أعتقد يا أخي المنشار أنك نسيت قطاع الخدمات الذي يساهم بدوره في النمو الإقتصادي
الخصائص العامة للاقتصاد المغربي
عبد الله عاصم
يمكننا أن نتوصل إلى تحديد ملامح الاقتصاد المغربي وخصائصه العامة عن طريق مجموعة من الأسئلة الرئيسية. هذه الأسئلة هي التالية:
1 - هل الاقتصاد المغربي اقتصاد صناعي أم اقتصادي زراعي؟
2 - هل الاقتصاد المغربي اقتصاد متطور أم اقتصاد متخلف؟
3 - هل الاقتصاد المغربي اقتصاد عام أم اقتصاد خاص؟
4 - هل الاقتصاد المغربي اقتصاد موجه أم اقتصاد حر؟
إذا استطعنا أن نجيب بدقة على هذه الأسئلة الأربعة فإننا نستطيع أن نحدد مكانة الاقتصاد المغربي وخصائصه الرئيسية التي يتميز بها.
ونلاحظ أن:
السؤال الأول له علاقة مباشرة مع السؤال الثاني. ذلك لأن الاقتصاد إذا كان صناعيا فإنه بالضرورة سيكون متطورا. وإذا كان زراعيا فقط، فإنه من الضروري أن يكون بطريقة أو بأخرى متخلفا.
فالصناعة تنتج أساسا وسائل العمل، والزراعة تنتج أساسا وسائل الاستهلاك. ومن المعلوم أن التقدم الاقتصادي إنما يقاس بوسائل العمل لا بوسائل الاستهلاك. فإذا أرادت دولة ما أن يتطور اقتصادها فعليها أن تطور أولا وسائل العمل التي تعمل بها. وهكذا فالصناعة إجمالا ميدانها وسائل الإنتاج، وبصورة خاصة وسائل العمل، بينما الزراعة إجمالا ميدانها وسائل الاستهلاك اليومي للمواطنين. وعلى الرغم من أن هذه الأخيرة تمثل الغاية النهاية من العملية الاقتصادية كلها، فإنها تتوقف حجما ونوعا على تطور وسائل الإنتاج التي تقوم بتهييئها.
ونلاحظ أيضا أن:
السؤال الثالث له ارتباط مباشر بالسؤال الرابع. لأن الاقتصاد إذا كان عاما، بمعنى أن الدولة هي التي تملكه، فهو يستلزم بالضرورة تدخل الدولة وتوجيهها للاقتصاد الذي تملكه. وإذا كان خاصا بمعنى أنه تابع للأفراد لا للدولة، فإنه يعتمد حينئذ على المنافسة الحرة وعلى السوق لا على التوجيه الإرادي للدولة.
وعلى هذا الأساس: فإن السؤال الأول والثاني يقيسان مستوى التطور الاقتصادي للبلد. أي الناحية الكمية للاقتصاد.
والسؤال الثالث والرابع يقيسان طبيعة النظام الاقتصادي للدولة أي الناحية الكيفية للاقتصاد.
وعلى هذا الأساس أيضا: فإن دراستنا ستعتمد على جانبين: جانب التطور الكمي للاقتصاد، وجانب التنظيم الكيفي.
السؤال الأول:
هل الاقتصاد المغربي اقتصاد صناعي أم اقتصاد زراعي؟
هذا السؤال ينصرف إلى طبيعة القطاع المهيمن على الاقتصاد بمعنى أن القطاع الصناعي إذا كان هو المهيمن على مجموع الاقتصاد الوطني، فإن هذا الاقتصاد سيكون صناعيا. وإذا كان القطاع الزراعي هو المهيمن، فإنه سيكون زراعيا.
وهذا يعني أننا نحدد الأهمية أو المكانة التي يحتلها كل من القطاع الصناعي والقطاع الزراعي في الاقتصاد. فكيف نحدد أهمية كل قطاع.
المقاييس المحددة لأهمية القطاع الاقتصادي:
يمكن قياس أهمية كل قطاع بثلاثة مقاييس أساسية:
1 - النسبة التي يحتلها القطاع في الناتج الداخلي الإجمالي للبلد
2 - النسبة التي يحتلها في مجموع الاستثمارات الوطنية.
3 - النسبة التي يحتلها في مجموع الاستخدام الوطني، أي النسبة التي يستلزمها من اليد العاملة.
تطبيق المقياس الأول:
إذا طبقنا المقياس، فإننا نستنتج على الفور، أن الاقتصاد المغربي، ليس لا اقتصادا صناعيا ولا اقتصادا زراعيا… وإنما هو اقتصاد خدمات.
ذلك لأن الإحصائيات الرسمية للدولة تفيد أن القطاعات الثلاثة في الوقت الحاضر تعطي النسب التالية
1)
الزراعة حوالـــي: 20% من الناتج الداخلي للدولة
الصناعة حوالــي: 30% من الناتج الداخلي للدولة
الخدمات حوالـي: 50% من الناتج الداخلي للدولة.
هذا المقياس يفيد بأن معظم موارد الدولة تستخلص من قطاع الخدمات، أي 50% من مجموع هذه الموارد. يأتي بعده القطاع الصناعي بنسبة 30% أو ما يقرب من ثلث الناتج الإجمالي، تم القطاع الزراعي بنسبة 20% أي ما يعادل خمس الناتج الداخلي الإجمالي.
يدخل في القطاع الزراعي: سنة 1991: %
-الزراعة
-تربية الحيوان 18.9
-الغابات
-الصيد البحري
ويدخل في القطاع الصناعي:
-الصناعة التحويلية 17.9
-استخلاص المعادن والطاقة 8.3
-بناء وأشغال عمومية 5.1
31.3
ويدخل في قطاع الخدمات:
-الإدارة العمومية 11.8
-التجارة 11.2
-الخدمات 11.1
-حقوق على الواردات 9.5
-النقل والمواصلات 6.2
49.8
وإذا أخذنا إحصائيات سنة 1992 فإننا نجد أن القطاع الثالث قد ارتفعت نسبته إلى أكثر من 50% كما يبدو من المقارنة التالية:
القطاع الأول: 14.9
القطاع الثاني: 32.7
القطاع الثالث: 52.4
100.00
تطور نسبة الإنتاج للقطاعات الثلاثة:
هذه الوضعية تختلف جذريا عما كان عليه الاقتصاد المغربي زمن الحماية. ففي أوائل الحماية أي سنة 1920 كانت الزراعة تحتل 52% من الناتج الداخلي الإجمالي. ومعنى ذلك أن الاقتصاد المغربي قد تحول تحولا جوهريا من اقتصاد زراعي إلى اقتصاد خدمات. ففي أوائل هذا القرن كانت الزراعة هي التي تحتل 52% من الناتج الداخلي بينما في أواخر هذا القرن أصبحت الخدمات هي التي تحتل هذه النسبة.
إن هناك ثلاث محطات كبرى نستطيع أن نتوقف عندما لمعرفة التطور الذي حدث في بنية الاقتصاد المغربي خلال هذه الفترة هي:
أوائل الحماية أي سنة 1920.
غداة الاستقلال أي سنة 1955
ثم بداية التسعينات أي 1990.
ومعنى ذلك أننا سنقسم العمر الذي اجتازه الاقتصاد المغربي إلى فترتين كبيرتين:
فترة الحماية الممتدة من 1920 إلى 1955.
ثم فترة الاستقلال الممتدة من 1956 إلى 1992.
الفترة الأولى طولها: 35 عاما.
والفترة الثانية طولها: 35 عاما أيضا.
هاتان الفترتان متساويتان، ولذلك فإنهما تسمحان بإقامة دراسة تحليلية منسجمة ومتلائمة. فما هي التحولات التي طرأت على بنية الاقتصاد المغربي خلال عمره المقدر بـ 70 عاما.
التحولات الطارئة على الاقتصاد:
سنعرف ذلك عن طريق المقارنة التالية
1)
نسبة الإنتاج%
1920
1955
1990
الزراعة
الصناعة
الخدمات
52
13
35
35
29
36
18
32
50
نستنتج من هذه المعطيات أن الاقتصاد المغربي قد عرف ثلاثة تحولات كبرى: أولها يتعلق بفترة الحماية وفترة الاستقلال معا، والثاني يتعلق بفترة الحماية فقط، والثالث يتعلق بفترة الاستقلال فقط.
التحول الأول يتمثل في انخفاض مستمر لنسبة الزراعة من 52% إلى 35% في الحماية، أي بانتقاص 17% ثم من 35% إلى 18% في الاستقلال، أي بانتقاص 17% أيضا.
التحول الثاني يتمثل في ارتفاع نسبة الصناعة خلال فترة الحماية من 13% سنة 1920 إلى 29% سنة 1955 دون أي زيادة في فترة الاستقلال.
التحول الثالث يتمثل في ارتفاع نسبة الخدمات خلال فترة الاستقلال من 36 سنة 1955 إلى 50% سنة 1990، دون أي زيادة في فترة الحماية.
معنى ذلك أن تاريخ الاقتصاد المغربي ينحصر في:
1 - تدهور مستمر للقطاع الزراعي الذي أخذت منه الصناعة 17% في زمن الحماية، ثم أخذت منه الخدمات 17% أيضا في زمن الاستقلال، أي أن مجموع هذا التدهور يقدر بـ 34%.
2 - ارتفاع مطرد لنسبة الصناعة في زمن الحماية مع جمود الخدمات فيها.
3 - ارتفاع مطرد لنسبة الخدمات في زمن الاستقلال، مع جمود الصناعة فيه.
وبتعبير آخر، فإن هذين الارتفاعين الحادثين في الحماية وفي الاستقلال قد عكسا تدهورا مستمرا للزراعة خلال الفترتين معا.
فما هي تأويلات هذه التحولات؟
تأويلات هذه التحولات:
يمكن اعتبار التدهور النسبي الذي حدث في الزراعة، تدهورا حقيقيا وتدهورا شكليا.
فهو تدهور حقيقي من حيث المعطيات الأساسية للزراعة بمعنى أن التطور الذي حدث في الصناعة وفي الخدمات قد صحبه انتقال لليد العاملة ورؤوس الأموال من الزراعة إلى هذين القطاعين أي أن هذا التطور كان على حساب الزراعة. فبدلا من أن يتحقق التطور فيها فقد تحقق خارجها.
ثم إن إمكانيات الاقتصاد التقليدي قد تهدمت لصالح الاقتصاد الرأسمالي العصري الناشئ كما تهدمت بنيات المجتمع التقليدي القروي بأسره لصالح المجتمع الحضري الجديد. وفي هذا التهدم تم تحويل جزء هام من الفلاحين إلى مجرد عمال الصناعة والخدمات وإلى فائض من العاطلين وسكان أحياء القصدير المحيطة بالحواضر.
ثم إنه تدهور شكلي بمعنى أن إنشاء صناعة موازية وخدمات متنامية لا بد أن يؤدي إلى انخفاض نسبة الإنتاج الزراعي دون أن يصحب ذلك انخفاض في الأرقام المطلقة لهذا الإنتاج. بل إن هذه الأرقام قد ارتفعت أيضا وعرفت تغييرات نوعية كبيرة تمثلت في إنشاء الجزء العصري الرأسمالي منها وفي ظهور أنواع جديدة من الإنتاج الزراعي وأنماط جديدة للاستغلال وطرق جديدة وتقنيات وأساليب حديثة.
أما التحول الثاني والثالث فيستدعيان تأويلين مختلفين:
التأويل الأول يعتبر التحول الحادث في الحماية تحولا إيجابيا والتحول الحادث في الاستقلال تحولا سلبيا ذلك لأن التراكم الحادث في الصناعة إنما يحدث داخل الاقتصاد ومن ثم يجب اعتباره بأنه تراكم إنتاجي، بينما التراكم الحادث في الخدمات إنما يحدث خارج الاقتصاد ولذلك يجب اعتباره بأنه تراكم استهلاكي.
لقد استغرق المغرب 35 عاما في بناء صناعته، واستغرق 35 عاما أخرى في بناء الخدمات ومعنى ذلك أن دولة الحماية كانت دولة الصناعة بينما دولة الاستقلال كانت دولة خدمات. ومن المعلوم أن الصناعة لها الأولوية على الخدمات لأنها تمثل الركيزة الأساسية للاقتصاد، تخلق الفروع المختلفة للإنتاج، وتخلق وسائل العمل ووسائل الإنتاج العديدة كما تخلق وسائل الاستهلاك والاستمتاع وتوفر ظروفا مواتية للشغل. وعندما تتطور هذه الصناعة يتطور معها الاقتصاد ككل، لأنه تابع لها، كما يتطور المجتمع ككل نظرا للمهن المتعددة المتداخلة التي تقتضيها والكفاءات العلمية والتقنية التيتستلزمها.
أما التأويل الثاني فيرى أن دولة الحماية كانت تستثمر في الاقتصاد فقط ولم تكن تهتم بالمجتمع. بينما دولة الاستقلال كانت تستثمر في المجتمع ولم تكن تهتم كثيرا بالاقتصاد. لماذا؟ لأن دولة الحماية انتفاعية واستغلالية تهتم بما يعود عليها بالربح ولا تهتم بالإنسان فلم تكن هناك مدارس وتعليم وصحة متطورة ولا خدمات وإدارات للجميع، بل كان هناك شيء محدود للجالية الأجنبية المقيمة في المغرب والمتحكمة في أوضاع المغرب.
أما دولة الاستقلال فقد كان عليها أن تلبي حاجات الإنسان المغربي أولا، أي أن توفر التعليم للجميع والصحة للجميع والخدمات الثقافية والإعلامية والإدارية والترفيهية للجميع…
لذلك يمكننا أن نقول بأن فترة الحماية كانت بناء للاقتصاد بالدرجة الأولى بحيث تضاعف الإنتاج الصناعي وانتقل من 13% سنة 1920 إلى 29% ولم يرتفع قطاع الخدمات إلا ب 1% فقط (من 35% سنة 1920 إلى 36% سنة 1955م) بينما فترة الاستقلال كانت بناء للمجتمع بالدرجة الأولى إذ قفز فيها قطاع الخدمات إلى أكثر من 50% من الناتج الداخلي الإجمالي سنة 1990. فمنذ سنة الاستقلال أصبح هذا القطاع يحتل المرتبة الأولى قبل الزراعة والصناعة. وهذا يعني أن المغرب منذ هذا التاريخ لم يعد بلدا زراعيا وليس أيضا بلدا صناعيا وإنما هو على الأصح بلد خدمات.
انتقادات هذا المقياس:
لا يكفي أن نعتمد على نسبة الإنتاج فقط، لنحكم على المكانة الحقيقية للقطاع الاقتصادي، بل يجب أن نفحص الفعاليات الإنتاجية الداخلة في كل قطاع لمعرفة الدور الذي تقوم به. بتعبير آخر يجب أن نفحص التركيبة الداخلية للقطاع، فالإحصائيات تدرج عادة ضمن كل قطاع فروعا وفعاليات تتشابه إلى حد ما مع بقية الفروع المدرجة في القطاع، ولكنها ليست هي المعتمدة لتحديد أهمية ذلك القطاع.
ففي الصناعة مثلا، توجد الصناعة الاستخراجية والطاقة كما توجد الصناعة التحويلية والبناء. ومن المعلوم أن مفهوم الصناعة يرتبط بالصناعة التحويلية فقط. لا بالصناعة الاستخراجية والطاقة اللتين تتوليات استخلاص المواد الأولية فقط ولا تقومان بأي دور فعال في تحويل الاقتصاد الوطني وهكذا فالبلدان المنتجة للنفط مثلا تستخلص النسبة العظمى والمطلقة من ناتجها من الصناعةالاستخراجية للمواد النفطية ولكنها لا يمكن أن تعتبر إطلاقا بلدانا صناعية.
ومن ناحية أخرى فإن الصناعة التحويلية في بلادنا إنما تقوم أساسا على الصناعات الخفيفة والاستهلاكية العادية، ولا تقوم على تحويل المعادن وتركيب الآلات الذي يعتبر بحق المقياس الحقيقي لتصنيع البلد.
وإلى جانب ذلك فهناك انتقاد أساسي لهذا المقياس هو أن قطاع الخدمات في الوقت الحاضر يسيطر على النسبة العظمى والمطلقة من الناتج الإجمالي حتى في البلدان الصناعية المتطورة. ففي و.م.أ(1) تحتل الخدمات أكثر من 60% (7،71% سنة 1994) وذلك عائد إلى التقدم الحضاري والاجتماعي والمدني إذ يلاحظ أنه كلما تطور البلد من الناحية الصناعية استلزم خدمات جديدة ومتنوعة… بحيث يصبح هذا القطاع ضروريا لتأطير الحياة الاجتماعية الجديدة. ومن ثم فإن هذا المقياس لا يعكس الواقع الحقيقي للاقتصاد… كما أن المحاسبات القومية تسجل في الناتج الداخلي الإجمالي جميع الأعمال المؤدى عنها. سواء كانت ذات طابع اقتصادي أم لا.
المقياس الثاني: نسبة الاستثمارات.
إذا حاولنا قياس أهمية القطاع بالتكاليف لا بالأرباح، أي بالاستثمارات التي يقتضيها، لا بالإنتاج الذي يعطيه فإننا نجد أيضا أن القطاع الثالث يحظى بأهمية كبيرة، بحيث يحتل المرتبة الأولى من بين القطاعات الثلاثة، بينما تحتل الصناعة المرتبة الثانية والزراعة المرتبة الثالثة، وذلك على الرغم من أن السياسة الرسمية للدولة كانت إلى عهد قريب تعطي الأولوية للقطاع الزراعي على القطاعات الأخرى خاصة في الستينيات والسبعينيات.
ففي المخطط الخماسي 1968-1972 مثلا كانت الاستثمارات العمومية وحدها تتنوع كما يلي:
الزراعة 31%
الصناعة 33%
الخدمات 35%
هذه النسب متقاربة، ولكن التصنيف المتبع هنا غير دقيق، ذلك لأن المياه التي تحتل 8.14% قد أدرجت في القطاع الصناعي بينما الإنعاش الوطني الذي يحتل 3،6% قد أدرج في الزراعة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الاستثمارات لا تشمل إلا استثمارات الدولة أي ما يعرف بالاستثمارات العمومية، أما إذا نظرنا إلى مجموع الاستثمارات، بما فيها الاستثمار الخصوصي، فإن الصورة ستختلف بحيث تنزل الاستثمارات المخصصة للزراعة مثلا إلى 22% بما في ذلك بناء السدود التي تأخذ 6،5%.
انتقادات هذا المقياس
إن أهمية الشيء لا تقاس بالجهود التي يستوعبها بل يجب أن تقاس بالنتائج التي يعطيها فالاستثمارات هي تضحيات مادية ننفقها في قطاع معين للحصول على كمية معينة من الإنتاج. وكلما أنفقنا كمية من النقود وجب أن نعرف النتيجة التي نحصل عليها من ذلك.
ولو أننا قارنا بين الاستثمار والإنتاج في نفس الفترة من الزمن لحصلنا على النتيجة التالية:
الاستثمار الإنتاج
الزراعة 28% 32%
الصناعة 37% 26%
الخدمات 35% 42%
نلاحظ أن الزراعة والخدمات قد أعطت نسبة من الإنتاج تفوق نسبة الاستثمار التي أنفقت من أجلها. بينما الصناعة أعطت نسبة من الإنتاج منخفضة جدا عن نسبة الاستثمار المخصصة لها، وهذا يدل على التناقض الكبير ذلك لأن الصناعة تعتبر عادة القطاع الأكثر إنتاجية فكيف يعطي أقل مما يستهلك؟
يمكن تفسير ذلك بواقع:
إن الاستثمار الصناعي لا يعطي مردوديته عادة إلا بعد فترة من الزمن، خاصة عندما يوظف هذا الاستثمار في خلق منشآت جديدة.
ونلقي السؤال:
ما هو القطاع الأكثر إنتاجية؟
يتبادر إلى الملاحظة أن القطاع الثالث هو الأكثر مردودية من بين هذه القطاعات؟ ذلك لأن إنفاق مجموعة من الوحدات الاستثمارية تقابلها على الفور مجموعة أخرى من الوحدات الإنتاجية إذ يلاحظ أن إنفاق 5 وحدات استثمارية يعطي 6 وحدات إنتاجية، أي بزيادة وحدة إضافية جديدة. (بينما تعتبر الوحدات الخمس الأخرى مجرد تعويض عن الوحدات الاستثمارية).
وتأتي الزراعة في المرتبة الثانية إذ أن إنفاق سبع وحدات استثمارية فيها يعطي هذه الوحدة الإنتاجية الإضافية. (لأن كل 7 وحدات استثمارية تعطي 8 وحدات إنتاجية).
أما الصناعة فإن إنفاق مبلغ نقدي معين في البداية تقابله خسارة معينة في الإنتاج على المستوى الأقرب. ويجب حساب وحدات الخسارة التي تقابل وحدات الاستثمار والمدة الزمنية اللازمة لذلك. ومتى يبتدئ العد الإيجابي للأرباح بزيادة الوحدات الإنتاجية مقابل الوحدات الاستثمارية؟
المقياس الثالث: نسبة الاستخدام
الزراعة: 60%
الصناعة: 14%
الخدمات: 26%
من الواضح أن الزراعة لا تزال تستحوذ على ما يقارب الثلثين من اليد العاملة المتوفرة على الصعيد الوطني كله. تحتل الخدمات ربعا ولا تحوز الصناعة سوى نسبة ضئيلة منها تقدر بـ 14%(1).
الزراعة الصناعة الخدمات
1926 84% 4% 12%
1931 75% 12% 13%
1936 73% 12% 15%
1951 67% 12% 21%
1960 62% 13% 25%
الآن؟ 60% 14% 26%
نلاحظ إذن أن الاستخدام هو العنصر الوحيد الذي يجعل من الزراعة قطاعا متفوقا على القطاعين الآخرين. وليس ذلك دليلا على أهمية القطاع بقدر ما هو دليل على التضحيات التي يستلزمهاوالجهود التي يقتضيها فالنسبة العالية من اليد العاملة في الزراعة إنما هي دليل على بطالة مقنعة وعلى الاستخدام الناقص الذي يعاني منه أغلبية السكان. وللبرهنة على ذلك يمكن سحب نصف السكان العاملين في القطاع مع بقاء العوامل الأخرى على ما هي عليه دون أن يتأثر الإنتاج الزراعي في مجمله، وبالفعل لو وجد هؤلاء فرصة لمغادرة البادية، أو لو عرض عليهم أي عمل في الصناعة أو الخدمات لانخفضت نسبتهم وانحدرت إلى المستوى الحقيقي المتوازن الذي يستحقه هذا القطاع. فليست نسبة الاستخدام إذن دليلا على أولوية الفلاحة. وإنما هي انعكاس لنمط حياة قسري مفروض على معظم سكان البوادي.
الخلاصة:
النتيجة النهائية التي نستخلصها من السؤال المطروح عن طبيعة الاقتصاد المغربي هي أن جميع المقاييس المستعملة لا تدل على الأهمية الاقتصادية للصناعة أو الزراعة. بل تدل على أهمية اقتصادية نسبية للخدمات (بغض النظر عن الانتقادات الموجهة للمحاسبة القومية) كما تدل على أهمية اجتماعية للزراعة بمعنى أنها تظل مصدر العيش لغالبية المغاربة، رغم دورها الاقتصادي المحدود.
وفي جميع الحالات لا يمكن الحكم على الاقتصاد المغربي بأنه صناعي أو زراعي، بل إنه متعدد القطاعات ذات الأهمية المتفاوتة.
السؤال الثاني: هل الاقتصاد المغربي اقتصاد متطور أم اقتصاد متخلف؟
لقد ذكرنا من قبل بأن هناك نوعا من الترابط بين هذا السؤال والسؤال السابق بمعنى أن الاقتصاد إذا كان صناعيا فإنه سيكون بالضرورة متطورا وإذا لم يكن اقتصادا صناعيا فإنه لن يكون اقتصادا متطورا وذلك استنادا إلى مبدأ معروف هو أن الصناعة هي المقياس الحقيقي للتطور باعتبارها القطاع الرائد الذي إذا تطور، تطور معه مجموع الاقتصاد الوطني، وإذا تخلف، تخلف معه مجموع هذا الاقتصاد. لأن الصناعة تنتج وسائل العمل الضرورية لها ولباقي القطاعات الأخرى. وبما أننا سلمنا في إجابتنا على السؤال السابق بأن الاقتصاد المغربي ليس اقتصادا صناعيا فمعنى ذلك أننا قد سلمنا ضمنيا بأنه ليس اقتصادا متطورا.
ومع ذلك، فإننا سنحاول أن ندرس موضوع التطور والتخلف على انفراد.
مفهوم التطور:
أولا: التطور والثراء
يجب أن نميز أولا بين الثراء والتطور. إذ أن كثيرا من الناس يخلطون بين هذين المفهومين فيعتقدون أن البلد المتطور هو البلد الغني الذي يمتلك الثروات والموارد الاقتصادية المختلفة. والواقع أن التطور ليس مرادفا للثراء. فقد يكون البلد فقيرا من حيث الموارد ولكنه في نفس الوقت يكون متطورا كما أنه يمكن أن يكون غنيا بالثروات ولكنه يكون متخلفا.
إن الغنى والفقر هو أن تملك أو لا تملك أما التطور والتخلف فهو أن تكون قادرا أو غير قادر على استغلال ما تملك، فالتطور إذا يتعلق بكفاءة البلد وقدرته على استغلال موارده بنفسه. ولا يتعلق بكمية الموارد التي في حوزته. ومن الطبيعي أن هذا التطور يكون هو نفسه مصدر ثراء لاحق للبلد لأنه يوفر له إنتاجا متزايدا ودخلا وطنيا متناميا، ولكن هذا الثراء يتعلق بالجزء المستغل من الطبيعة ولا يتعلق بالموارد الطبيعية في حد ذاتها.
ثانيا: التطور والنمو.
ومن ناحية أخرى يجب التمييز بين التطور والنمو. فالنمو الاقتصادي (La croissance économique) ليس مرادفا للتطور إذ يمكن أن يكون هناك نمو دون أن يكون هناك تطور. كما أنه يمكن أن يكون البلد متطورا دون أن يحقق في بعض المراحل نموا لسبب من الأسباب.
فالنمو الاقتصادي عملية كمية تتعلق بوتيرة التزايد السنوي للإنتاج وبمعدلات النمو لهذا الإنتاج من مرحلة إلى أخرى. بينما التطور عملية نوعية تتعلق بقدرة الاقتصاد على التوالد والتمدد والتجدد ضمن وسائل تكنولوجية متزايدة الكفاءة وأساليب علمية متوالية الفعالية، سائرة دائما نحو الأرقى والأفضل.
ومن الطبيعي أن هذا الاقتصاد تكمن خلفه مؤسسات علمية متطورة تدفعه، ومختبرات وتجارب تقنية متوالية تعاضده ومناخ ثقافي واجتماعي ملائم يسايره، بحيث يصبح التطور عملية شاملة تساهم فيها جميع الأطرف، ويتجلى على جميع المستويات والمجالات: فتكون له صورة ثقافية، وصورة اجتماعية وصورة تقنية وصورة اقتصادية وصناعية وهكذا.
مفهوم التخلف:
التخلف حالة عكسية للتطور. فليس المقصود من هذه الكلمة إلصاق تهمة ذاتية بالإنسان في العالم الثالث؛ فالمعطيات الطبيعية والبيولوجية متساوية في جميع الأجناس البشرية وإنما المقصود هو طبيعة الظروف التاريخية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية التي تحيط بالإنسان ويعود ذلك إلى جمود البنى الاقتصادية والاجتماعية التي لم تعرف تغييرا وتطورا إيجابيا خلال مراحلها الماضية القريبة والبعيدة.
مقاييس التطور والتخلف.
ولكل من التطور والتخلف مقاييس يعرف بها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: اقتصادية واجتماعية وثقافية.
المقاييس الاقتصادية:
* ارتفاع أو انخفاض مستوى الدخل الفردي،
* ارتفاع أو انخفاض مستوى التغذية،
* ارتفاع أو انخفاض أهمية القطاع الصناعي،
* ارتفاع أو انخفاض استهلاك الصلب،
* ارتفع أو انخفاض استهلاك الطاقة،
* ارتفاع أو انخفاض العاملين في الزراعة،
*وجود أو انعدام القطاع التقليدي.
المقاييس الاجتماعية:
*انخفاض أو ارتفاع الولادات،
*انخفاض أو ارتفاع الوفيات،
*انخفاض أو ارتفاع النمو التسكاني،
*نوع الطبقات الاجتماعية السائدة،
*نوع التقاليد والعادات المتحكمة في السلوك الاقتصادي.
المقاييس الثقافية
*كثرة أو قلة الأطر والكفاءات العلمية ،
*مستوى معدل الأمية،
*موقف الثقافة السائدة من عملية التطور.
تطبيق هذه المقاييس على الاقتصاد المغربي:
إذا حاولنا تطبيق هذه المقاييس على الواقع المغربي فإننا سنكتشف أن اقتصاده ينطبع بالتخلف على جميع المستويات. ودون أن نلتجئ إلى إيراد الأرقام العملية، فإننا نعلم أن المغرب يأتي في المائة الثانية من دول العالم من حيث مؤشرات التنمية البشرية (المرتبة 111 سنة 1992) وفي أواخر المائة الأولى من حيث الناتج الداخلي الإجمالي للفرد (المرتبة 89 سنة 1993)(1).
كما أن مستوياته من حيث المقاييس الباقية لا تختلف عما هو عليه في معظم دول العالم الثالث، فنسبة الوفيات مرتفعة جدا، خاصة بين الأطفال، ونسبة الولادات مرتفعة بدورها، مما يجعل النموالتسكاني في تزايد. وبالإضافة إلى ذلك فالأمية تشمل النسب العظمى من السكان القرويين ومعدلا كبيرا في الأوساط الحضرية. وقد رأينا من قبل أن نسبة طاغية من السكان العاملين محسوبون على القطاع الفلاحي بالرغم من أن هذا القطاع لا يستفيدشيئا من عملهم. فالبطالة منتشرة والاستخدام الناقص يشمل ثلثي الفلاحين هذا كله. يجعلنا نحكم في النهاية على أن الاقتصاد المغربي اقتصاد متخلف وغير متطور.
السؤال الثالث: هل الاقتصاد المغربي اقتصاد عام أم اقتصاد حر.
"الاقتصاد العام" هو الذي يقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج. والاقتصاد الخاص هو الذي يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. ومن الممكن تعريف الملكية العامة بأنها تلك التي تعود إلى الدولة بصفة عامة وتعود نتائجها إلى المجتمع ككل، بينما الملكية الخاصة هي التي تعود إلى الفرد أو مجموعة من الأفراد. وعلى هذا الأساس فإن الملكية العامة هي التي يتشكل منها القطاع العام، بينما الملكية الخاصة هي التي يتشكل منها القطاع الخاص.
وعلى هذا الأساس أيضا، فإن السؤال المطروح يتعلق بمدى سيطرة كل من القطاع العام والقطاع الخاص على الاقتصاد الوطني. وقبل أن نحدد ذلك بالضبط، يتحتم أن نعود إلى المراحل التاريخية التي مر بها الاقتصاد المغربي في علاقته بين كل من القطاع الخاص والقطاع العام.
ثلاث مراحل تاريخية:
لقد مر الاقتصاد المغربي بثلاث مراحل كبرى في هذا الميدان:
مرحلة التردد،
مرحلة تطوير القطاع العام،
مرحلة الخوصصة،
مرحلة التردد:
لقد نشأت بوادر القطاع العام في مرحلة مبكرة في المغرب، فمنذ العشرينيات، تم تأسيس المكتب الشريف للفوسفاط، ثم تبعه بعد ذلك مكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية.
وبين سنوات 1973 و 1994 قامت سلطات الحماية بتأسيس المكتب الشريف للحبوب، والمكتب الوطني للنقل والمكتب الشريف لمراقبة الصادرات ثم "مكتب الخمور والكحول".
وبين سنوات 1944 و 1949 أنشأت مكتب الصرف الذي لا يزال قائما إلى اليوم، ثم المكتب الوطني للسياحة والصندوق المركزي للضمانات…
ورغم ذلك، فإن فترة الحماية تتسم بالتردد تجاه سياسة القطاع العام الذي كانت الدولة تتدخل فيه أحيانا وتبتعد عنه أحيانا أخرى، بحيث تتركه يسير نفسه بنفسه.
2 - مرحلة تطوير القطاع العام.
عند إعلان الاستقلال، أخذت رؤوس الأموال الأجنبية التي كانت قد تدفقت على البلاد بعد الحرب العالمية الثانية، تنسحب وتعود من حيث أتت هاربة من المد الوطني الجارف والحركة المعادية للنفوذ الأجنبي الذي تصاحبه عادة بصورة عفوية وتلقائية.
ووجدت الدولة المغربية نفسها وجها لوجه أمام معضلة اقتصادية كبيرة. فالقطاع الخاص الوطني لا يزال ضعيفا ولا يمكن أن يتكفل وحده بالتنمية الاقتصادية، كما أن المشاريع الاقتصادية الجديدة تحتاج إلى رؤوس أموال ضخمة، لذلك بادرت إلى توسيع القطاع العام وتطويره، على الرغم من أن السياسة الاقتصادية للدولة ستتجه اتجاها ليبراليا بعد ذلك. وهذا يعني أن تطوير القطاع العام كان اضطراريا لا اختياريا. كما أنه سيكون أداة لتنفيذ السياسة الاقتصادية للدولة.
مؤسسات القطاع العام:
وفي هذا السياق تم إنشاء "بنك المغرب" الذي يشرف على القطاع المالي بأسره، والمكتب الوطني للسكك الحديدية المغربية، والمكتب الوطني للكهرباء، والشركة المغربية للملاحة والشركة المغربية لصناعة السيارات، والمكتب الوطني للري، ومكتب التسويق والتصدير، وما إليها من المؤسسات العمومية العديدة التي بلغ مجموعها حسب إحصاء 1986: 687 مؤسسة، منها: 607 مؤسسة على شكل شركة.
ويمكن تصنيف هذه الشركات كما يلي:
حصة الدولة % عدد المؤسسات:
100% 61
من 50 إلى 100 161
من 33 إلى 50 63
من 26 إلى 33 87
من 1 إلى 20 128
أقل من 1% 39
غير معروف 68
المجموع 607
مكانة القطاع في الاقتصاد المغربي:
يمثل القطاع العام في المغرب، بجميع مؤسساته، حوالي:29% من الناتج الداخلي الإجمالي، وما يزيد عن 27% من مجموع الأجور الممنوحة على الصعيد الوطني، و20% من التكوين العام لرأس المال، كما يساهم بـ 21% من القيمة المضافة للفروع التجارية.
هذه القيمة المضافة تأتي من خمسة فروع مختلفة:
الصناعة الاستخراجية: 25%
النقل والمواصلات: 16%
الطاقة والمياه: 16%
المؤسسات المالية: 12%
الصناعة الغذائية: 11%
مجموع القيمة المضافة التي تعطيها هذه الفروع الخمسة يبلغ 80% أما مناصب الشغل التي يوفرها القطاع العام فتقدر بـ 250 ألف منصب تتقاسم نسبها الفروع التالية:
النقل والمواصلات 30%
الفلاحة 15%
الخدمات 15%
الصناعة 12%
باقي القطاعات 28%
المجموع 100%
تفاوت مؤسسات هذا القطاع.
رغم وجود عدد كبير من المؤسسات التي تساهم فيها الدولة بنسبة معينة (687 مؤسسة) فإن 32 مؤسسة مهمة منها فقط، تستحوذ على أكثر من 90% من الاستثمارات، و80% من القيمة المضافة للقطاع العام وأكثر من 16% من الناتج الداخلي الإجمالي للدولة.
ومما يدل على التباين الكبير لهذا القطاه، فإن ال32 مؤسسة هذه، تعطي للدولة: 6.183 مليون درهم سنويا, 75% منها تدفعها خمس مؤسسات فقط.
النتيجة النهائية:
نستخلص من جميع هذه المعطيات، أن القطاع العام يمثل أقل من ثلث الناتج الداخلي الإجمالي في المغرب، بينما القطاع الخاص يمثل أكثر من ثلثي هذا الناتج. وهذا يعني أن الاقتصاد المغربي كان في مجمله اقتصادا خاصا لا عاما، رغم هيمنة القطاع العام على معظم المشاريع الكبرى للبلاد. وذلك قبل أن يعود المغرب من جديد إلى الخوصصة الكاملة أو الشبه كاملة.
3 - مرحلة الخوصصة.
بدأ الحديث عن الخوصصة في الخطابات الرسمية منذ أوائل الثمانينيات. وقبل أن تقوم الدولة بالتنفيذ الفعلي للخوصصة، شرعت في إنجاز بعض المراحل التهييئية مثل التخلي التدريجي،وخوصصة التسيير عن طريق كراء المؤسسات الفندقية، وإعادة الهيكلة وما إليها من الخطوات السابقة والممهدة.
وفي سنة 1990، صدر مرسوم يرمي إلى تفويت عدد من المنشآت العمومية إلى القطاع الخاص في برنامج للخوصصة يشمل 112 منشأة. وبالفعل استطاعت الدولة تفويت 13 مؤسسة سنة 1993 ثم 21 منشأة أخرى سنة 1994 كما كان من المنتظر تفويت 73 أخرى خلال السنة 1995.
وهكذا فإن الاقتصاد المغربي بدأ كاقتصاد خاص في المرحلة الأولى، ثم تطور فيه قطاع عام في المرحلة الثانية، قبل أن يعود إلى الخوصصة من جديد في المرحلة الثالثة.
السؤال الرابع: هل الاقتصاد المغربي اقتصاد موجه أم اقتصاد حر؟
إن ما قلناه عن القطاع العام والقطاع الخاص، ينطبق أيضا على سياسة التوجيه الاقتصادي وعدمها. فقد مر المغرب أيضا في هذا الميدان بثلاث مراحل: مرحلة انعدام التوجيه، ثم مرحلة التوجيه والتخطيط، ليدخل إلى مرحلة ثالثة جديدة.
المرحلة الأولى:
في البداية، أي في فترة الحماية لم يكن هناك توجيه ولا تخطيط للاقتصاد المغربي، فقد كانت سلطات الحماية مهتمة بالقضايا السياسية والعسكرية، لا بالتوجيه الاقتصادي. ويجب أن نقول بأن الاقتصاد الفرنسي نفسه لم يكن خاضعا لأي توجيه، شأنه شأن اقتصاد المستعمرات. غير أن الوضع سيتغير في السنوات الأولى التالية للحرب العالمية الثانية. إذ ستقوم الدولة الفرنسية بإعداد تصميمها الرباعي الأول لسنوات 1949-1953 ثم تصميم رباعي ثان لسنوات 1954-1957 في فرنسا. كما ستقوم بإعداد تصميمين رباعيين آخرين لنفس الفترة في المغرب. غير أن هذه التصاميم لا تحمل أي صبغة إلزامية فهي مجرد دلائل ومؤشرات على الحالة الاقتصادية العامة للبلد.
ومن بين المهمات الأساسية للاقتصاد الرأسمالي الذي أقامه نظام الحماية
1 - إقامة بنية تحتية صلبة لخدمة الإدارة وتسهيل الاستغلال لموارد البلاد،
2 - تزويد السوق الفرنسية بما تحتاج إليه من مواد أولية معدنية وزراعية،
3 - صنع منتجات استهلاكية محلية وبعض السلع التجهيزية لإشباع الطلب الداخلي.
ولتحقيق هذه المهمات، اتجه هذا الاقتصاد إلى الفروع التالية:
-النقل والمواصلات
-الصناعة الاستخراجية
-الزراعة التصديرية
-فروع من الصناعة التحويلية الخفيفة: غذائية، تعليبية، نسيجية…
المرحلة الثانية:
هي المرحلة التخطيطية والتوجيهية التي تبتدئ من 1958 إلى 1992 في عهد الاستقلال. وقد عرفت هذه المرحلة عدة تصاميم:
المخطط الثنائي 1958-1959
المخطط الخماسي 1960-1964
المخطط الثلاثي 1965-1967
المخطط الخماسي 1968-1972
المخطط الثلاثي 1973-1977
المخطط الخماسي 1978-1980
المخطط الخماسي 1981-1985
المخطط الخماسي 1988-1992
وقد تراوحت أولويات هذه التصاميم بين الصناعة والزراعة والقطاع الاجتماعي فمن مطامح تحقيق التنمية الصناعية لمخطط 1960-1964، إلى أولوية الزراعة لمخطط 1968-1972، إلى مخطط "التنمية الاقتصادية والاجتماعية 1973-1977" الرامي إلى: تعبئة جميع الطاقات الإنتاجية للبلد لتحقيق معدل أعلى للنمو، وتوزيع عادل لنتائج هذا النمو ضمن عدالة اجتماعية حقيقية" إلى مخطط مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية 1988-1192، الذي يعطي الأولوية لتنمية العالم القروي وللمشاريع الصغرى والمتوسطة لإنعاش الشغل، وتكوين الإنسان، بالإضافة إلى تعميق التخطيطالجهوي دون إهمال القطاعات الاقتصادية الأخرى، وصياغة التجهيزات وإصلاح المشاريع العمومية.
إن الأهداف الكبرى للتوجيه الاقتصادي في البلدان النامية تنحصر في تحقيق معدلات معينة للنمو مع إعطاء الأولوية لفروع اقتصادية معينة، وسد الفراغ الخاص في المبادرات الخصوصية بتشجيع القطاع العام لاستعماله كأداة للتدخل الاقتصادي وكموجه للتنمية الاقتصادية والاجتماعية العامة.
نحو مرحلة جديدة؟
السؤال الكبير الذي يجب أن يطرح في ظل النظام الليبرالي العالمي الحالي، هو ماذا سيكون التوجيه الاقتصادي في هذا النظام؟
إن مما لا ريب فيه أن التوجيه الاقتصادي سيبقى قائما، ولكن ستتبدل أدواته وطبيعته وأهدافه. فمن المؤكد أن الدول العظمى تزداد حرصا وتتبعا لمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في ظل العولمة الجديدة، وتبتدع أساليب ووسائل جديدة للتدخل في الحياة الاقتصادية تجاه الدول الأخرى، وتجاه الأزمات الطارئة والنزعات والاتفاقيات التجارية وما يطرأ من مشاكل وتعقيدات كالبطالة واضطراب الأسواق المالية (مثلما يحصل حاليا في جنوب شرق آسيا) وما يتبع ذلك من أمراض حادة تعاني منها معدة السوق النقدية.
ومن المؤكد أيضا أن تنعكس هذه التعقيدات والاضطرابات على اقتصاد الدول الأخرى الناشئة لتزيد أوضاعها الداخلية تأزمات أخرى فتلجأ هذه الدول أيضا إلى طرق ووسائل لحماية مصالحها، وليس في الإمكان معرفة هذه الطرق قبل أوانها. ولكن الأيام القريبة كفيلة بأن تكشف عنها