«مبادرة حوض النيل» وكارثة التفاوض الجماعي
لا شك أن مصر ستواجه العديد من التحديات الوخيمة المتعلقة بـ "سد النهضة" الذي تقوم إثيوبيا ببنائه حالياً على منابع النيل. وقد حاول بعض السياسيين والإعلاميين توصيف بناء "سد النهضة" على أنه "يناير خسائر"، إلا أن هذا جزء من الادعاء الكاذب بأن ثورة 25 يناير 2011 لم تجلب لمصر شيئاً سوى المصائب والنكبات. في حين أن الحقيقة التي تدعمها الوثائق، تتمثل في أن إثيوبيا بدأت في التخطيط لإنشاء السد في مطلع التسعينيات، وذلك في الوقت الذي فشلت فيه مصر خلال جميع مراحل هذا المشروع في وقفه حتى بدأ مؤخراً يأخذ شكل الأمر الواقع.
ويشعر الكثير من المصريين بأن الإجراءات التي اتخذتها إثيوبيا على مدار العقود القليلة الماضية أثبتت أن أديس أبابا لا تكترث ببلدان المصب التي ستتأثر ببناء السد، وهما مصر والسودان. إلا أن السودان الذي يتمتع بموارد بديلة للمياه مصابها أخف بكثير من مصيبة مصر. وإذا أراد المصريون تحري الدقة والموضوعية لكي يعودوا إلى الطريق الصحيح وتقليل خسائر مصر، فيجب عليهم أن يعترفوا بأن قياداتهم المتعاقبة ارتكبت خطايا هي أقرب إلى حد خيانة الذات، سواء كان ذلك عن علم، أو عن جهل.
ويمكن مقاربة هذه القضية بصراعات مماثله في جنوب قارة أفريقيا. بدأت هذه القصة في آذار/مارس من العام 1998 عندما أسفرت نتائج الانتخابات النيابية في مملكة "ليسوتو" - التي تمثل جيباً جغرافياً داخل أراضي شمال جنوب أفريقيا - عن فوز ساحق لحزب "مؤتمر ليسوتو من أجل الديمقراطية"، وذلك قبل أن تظهر مزاعم بالتزوير، أعقبتها أعمال شغب واسعة النطاق، ثم ترددت شائعات عن احتمالات انقلاب عسكري في أيلول/سبتمبر من العام نفسه. وعلى الفور، أخذت جنوب أفريقيا - بقيادة زعيمها الراحل نيلسون مانديلا داعية السلام العظيم - زمام المبادرة بإصدار قرار من "مجموعة دول تنمية الجنوب" ("سادك") بإرسال قوات جنوب أفريقية تنوب عن المجموعة للتدخل في "ليسوتو". وكان هدف هذا التدخل الجنوب أفريقي هو ضمان السيطرة على "سد كاتس" الواقع في جبال "مالوتي" التي تقبع فوقها "ماسيرو" عاصمة "ليسوتو"، والذي يقوم بتزويد إقليم "فيتسفاسرراند" الاستراتيجي في جنوب أفريقيا بالمياه. لكن لا أحد استطاع أن يلوم "بريتوريا" على تصرفها، وذلك بالرغم من أن جنوب أفريقيا لديها موارد مائية أخرى كبيرة على مستوى الدولة.
وبالطبع، فإن مصر حالياً - وللأسف - هي ليست جنوب أفريقيا، لا في عناصر القدرة (القدرة الاقتصادية، والاستقرار السياسي، والقدرات العسكرية)، ولا هي دولة جوار مباشر لإثيوبيا؛ كما هو الحال بين جنوب أفريقيا و"ليسوتو"، تلك المملكة الجبلية القزمية. والمثير في هذه المقارنة، أن الأزمة المحتملة التي كان بإمكانها أن تهدد إقليماً - مجرد إقليم - في جنوب إفريقيا لا تقترب بأي شكل من الأشكال من الكارثة المحتملة التي تهدد مصر بأكملها في الصميم.
ونؤكد مرة أخرى، على أن مثال جنوب أفريقيا ليس دعوة للتسرع بالتفكير عسكرياً، لكنه سيساعد على تأطير ووضع مسألة حقوق المياه في سياق الاتفاقيات التعاقدية الإقليمية التاريخية، كما أن هذا النموذج يطرح تساؤلات حول الطريقة التي أديرت بها هذه القضية من قبل الحكومة المصرية، والإجابة عليها تمثل بداية الطريق الصحيح لمعرفة كيف وصلت مصر إلى هذا الموقف البائس في قضية المياه، وذلك إذا كنا صادقين في البحث عن مخرج منه. إن مصر تواجه حالياً أمراً واقعاً - "سد النهضة" بمواصفاته الجائرة - فرضته إثيوبيا على مصر بدعم وموافقة عشر دول من دول "حوض النيل"، مضافاً إلى ذلك - وللمفاجأة - دعم القيادات السياسية المصرية المتعاقبة منذ بداية التسعينيات.
وحتى يتسنى لنا فهم تاريخ "سد النهضة"، يجب أولاً أن نقوم بدراسة "مبادرة حوض النيل" التي تم تفعيلها في عام 1999 لكي ترث ما عرف بـ "مجموعة عمل التكوني" والتي كانت عبارة عن تجمعاً لعدد من دول "حوض النيل" لبحث مشروعات لتنمية وحسن إدارة المياه ولم تكن كل من إثيوبيا ولا كينيا أعضاء بها، وذلك قبل أن ترث "مبادرة حوض النيل" ذلك التجمع ولتنضم كل من إثيوبيا وكينيا إليها. ولعل الغريب والمريب في آن واحد، هو أن التحول إلى تلك الآلية الجديدة ("مبادرة حوض النيل") والتي حرصت على ضم إثيوبيا وكينيا اللتين لم تكونا ضمن "مجموعة عمل التكوني" جاء بدفع من مصر، وذلك تحت مسمى تعظيم الفائدة من مياه النيل لكافة دول حوضه. وبمبادرتها تلك، قامت مصر عملياً بحشد كافة "دول الحوض" على جانب من مائدة التفاوض، لتبقى هي بمفردها على الجانب الآخر، مع استثناءات قليلة، ارتهنت بباروميتر علاقات مصر المتذبذبة بالنظام الحاكم في السودان.
وتمثل "مبادرة حوض النيل" تحولاً ملحوظاً لمصر التي لم تسمح -عبر تاريخها - لنفسها، ولا لأي طرف أن يملي عليها أي شروط فيما يتعلق بمياه نهر دولي، حيث القانون الدولي هو الذي يحكم العلاقات المائية بين الدول المتشاطئة، بالإضافة إلى الاتفاقيات الثنائية، وخاصة إذا ما كانت متوافقة مع أحكام القانون الدولي. وبالمناسبة، فإن الاتفاقيات الثنائية بين مصر و"دول الحوض" - المتوافقة مع القانون الدولي - هي الاتفاقيات نفسها التي ترسم الحدود فيما بين هذه الدول. لقد أظهر طرح "مبادرة حوض النيل" أن تغيراً خطيراً في سياسات النظام المصري فيما يخص النيل قد حدث بفعل فاعل، وأنه سوف يمر مرور الكرام دون محاسبة.
وإن كان التفاوض بشأن "سد النهضة" حتمياً، فإنه على الأقل كان ينبغي أن يكون تفاوضاً ثنائياً يضع مصر كدولة مصب نهائي - هي أضعف حلقات النهر مائياً - على قدم المساواة مع كل دولة من "دول الحوض"، لا أن يكون التفاوض جماعياً، وهو الشكل الذي سعت إليه مصر والذي وضع مصر في موقف تفاوضي ضعيف لم يكن من المفترض أن يكون أساساً.
وواضح للعيان أن تلك الآلية للتعاون "مبادرة حوض النيل" - لم تكن سوى غطاء للتفاوض الجماعي، وهو ما دأبت على طرحه مؤسسات تمويل دولية مثل "البنك الدولي" على مدار سنوات، وذلك قبل أن تتبناه مصر. وغني عن البيان أن الهدف النهائي من وراء هذا الطرح من جانب مؤسسات التمويل الدولي، كان وما يزال تسليع المياه في بعض الأنهار، وفى مقدمتها نهر النيل. إن تحويل مياه نهر دولي إلى سلعة ليتم بيعها عن طريق دول المنبع إلى دول مثل مصر والسودان سيجلب لأثيوبيا الكثير من الإيرادات التي هي في حاجة إليها، لكنه في نفس الوقت يمثل تهديداً كبيراً على دولة مثل مصر التي تواجه حالياً أزمة مالية طاحنة، ناهيك عن كونه انتهاك للاتفاقيات الدولية المنظمة للعلاقات بين الدول المتشاطئة في حوض نهر واحد.
قد يحتج البعض لمسألة الدفع، بحجة أن الهدف التفاوضي المعلن لـ "مبادرة حوض النيل" - التي تنسب لمصر- لم يكن في البداية إعادة النظر في حصص دولتي المصب، وإنما جاء لترشيد استخدام المياه في الزراعة والربط الكهربائي وتنمية الثروة السمكية بـ "بحيرة ألبرت"، ومقاومة نبات ورد النيل في "نهر كاجيرا"، وتنمية حوضه في رواندا وبوروندي وتنزانيا وأوغندا، وإنشاء وحدة لتنسيق المشروعات. ومن ضمن الأهداف المعلنة لـ "المبادرة" أيضاً، إنشاء مشروع "النيل الشرقي"، الذي يهدف إلى تطوير نموذج تخطيطي للنيل الشرقي، لتقييم تأثير المشروعات التنموية ذات الفائدة المتبادلة سلباً وإيجاباً، ودراسة المصادر المائية المتكاملة متعددة الأغراض لـ "حوض نهر البارو وآكوبو" ومشروعي إدارة الفيضان والإنذار المبكر، وتنمية الطاقة الكهرومائية والربط الكهربائي. وأخيراً، إدارة الأحواض العليا للهضبة الإثيوبية، وإقامة المكتب الإقليمي لمشروعات النيل الشرقي.
كانت تلك هي الأهداف المعلنة في البداية لـ "مبادرة النيل"، إلا أن الهدف الرئيسي الذي كان الجميع يعلمه، ولا يفصح عنه صراحة تمثل في النية المبيتة لبلورة نقطة خلاف مفتعلة، يتم نقلها إلى بؤرة تفاوض "المبادرة"، ألا وهي إعادة النظر في حصص المياه المستقرة لـ "دول الحوض". وإذا كان النظام المصري الذي دفع في اتجاه هذه الآلية الجماعية للتفاوض، على علم مسبق بنهاية هذا الطريق، فإن الأمر يعد فعلاً خيانة للنفس. أما في حال التذرع بالجهل، فإن ذلك يدخل في باب التقصير الجسيم الذي يرقى إلى مستوى الجريمة. الكارثة، أنه لم تتم محاسبة من اقترفوا ذلك، وهي خطيئة أخرى.
إن هذه الحقائق التي أوردناها ليست سوى مقدمة لأخرى، يمكن في حال استيعابها، أن تعيد مصر ودول المنابع إلى الطريق الصحيح، بعيداً عن الكوارث التي يمكن أن تنزل بدولة المصب، والتي بالتأكيد ستكون أكبر مهدد للسلم والأمن في قارة إفريقيا.
يحيى غانم هو صحفي متخصص في السياسة الخارجية ورئيس مجلس إدارة "دار الهلال" سابقاً. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
http://www.washingtoninstitute.org/...ive-and-the-crisis-of-collective-negotiations