهم على تساؤلهم: ما مصيرنا في حال الفشل؟ فرد عليهم: إننا مضمونون، واللقاء في الأردن وكل شيء مرتب. ومما يلفت الانتباه أن بعض المتورطين في منطقة الجبهة وعلى الحدود اللبنانية، لم يتسللوا إلى لبنان، وإنما قطعوا مسافة طويلة حتى وصلوا إلى منطقة الحمة ومنها عبروا إلى الأراضي الأردنية .

ومن الجدير بالتنويه، أن عصيان سليم حاطوم، قد تم إنهاؤه بسرعة بسبب موقف قواعد الحزب بأكثريتها وجماهير المحافظة ضد هذا العصيان، وأظهرت عدم رضاها عما يقوم به حاطوم، وتنصلت من كل تصرفاته المعادية.

كما أن بعض المتورطين الأساسيين مع الرائد سليم حاطوم ممن لم يكونوا معه في السويداء أفادوا أن الرائد مصطفى الحاج علي رئيس شعبة المخابرات العسكرية كان قد عرض عليهم الهروب إلى لبنان وتزويدهم بما يكفيهم من الأمواال ، ولكنهم رفضوا عرضه ، هذا ، خشية من اغتياله لهم أو خشية من إلقاء القبض عليهم من قبله لتدعيم موقفه وإظهار حسن نيته تجاه القيادة .

وصل الفارون إلى المقر العسكري في مدينة المفرق الأردنية ، وبعد وقت قصير من وصولهم جاء الشريف ناصر < خال الملك حسين > واجتمع مع سليم حاطوم على انفراد وابلغه ترحيب الحكومة الأردنية به ، ثم اجتمع مع بقية الفارين في نادي الضباط بمدينة الزرقاء ، ومكثوا بالنادي بضعة أيام حيث توارد بقية الضباط المتورطين ومن بينهم العقيد طلال أبو عسلي ، وأيضا بعض المدنيين .

وصلت بعثة إعلامية أردنية إلى الزرقاء وطلبت من حاطوم عقد مؤتمر صحفي ، وعليه أن يركز على ثلاث نقاط أساسية وهي :

1 – التركيز على الوضع الطائفي في سورية .

2 – التركيز على أن الحكام الحاليين هم ماركسيون وشيوعيون.

3 – التركيز على فشل النظام الاشتراكي في سورية .

بعد عقد المؤتمر الصحفي ، وتلاه مؤتمرا آخرا عقده النقابيان العماليان خالد الحكيم ونذير النابلسي هاجما فيه النظام الاشتراكي في سورية ، بدأ ت الحكومة الأردنية باستخدامهم للتآمر على الحكم في سورية ، إذ اجتمع رئيس الحكومة الأردنية وصفي التل ، في النادي ، بعدد منهم من بينهم طلال أبو عسلي وسليم حاطوم ، وأبلغهم عن الاستعداد لتقديم كل عون شريطة العمل على إسقاط الحكم في دمشق .

ورد في بيان صدر عن القيادة القطرية يوم 9 أيلول :

أن سليم حاطوم نفذ المغامرة الطائشة التي حرض عليها هلال رسلان وخالد الحكيم ونبيل الشويري وغيرهم ....

أنه تم اعتقال مدبري المغامرة، وأن بعضهم تمكن من الفرار باتجاه الحدود الأردنية.

أن المؤامرة الأخيرة حلقة من المؤامرة الرجعية اليمينية السابقة الفاشلة.

أن هدف المؤامرة هو تنفيذ المخطط الاستعماري الذي تموله بعض الفئات الحاكمة العربية العميلة.

أن سليم حاطوم لغم تفجر على نفسه .

بدأ الفارون إلى الأردن التخطيط للتآمر بضرورة الاتصال بأعضاء القيادة القومية الذين لجأوا إلى لبنان بعد حركة 23 شباط ، وعرضوا الأمر على وصفي التل لأخذ موافقته ، وتبلغوا الموافقة من الملك حسين الذي اجتمع مع عدد منهم ورحب بهم وأمر وصفي التل لتسهيل مهمتهم .

سافر طلال أبو عسلي والنقيب إبراهيم نور الدين إلى بيروت ، وفي بيروت طلب طلال أبو عسلي من السفارة المصرية قبول لجوئه إلى مصر ، وعقد في القاهرة مؤتمرا صحفيا كشف فيه أبعاد مؤامرة سليم حاطوم والسلطات الأردنية .

أما إبراهيم نور الدين لم يستطع الاتصال بأي من أعضاء القيادة المذكورة لرفضهم مقابلته ، وعدم رغبتهم بالتعاون مع سليم حاطوم ، وطلب منه الابتعاد عنه ، وعاد إلى الأردن وأبلغ ما حدث معه إلى الضباط الفارين .

وخلال هذه الفترة عرض سليم حاطوم على بعض أركانه خطة التآمر التي وافقت عليها المراجع الأردنية ، وهي من شقين :

- مرحلة تحضيرية تبدأ بجمع الفارين ومن سيلحق بهم، بمعسكر بالمفرق ومباشرة التدريب. وقد زودت السلطات الأردنية المعسكر بأسلحة مشتراة من اسبانيا ، كما كلفت أحد ضباط المخابرات الأردنية بالإشراف على المعسكر .ٍ

- مرحلة تنفيذية تنطلق من جبل العرب .

كان سليم قد بعث رسالة إلى الفريق أمين الحافظ المعتقل في سجن المزة ورد فيها : < أنني ورفاقي نعمل ليلا نهارا وقطعنا شوطا كبيرا بالعمل من أجل تحرير الشعب ....... ومن أجل ذلك نرى أن تؤمنوا لنا رسالة توضحون بها رأيكم سليما واضحا مع الأخذ بعين الاعتبار وضعنا في الأردن ودعم السلطة هنا لنا في إفساح المجال لعملنا المقبل ... . > . وكان جواب الفريق أمين الحافظ له : < ليس بالأمر السهل أن أبدي رأيا وأنا على جهل تام بوضعكم في القطر العربي الشقيق ومعلوماتي لا تزيد عن ما أسمعه من الإذاعة وأن على أي قائد يريد أن يبدي رأيا أن تكون لديه معلومات واضحة وجلية ليحسن تقدير المواقف ولتكن آراؤه على جانب كبير من الصحة ، هذا وأنا على يقين أنكم وجدتم وإخوانكم في القطر العربي الشقيق كل ما يجده العربي من أخيه العربي من كرم أصيل ورعاية حقة ... الأفضل أن تأخذوا رأي القيادة في لبنان .شكرا لك ولإخوانك مع سلامي وتحياتي للجميع ... > .

لم يكن الأستاذ صلاح البيطار على وئام مع الأستاذ ميشيل عفلق وبعض أعضاء القيادة القومية السابقة الذين لجأوا إلى بيروت ، وانقطع التواصل بينهم ، " وللتنويه ، فإن الأستاذ صلاح استقال بتاريخ 10/11/1967 من تنظيم الحزب الذي كان الأستاذ ميشيل أمينه العام " ، كما أن المجموعة ، من الهاربين إلى بيروت ، المرتبطة بالفريق أمين الحافظ لم تلق ترحيبا من الأستاذ ميشيل عفلق ومجموعته ، لذا قرر حاطوم بعد موافقة وصفي التل ، أن يتصل بالرائد الهارب بدر جمعة والوليد طالب ، وتم اللقاء بينهم في باريس في أول شهر كانون الأول 1966، بعد أن أمنت السلطات الأردنية بطاقات ونفقات السفر ، واتفق المجتمعون ، وبحضور ضباط من الأمن العام والمخابرات الأردنية ، على العمل معا ضد حكم البعث في سورية ، وعملت مجموعة الشوفي – خالد الحكيم ومحمود نوفل ونبيل الشويري ...- على التقارب بين بدر جمعة والأستاذ البيطار ، وتم ذلك بعد مباركة السلطة الأردنية .

في لقاء ، في الأردن ، بين بدر جمعة والوليد طالب مع سليم حاطوم وبحضور وصفي التل و راضي العبدالله ، دار الحديث حول الأوضاع في سورية وما يمكن للأردن أن يقدمه في تغيير النظام ، واتفق الحاضرون على أن تعمل جميع الكتل السياسية في سورية ضمن جبهة وطنية ، كما عقدت اجتماعات عدة بين وصفي التل وسليم حاطوم ، أكد فيها التل أن هذا الحل هو مطلب الفئات السياسية داخل سورية وخارجها ، وكان التل يطرح في أحاديثه ومناقشاته من أسماهم الرعيل الأول والجبهة الدستورية وبعض السياسيين القدامى ، وجماعة الأخوان المسلمين .

أوعزت السلطة الأردنية لجيوبها في سورية <عناصر ما عرف بالجبهة الدستورية و لورانس الشعلان - شيخ الرولا وشريك الشريف ناصر في تهريب المخدرات والسلاح – وكان الشعلان من الجيوب التي يعتمد عليها وصفي التل ليحركها دعما لإنجاح التآمر ، والشعلان ، إضافة لعلاقته مع التل ، فهو على علاقة وثيقة مع السعودية ، وأنه – حسب إفادة سليم حاطوم – من شدة تآمره ضد الحكم في سورية قال لسليم : أنه مستعد للذهاب إلى السعودية إن لم تكن الأردن جاهزة للقيام بعمل ضد الحكم في سورية ، وأنه هناك سيقنع المسؤولين أن سليم وجماعته هي القوة الوحيدة التي يجب الاعتماد عليها ...> .

أشرفت السلطات الأردنية على تشكيل الجبهة الدستورية من بعض المدنيين والعسكريين السوريين المسرحين من جماعة الانفصال ، وبعضهم خارج سورية ، من أبرزهم عبد الكريم النحلاوي وصدقي العطار وخليل بريز وعبد الوهاب البكري ومصطفى البرازي وطلال الفاعور ومحمد علي السعدي ....، وعرض هذا الأخير على النحلاوي رئاسة الضباط المسرحين في لبنان وقيادتهم .. وسمي كمال سفر < ممثلا للتنظيم العسكري > ويحيى محمود < ممثلا للتنظيم المدني > لدى سليم حاطوم ، واحمد راتب عرموش الذي بحث مع المدعو عادل عيسى المتعاون مع المخابرات السعودية إمكانية تمويل الجبهة من الحكومة السعودية .

كان من تنظيم الجبهة الدستورية في دمشق المحامون عبد الغني النابلسي وغسان بابيل وغسان محاسنة ورشيد هارون وعصام طيفور ورشيد الساطي وحسان محاسنة ، وفي حلب فايز عويرة وفاروق المسلاتي وفاروق سالم وغسان بارودي وأمين الغوري ، واشترك هؤلاء بالبحث في توسيع الجبهة وكسب أعضاء جدد لها .

أرسل سليم حاطوم بعض الضباط الفارين معه من أبناء محافظة السويداء غلى جبل العرب لتحريض بعض الشباب على الالتحاق بمعسكر التدريب في المفرق لقاء رواتب مغرية .

أجرى مصطفى البرازي اتصالا بكل من ليون زمريا وميخائيل ليان في مصيفهما في سوق الغرب بلبنان وبحث معهما التعاون للعمل ضد الحكم في سورية وبعد المقابلة أبدى أمام أحمد راتب العرموش انطباعاته الجيدة عنهما ، وقال : لقد أصبحنا أقوياء في كل من جبلي الزاوية والأكراد وحلب وحماة ، وشرح له خطة العمل بقيام تمردات داخلية في المحافظات الشمالية وإجبار الجيش على التوزع لإخمادها وإضعافه ومن ثم إعلان حكومة مؤقتة خارج القطر ، وأكد العرموش للبرازي أن وزير الإعلام الأردني ، وهو زميل له بالدراسة في الجامعة الأمريكية ، وعده بتأمين السلاح والمال اللازمين لتنفيذ الخطة .

وخلال اجتماعات متعددة لبعض أعضاء الجبهة الدستورية المتواجدين في لبنان بحثوا حول نشاط الجبهة وتقويتها وضرورة الاتصال بالتجار والطلاب في المحافظات وتنظيمهم في عضويتها ، وادعى البرازي أمامهم أنه استطاع أن ينظم خمسمائة مسلحا في حماه وحي الأكراد بدمشق وعرض تزويدهم بالسلاح .

لم يكن كل العسكريين الذين تورطوا وهربوا إلى الأردن على وئام مع الرائد سليم حاطوم ، ولا من مؤيديه ، وازداد الشرخ بينهم حينما أدركوا مدى الدور الذي تعهد بتنفيذه لصالح النظام الأردني ، وترسخت لديهم هذه القناعة بعد المؤتمر الصحفي الذي عقده العقيد طلال أبو عسلي ، ومن بعده الضابط السوري أحمد مصطفى ، في القاهرة ، وكذلك ما صرح به الضابط الأردني الرئيس الركن محمد يوسف الحمارنة الذي لجأ إلى القاهرة في أوائل شهر شباط 1967 وأدلى في مؤتمر صحفي < بأن الملك حسين قال له : نريد ضمان نجاح عمليات التخريب ضد سورية > تعززت لدى هؤلاء القناعة بأن حاطوم يطبق ، فعلا ، مقولته < سأتعاون مع الشيطان لقلب نظام الحكم في دمشق > ، وانعزلوا عن الآخرين المرتبطين بحاطوم وناهضوا أوامره وقاطعوا اجتماعاته، كما أن بعض من خابت آمالهم من الفارين لاحقا والطامعين بتكوين ثروة مالية ، أبدوا ندامتهم عما قاموا به وبدؤوا يرسلون معلومات عما يقوم به حاطوم ومجموعته إلى السلطات في سورية .

في مواجهة هذا الواقع بين الفارين إلى الأردن بدا سليم حاطوم يهددهم ويدس عليهم لدى السلطات الأردنية التي كانت تأخذ بأقواله ، ونفس الدور التهديدي – بقتل كل من لا يشارك في التنفيذ ساعة الصفر - كان يمارسه الضابط عبد الرحيم بطحيش الذي كان يعتبر نفسه الساعد الأيمن لحاطوم ولعب دورا بالإتصال والتنسيق بين المتآمرين في لبنان " بدر جمعة ومجموعته " وبين الموجودين في الأردن ، كما أن البطحيش كان على اطلاع من الحاطوم عن الاتصالات بين وصفي التل والمخابرات الأمريكية بشأن تعاون الحاطوم معها وأنه لا شيء عنده يمنع من التعاون معها.

نشرت جريدة البعث في عددها الصادر يوم 22 /11/1966 عن أبعاد هذا التآمر الاستعماري الجديد ، وأن الأجهزة الاستعمارية / الأنكلو – أمريكية / ترمي بثقلها في الأردن وتحوله إلى ثكنة للأسلحة وملجأ للمتآمرين ، والمؤامرة ، وفق خطة المتآمرين ، تبدأ بتحرك الرجعية يتبعه تدخلا أردنيا – صهيونيا وغزو القطر من الخارج للإجهاز على جذوة المد الثوري التقدمي .

كانت السلطات السورية مطلعة على ما يجري بين الفارين ، وعمل عضو القيادة القطرية رئيس مكتب الأمن القومي العقيد عبد الكريم الجندي على تشجيع العناصر المناوئة للعودة إلى الوطن وجند لهذه الغاية بعض أقارب الفارين للسفر إلى الأردن والاتصال بهم لهذا الغرض ، وكان من أبرز من قام بهذه المهمة المحامي محمد الكسار – زوج والدة امرأة البطحيش – .

قامت أجهزة الأمن الأردنية ، وبناء على طلب الرائد سليم حاطوم باعتقال بعض الضباط منهم النقيب إبراهيم نور الدين وعلي المقداد وسبعة آخرون وتم تسفيرهم ، أول الشهر الخامس من عام 1967، إلى لبنان ، ولكن السلطات اللبنانية ، بوشاية من البطحيش والوليد طالب ، اعتقلتهم بعد أيام من وصولهم وأعادتهم قسرا إلى الأردن ، حيث تم توقيفهم لأيام ثم وضعوا تحت المراقبة .

اجتمع بقية الضباط الفارون المناوؤن لحاطوم وقسموا أنفسهم إلى مجموعتين هادفين الهرب إلى سورية ، ونفذت المجموعة الأولى خطتها بتاريخ 6/5/1967 ، ولسوء حظهم اعترضهم كمين من الجيش والأمن الأردني الذي أمطرهم بالرصاص ، فتوفي الملازم جورج أنطي وجرح آخر وتمكن ضابط واحد من الوصول إلى الوطن واعتقل الآخرون بمن فيهم أفراد المجموعة الثانية وسفروا إلى لبنان و عادوا جميعا إلى سورية أيام حرب حزيران 1967 .

عندما بدأت حرب الخامس من حزيران نشط وصفي التل في عقد اجتماعات مغلقة مع سليم حاطوم وبدر جمعة ، وفي يوم 7/6/ وصلت وحدات سورية عسكرية " اللواء 17 " بقيادة المقدم صلاح نعيسة إلى الأردن بناء على تعليمات قائد الجبهة الشرقية الفريق عبد المنعم رياض ، لنجدة الجيش الأردني وقدم التل لحاطوم وبدر جمعة أسماء ضباط كتائب اللواء وقادة سراياه بهدف الاستيلاء على اللواء للدخول به إلى سورية والعمل على قلب نظام الحكم ، ولكن الأوامر صدرت بعودة اللواء إلى سورية ، لانتهاء الحاجة إليه في الأردن ، وفي الوقت الذي اخترقت فيه القوات الإسرائيلية الجبهة السورية ، أوعز وصفي التل إلى سليم حاطوم وبدر جمعة بالإسراع في دخول سورية وأن يستفيدوا من قرار القيادة القطرية بالإفراج عن المعتقلين السياسيين ، بعد أن بين لهما أن الفرصة أصبحت سانحة لاستلامهما السلطة ، نظرا لانهيار الحكم ، ووعدهم بالاتصال ببقية السياسيين السوريين المرتبطين بالأردن للعودة إلى سورية لنفس الغرض .

استغل سليم حاطوم وبدر جمعة مراجعة الضباط الفارين لهما والمتحمسين للعودة إلى الوطن للاشتراك بالحرب ، استغلا هذا الشعور لتنفيذ المخطط المتفق عليه مع وصفي التل ، وفي اجتماع في بيت الفار محمد الأطرش لحض السوريين الفارين على العودة ، طلب سليم حاطوم من الرائد فؤاد منذر ونذير نابلسي نقل موافقته على العودة إلى سورية مدعيا أن السلطة في سورية سمحت لهم بالدخول بعد اتصال هاتفي معها ، وفي وقت هذا الاجتماع كان سليم حاطوم في اجتماع مغلق مع وصفي التل لتلقي التعليمات منه .

بعد الاجتماع مع وصفي التل اتصلوا < بدر جمعة وسليم حاطوم ومحمود نوفل ونذير النابلسي > هاتفيا مع الأستاذ صلاح البيطار في بيروت وأخبروه بقرارهم دخول سورية .

في هذه الأثناء نشطت جيوب وصفي التل في سورية دعما لسليم حاطوم وتنفيذا للمخطط الأردني ، حيث تداعى أعضاء ما عرف بالجبهة الدستورية وعقدوا اجتماعات في بيت أحد أعضائها " سليم هارون" بحثوا فيها ما سوف تؤول إليه الأمور عند سقوط الحكم واستعرضوا وضع البلاد وموقف جبهتهم في حال قيام حكومة ائتلافية وإمكانية اشتراكهم في الحكم ، كما ناقشوا ما قاله أحد أعضاء الجبهة من إمكانية قيام حركة مسلحة في حلب أو حماة ، وإمكانية استيلاء الضباط المسرحين على الإذاعة لإذاعة بياناتهم .

تسلل سليم وبدر مع بعض الفارين إلى سورية عن طريق درعا حيث أخبروا مخفر الأمن العام هناك بأنهم ضباط من القوات السورية التي انسحبت من الجبهة عن طريق الأراضي الأردنية وعائدون إلى سورية ، ومن درعا توجهوا نحو مدينة القريا وبعد مكوثهم بعض الوقت فيها توجهوا نحو دمشق ، ولدى دخولهم إليها توجه سليم مع مجموعة من الفارين إلى مقر الشرطة العسكرية في البرامكة ، وتوجه البطحيش مع البعض إلى منزل عبد الوهاب البكري < من الجبهة الدستورية > على أن يلحق بهم حاطوم بعد استطلاعه لمقر الشرطة العسكرية ، وتوجه بدر جمعة ومحمود نوفل ونذير النابلسي ونبيل الشويري إلى بيت منصور الأطرش ، ومنه اتصلوا مع الفريق أمين الحافظ بمنزله لاستطلاع الوضع .

وبين 7 و10 حزيران 1967 ، دخل بقية الفارين الذين لم يرافقوا سليم حاطوم ومجموعته ، إلى سورية وسلموا أنفسهم لقوى الأمن ، كما عاد الضباط الذين لجؤوا إلى لبنان عن طريق حمص وسلموا أنفسهم للسلطات المختصة .

وجد سليم وبدر وبعض من اجتمع معهم في بيت البكري أن الأوضاع ليست كما أخبرهم بها وصفي التل ، وعندما علموا أن أغلبية من جاء معهم من الأردن قد سلموا أنفسهم للسلطة ، قرروا العودة إلى الأردن عن طريق السويداء ، فتم القبض عليهم في الطريق من قبل دورية أمن كلفت بملاحقتهم .

بدأ التحقيق مع سليم وبدر من قبل لجنة قيادية < عبد الكريم الجندي ومحمد عيد العشاوي > ، ولقد عثر مع بدر جمعة على قائمة بأسماء المقترحين كوزراء فيما لو آلت إليهم السلطة ، كما عثر مع محمود نوفل على شيك موقع من راضي العبد الله وزير داخلية الأردن ويصرف لحامله .

خلال فترة التحقيق أرسل حاطوم رسالة بواسطة مدير السجن يرجو فيها مقابلة اللواء حافظ الأسد أو محمد رباح الطويل ، ولكن الإثنين ، بعد عرض الرسالة على القيادة القطرية ، رفضا الاستجابة .

"ذهبت في تلك الليلة ، بعد انتهاء اجتماع القيادة ، إلى سجن المزة والتقيت مع سليم حاطوم ودام اللقاء ساعات ثلاث ، اعترف خلالها بأن ما قام به من يوم 8 أيلول وحتى عودته ألحق ضررا كبيرا بالوطن وبالحزب وحكمه ولا يعرف كيف يكفر عن ذلك ، ثم طلب مني تغيير مكان اعتقاله من الطابق العلوي إلى الطابق الأرضي ، ونفذت رغبته فورا وفي اليوم التالي أمنت له كل ما طلبه في ذلك اللقاء " .

أحيل سليم حاطوم وبدر جمعة إلى المحكمة العسكرية الاستثنائية برئاسة المقدم مصطفى طلاس ، وصدر الحكم عليهما بالإعدام رميا بالرصاص .

وتمت محاكمة بقية المعتقلين أمام محكمة أمن الدولة العليا ، التي صدر قرار القيادة القطرية بتشكيلها بدلا من المحكمة العسكرية الاستثنائية ، وسمت القيادة أحد أعضائها " محمد سعيد طالب " لرئاستها . وصدر بتاريخ 4/1/1969 حكم المحكمة بهذه القضية التي عرفت " بمؤامرة العاشر من حزيران 1967" .

تنفيذ حكم المحكمة العسكرية الاستثنائية

مساء يوم إصدار المحكمة الحكم بالإعدام ، رميا بالرصاص ،على المتهمين الرائدين سليم وبدر ، استدعى اللواء وزير الدفاع حافظ الأسد المقدم الطيار متعب العبد الله وطلب منه السفر إلى جبل العرب وتشكيل وفد شعبي لمقابلة قيادة الحزب والتماسها إعادة النظر في الحكم .ولسبب ما ، طرأ تبدل على رأي اللواء حافظ واقترح على الأمين العام المساعد اللواء صلاح جديد لدعوة القيادة إلى اجتماع فوري .

بعد وقت قليل من منتصف ليلة 23 حزيران 1967 رن الهاتف في المنزل الذي أسكنه مع عضو القيادة القطرية وزير الزراعة والإصلاح الزراعي محمد سعيد طالب وكان المتصل موظف مقسم القيادة القطرية وأبلغنا عن اجتماع فوري لأعضاء القيادة بناء على طلب الأمين العام المساعد اللواء صلاح جديد .

تبادر إلى ذهننا ، ونحن في الطريق إلى مبنى القيادة أن الاجتماع قد يكون لإبداء رأي أو اتخاذ قرار يطلبه الأمين العام للحزب الدكتور نور الدين الأتاسي والوفد المرافق له الموجود في نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي من جدول أعمالها بحث عدوان حزيران 1967.

بدأ الاجتماع بعد الساعة الواحدة من صباح 24 حزيران وأبلغ رئيس الجلسة الأمين العام المساعد الحاضرين بأن الرفيق وزير الدفاع اللواء حافظ الأسد طلب عقد اجتماع فوري للقيادة، وطلب الأمين العام المساعد من اللواء الأسد أن يشرح أسباب الدعوة .

قال الأسد أن المحكمة العسكرية الاستثنائية أصدرت حكمها بالإعدام على كل من سليم حاطوم وبدر جمعة ، وخشية من مجيء وفود من جبل العرب تطلب من القيادة إعادة النظر في الحكم الصادر ، لذا أقترح أن تتخذ القيادة قرارا بتنفيذ الحكم هذه الليلة .

ناقشت القيادة اقتراح الرفيق وزير الدفاع وكان رأي بعض الأعضاء ومنهم الأمين العام المساعد تأجيل بحث الموضوع ريثما يعود الأمين العام وبقية الرفاق من أعضاء القيادة الموجودون خارج دمشق ، وفي نهاية المناقشات التي طالت لأكثر من ساعة طرح اقتراح وزير الدفاع على التصويت ونال موافقة الحاضرين بأكثرية صوت واحد .

تم تنفيذ حكم الإعدام بالرائدين حاطوم وجمعة ، رميا بالرصاص ، بعد آذان صباح يوم 24 حزيران ، في سجن المزة العسكري

ونتيجة للبس الذي حصل في دعوة قيادة الحزب للاجتماع ، تكون وعي خاطئ وهو أن اللواء صلاح جديد كان وراء قرار الإسراع بتنفيذ الحكم على الرائدين سليم وبدر .

*************************

وأخيرا ، لابد من القول : أن الذين تورطوا في هذه المؤامرة عدة فئات، منها فئة حاقدة على الحزب وثورته، وفئة أخرى انطلقت من مصلحتها الشخصية، وثالثة، كان انتماؤها الاجتماعي يؤهلها لأن تزج بنفسها في حمأة التآمر.
وأن من يتتبع طبيعة النشاط في هذه الفترة، يجد أن أعداء حركة 23 شباط استنفروا كل قواهم وزجوها دفعة واحدة لإثارة الأراجيف وقذف الشائعات المضللة المغرضة، بقصد طمس حقيقة المؤامرة وإخفاء أبعادها ومراميها.

ولابد من التنويه بأن القيادة القطرية الموقنة قبل تنفيذ حركة 23 كانت قد قررت أنه على العسكريين فيها أن يختاروا بين الاستقالة من الجيش وبين العمل السياسي ، ورغم الإلحاح على الرائد سليم حاطوم ليكون اختياره السياسة ، أصر على الاستمرار في الجيش .

كان العديد من ضباط الجيش ، الذين لم يكن دورهم في صبيحة الثامن من آذار وقبلها بأقل من دور سليم حاطوم ، وكذلك بعض القيادات الحزبية يحتجون على الدور الذي أعطي له والمواقع التي تبوأها بعد 8 آذار وأدى هذا الاحتجاج إلى عدم انتخابه في عضوية المكتب العسكري من قبل المؤتمر الحزبي للضباط البعثيين الذي انعقد في الأسبوع الأول من شهر نيسان 1965 بمعسكرات القابون .

وفي المؤتمر القطري الثاني الذي انعقد ، بدورة استثنائية ، في شهر آب ،1965 بذل اللواء صلاح جديد جهدا كبيرا جدا لانتخاب الرائد سليم حاطوم لعضوية القيادة القطرية ، ونجح في عضويتها .

أخلص من ذلك إلى أن الذرائع التي تذرع بها سليم حاطوم لانضمامه إلى تنظيم معاد لحركة 23 شباط كانت نتيجة الخلل في بنية القوات المسلحة وطغيان طائفة عليها أنه كان بإمكان حاطوم من خلال مكانته عند قيادة الحزب وموقعه عند قيادة الجيش العمل على تصحيح بعض هذا الخلل ، وهو من أعضاء القيادة التي خططت ونفذت حركة 23 شباط ويعرف أن من بين الدواعي لقيام هذه الحركة هو معالجة أسباب الطرح الطائفي الذي أخذ ينتشر في القوات المسلحة والعمل لعودة السيادة للقيم والعلاقات الحزبية .

كما كان بإمكانه ، لو اختار السياسة ، أن يكون عضوا في القيادة القطرية أو وزيرا أو في أي منصب آخر عالي الشأن ، ولكن شعوره بأن السطوة التي كانت له قبل حركة23 شباط قد زالت لاعتماد منطلقات جديدة للحكم بعد الحركة ، إضافة إلى أن عقل المغامرة عنده وطموحه لأن يحكم سورية من خلف الستارة- بدلالة أنه بعد الاتفاق مع الدكتور منيف الرزاز واللواء فهد الشاعر أصر حاطوم على أن يكون قائدا للواء سبعين إضافة إلى قوات المغاوير التي كان قائدها حينذاك -" ، دفعت به لقلب ظهر المجن للقيادة والاستمرار في مغامرته . حزيران 2008 مروان حبش









 
فصل من سيرة غسان زكريا الصحافية

كتب : أسامة فوزي
06.jpg
التقيت خلال زيارتي الاخير لمدينة لندن بالزميلة الدكتورة غادة حيدر الصحافية السابقة في مجلة سوراقيا اللندنية والتي اعتمد عليها غسان زكريا صاحب المجلة في مطلع الثمانينات في كتابة اكثر المقالات فضائحية في مجلته والتي اكسبت المجلة انذاك هويتها كمجلة فضائح تعتمد على الابتزاز بدرجة اساسية ... ولشدة دهشتي قدمت لي غادة حيدر نسخة من كتابها الجديد " اللي استحوا ماتوا ... فصل من سيرة غسان زكريا الصحافية " الذي صدر في لندن عن دار زوراكيا للنشر وهي دار قالت غادة انها أسستها في العاصمة البريطانية مؤخرا .

تتصدر غلاف الكتاب رسمة لغسان زكريا وهو يضع قبعة امريكية على راس ابنته أور نينا ... وقد سألت غادة حيدر عن مغزى هذه الرسمة وهذا الغلاف فقالت ان الغلاف يلخص مسيرة غسان زكريا الصحافية والتي تقوم على حد قولها على ثلاثة محاور هي : الابتزاز والتجسس والتجارة والهتك بالاعراض ... وتقول ان معظم القضايا التي رفعت على غسان زكريا في المحاكم واخرها القضية التي رفعها وربحها الصحافي جهاد الخازن الذي اتهمه غسان زكريا بالقوادة للامير خالد بن سلطان .... وتضيف غادة التي كانت صديقة مقربة من أورنينا بحكم عملها مع ابيها غسان ان صور اورنينا نشرت في مجلة سوراقيا بسبب وبدون سبب اكثر من صور صاحب المجلة نفسه ... وقالت ان اصرار غسان انذاك على نشر صور بناته وزوجته ليلى في المجلة دون سبب يذكر كان من بين اسباب الخلاف الذي وقع بينه وبين غادة حيدر ... والذي انتهى باستقالة غادة من سوراقيا والتحاقها بجريدة اسبوعية تخصصت في الهجوم على شمس الدين الفاسي والصحف التي اصدرها او مولها في لندن وعلى راسها مجلة سوراقيا .

والممتع في كتاب " غادة حيدر " الجديد أنه يتناول فضائح العمل الصحافي واسراره في اوروبا من خلال تتبع مسيرة غسان زكريا الصحافية منذ ان عمل في التجسس لمخابرات عديله عبد الحميد السراج الى ان اصبح يتجسس لمن يدفع اكثر خلال عمله في مجلة الدستور التي اصدرتها المخابرات العراقية في لندن ... ثم بعد ان اصدر مجلته " سوراقيا " باموال حصل عليها من عدة مصادر مشبوهة كان اهمها الامير تركي والشيخ الفاسي ... ولعل هذا يفسر ظهور صور الامير وزوجته هند وجميع اولادها وبناتها في مجلة سوراقيا بمناسبة ودون مناسبة مع ان سوراقيا ليست مجلة " اجتماعيات " بل هي مجلة سياسية كما يقول صاحبها .... والطريف ان غسان زكريا انقلب على عديله بعد ان طلق غسان زوجته الاولى فاصدر كتابا بعنوان " السلطان الاحمر " اتهم فيه عديله عبد الحميد السراج الذي حكم سوريا في عهد الوحدة بأنه كان يعمل حارسا لمحل الدعارة في حلب .... ومن يقرأ مقالات غسان في مجلته سيجد الكثير من هذه الاتهامات التي يوجهها لخصومه فكلهم قوادون وكلهم يقودون على زوجاتهم ... بل وتباهى غسان في احدى مقالاته بأنه اعتاد مواقعة الخصوم من الخلف وان ركبهم احمرت من الركوع امامه اثناء قيامه بالفعل الجنسي بهم ...الخ .

وكمحاولة منها لتحليل شخصية غسان زكريا الانتهازية ... حاولت غادة حيدر في الفصل الاول من الكتاب رسم صورة مقربة عن غسان زكريا ... حين كتبت تقول : "
من يدخل الى مكتب غسان زكريا في العمارة التي اشتراها باموال الامير تركي في جزيرة الكلاب بلندن وجعلها وكرا لمجلته ستواجهه صورة زيتية لزكريا وهو يركب صهوة فرس ابيض كما نبلاء بريطانيا وفرسانها, ليس لانه فارس مغوار, فهو لم يركب في حياته حتى حمارا وانما فقط لانه مصاب بمرض نفسي اسمه الاحساس بالعظمة, وهو تعبير عن نقص عانى منه المذكور بين اقرانه وظل على هامش الحياة, لا يجد نفسه الا في اعمال المخبرين, وهذه هي مهمته الاساسية التي قام بها في زمن السراج وظل بعد ذلك يقوم بها وهو (اجير) لسليم اللوزي قبل ان (ينط) الى لندن فيحترف مهنة التسول ويعتاش على فتات موائد شمس الدين الفاسي, الذي هو -بدوره- يعتاش على فتات الاخرين.

تضيف غادة حيدر : "نجح غسان زكريا في ان يصبح (فارسا) ولكن لحمار اسمه (سوراقيا), مطبوعة قامت وتقوم على اكتاف عدد من الكتاب والصحفيين المحترفين من ذوي المبادئ, استغلهم غسان لابتزاز الاخرين افرادا ودولا وشركات وحكومات, وخرجو -كلهم- من (المولد بلا حمص), اللهم الا بسمعة (وسخة) جعلتهم في القوائم السوداء لاكثر من قطر عربي, ومعظمهم لم يحصلوا من غسان حتى على مرتباتهم الضئيلة, التي كان يسرقها منهم ويكنزها في بنوك خارجية ويحولها الى عقارات وسيارات وارصدة لم تنجح في ان تجعل من هذا التافه رجل اعلام او رجل صحافة او رجل مجتمع

ولد غسان احمد وصفي زكريا في الثلاثينات من اب (شركسي) عمل في عدة وظائف حكومية قبل ان يتوفى عام 1964 عن 75 عاما, وهو مهندس زراعي تخرج من المدرسة الزراعية في استانبول عام 1912 وعمل مدرسا للزراعة في مدرسة سلمية ومفتشا لاملاك الدولة في سورية حتى 1933 ثم مستشارا زراعيا لليمن والعراق والاردن ومفتشا عاما للزراعة في سورية الى ان تقاعد عام 1950 , وقد حاول ولده غسان ان يبتز اليمنيين ولهذه قصة جديرة بان تروى فيما بعد !!

احترف العمل (المخابراتي) منذ كان طالبا في الجامعة الامريكية في بيروت, يدرس التاريخ في النهار ويكتب التقارير في الليل, وكان واحدا من ثلاثة مخبرين غرسهم عديله عبد الحميد السراج في بيروت للتجسس على القوميين الاجتماعيين في لبنان, طلعت صدقي, الضابط في الاستخبارات السورية وبرهان ادهم, الذي تولى رئاسة المكتب الخاص للشؤون اللبنانية الذي شكله عبد الحميد سراج, لكن (زكريا) كان اكثرهم حظوة لدى السراج, فهو عديله, وهو الى جانب ذلك صحافي, تولى ادارة شؤون جريدة القبس من خالته (راسمة) ارملة نجيب الريسوهو ايضا -وهو الاهم- دعي, قادر على اقناع القوميين الاجتماعيين انه احرص على الحزب من انطوان سعادة نفسه!!! وهذه (خصلة) تميز المذكور حتى كتابة هذه السطور, حيث يجعل علاقته بالحزب (غطاء) يتستر تحته ويبتز باسمه ويضرب بسيفه, مما جعل جميع الذين يحترمون انفسهم من القوميين يقاطعون منشوره وكان آخرهم (جان دايه) الذي (تلوث ) بعد ارتباطه بسوراقيا ... ولهذه الحكاية (حكاية) سنرويها فيما بعد.

عرف زعران دمشق (غسان زكريا) -الشاب الشركسي الاشقر- من صولاته وجولاته في خمارات المدينة وحاناتها التي يتردد عليها المثقفون والحزبيون, وكانت علاقة زكريا -انذاك- بالسفارة الامريكية جد معروفة, حيث كان زكريا (مخبرا) في السفارة المذكورة يقدم تقاريره اليومية عن النشاط السياسي والحزبي والعسكري في البلاد للسفير الامريكي في دمشق جيمس موس من خلال مساعدته (فرنسيس سيموبولوس), التي اتخذت من زكريا عميلا وعشيقا تتلقى منه في الفراش ما كانت تتلقاه الجاسوسة الحسناء (كريستين كيلر) من وزير الدفاع البريطاني, وكان زكريا هو حلقة الوصل بين عدد من الدبلوماسيين ورجال الاعمال والسفارة الامريكية, نذكر منهم الدبلوماسي نهاد ابراهيم باشا ورياض ابو السعود وزهير الشطي وانطون مشاقة, وكانت جلسات هؤلاء واحاديثهم ونشاطاتهم واخبارهم واخبار ما يعرفون تنقل اولا باول الى السفارة الامريكية من خلال الشاب الاشقر, الذي كان يفتح بيته قبالة قصر حالد العظم في ساحة ابي العلا في حي ابو رمانة لزيارات (الشباب) الذين كانوا يقضون اوقاتا مسلية مع الشاب الاشقر وشقيقاته!!! ... وهم يتونسون... وهو يجمع منهم ما تيسر من اخبار.

تضيف غادة حيدر :لم يكن نفوذ المخبر غسان زكريا -آنذاك- يزيد عن نشاطاته الاستخباراتية العادية, المعروفة لدى الشباب في دمشق, وكان رواد نادي (مطار المزة)-وكان آنذاك من اشهر النوادي الليلية في دمشق- يرون غسان وهو يتردد على النادي يوميا, يجلس في زاويته ليستمع باذنه اليمنى الى فرقة (نينوباليرمو) الموسيقية ويترك اذنه اليسرى ليسترق بها السمع هنا وهناك, حيث كان النادي محطة لانظار السياسيين ومكانا لاجتماعاتهم, فيه يلتقي اديب الشيشكلي بعصام المحايدي بصبحي فرحات بحسن عطار بعبدالله محسن. وفي هذا المطعم نجح غسان زكريا في اصطياد عبد الحميد السراج, الضابط الشاب, الهادئ, الذي كان يصعد في سلم الشهرة بسرعة و ولان انف السفارة الامريكية لا يخطئ فقد (شمت) رائحة الخطر المحدق بالوجود الامريكي في المنطقة جراء اتساع نفوذ وشعبية عبد الناصر وتعلق الضابط الشاب في سوريا به, وكان (السراج) واحدا من الضباط الذين يجاهرون بالولاء لعبد الناصر, لذا لم يكن عجيبا ولا غريبا ان يطلب غسان زكريا من فؤاد غميان -صاحب المطعم- ان يقدمه الى عبد الحميد السراج, ولم يكن مدهشا ايضا ان يزوجه (ملك) اخت شقيقته, ليحكم -مع السراج- من وراء الستار!!

لم يكن (شكل) غسان زكريا جديدا على عبد الحميد السراج, فقد كان السراج يراه -يوم كان السراج دركيا وحارسا لسوق البحسيتا بحلب- يدلف مع بعض الرجال الى السوق, حيث مضاجع بنات الهوى وغلمان الهوى ايضا, وكانت (حلاوة) هذا الشاب الاشقر تثير آنذاك حسد بائعات الهوى لما رأين ان هذا الشاب القادم من دمشق يسرق منهن الزبائن, وهناك -في حلب- تعرف غسان زكريا بزوجته الاولى الكردية الاصل ابنة (علي آغا زلفو) وشقيقتها (ملك) التي اسرت قلب عبد الحميد السراج -بعد ذلك- واصبحت سيدة سورية الاولى طوال حكم عبد الناصر.

لم يكن السراج يثق الا بزوجته وانسبائه فطبيعة النظام القائم آنذاك كان يحتم عليه ان يكون حريصا, فالضباط القوميون يتكاثرون في اوساط الجيش والانقلابات العسكرية المتعاقبة بدءا بانقلاب حسني الزعيم في عام 1949 افقدت الحياة التشريعية والتنفيذية والقضائية استقرارها واصبحت ابواب البلاد مشرعة لكل الاحتمالات وفي ظل هذا المناخ بدأ (حزب الشعب) يتحرك في اوساط العسكريين ممثلا بسامي الحناوي ورشدي الكيخيا, وكان هذا الحزب يدعو الى الوحدة مع العراق وكانت علاقة اللواء الحناوي مع نوري السعيد اكثر من وثيقة, ولم يكن عبد الناصر راضيا عن هذه العلاقة, وكان يرى فيها امتدادا للنفوذ البريطاني في المنطقة, الداعم آنذاك لحكومة نوري السعيد, وفي المقابل كان البعثيون يعارضون هذا التوجه ويعتبرونه عودة الى الاستعمار تحت شعار الوحدة وكان البعثيون يتهمون الضالعين برفع شعار الوحدة مع العراق بالتجسس, واستطاعوا ان يدفعوا ببعض ضباطهم الى الصفوف الاولى في سدة الحكم, على رأسهم العقيد عدنان المالكي, الذي (فرمل) نفوذ الضباط الموالين للحناوي في الجيش من خلال حركة تنقلات واسعة اجراها في صفوفه بصفته رئيس الشعبة الاولى (الاركان), وجاءت حادثة اغتيال عدنان المالكي في الملعب البلدي بدمشق (بعد ظهر يوم الجمعة 22 من نيسان ابريل 1955) لتدفع بالسراج الى الصفوف الاولى في القيادة ولترفعه الى مصاف الفئة الحاكمة المتحكمة... ورفع -معه طبعا- الشاب الشركسي الاشقر الذي كان السراج يستأنس اليه كثيرا ويستلطفه!!!

كانت المواجهة مع الحركة السورية القومية التي اتهمت بجريمة اغتيال عدنان المالكي مواجهة دامية قادها عبد الحميد السراج الذي كان الحاكم الفعلي لسوريا اعتبارا من نيسان ابريل 1955 وحتى ايلول سبتمبر 1961, ولم تكن المواجهة سهلة, فالخصم حزب مدرب يتطلع بطموح الى تسلم انظمة الحكم في المنطقة واعادة تشكيلها ضمن رؤية خاصة وجدت تجاوبا لدى قطاع كبير من المثقفين, والحاكم رجل عسكري محافظ كان يرأس الاستخبارات العسكرية (المكتب الثاني) في سوريا يدعمه جمال عبد الناصر.

في اطار تصفية للخلافات العائلية بين غسان زكريا وعديله السابق عبد الحميد السراج -الذي يرأس حاليا شركات التأمين في مصر والذي قيل انه رفض دعم غسان زكريا في مشوره الصحفي الابتزازي وطرد ابنته (ابنة غسان) من زوجته الاولى (شقيقة ملك) لما حملت اليه طلب والدها المتصعلك في لندن-, اصدر غسان زكريا كتابا بعنوان (السلطان الاحمر) نشره على حلقات في سوراقيا ثم جمعه في كتاب طرحه في اسواق لندن فلم يجد من يشتريه لان صاحبه (قزم) التاريخ وزور فيه ومسخه, وابس نفسه وعديله السابق عباءة واسعة فضفاضة, جعلتهما احد صناع التاريخ في الشرق القديم وان كانغسان زكريا قد انقلب في رواياته على عديله, فجعله سفاحا... ووضع نفسه في مقابل السفاح رجل فكر وسياسة والتزام ومبادئ يخاصم عديله (الحاكم بأمره) من اجل فكر وحرية واستقلال, وهو الموظف الصغير في جهاز الاستخبارات, الذي غرسه السراج في اوساط السوريين القوميين يفعل بهم ما يفعل... ولا يزال.

في الفصل الخاص بنشأة السراج والذي سماه غسان زكريا (حارس البحستيا) شطب زكريا اية علاقة له بمواخير حلب, واكتفى بالاشارة الى دور السراج كدركي يحرس السوق العمومي, بل واتهمه بعلاقة مع مومس من هذا السوق اسمها (ناديا), نقلها معه الى دمشق وعاشرها معاشرة الازواج في شقته المتواضعة في الزقاق الصغير المتفرع عن شارع 29 ايار بمنطقة الصالحية في دمشق وقتلها عام 1959 على ضفة نهر بانياس المتفرع من بردى!!... الذي عرفوا غسان زكريا آنذاك قالوا ان ناديا كانت تنافس غسان على قلب السراج, الذي وجد في هذا الشاب الاشقر حاجته, فما عاد له من حاجة مع ناديا... ويقال: ان غسان زكريا هو الذي ابلغ عن فقدان (ناديا) وهو الذي اكتشف جثتها على النهر!!

لم يكن عبد الحميد السراج سيئا, على صعيد وطني, فغسان زكريا نفسه يعترف بان السراج كان ناقما على حكام سوريا لانهم حرموه من حق القتال في فلسطين, والسراج -كما ورد في السيرة التي خطها غسان رمم الجراحة التبشيعية التي اجراها على صاحب السيرة- رجل عصامي, دخل الشرطة كدركي في حلب, وحضر لامتحان البكالوريا وهو في الخدمة وانتسب الى الكلية العسكرية في عام 1947, وكان على رأس الشباب الحمويين الذين طلبوا الالتحاق بجيش الانقاذ للقتال في فلسطين, لكن السراج من موقعه في الحكم ومن تحالفاته مع عبد الناصر وجد نفسه في معركة حياة او موت مع حزب قوي قادر على التأثير بالجماهير, لذا امر بمداهمة منزل (جوليات المر) ارملة انطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وطارد جورج عبد المسيح -زعيم الحزب آنذاك- الذي نجح في الفرار من دمشق وصفى نفوذ الحزب السيوعي بعد مقتل فرج الله الحلو, لكن القوميين نقلوا حربهم الى لبنان, مستغلين روح العداء بين (ناصر) و (شمعون) فاصدروا صحفهم اللاهية (صدى لبنان) و (الزوابع) وغيرها, وكانت منشوراتهم ترسل على ظهور الحمير والبغال عبر منحدرات بعلبك وسهل الزيداني وسرغايا لتوزع في دمشق.

غسان يعترف في كتابه ان تسرب هذه النشرات الى دمشق كان يقض مضجع عبد الحميد السراج فحار كيف يمنع تسربها, لكن (زكريا) لم يذكر في الكتاب انه كان واحدا من الجواسيس الذين غرسهم السراج في بيروت لكتابة التقارير ورصد انشطة القوميين والايعاز بما يمكن عمله لمحاصرتهم, وتمت عملية تهريب غسان زكريا الى بيروت من خلال سيناريو كتبه عبد الحميد السراج !!


الجاسوس
-----


كان عبد الحميد السراج يعلم ان مهمة (غرس) جاسوس له في صفوف السوريين الاجتماعيين النشطين في بيروت ليست عملية سهلة, اولا لانه يصعب ايجاد (العميل) المناسب, القادر على آداء الدور بالكامل وثانيا لان السوريين الاجتماعيين انفسهم عيونا داخل اجهزة السراج, لذا تفتقت عبقرية السراج عن سيناريو يقوم ببطولته الاشقر غسان زكريا, وكانت الخطة تقوم على ايهام السوريين الاجتماعيين بوجود خلافات عائلية بين السراج وغسان على ارضية انتماء الثاني للحزب, ثم التمهيد لفرار المذكور الى بيروت ضمن مسرحية ايضا فيها الكثير من الدراما!

في شمس الخامس والعشرين من تموز يوليو 1955 بدأ غسان زكريا ينفذ السيناريو بالتعاون مع شقيق زوجته (خالد)... بعث السراج بعدد من عناصر المكتب الثاني -الاستخبارات- الى الحارة التي يسكن فيها غسان (الطابق الارضي من مبنى مفيد الحسيني) الكائن بشارع ركن الدين, ليوهم سكان الحي بان زكريا مطلوب... كما بعث بعدد مماثل من المخبرين الى بنك لقاهرة في ساحة يوسف العظمة في منطقة الحريقة, حيث يعمل غسان زكريا, لتنتشر (الاشاعة) في دمشق وتصل فورا الى بيروت... غسان زكريا مطلوب لمخابرات عبد الحميد السراح ... كان السيناريو متقنا لعب فيه السراج دورا, ولعبت فيه زوجته ملك دورا, وقامي بالباقي غسان وشقيق زوجته (عديل السراج) خالد... كانت الاسرة كلها مشتركة في السيناريو لان نجاح غسان في مهمته هو نجاح للاسرة في الاستيلاء على الحكم والبطش بالمعارضين المحتملين في صفوف الحزب.

الحكاية بعد ذلك معروفة رواها غسن في كتابه عن (السلطان الاحمر) مع الكثير من البهارات حتى يبدو في صورة مناضل, كاسترو عصره وزمانه, ولنتركه يكمل المشهد الثاني من الفيلم:

"تسلقت الجدار العالي الفاصل بين البيت والحديقة المتصلة بشارع ركن الدين ووليت الادبار متجها نحو منطقة الحريقة حيث كان فرع البنك في ساحة يوسف العظمة... لم يبطئ زوار الفجر قبل ان يطرقوا الباب فتحته (ملك) زوجة السراج فدهش ابراهيم ظاظا لما رآها تستقبله, انعقدت الكلمات على لسانه برهات ثم بادرها متسائلا:"ماذا تفعلين هنا؟" فتجمع الحنق في صوتها :" الا تدري ان الذي جئت تطلبه هو صهري زوج اختي".

علا وجه الرجل حياء غريب وبدأ يتوسل الاعذار وادعى انه لم يكن يعرف ذلك ثم عاد يسألها عني فاجابته انني مسافر منذ اربعة ايام لذلك جاءت الى شقيقتها لتبقى معها فلا تتركها في البيت وحدها اثناء غيابي واتبعت ذلك بان دعته لتفتيش البيت فاعرض واعتذر ومشى... وصلت الى البنك وانا الهث, طوال الطريق تجنبت السير في وسط الرصيف, فسرت بمحاذاة الابنية فزعا من ان يخطفني من وسط الرصيف من يترصدني لاعتقالي, فلا يترك لي مجالا للهرب الى داخل البنايات او المحلات التجارية الكبرى.

آخر ما كنت اتوقعه وانا جالس على مكتبي, زائغ العينين, انظر بين الفينةوالفينة الى باب البنك بلهفة, ثم انقله الى الساعة الكبيرة المسمرة على وسط الجدار امامي, فبدت كأنها عين مارد يهددني ويعد لي الدقائق والثواني لحريتي ام اسري, ان يطلع علي صوت مساعد مدير البنك نزار الصباغ (الماركسي الحاقد على الانجليز لانهم سلموا والده الى الوصي على العرش العراقي عبد الاله ورئيس وزرائه نوري السعيد, فاعدم في ساحة الرشيد بتهمة الخيانة العظمى) مهددا ومتوعدا, يكيل لي التهم ويصفني في عداد المتآمرين على سلامة الدولة, مؤكدا في شبه يقين علاقة القوميين الاجتماعيين بالغرب, وان واشنطن ولندن والقوميين قتلة عدنان المالكي.

لقد كان نزار الصباغ يردد كلاما لاكته السن العامة ضمن الحملة المسعورة المدبرة والمنظمة التي كتبها الشيوعيون "الحورانيون" على حناجرهم وفي منشوراتهم وتصريحاتهم ضد القوميين الاجتماعيين, فجاهدت النفس ان لا اعيره اهتماما, تركته يغلي ويفور واقحمت عيني في اعمدة جريدة كانت مرمية على المكتب, فقلبتها بسرعة, مصطنعا قراءتها... اتحايل, فاسترق النظر مرة الى الساعة ... و... مرات الى باب البنك الرئيسي اترقب بصبر دخول خالد لينتشلني من بين براثن الاسر.

خواطر كالومض مرت مختلطة في رأسي... فتهالكت على الكرسي متعبا, وما شعرت الا بيد تربت على كتفي فانتفضت فاذا به خالد زلفو, شقيق زوجتي, فتناولت حقيبة جلدية صغيرة القمتها بطاقة الهوية, لم استأذن من احد لم اودع احد... رميت نظرة اخيرة على مكتبي وخرجت يلحق بي شقيق زوجتي, كنت وقتها اهرب من سجن المزة الى ... الحرية.

طريق دمشق-بيروت كانت مزروعة بالعيون المسنونة, فلقد بث عبد الحميد السراج جواسيسه يترصدون الطرقات, كأنه ما اكتفى بآلاف الذين اودعهم السجون والمعتقلات فاخذ يطلب المزيد.

اقترح علي خالد , ان نتسلق جبل الشيخ الى لبنان, خطف كلامة بسرعة ولم يترك لي مجال للتفكير, اذعنت صاغرا, فكل ما اريده في تلك اللحظات ان اجد من يضيئ في مقلتي الامل بالافلات من قبضة عبد الحميد السراج القاتلة.
سارعنا الى مرآب سيارات القنيطرة (قبل سقوطها في الاحتلال الاسرائيلي باثني عشر عاما) لم نجد الا باصا صغيرا, كان شرط سائقه ان ندفع له سبع عشرة ليرة سورية سلفا قبل ان يدير محركه, فما ان القم جيبه بالمال حتى مضى باتجاه الجنوب الغربي.

كان الباص يطير فوق الطرقات السنجابية, الاشجار والبيوت تركض في الاتجاه المضاد لنا, السرعة الانسيابية انعشت قلبي الكسير, فمددت رأسي من النافذة وتركت الهواء يلطم وجهي, اطلت علينا من بعيد ضاحية "المزة" وسجنها العسكري الرابض على ذروة هضبة فيها, لي خلف جدرانه احبة, سياط الجلادين تنزل على اجسادهم, فمطار دمشق القديم, فالسهول والهضاب المترامية الاطراف, فتل "الكواكب" حيث نزلت الرؤيا على الضابط الروماني شاوول, الذي اصبح بول الرسول فيلسوف المسيحية... ومنه مررنا بسعسع, فامتدت امام انظارنا سهوب خضر وحصون وستحكامات ومخابئ ومرابض المدفعية التي كانت تشكل خطوط دفاع سورية الخلفية...

ردني اختناق صوت المحرك الى رشدي, فقد وصلنا الى مزرعة "الحلس" التي كانت بعض املاك علي زلفو (والد زوجتي) الزراعية الواسعة, فدخلنا, خالد وانا وعر الجولان سيرا على الاقدام, بعد ساعة بلغنا مساكن فلاحي المزرعة الذين تراكضوا الينا مرحبين , بنجل الاغا وصهره.

كان النهار قد انتصف, وعيون الشمس المحمرة تلسعنا بحرارنها, فتطوع احد الفلاحين, كان اسمه محمود, ان يكون دليلنا الى قرية "الدوار" المختبئة في السفح الجنوبي من جبل حرمون (الشيخ) على ارتفاع 2200 قدم عن سطح البحر, فقد شرح خالد له بانه يريد التسلق الى "الدوار" هربا من ابيه الآغا الغاضب عليه بسبب مشاكساته!!

مشيت خلفهما صعدا, غير مبال بالحصى المتناثر تحت رجلي, ولا اعطيت بالا لوعر او لصخر, او لجرح في ركبتي بدا ينزف لما ارتطمت بصخرة تسلقتها, كان دليلنا محمود قصير القامة, نحيف البنية, دقيق الساقين, سريع العدو والتسلق فهو الف منذ صغره الوعر والصخور وحفظ الدرب الى "الدوار" عن ظهر قلب, فامكنه ان يختصر لنا الدرب ويخفف عنا صعوبة التسلق.

كانت الشمس قد نشرت الوية المغيب لم علقت قلوبنا على مشارف "الدوار", وقفت التقط انفاسي اتفقد الجرح النازف في ركبتي, فشدني خالد بذراعي نحو بيت المختار ابو عزالدين.

اشرأبت اعناق من في البيت نحو الباب, ووقفت انظارهم علينا, ولم تمض دقيقة على جلوسنا, حتى سد الباب رجل مربوع القامة,بدين, عريض المنكبين واسع الصدر ضخمه, عرف ابن الآغا, فلف عباءته وارخى جفنيه وحتى رأسه.
"يا هلا ياهلا .. ما وراءك يا سيدنا"
"ما ورائي الا الخير يا مختار"

ما كاد خالد ان ينهي كلامه, حتى اومأ المختار, ان احضروا العشاء. فانتصب خالد واقفا منتحلا الاعذار, بضرورة مغادرتنا بسرعة لانه يخشى ان يتعقبه والده الآغا, وبلباقة دغدغ شعور المختار فبدا زاهيا متفاخرا اذ قال له:
"اعرف ان والدي يصطفيك من بين الاخرين, ولذلك له دالة عليك يا ايا عزالدين, فلا اريد ان اوقعك في حرج معه, فمشكلتي مع كبيرة.. فاتركنا نتابع سيرنا الى "شبعا" في المقلب اللبناني من حرمون وهناك نتدبر امرنا الى بيروت, ولقد تركت لشقيقي الاكبر معن امر تدبير الاشكال وتسويته بيني وبين والدي".
رافقنا صوت المختار حتى منتصف الدرب, حتى اختفى, واختفت معه "الدوار" خلفنا, ونحن نتسلق الصخور فيتدحرج الحصى وراء دعساتنا.

اذكر جيدا, لما مالت الشمس نحو المغيب, كيف انها تركت اشعتها المرتجفة وسط حبال النور, تذهب تلال فلسطين, حت اسرح نظري فيها, ارتاح مسندا ظهري المتعب على صخر اجرد, فيقطع صوت خالد علي نشوتي بالمنظر فاعود امد يدي الى الصخور... واتسلق.

بدأ البرد يسكب في جسدي ارتعاشات رقيقة, واخذ التعب مني مأخذا, وكلما كنا نصل الى جبل ترامت امامنا جبال, وكلما بلغنا قمة اطلت علينا قمم اخرى, وانتصف الليل بنا لا يقلق سكونه سوى هسيس النسيم البارد وصوت طائر ضل مرقده.

تبدى القمر بدرا, من خلال السحب المنتشرة في اعالي الهضاب المتصلة بجبل حرمون, فارسل انواره تتدحرج ببطء على الصخور, فتلقي ظلالها القاتمة تؤلف اشكالا غريبة, تكبر وتصغر, تنفرج وتضيق, تبعا لمرور السحب امام ضوء القمر, فسمعنا فجأة اصواتا بشرية ونهيق حمير وبغال, فكمنا خلف صخرة كبيرة نستطلع, خشيت دسيسة دبرها علينا في دمشق احدهم, فاقامت الشرطة العسكرية السورية موقعا لها في قلعة شيبوب المجاورة لقصر عنتر, والموقعان استعملا في العهود الوسطية كمركز مراقبة واشارية نارية لانذار دمشق من زحف غريب عليها من سهول فلسطين, فيما المؤرخون يعيدون القلعة والقصر الى العصر الآرامي فالكنعاني, حيث كان يعبد فيهما الاله حدد, فتقوم عذارى كنعان وارام بتقديم انفسهن للكهنة في عملية عطاء جنسي تأكيدا لاستمرار الخصب وغسل الذنوب!!

بدت لنا في وسط الوادي مجموعة من الفلاحين اللبنانيين والسوريين, كانوا اوقدوا نارا واكلوا شواء صيدهم, فيما دوابهم ترتاح قبل متابعة السير, فاقترب مني محمود وبصق حنقا وشتم, ومن دون ان اسأل قال: "هؤلاء من قومي يتعاملون مع اليهود, يهربون البضائع منهم واليهم, وهم الان اما في طريقهم الى قراهم او الى فلسطين المحتلة".

انتظرنا فترة ظننتها دهرا, كان هذا الانتظار الممض اصعب علي من كل الارهاب الذي عشته في دمشق والارهاق الذي حل بي وانا اتسلق كتلة صخرية يزيد ارتفاعها عن 3000 قدم عن سطح البحر.

كان ما تبقى من الثلج في الجبل يتكوم على شكل دوائر بيضاء مرمية تحت الصخور ... لم اعد اقوى على تحمل البرد ينخر عظمي, وكان قد حل بي الاعياء فانطرحت على وجهي لا اعي وما استفقت الا وخالد يلطمني على وجنتي ومحمود يفرك يدي ليدفئها.

بقرب قصر شيبوب بدأت رحلة الهبوط (حوالي 2000 قدم) الى "شبعا" (التي تحاصرها قوات اسرائيل هذه الايام) فشعرت انني ملكت الحرية, انني ارتديتها معطفا يقيني من البرد ودرعا على صدري يحميني من الخوف, حتى ان رفيقي في رحلة التسلق والهبوط ما عادا يلحقان بي, صرت ارمي بنفسي على الصخور والحصى, صرت اتدحرج معها اتنشق هواء الحرية بعيدا عن عنف عبد الحميد السراج وارهابه.

كان الفجر قد بدأ يلقي وشاحه على "شبعا" دافعا امامه نسيما باردا, فتراءى لي من بعيد بستان تفاح, فركضت نحوه والجوع يعتصرني وبدأت بقطف حبات التفاح غير مبال بالمواد الكيماوية التي كانت رشت عليها, ثم جلست على كعب شجرة... ارتاح, فاذا بصاحب البستان يطل علينا مستفسرا عمن نكون, ولما عرف فينا ابن الآغا افسح لنا طريق بيته.

ما ان جلس بيننا يسكب لنا القهوة مرة من دل بقي يفقفق على نار هادئة, حتى دخل علينا ثلاثة شبان, قدمنا مختار "شبعا" اليهم باننا :" ابن الآغا علي زلفو وصهره ودليلهما", جلسوا حلقة حولنا, يرمون على وجوهنا نظرات موشاة بالريبة والتوجس, وبعد ان ساد السكوت حرك اكبر الشبان الثلاثة سنا كتفيه, وكان في العقد الثالث من سنيه, ورفع رأسه قليلا وقال مستخرجا كلامه من كعب الذاكرة:
"الست غسان زكريا؟"
تمليت وجهه بسرعة واجبت:
"نعم انا هو"
"انسيتني"
لملم حيرتي المرتسمة على وجهي وتابع:
"انا كنت في عداد الذين مكثوا في بيتك في دمشق ثلاثة ايام ايام الانتخابات النيابية عام 1954"
فجأة بان وجهه اليفا وعرفته, فبدأ يروي كيف كان بيتي في دمشق عامذاك, مفتوحا ليل نهار لمئات الاتين من الوطن الكبير لدعم ترشيح عصام المحايري وعبدالله محسن خلال الحقبة الشيشكلية, ولما انس مني اخذ يخبرنا ان الشرطة السورية اقامت مرصدا على قمة الجبل بين قلعة شيبوب وقصر عنتر لمراقبة المتسللين من الشام الى لبنان, وانه في الثاني والعشرين من تموز تمكن النقيب فضل الله ابو منصور على صهوة فرسه من ان يعبر ومعه مرافقان , اصيبا بجروح من رشاشات اطلقهما عليهما الجنود الذين كانوا طاردوهما مع النقيب من سفح الجبل الى ذروته فاعتقل الجريحان" اما فضل الله ابو منصور فقد نزل الينا واوصاناه الى مرجعيون ومنها الى صيدا وهو الان في بيروت".

احسست بالراحة واني بين اهلي وعشيرتي, ولم تمض ساعة حتى كنا نحن ايضا في الطريق الى مرجعيون ومنها الى صيدا حتى وصلنا بيروت في الخامسة مساء, فتوجهت مباشرة الى مركز الحزب السوري القومي الاجتماعي في مبنى العازارية الضخم, حيث استقبلني جبران جريح وكان عميدا للداخلية في الحزب, قدمت له تقريرا عن الذي حصل وكيف تسللت من دمشق الى بيروت, اخبرته بما يفعله السراج واعوانه بالقوميين, الذين يذهبون الى السجون ويلاقون اصناف التعذيب ضحايا لمؤامرة لم تكشف ابعادها بعد.

ودعته لاتدبر امري, فاذا بي وجها لوجه مع الراحل سعيد تقي الدين, الذي فوجئ بمآي في بيروت, فامسك بيدي وادخلني الى مكتبه حيث كان وكيلا لعميد الاذاعة, عصام المحايري المرمي في سجن المزة العسكري, يعاني الامرين من جلاده الوكيل في الجيش السوري ماجد شاكر, الذي كان رئيس الشرطة العسكرية اكرم الديري قد اوكله امر التفنن في تعذيبه ليل نهار.

كرت اسئلة سعيد تقي الدين: كيف.. وماذا... واين .. ومتى؟ يقف مني على ادنى التفاصيل, يمتص لفافات التبغ الواحدة بعد الاخرى, يرمي اعقابها بعصبية في صحن الدخان.

ذكرت له كل ما اعرف, استمهلني سعيد برهات, خرج من المكتب وبيده ورقة عليها افتتاحية لجريدة "صدى لبنان" عاد, فرآني اشبك عشري على رأسي وقد ارخيته على المكتب ونمت فتركني هكذا حتى الصباح.

الذي لم يقله غسان زكريا في (روايته) ان علامات الاستفهام الكثيرة احاطت عملية هروبه من دمشق الى بيروت.. الذي لم يقله غسان زكريا هو ان (جبران جريج) -وزير الداخلية في الحزب- قد حقق معه مطولا حول وقائع كثيرة وطلب منه اجابات اكثر من علامات استفهام ظلت قائمة... الذي لم يقله غسان ان الحزب وضعه تحت المراقبة 24 ساعة لمدة ستة اشهر هي المدة التي قضاها في بيروت متجسسا على الحزب ورجالاته قبل ان تصدر اليه الاوامر بالعودة الى دمشق... كانت مهمة غسان زكريا في بيروت صعبة بعض الشيئ.. كان عليه ان يوقع باخطر رجلين في الحزب هما سعيد تقي الدين وغسان جديد... الاول كان مسؤولا عن اذاعة الحزب, التي كانت تشن حملة شعواء على النظام الحاكم في سوريا... وتصدر المناشير التي تطبع في بيروت وتنقل على ظهور البغال الى دمشق لتوزع فيها, والثاني (غسان جديد) ضابط مشهور بالشجاعة قاد معارك باسلة في فلسطين عام 1948 استحق على اثرها وسام (امية).

كانت مهمة غسان في بيروت مهمة استخبارية بالدرجة الاولى, اما التنفيذ فكان موكولا لاثنين من رجال السراج كان قد غرسهما في بيروت , الاول (طلعت صدقي) والثاني (برهان ادهم).

تجنبا للشبهة كانت تقارير غسان زكريا ترسل بالبريد العادي الى عنوان في دمشق, في تقاريره وصف غسان الاماكن التي يتردد عليها سعيد تقي الدين وغسان جديد وحدد مقهى (لاروندا) -في ساحة البرج- كمكان مناسب للقيام بعملية اختطاف الرجلين, واقترح الاتصال بمشهود دندش ليرتب العملية مقابل مبلغ من المال.

الحكاية بعد ذلك اوردها غسان في كتابه, بعد ان اخرج نفسه منهاطبعا... يقول غسان:" اعد السراج العدة, ارسل احد عناصره وكان حمويا (لم يعد في الذاكرة مطارح لاسمه) اوعز اليه بالاتصال بمشهور دندش وغيره من شباب الهرمل (البقاع) في محاولة لاغرائهم بالمال ليساعدوه على خطف سعيد تقي الدين وغسان جديد الى دمشق.

ماشى مشهور دندش وصحبه رسول السراج في خطته, التقوه في مقهى كان يقوم مكان "لاروندا" على زاوية الطرف الجنوبي من ساحة البرج في بيروت, سمعوا له قولته, ساوموه وساومهم حتى اتفقوا على ان يدعو مشهور دندش سعيد تقي الدين وغسان جديد الى العشاء في احد مطاعم السمك قرب بلاج "السان ميشال" , فيحضر الحموي الى المطعم ومعه مبلغ خمسين الف ليرة لبنانية (كان هذا المبلغ يعد ثروة هاتيك الايام) يسلمه فيستلم الرجلين.

دخل مشهور دندش المطعم ليلتها, وتوزع من معه وكانوا اربعين شخصا, على طاولات ركزت في زوايا المطعم الاربعة, فبدوا كانهم زبائن جالسين الى موائد الطعام, بينما انتقى دندش طاولة في وسط المطعم, فجلس اليها اربعة كانوا اشتركوا في التفاوض مع رسول السراج.

حسب الموعد المضروب دخل الحموي المطعم, فاقترب من طاولة دندش, رمى السلام, وابتسم فبان كبير الانف بارز الحاجبين, تغور تحتهما عينان واسعتان لا توحيان بالثقة, اشعث الشعر, لحظات لحق به اثنان قدمهما وجلسا, فدارت العيون على المكان بريبة وحذر, مال الحموي على مشهور دندش يسأله هامسا :"اين البضاعة؟".

رسم مشهور دندش على وجهه ابتسامة اوحت للحموي بالاطمئنان وقال:" البضاعة لن تصل الا بعد ان نشرب كأس عرق... فالليل ما زال باوله", ودارت اقداح العرق تتراقص بين الاصابع, ودارت معها الرؤوس ثملى, فما شعر الحموي ومن معه, الا وقد انتصف الليل وخفتت الاضواء في المطعم وتوزع "الزبائن" على بواباته شاهرين مسدساتهم, لم يقو الثلاثة على الحراك, استدار الحموي نحو مشهور دندش محاولا استجلاء الامر, فاستل دندش مسدسه من خاصرته ووضعه على الطاولة فارتد الحموي وقد بدأ الخوف يتكمش في ملامح وجهه.

فجأة دخل غسان جديد صائحا لنشرب كأس انطون سعادة , فانتفض رفيق الحموي واستدارا نحو الصوت فاذا بغسان جديد يعرفهما: النقيب راشد قطيني نائب السراج في جهاز الاستخبارات والملازم اول عبد الوهاب الخطيب ساعد السلطان الاحمر الضاربة وجلاده المفضل, خارت قوى راشد قطني وانتابت الملازم الخطيب رعدة الذعر وبدأ الاثنان يتوسلان غسان جديد , اما الحموي فقد كان ثملا فبقي جالسا لا يقوى حراكا.

فشلت مهمة غسان زكريا في بيروت واوقع (عديله) في حرج كبير جعله يطير بنفسه الى العاصة اللبنانية ليلتقي الامير مجيد ارسلان وزير الدفاع, لعله يساعد في استرداد الضابطين وكان له ما اراد, وجاءت زوجته الى بيروت لتقنعه بالعودة الى دمشق مؤكدة له ان السراج غفر له... كان زكريا خائفا, ظل السراج يسدد ايجار غرفته في نزل (اوغاريت) في ساحة الدباس ببيروت, هذا (النزل) الذي اختاره زكريا للاقامة لانه تحول الى منتدى -كما يقول زكريا نفسه- يلتقي فيه الذين افلتوا من بطش عبد الحميد السراج... كانت آخر الاخبار تصل الى النزل من دمشق فيطيرها زكريا الى دمشق مرة اخرى... الى ان صدرت الاوامر لغسان بالعودة الى دمشق.. فعاد اليها يجرر اذيال الهزيمة.

وصل غسان زكريا الى دمشق ليجد في انتظاره مهام اخرى, يساعده فيها هذه المرة نسيبه عبد الكريم الدباح الدندشي, الذي يعترف غسان نفسه انه كان يسرق اموال القوميين الاجتماعيين في البرازيل والارجنتين -حين عمل هناك بالسلك الدبلوماسي- التي كان يحملها الى عائلات الاسرى في سجون السراج في دمشق, ولكن هذه الاموال لم تصل وكان عذر الدندشي ان هذه الاموال (طارت9 وهو على ظهر الباخرة التي نقلته من مرفأ جنوا في ايطاليا الى مرفأ بيروت.


تفرد غادة حيدر في كتابها فصلا كاملا عن الدور الذي لعبه غسان زكريا في دمشق فبعد استقرار الاوضاع نسبيا لعبد الحميد السراج, جاء الدور على بطانته من الاقرباء والانسباء والاقارب ليحلبوا البلاد ويبتزوا العباد باسم قريبهم, وكان لغسان زكريا اليد الطولى في هذه المهام وهو استاذ في هذا الفن, تلقن دروسه الاولى ايام كان يتردد على سوق الساقطات وينافسهن في حلب, الى خبرته في المساومة التي اكتسبها في (نادي المزة) وكانت وظيفته في جريدة (القبس) المملوكة لخالته راسمة ارملة نجيب الريس, وتحت ستار العمل الصحافي لعب غسان زكريا ادوار استخبارية ومثلها في الابتزاز والارتزاق لعل اهمها حكايته مع (الملك حسين) وحكايته مع المغترب الامريكاني السوري الاصل نجيب منهل المعروف باسم (جيم).. الحكاية الاوليى نموذج من ادب الابتزاز السياسي... والحكاية الثانية نموذج من ادب الابتزاز المالي واستغلال النفوذ وكانت حكاية (جيم) هي القشة التي قسمت ظهر البعير في علاقة غسان زكريا بعديله عبد الحميد السراج, لان الرجلين تبادلا الاتهامات فيما يتعلق بالصفقة وبحقيبة يقال انه كان فيها مليون ليرة سورية اختفت, فيما اتهم غسان زوجة عديله (ملك) بسرقتها.

بوفاة نجيب الريس خلا مقعد التحرير في جريدة (القبس) الدمشقية ولم يكن بامكان ارملته (راسمة) ان تدير العمل في الجريدة ولم تكن امكانات الجريدة تسمح بتعيين مدير متفرغ , بينما كان ابنها (رياض) صغيرا في السن, لذا لم تجد راسمة من مفر غير تسليم رقبة الجريدة الى ابن اختها غسان زكريا, العائد من بيروت بخفي حنين, وسرعان ما اتخذ غسان مهمنة الصحافة غطاء لادارة اعماله المخابراتية وصفقات (الكوميشين) وبعض المهمات الخاصة التي كان يكلفه بها السراج والتي كان ينفذها غيان تحت غطاء انه صحافي, وكانت مهمته الى الاردن في الاردن واحدة من هذه المهمات التي تنطل على العاهل الاردني ولا على رئيس ديوانه بهجت التلهوني, وقد اعترف زكريا في كتابه بذكاء العاهل الاردني الذي اكتشف ان هذا العديل الصحافي لا بد انه جاء عمان للملمة اخبارها وحشرها في تقرير يرفعه الى نسيبه.

في عام 1957 حرك علي ابو نواردبابات باتجاه القصر في محاولة انقلابية فاشلة, قيل يومها انها مرتبطة بجمال عبد الناصر ومحركة من قبل عبد الحميد السراج, وادى فشل المحاولة الى اهتزازصورة السراج كحليف لعبد الناصر يعتمد عليه, ولم يكم امام السراج من طريقة لاستطلاع الامر عن كثب الا بتكليف عديله وجاسوسه غسان زكريا بالمهمة خاصة وانه (صحافي), والدخول الى الاردن تحت هذه الصفة لن يثير اية شبهات تذكر, تم فعلا اصدار الامر لغسان زكريا بقطع زيارته الى (جدة) والتوجه فورا الى الاردن لمقابلة الملك حسين, حمل الامر السراجي الى غسان رئيس تحرير القبس عباس الحامض, ولم تكد تمر ساعات لا ورن جرس الهاتف في غرفة غسان في فندق فيلاديلفيا بعمان.. كان على الخط رئيس الديوان بهجت التلهوني, الذي دعا (غسان) الى قصر بسمان لمقابلة الملك, وهناك لم تكن مقابلة وانما (رسالة) شفوية حملها الملك غسانا لعبد الحميد السراج... وكان الملك يعرف -من خلال اجهزته- ان الشركسي القابع امامه , عديل السراج, ليس اكثر من جاسوس في جهاز يعمل على اسقاط نظام الحكم في البلاد, وتم التعامل مع غسان -على المكشوف- بصفته هذه, ووضع تحت المراقبة ثلاثة ايام , (شمموه) فيها الهواء, وافهموه جيدا ان اية محاولة اخرى من عديله لن يكون مصيرها لا الفشل... ونقل (غسان) الرسالة الى عديله, الذي تبنى حركة (علي الحياري) لكنها ايضا باءت بالفشل وخرجت الجماهير في الشوارع تهتف للملك وتندد بالسراج!!

كان غسان يبحث لنفسه عن دور يماثل الدور الذي يلعبه الصحافي محمد حسنين هيكل في نظام عبد الناصر, لكنه فشل في اقناع السراج بانه الرجل المناسب لاداء هذا الدور, وظلت (القبس) صحيفة (قزمة) تنطق باسم جهاز الاستخبارات وتحرر في مقر الجهاز باشراف فؤاد الشايب, مسؤول الرقابة على الصحف انذاك... كان السراج يعلم ان غسان زكريا لا يصلح الا لدور مخبر صغير, ولبعض الونس في الفراش, لذا لم يطلق يده كثيرا في اي اتجاه.. كان يربطه بمن حوله من رجال ومسؤولين, ولا يعطيه من الاهمية الا ما يناسب مؤهلاته وقدراته المحدودة... كانت القبس لسان حال السراج تنقل خطبه وتغطي اخباره وتتغزل بمكارم اخلاقة!!

تناولت غادة حيدر جانبا هاما في شخصية غسان زكريا وهو جانب السمسرة ... ففي فصل بعنوان " السمسار " تقول غادة : "كانت السمسرة ولا تزال تجري في عروق غسان زكريا, الذي يرهن كل شيئ نظير المال, وكان من الطبيعي ان يستغل علاقته بعديله (السلطان الاحمر) ليحقق ثروات من خلال العمولات, وهل كان -وقتها- اصلح من غسان لتنفيذ مثل هذه الصفقات؟؟

ذات صباح سعى الى غسان مليونير امريكي من اصل سوري هو السيد (نجيب منهل) يطلب منه التوسط لدى عديله في مشروع كبير للتنقيب عن النفط في سوريا, مقابل (عمولة) سال لها لعاب غسان وزوجته واختها, كانت زوجة المليونير (هند صلاح خانكان) على معرفة قديمة باهل زوجته الاكراد وقد دلوها على غسان, ليكون واسطة العقد في تحقيق الصفقة وفي تغطية اخبارها في الصحف وتصويرها كمشروع وطني قومي يهدف الى خدمة الشعب وليس (الاثراء) على حساب الشعب.

بدأ غسان يشن حملة صحافية يلمع فيها المليونير الامريكي, فيصفه بالرجل الوطني المخلص والوقور, الصريح, الكريم, المعطاء, الذي ما ترك امريكا الى دمشق الا حبا في سواد عيني غسان وزوجته, وسطر زكريا ودبج مقالاته ومقالات في اهمية استخراج النفط السوري على يدي المليونير الامريكي-السوري جيم, لان هذا (يقوي الجيش ويسلحه لمحاربة اسرائيل) كما ورد في كتاب زكريا, فالرجل -على حد تعبير زكريا- "يملك الملايين من آبار نفطه في تكساس وهو ما كان له ان يتكبد كل هذا العناء والجهد والانفاق الهائل من اجل سعي وراء قضية خاسرة".

نجح غسان في استصدار (رخصة) للمليونير المذكور للبحث عن النفط في (قرتشوك) قرب دجلة, لكن زكريا وجد في طريقه (زكريا) آخر, يريد لنفسه حظا ونصيبا من العمولة, لانه -مثل آخرين- لم تنطل عليه مدائح زكريا في الرجل والحديث المكرور الممجوج عن الوطن والوطنية... كان ذاك هو (عبد الباقي نظام الدين) -وزير الاشغال العامة والمواصلات في حكومة صبري العسلي ... الذي حقد عليه زكريا كثيرا, حتى وجه ابنه (احسان) تهمة قبول الرشوة سيارة كاديلاك نظير ان يوقع الوزير رخصة الاستثمار, ووصف زكريا عبد الباقي نظام الدين بانه (قليل الخير) و(جشع) وكان يطمح الى اكثر من سيارة ورشوة, لكنه سرعان ما صحح هذه المعلومة واعتذر عنها في عدد لاحق من سوراقيا بعد ان هددته عائلة المذكور بالمقاضاة, فنشر اعتذارا سخيفا يقول فيه انه لم يقصد التعريض بالرجل, وان السيارة الكاديلاك مشتراة من وكالة للسيارات في دمشق وليست مهداة لابن الوزير من المليونير التكساني, اما كيف يصف غسان الرجل بالجشع ويتهمه بقلة الخير وقبول الرشوة ثم يقول انه لم يقصد الاساءة اليه فطريقة درج غسان على انتهاجها في ابتزاز الاخرين, فان قرعوا رأسه وهزوا له السوط, سارع الى الاعتذار بوقاحة قل نظيرها, ومن يتصفح (سوراقيا) يجد بين كل عدد وعدد اكثر من نموذج ومثال.

لم يكن غسان -يومها- يرضى ان يهزم امام (وزير) كان يحلم بالكوميشين, يتشارك به مع السراج, فسارع الى ارسال شقيقة زوجته الحسناء (ملك) الى مدير المخابرات, وكانت ملك -كما يعترف غسان نفسه في مروياته- عشيقة للسراج (تساكنه) - على حد وصف زكريا, وتم الاتفاق على ان تكون حصة الاثنين غسان وملك مليون ليرة سورية (كوميشين) وكانت في ذلك الوقت تعادل ثروة طائلة !!! ولكن ملك كان لها رأي آخر... كانت تريد الاستئثار بالمليون لذا سلطت (غسان الالشي) -ابن رئيس وزراء سوريا الاسبق جميل الالشي- على غسان زكريا, فافهمه ان السراج يعد له (خازوقا) وانه من الافضل له ان يهرب الى بيروت... لم تنطل اللعبة على غسان, طيرها في تقرير سري الى رئيسه عبد الحميد السراج الذي استدعى الالشي للتحقيق... ونترك غسان زكريا يكمل الرواية.

تمهل سامي جمعة, استدرت لارى سبب تطلعه المستمر في المآة الصغيرة, فوجدت ان سيارة اخرى تلحق بنا وفي مقعدها الامامي كان صهري تاج الدين الخياط, وعلى ما يبدو كا "ابو سمير" لا يريد ان تضيعنا السيارة فسائقها لم يكن يعرف اين نتجه.

لم يحاول ان يكلمني, كنا اتفرس وجهه واردد في بالي:" هذا هو اذن سامي جمعة (ابو سمير) الذي يرعب الناس, يقتل دون هوادة"... احسست بالتقيؤ, وبالم يعتصر معدتي, لم تطل رحلتنا فمن شارع عبد الرحمن الشهبندر الى شارع الروضة ... رمية حجر...

بسرعة اتجه سامي جمعة بالسيارة الى احدى البنايات, الصقها بالجدار سادا الباب علي, فطلب مني النزول منها من الطرف الايسر, دافعا بي الى اجتياز الشارع والدخول الى بناية طالما وصلتنا اخبارها في بيروت, وقرأت عنها في "صدى لبنان" و "الحياة" للشهرة التي لحقت باقبيتها ولحفلات التعذيب الطويلة التي مورست خلف جدرانها.

نزل سامي جمعة امامي, فاذا بقبوين مفتوحين امامنا, مقعدان خشبيان في وسطهما ومنضدة خشبية نخرها السوس في الزاوية, جلسنا صهري وانا على المقعد الخشبي, وبدأت اتفحص المكان بعيني, حيطان عارية وسخة, كلحت من الرطوبة, يصطدم الضوء الشحيح المنبعث من لمبة كهربائية بخيوط العنكبوت, تختلط روائح دخان السجائر مع روائح الرطوبة النتنة.

كان السكوت يهدم الاعصاب, دقائق الانتظار تمر ممضة, احسست بحبات عرق بارد ترصع جبيني, مسحتها بحركة عصبية, لحظات, سمعنا صراخا متقطعا, ساد بعده صمت بليد, فجلبة, دعسات متسارعة, واحد نزل مسرعا ودخل القبو الايسر, وآخر كان يحمل سوطا يضربه على جزمته وهو يصعد السلم, دقائق ودخل سامي جمعة علينا:"تفضلا" قال بنبرة هادئة.

لحقنا به الى مكتب في آخر الممر, كنت الاول في الدخول, وصهري خلفي, فاذا بي وجها لوجه امام عبد الحميد السراج الرجل الذي كنت رأيته مرتين: مرة في مطعم مطار المزة ومرة ثانية في فندق اكسيلسيور في بيروت.

مد لي يده مصافحا, جلسنا قبالته, بالكاد نسمع صوته وهو يعتذر لنا على اسلوب احضارنا, "فظروف عمله ضاغطة" ثم نظر الي وقال: ما هي قصتك مع غسان الالشي؟؟

رويتها له كما حدثت, ولم آت على ذكر مقابلتي له لاكرم الديري ولبرهان قصاب حسن في ثكنة الشرطة العسكرية في البرامكة, واعتقد انه فهم علي لانه رمقني بابتسامة خبيثة وقال :"اذن لم تقابلني في اي مكان؟".
"لا.... و"

لم يدعني اكمل , فكر برهات, قطب ثم صاح:" ابا سمير جئني "بالقواد" غسان الالشي".

كان "القواد" في ذلك الحين يحضر جلسة المحكمة العسكرية التي تحاكم من اتهمهم السراج بتدبير محاولة انقلابية على الدولة السورية, بينهم النواب الدكتور منير عجلاني, الدكتةر عدنان الاتاسي, هايل سرور, فضل الله جربوع, اضافة الى الدكتور العائدي (شقيق الثري السوري المعروف عثمان العائدي) والصحافي الراحل كباره صاحب جريدة "النضال" ومجموعة من الضباط القوميين الاجتماعيين وبعض شيوخ العشائر وفعاليات سياسية واقتصادية في المدن السورية الكبرى (ستكون لنا عودة اليها في مقبل الاعداد).

كان غسان الالشي في ذلك اليوم في عداد الذين تقاطروا لحضور سيرك رعب دمشق في وسط قاعة الجامعة السورية, التي حولها السراج واعوانه من مدرج للعلم والثقافة الى تياترو للرعب والقمع والارهاب والتكاذب والتآمر.
انتزعوه من بين الحضور, فالسلطان الاحمر لا يرد.

كان السراج يذرع الغرفة جيئة ورواحا, لا يتكلم, ترافقه عيوننا بقلق, لم يمض بنا الوقت حتى سمعنا جلبة اعقبها صراخ رجل يلتوي الما, تدحدل على الدرج فارتطم رأسه بالجدار فشقه وحنى الدم وجهه, فحمله الجلادون وهو يترنح ودفعوه الى وسط الغرفة, فارتمى على ظهره, تقدم منه السراج وضغط بقساوة بقدمه على بطنه مزمجرا:

"يا قواد ساربي فيك القمل والصيبان, تاخذ الناس من مكاتبهم وتطالبهم بالهروب الى لبنان او الصعود الى المزة".

رفع رجله عن بطن غسان الالشي واخذ يركله بخاصرته:
"بمن تحتمي؟ من هو الذي يعطيك الاوامر دون علمي... سأريك النجوم في عز الظهيرة يا....".

ثم امسكه من شعره ورفعه عن الارض, واخذ ينهال عليه باللكمات والصفع, فصار غسان الالشي يتلوى ويصرخ مستغيثا:"يا ابو حمدو (هكذا كان يلقب السراج قبل ان رزق مولوده الاكبر فراس) انا داخل عليك... داخل عليك... طول بالك علي... دخيلك..."

وكلما زاد في الاستغاثة, كلما انهال عليه عبد الحميد السراج صفعا وركلا مرددا:"قل لي من يحميك؟ من يعطيك الاوامر من دون علمي يا كلب...".
كان العرق يتصبب من السراج, والرجل الذي كان يحدثنا بهدوء وبمنتهى التهذيب تحول الى ذئب شرس لا يشبع من فريسته, لم اعد احتمل, فانتصبت غاضبا وصرخت في وجه السراج:

"كفى .. كفى.. فليس لي من حق عنده .. اما من يعطيه الاوامر ليرعب الناس فهذا شأنك انت, حاسبه ولكن ليس امامنا".

هدأ السراج, مسح يده من الدم بمنديل, وجلس دقائق صامتا, ثم صاح بسامي جمعة ان يأخذ غسان الالشي الى المزو, ووقف يعتذر:"عودا الى منزلكما, لن يزعجكما احد".

تمت الصفقة وقبضت ملك -زوجة السراج- مليون ليرة سورية نقدا سلمها المليونير التكساني لها في مغلفين بحضور غسان زكريا, ولا (ملك) آثرت الاحتفاظ بالمبلغ لنفسها لتحرم منه زكريا وزوجها السراج , فان غسان لم يجد امامه من طريقة للانتقام الا ابلاغ السراج عن الصفقة, ويدعي غسان في (مروياته) ان السراج عثر على مغلف واحد فقط وانه استدعاه ليسأله عن المغلف الاخر, الذي اتهمته (ملك) بسرقته... سارع غسان الى الادعاء بان المبلغ من حقه وانه ليس رشوة ولا كوميشين... وانما هو (تكاليف حملة صحافية اعلامية لمشروع نجيب منهل للتنقيب عن النفط في قرتشوك) -كما ورد بالنص في كتابه- .

حكاية (المليون) كانت فاتحة للشرخ الكبير بين الرئيس والمرؤوس... بين العديل والعديل... بين الشقيقة والشقيقة... فقد ظل غسان زكريا يحمل السراج مسؤولية حرمانه من نصيبه في الصفقة وظل يبتزه طوال مدة اقامته في مصر... ظل يطالبه بنصيبه عبر ابنته الكبرى التي تقيم -مع زوجها- هناك... وما كتاب (السلطان الاحمر) الا حلقة في عملية الابتزاز وتصفية الحسابات بين الرجلين, صاغ فيه غسان زكريا تاريخ سوريا الحديث بما يتوافق مع اهدافه المريضة من الانتقام من عديله وزوجته لانهما حرماه من نصيبه في (المليون)... يقول غسان في كتابه" طوى الملف ولم يعد السراج يأتي على ذكر مال النفط من منهل, بقيت جاهلا مصير ذلك المال على مدى ثلاثة وثلاثين عاما حتى اكتشفت عام 1989 -نقلا عن جوان زلفو شقيق زوجته- ان بعض ذلك المال قد انفقته (ملك) على تأثيث المنزل الفخم الذي انتقل اليه السلطان الاحمر في حي ابو رمانة الارستقراطي, اما بعضه الاخر فقد اودع في حساب سري في احد المصارف اللبنانية ثم نقل الى سويسرة".

يضيف زكريا متهما السراج:" كل المظاهر كانت تدل وتؤكد لكل من كان حول السلطان وحواليه من اصدقاء ومتزلفين انه كان يتقاضى مالا لا علاقة له بمرتبه الشهري في تلك الفترة من الزمن كرئيس للاستخبارات او كوزير للداخلية في حكومة الاقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة, او حتى لما صار نائبا لجمال عبد الناصر متحكما في ملايين السوريين لا في الشأن السياسي والاقتصادي وحسب بل في ادق امور حياتهم الخاصة".

حكاية (المليون) جعلت السراج لا يأمن جانب غسان زكريا, الطامح الى الثراء, فاهمله, جرده من مناصبه (المخابراتية), قزمه, وابعده عن اول نقابة للصحفيين يشكلها السراج برئاسة (بكري المرادي) رئيس تحرير جريدة الشام, التي بدأت رياضية ثم تحولت الى سياسية تعكس وجهات نظر الحزب الوطني الحاكم, فخرجت (القبس) من المعادلة وتم وضع مديرها غسان زكريا على الرف !!

صحيح ان حكاية (المليون) هي القشة التي قصمت ظهر البعير لكن الصحيح ايضا ان اكتشاف السراج لازدواجية الولاء عند غسان وشغفه باللعب على الحبلين جعله يعيد ترتيب حساباته وازلامه, فقد كانت فترة اقامة غسان في لبنان, الى جانب دورها المخابراتي, عملية اراد بها السلطان ان يختبر (عديله), لذا كلف (ازلامه) بكتابة تقارير عن غسان, المنشغل هو نفسه بكتابة تقارير عن السوريين القوميين.

كان غسان, بما انطوت عليه الانتهازية يرى ان عمر السلطان الاحمر قصير, فنظامه يتداعى ونفوذ السوريين القوميين في ازدياد, لذا استغل زكريا فترة وجوده في لبنان ليلعب الدورين معا فيكون جاسوسا (مدوبلا) للطرفين... في لبنان, اصبح غسان زكريا (عينا) للسوريين وعينا عليهم... كان يتردد على مقهى (اليسار) المقابل لمدخل الجامعة الامريكية في شارع بليس, ليرصد نشاطات واخبار السوريين الاجتماعيين فيطيرها الى السراج, وليرصد ايضا نشاطات (برهان ادهم) ليسلمها مساء الى مسؤول الداخلية في الحزب... كان برهان ادهم يشكل قلقا يوميا لغسان زكريا, بسبب ارتباطاته الوثيقة بالسراج, وبسب الخطوة التي كان يفتقدها زكريا... كان (برهان ادهم) ضابطا من ضباط السراج وقد سرب امره وفضح سره جواسيس الحزب في بلاط السراج, حسيب ابو زكي وجميل العريان ومشهور دندش... كان من الصعب على جواسيس الحزب في بلاط السراج اكتشاف غسان زكريا, لان هذا كان يقيم ارتباطاته بالسراج على اسس عائلية في اغلب الاحيان... ولان زكريا لم تكن مؤهلاته تنفع الا في عمليات التجسس فقد كلفه (كميل الجدع) بالتجسس على برهان ادهم ونزل التكليف على قلب غسان زكريا بردا وسلاما, فقد جاء الان دوره لينتقم.
العجيب انه يعترف في كتابه بالتجسس على برهان ادهم.

ونترك له استكمال الحكاية ..." توزعنا الخبر, اصبحنا كلنا عيونا مسنونة عليه, حركاته, تحركاته, حتى المومس التي كان يتردد عليها في شارع المتنبي خلف ساحة الشهداء صارت تشي به عندنا, لاحقناه حتى الى دور السينما تارة في سينما (امبير) وطورا في (متروبول) وحينا في (كايرو) وآخر في (غومون بالاس), نحصي لقاءاته في مقهى (نفريتا) في شارع الحمراء مع الصحافي المصري محمود السعدني ونلاحقه حتى بوابة السفارة المصرية في الرملة البيضاء وفي نهاية كل يوم نرمي بالغلال -يقصد التقارير- على طاولة كميل جدع.

يضيف زكريا متباهيا بدوره التجسسي " لم نقصه عنا, ابقسناه في حلقتنا في كافتيريا (اليسار) واصبحنا نفرط امامه في تهجمنا على النظام في الشام, لم نفض اليه بسر, لم نبح باسماء, خدعناه باسرار ملفقة وبخطط قلنا اننا سمعناها من مصادرها عن محاولات لاغتيال السراج عند خروجه من مكتبه في الاركان العامة وعن استعدادنا للعصيان المدني في حمص...الخ".

تصفية حسابات مع السعدني
----------

غسان زكريا معروف بخصلة تصفية الحسابات الشخصية مع الاخرين تحت ستار (وطني), ويلجأ في ذلك الى تزوير التاريخ وربما فبركته, وما فعله مع الكاتب والصحافي المصري الساخر محمود السعدني في كتابه هو نموذج فقط لاخلاقيات المهنة عند هذا الرجل.

وحكاية السعدني مع غسان زكريا تعود الى مطلع الثمانينات وقبلها حين كان زكريا موظفا في جريدة السياسة المملوكة لاحمد الجارالله, والذي اتخذ السعدني في حينه مستشارا ورفيقا في حين (طرد) زكريا من العمل فصب زكريا جام غضبه على الجارالله وعلى الكويت وعلى كل من له علاقة بالجارالله والسعدني طبعا كان على رأس هؤلاء.

الا ان المواجهة بين الاثنين سخنت يوم اصدر السعدني في بداية الثمانينات مجلة (23 يوليو) في لندن, وكان زكريا احد المتقدمين للعمل فيها بعد ان ذاق الامرين من جماعة الدستور, ولم تكن مواصفات زكريا الشكلية والمهنية والصحفية والاخلاقية هي المطلوبة لمجلة (23 يوليو) فحلقوا له, فكتم في صدره حقدا على السعدني, لفرزه على الورق حين اصدر كتابه المسخرة (السلطان الاحمر) حيث جعل السعدني المسؤول الاول عن نكبة السوريين الاجتماعيين في سوريا ابان قضية اغتيال عدنان المالكي.

وحكاية السعدني -يومها- انه نشر لقاء مع احد قادة الحزب (سعيد تقي الدين) وكأي صحافي لم يكن السعدني طرفا في الخصومة, لكن المقال اصبح وثيقة هامة للمحكمة بعد حادثة الاغتيال, فاستدعي السعدني يومها للادلاء بشهادته وهذا ما كان, فحوله زكريا الى متآمر وجاسوس وهذا ليس عجيبا فسوراقيا هذه تصدر باموال الفاسي, والفاسي هذا كان موضوعا لمقالة نشرها السعدني في مصر, وادت الى قيام الامير عبد الله ولي العهد السعودي بمصادرة الجوازات الخاصة التي يحملها الفاسي واولاده, وجاء (زكريا) ليسدد حسابات الفاسي ايضا.

كان السعدني قد كتب في اخبار اليوم بتاريخ 7 مايو 1990 تحت عنوان "سمو ولي العهد يا الف مرحب" مايلي:

"سمو الامير ... في النفس كلمة اريد ان اهمس بها اليك, ولم اجد مناسبة افضل من مناسبة زيارتك الميمونة لمصر... ان بعض المواطنين رعايا المملكة العربية السعودية الذين يقيمون في مصر بعض الوقت, والذين يدعون انهم امراء الاسرة الحاكمة السعودية, هؤلاء يسيئون بتصرفاتهم الرعناء للشعب السعودي وللشعب المصري معا, وبسبب وفرة المال في ايديهم والذي لا يعرف مصدره احد حتى استطاعوا النفوذ الى بعض الصحف المصرية من خلال بعض الاعلانيين!!!

يفترون احيانا على الناس, واحيانا على الله الا ان غالبية شعبنا لا يعرف الحقائق, مما يجعل الامور تختلط في اذهانهم وقد يؤدي هذا الخلط الى خدش الصورة التي يحتفظ بها شعبنا الطيب للاسرة المالكة السعودية.

وربما لا يصل الى علمك يا سمو الامير ان السفارة السعودية في القاهرة نشرت تكذيبا ذات يوم بعد ان ادعى احدهم في مؤتمر صحفي بانه من امراء الاسرة المالكة, ومثل هذه السخافات غير المسؤولة والطائشة يا صاحب السمو ولي العهد لا بد ان تواجه بتوقف حاسم وواضح من جانب المسؤولين في المملكة لكي يعلم الحاضر والغائب والقاصي والداني ان هؤلاء الاشقياء لا علاقة لهم بالاسرة المالكة من قريب او بعيد.

ويضيف الكاتب الساخر الكبير محمود السعدني في مقاله:
"يسعى البعض من هؤلاء المدعين اصدار صحف ومجلات في القاهرة حصلوا على تراخيصها من عواصم اوروبية حيث يقيم بعضهم ويزعمون يا سمو الامير ولي العهد ان هذه الصحف المشبوهة ستكون بعد صدورها تحت رعاية رسمية في المملكة, مع اننا جميعا نعلم انها في حالة صدورها سيكون غاية جهدها الايقاع بين شعبينا والذي بين البلدين خصوصا وان لهم سوابق في بلاد اوروبية وعربية واسيوية.

سمو الامير ولي العهد... ارجو ان تقبل اعتذاري لانني تعرضت لموضوع يبدو هامشيا مع انه ليس كذلك, حيث ان القاعدة المتبعة تقول من اجل الوصول الى اعماق المنجم لا بد اولا من قتل العقارب والحيات".

لقد وضع الكاتب الكبير محمود السعدني النقاط فوق الحروف لاول مرة في الصحافة المصرية بالنسبة لاسرة (الفاسي) بعد ان استطاعت هذه الاسرة من اختراق الاعلام المصري عن طريق ابواقها الذين اشار اليهم السعدني بصفة (الاعلانيين).

ولقد اشار السعدني صراحة في مقاله الى حفلات البذخ والسهر والاستفزاز التي يمارسها آل الفاسي في القاهرة, التي عبر عنها بعبارة هؤلاء الناس يسيئون بتصرفاتهم الرعناء الى الشعب السعودي وللشعب المصري.

وبسخرية شديدة وايجاز اشد بين السعدني مدى ادعاء هذه الاسرة بما ليس فيها وخاصة مسألة الصوفية والتدين التي لا تتفق مع ما يعيشون فيه من مظاهر فيقول: يفترون على الناس واحيانا على الله.

ويبين ايضا كيف يدعون كل مناسبة وبدون مناسبة انهم امراء العائلة المالكة لكي يرهبوا الناس ويصنعوا لانفسهم هالات من التقدير المزيف, وعبر السعدني عن هذا بعبارة "سخافات غير مسؤولة وطائشة".

وبطريقة غير مباشرة يكشف السعدني مدى وحجم التآمر الذي تقوم به الامبراطورية الفاسية عن طريق دعم مشروعهم في اصدار صحف ومجلات بالقاهرة كل هدفها هو الاساءة الى المملكة العربية ومصر, ومؤكدا ان لهم سوابق في ذلك في مدن وبلدان اوروبية -يقصد جريدة العرب اللندنية- ومجلة 23 يوليو (التي عمل بها السعدني) وتكشف حقيقتها ونواياها قبل ان يتركها.

وما يحسب لمحمود السعدني انه تكلم بلا خوف من زبانية الامبراطورية الفاسية في وقت سكت فيه الكل بل كان يسبح بحمد الفاسية وافضالها عليهم.
ولقد احدث مقال السعدني صدى كبيرا, ويقال ان ولي عهد المملكة العربية السعودية اصدر اوامره الشخصية بتتبع كل هذه المعلومات بالنسبة لهؤلاء الادعياء, الذين يدعون انهم امراء وشيوخ من الاسرة المالكة, وبناء على هذه الاوامر تم تتبع السيد الامير محمد شمس الدين الفاسي الذي كان يتنقل بين فندق ماريوت بمنسوتا , ووالده شمس الدين الفاسي في ميامي, وتمت محاولة للقبض عليه من الشرطة الامريكية بعد اكتشاف امر جواز سفره الدبلوماسي المزور وتأشيرة دخوله الى امريكا.

من هنا كان من الطبيعي جدا ان يجهز الفاسي (ازلامه) للرد على السعدني ولكن بطريقة غير مباشرة, فلجأ الى خادمه (غسان زكريا) الذي افتعل موقفا وفبرك تاريخا لم يرد ذكره في اي من كتب التاريخ بما في ذلك السوريين القوميين.

يقول زكريا " لم يجار احد برهان ادهم في الدس وصب جام الحقد على القوميين الاجتماعيين امام قوس المحكمة العرفية مثل الصحافي المصري محمود السعدني, فلقد وهبوا له مجال الدس والختل واطالوا له الحبل فلج في الضلال والعمالة والافتراء والتزوير.. ابرز للمحكمة صورة لسعيد تقي الدين كتب عليها الاديب بخط يده عبارة المؤامرة ثورة فشلت فاعتبرتها اعترافات شهادة كافية بادانة سعيد تقي الدين وصحبه بالتآمر على سوريا.

في كتابه يتهم زكريا كل القيادات اللبنانية البارزة بالعمالة لعبد الحميد السراج, سميح عسيران نائب صيدا, وكمال جنبلاط وسليمان فرنجية وصائب سلام ورشيد كرامي وعبد الله اليافي وصبري حمادة وعدنان الحكيم وشبلي العريان وخيري عوني الكعكي كانوا -على ذمة غسان- "يحجون الى دمشق في الشتاء وبلودان في الصيف سعيا لكسب رضا السراج وسؤال خاطره, ثم يمرون على محمود رياض يقبضون الشرهات ان لم يكن السفير المصري عبد الحميد غالب قد قام بالواجب في بيروت ليعودا اليها يبيعون بضاعة السلطان الاحمر عروبة ووطنية"!!!!

هكذا اذن... كل قيادات الحركة الوطنية في لبنان كانت (عميلة) للسراج, تقبض منه (الشرهات) , ووحده (غسان زكريا) هو فريد عصره, الذي لا يقبض ولا يتسول ولا يرتزق ولا يلحس مؤخرات هذا وذاك من اجل الدولار!!
كان زكريا -كما سلفنا- واحدا من ثلاثة غرسهم عبد الحميد السراج في بيروت, الى جانبه برهان ادهم وطلعت صدقي, وكان زكريا هو الوحيد الذي عاد الى بيروت بخفي حنين... في حين ان زميليه في التجسس ترقيا في المناصب.. الاول (برهان ادهم) اصبح رئيسا للمكتب الخاص بالشؤون اللبنانية, وهو بمثابة الساعد الايمن للسراج وكان يعمل تحت امرته عدد من الضباط اصبح لهم فيما بعد صولة وجولة مثل اكرم الصفدي (الثري المعروف) ومحمد خليفة (المليونير)... اما الثاني (طلعت صدقي< فاصبح -بعد عودته من دمشق- مساعدا للملحق العسكري عبد المجيد فريد في العراق, اما زكريا فركنوه في جريدة (القبس) ثم حلقوا له فما عاد عضوا حتى في نقابة الصحفيين!!!
كان زكريا ولا يزال رجلا على الهامش, تقرأ مذكراته في سوراقيا فتدرك ان الرجل مريض بجنون العظمة, تراه يتحدث عن (الذرى) والافق ورؤوس الجبال, وهو الذي يعتاش من شرهات الفاسي وبعض فتات تركي, وفي السياسة تراه يتمحك بالقادة... يدعي بهم وصالا!!!

في كتابه المهزلة, يكثر زكريا من اقحام اسم (عصام المحايري( تمسحا بالرجل وبتاريخه, لعله يريد ان يقول انه كان ندا للمحايري في رجولته وفي زعامته وفي نضاله.

والمحايري (عصام عبد الله المحايري) احد قادةت الحزب السوري القومي الاجتماعي, ولد في دمشق عام 1918, تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة الفريد في القاهرة حيث كان والده تاجرا عام 1929, وبعد وفاة والده انتقل الى دمشق وانتسب للمدرسة الثانوية الاورثوذكسية ونال الثانوية السورية والفرنسية عام 1938, والتحق بمدرسة اللاييك وحصل على الثانوية -القسم الثاني فرع الرياضيات عام 1939- والتحق بمعهد الحقوق بدمشق عام 1945, ونال اجازته عام 1949 , وفي عام 1939 عين في المصرف الزراعي معاون مدير فرع, واستقال بعدها من الوظيفة ليتفرغ للعمل الحزبي, وكان قد انتمى الى الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1944 , وقام في الحزب بمسؤولية عميد وناموس مجلس العمد, وقام باعمال عمدة الاذاعة وكان لاعب كرة قدم, وكان ايضا صحفيا نشر مقالات في جريدة (البناء) جريدة الجيل الجديد (التي صدرت في دمشق عام 1950) , وله من المؤلفات "العروبة السورية القومية الاجتماعية".

المحايري اذن رجل عالم, وحزبي متمرس, وحامل قلم, كان -دائما- في بؤرة الحدث, وليس على هامشها مثل (زكريا), الذي يهدف من (التمحك) بالمحايري في بعض كتاباته نظرة الاحترام والتقدير لهذا الرجل في تسويق بضاعته, سواء لدى شيوخ النفط او لدى بعض التجار وارباب المصارف والبنوك, لذا يكرر في كتابته انه (حزبي متمرس), موهما الجهات التي يبتزها انه يمثل حزبا وانه يضرب بسيف الحزب وانه يحظى بحماية الحزب!!! وحديثه عن المحايري في كتابه ليس اكثر من كلام معلوك اراد به زكريا ان يرفع قامته الى قامة المحايري, ليقول انهما زملاء... واجيال واصحاب فضل على الحزب, لا بل ان زكريا يدعي انه وحده -لا احد غيره- تخاصم مع عديله وشقيقة زوجته من اجل ارملة سعادة!!!



الكاتبة من المؤيدات لعبدالحميد السراج عدو غسان زكريا والمواليات للحزب السوري القومي
 
عودة
أعلى