الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية محكمة، ذات البعد الإيماني والتربوي، وله صلة شديدة بواقعنا اليومي، إنها القاعدة التي دلّ عليها قول ربنا جل جلاله: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى].
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة تكررت بلفظ قريب في عدد من المواضع، كما تكرر معناها في مواضع أخرى.
فمن نظائرها اللفظية المقاربة قول الله عز وجل:
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران]، وقال سبحانه:
{ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [النساء: 79]، ويقول عز وجل:
{ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ...} [القصص: 47].
وأما الآيات التي وردت في تقرير هذا المعنى فكثيرة جدا، ومن ذلك قوله سبحانه:
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} [القصص]، وكقوله عز وجل:
{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم]، وقال جل وعلا:
{ ... وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)} [آل عمران] في ثلاث مواضع من كتاب الله عز وجل.
ويقول سبحانه:
{ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)} [الروم]،
يقول شيخ الإسلام ابن تيميه: ملخصاً ما دلت عليه هذه الآيات الكريمة بتلخيص العالم المتتبع المستقرئ لنصوص القرآن الكريم، يقول رحمه الله: "والقرآن يبين في غير موضع: أن الله لم يهلك أحداً ولم يعذبه إلا بذنب" (مجموع الفتاوى (14/424)).
أيها الإخوة الكرام:
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآيات الكريمة دلت عليه أيضا نصوص من الوحي الآخر، ألا وهو السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبى ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث القدسي العظيم ـ الذي يرويه عن ربه تعالى قال الله عز وجل:
" إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلوم إلا نفسه " (صحيح مسلم (2577)).
وفى صحيح البخاري من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" سيد الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت... الحديث " (صحيح البخاري (6306)).
وفى الصحيحين لما سأل أبو بكر - رضي الله عنه - النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته، قال له عليه الصلاة والسلام:
" قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم " (صحيح البخاري (834)، صحيح مسلم (2705)).
فتأمل ـ أيها المؤمن ـ في هذه الأحاديث جيداً! فَمَنْ هو السائل؟ ومَنْ هو المجيب؟
أما السائل فهو أبو بكر الصديق الأكبر الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة في مواضع متعددة، وأما المجيب فهو الرسول الناصح المشفق صلوات الله وسلامه عليه! ومع هذا يطلب منه عليه الصلاة والسلام أن يعترف بذنوبه، وظلمه الكبير والكثير، ويسأل ربه مغفرة ذلك والعفو عنه، والسؤال هنا ـ أيها الأخوة القراء ـ مَنْ الناس بعد أبي بكر رضي الله عنه؟
أيها القراء الفضلاء:
إذا تقررت هذه الحقيقة الشرعية ـ وهي أن الذنوب سببٌ للعقوبات العامة والخاصة ـ فحري بالعاقل أن يبدأ بنفسه، فيفتش عن مناطق الزلل فيه، وأن يسأل ربه أن يهديه لمعرفة ذلك، فإن من الناس من يستمرئ الذنب تلو الذنب، والمعصية تلو المعصية، ولا ينتبه لذلك! بل قد لا يبالى! ولربما استحسن ذلك ـ عياذاً بالله ـ فتتابع العقوبات عليه وهو لا يشعر، فتكون مصيبته حين إذن مضاعفه!
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ـ وهو يتحدث عن الأمور التي تورث العبد الصبر وتعينه عليه ليبلغ مرتبة الإمامة في الدين ـ قال رحمه الله: "أن يشهد ذنوبه، وأن الله إنما سلط الناس عليه بسبب ذنبه، كما قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }، فإذا شهد العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه، اشتعل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطهم عليه بسببها عن ذنبهم ولومهم، والوقيعة فيه، وإذا رأيت العبد يقع في الناس إذا آذوه ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار، فاعلم أن مصيبته مصيبة حققية، وإذا تاب واستغفر، وقال: هذا بذنوبي، صارت في حقه نعمة، قال علي رضي الله عنه كلمة من جواهر الكلام: " لا يرجونّ عبدٌ إلا ربه ولا يخافن عبد إلا ذنبه "، وروي عنه وعن غيره: "ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة" (قاعدة في الصبر: (1/169) طبعت ضمن مجموع رسائله (ط.عالم الفوائد)) انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
ويقول تلميذه ابن القيم رحمة الله عليه ـ وهو يوضح شيئاً من دلالات هذه القاعدة القرآنية المحكمة { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } قال رحمه الله:
وهل فى الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟!
فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم، والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء؟ وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه؟ فجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبُدِّلَ بالقرب بعداً، وبالرحمة لعنةً، وبالجمال قبحاً، وبالجنة ناراً تلظى، وبالايمان كفراً، وبموالات الولي الحميد أعظم عداوة ومشاقة، وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل زجلَ الكفر والشرك والكذب والزور والفحش، وبلباس الايمان لباس الكفر والفسوق والعصيان؟ فهان على الله غاية الهوان، وسقط من عينه غاية السقوط، وحلّ عليه غضب الرب تعالى، فأهواه ومقته أكبر المقت!
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم؟ حتى علا الماء فوق رأس الجبال، وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الارض، كأنهم أعجاز نخل خاوية؟ ودمرت ما مرَّ عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم؟ حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة، حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم؟
وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها؟ فأهلكهم جميعاً ثم أتبعهم حجارة من سجيل السماء، أمطرها عليهم فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه علي أمة غيرهم، ولإخوانهم أمثالها، وما هي من الظالمين ببعيد.
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل؟ فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات، ودمرها تدميراً؟... إلى أن قال رحمه الله:
قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، ثنا صفوان بن عمر، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه قال: لما فتحت قبرص، فُرِّقَ بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي! فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟
فقال: ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره؟! بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى!انتهى كلام بن القيم:.
والذي استطرد كثيرا في بيان آثار الذنوب والمعاصي السيئة على الفرد والمجتمع في كتابه النافع الجواب الكافي وذكر كلاما نفيسا يحسن الرجوع إليه والاستفادة منه.
إخوة الإيمان:
وليُعْلَم أنه ينبغي أن ندرك أن العقوبات حينما تذكر، فلا يصح حصرها في العقوبات الحسية أو العقوبات الجماعية ـ التي أشار ابن القيم إلى شيء منها ـ كالهدم والغرق والصيحة، أو السجن والعذاب الحسي، ونحو ذلك، فهذه لا شك أنها أنواع من العقوبات، ولكن ثمة أنواع من العقوبات قد تكون أشد وأعظم، وهى تلك العقوبات التي تتسلط على القلب، فيضرب بالغفلة وقسوته، حتى إن جبال الدنيا لو تناطحت أمامه ما اعتبر ولا اتعظ ـ عياذاً بالله ـ بل يظن المسكين، أو تظن أمة من الأمم ـ وهى ترى النعم تتابع وتزداد مع استمرارها في البعد عن شرع الله ـ تظن أن ذلك علامةً على رضى الله عز وجل عنها، وهذه لعمر الله من أعظم العقوبات التي يبتلى بها العبد وتبتلى بها أمة من الأمم.
استمع جيدا إلى قول الله عز وجل:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } فما الذي حصل؟ هل تابوا أم رجعوا؟ اقرأ تتمة الآية:
{ وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} [الأنعام]
فنعوذ بالله أن نكون من أهل هذه الآية، ونسأله بمنه وكرمه أن يتوب علينا وأن يبصرنا بمواطن الزلل منا، وأن لا يضربنا بقسوة القلب، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا إن ربي سميع مجيب الدعاء،
وإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى والحمد لله رب العالمين.
كتاب قواعد قرآنية - 50 قاعدة قرآنية في النفس والحياة
الشيخ عمر بن عبد الله المقبل
القاعدة الثانية والأربعون: { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم }
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته أيها القراء الكرام، وحياكم الله في هذا المرفأ الجديد من مرافئ هذا الشاطئ الإيماني الذي يستمد روحه من كتاب الله؛ لنتذاكر شيئاً من معاني قاعدة قرآنية محكمة، وثيقة الصلة بواقع الناس، إذ لا ينفك أحدٌ عنها، لكثرة تلبسهم بها، فكان التذكير بها وبما دلّت عليه أمراً مهماً، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم }[المائدة: 89].
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة جاءت ضمن سياق الحديث عن كفارة اليمين في سورة المائدة، قال تعالى:
{ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)} [المائدة].
ومعنى هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم } : هو حفظها عن ثلاثة أمور:
الأمر الأول: حفظها عن الحلف بالله كاذباً.
والأمر الثاني: حفظها عن كثرة الحلف والأيمان.
والأمر الثالث: حفظها عن الحنث فيها إذا حلف الإنسان، اللهم إلا إذا كان الحنث خيراً، فتمام الحفظ: أن يفعل الخير، ولا يكون يمينه سبباً في ترك ذلك الخير الذي حلف على تركه (ينظر: تفسير الطبري (10/562)، وتفسير القرطبي (6/285)، وتفسير السعدي: (242))، وبيان هذه الأمور فيما يلي:
أما حفظ الأيمان عن الحلف الكاذب:
فإن هذا من أكبر الكبائر، وتلك هي اليمين الغموس ـ التي تغمس صاحبها في الإثم ـ يقول النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما في البخاري ـ من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال:
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟!
قال: " الإشراك بالله "،
قال: ثم ماذا ؟
قال: " ثم عقوق الوالدين "،
قال: ثم ماذا ؟
قال: " اليمين الغموس "،
قلت: وما اليمين الغموس؟
قال: " الذي يقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كاذب " (صحيح البخاري (6522)).
وقد بوّب البخاري: على هذا الحديث فقال: باب اليمين الغموس،قال تعالى :
{ وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)} [النحل]؛ دَخَلاً: مكراً وخيانة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ومناسبة ذكر هذه الآية لليمين الغموس: ورود الوعيد على من حلف كاذباً متعمداً" (فتح الباري: (11/556)).
وإنك لتعجب ـ مع وضوح هذا الأمر بحفظ اليمين، والتحذير من اليمين الكاذبة ـ أن يتجرأ بعض الناس على الأيمان الكاذبة، من أجل لعاعة من الدنيا، أو من أجل دفع مضرة عن نفسه بسبب كذبه أو تحايله!
ألم يعلم هؤلاء أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة؟!
ألم يسمع هؤلاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرتجف له القلب:
" من حلف على يمين صبْر يقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ ـ هو فيها فاجر ـ لقي الله وهو عليه غضبان " (صحيح مسلم (220))
ويمين الصبر ـ كما قال العلماء ـ: هي التي يحبس الحالف نفسه عليها، وتسمى هذه اليمين الغموس (ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم (2/160)).
أما الأمر الثاني ـ الذي يشمله اسم الحفظ ـ في هذه القاعدة القرآنية المحكمة: { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم } :
فهو الإقلال من الحلف، وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله: { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ (10)} [القلم] وقال في هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها: { وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ }. والعرب كانوا يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف، كما قال كُثَيّر:
قليل الألايا حافظ ليمينه * وإن سبقت منه الألية برت
والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان:
1 ـ أن من حلف في كلِّ قليل وكثير بالله، انطلق لسانه بذلك ولا يبقى لليمين في قلبه وقع، فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة، فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين.
2 ـ كلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لله تعالى كان أكمل في العبودية، ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية (ينظر: تفسير الرازي (6/65)).
3 ـ أنه يقلل ثقة الإنسان بنفسه، وثقة الناس به، فهو يشعر بأنه لا يصدق فيحلف، ولهذا وصفه الله تعالى بالمهين (ينظر: تفسير المنار (2 / 291)).
لذا ينبغي للآباء والأمهات والمربين أن ينتبهوا لهذا الخلل الذي يقع فيه بعض الناس، وأن يربوا من تحت أيديهم على تعظيم الله عز وجل، ومن صور ذلك: نهيهم عن كثرة الأيمان بلا حاجة.
والملاحظ: أنه لو فُتّش في أكبر أسباب فشو هذه الظاهرة لوجِدَ أنه من قبل الأبوين والمربين، وهذا يفضي إلى عدم تعظيم اسم الله واحترامه وهيبته.
ومن اللطائف أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي امتدت دعوته ثلاثة وعشرين عاماً، لم يحفظ عنه أنه حلف إلا في بضع وثمانين موضعاً!
فماذا سيكون جواب بعض الناس الذين لو أحصيت أيمانهم في سنة واحدة لوجدتها بالعشرات، ولغير حاجة ملحّة، فرحم الله عبداً حفظ يمينه، ووقّر ربه، وعظم اسمه، ولم يحلف إلا عند الحاجة!
أيها الإخوة الكرام:
وثالث المعاني التي يشملها اسم الحفظ الذي أمرت به هذه القاعدة القرآنية المحكمة: { وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ }:
حفظها عن الحنث فيها إذا حلف الإنسان، فإن الواجب على المؤمن إذا حلف على شيء من أمور الخير أو من المباحات أن يتقي الله ويبر بيمينه؛ لأن هذا من تعظيم المحلوف به وتوقيره ـ وهو الله عز وجل ـ.
ويستثنى من ذلك: إذا كان الحنث ومخالفة اليمين خيراً من الاستمرار فيه، فتمام الحفظ: أن يفعل الخير، وأن لا تكون يمينه سبباً في ترك ذلك الخير الذي حلف على تركه.
ومعنى الحنث هنا: مخالفة المحلوف عليه.
ومثال ذلك: أن يحلف على أن لا يأكل النوع الفلاني من الطعام، أو لا يدخل البيت الفلاني، فإن الأفضل هنا أن لا يستمر في يمينه، خاصة إن ترجحت المصلحة في الحنث، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أعتم رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله، فوجد الصبية قد ناموا، فأتاه أهله بطعامه، فحلف لا يأكل من أجل صبيته، ثم بدا له، فأكل فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأتها وليكفر عن يمينه " (مسلم (1650)).
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إني ـ والله ـ إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها "(البخاري (6342)، ومسلم (1649))، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والمقصود ـ أيها القراء الكرام ـ أن نتأمل هذه القاعدة القرآنية جيداً: { وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ } بأن نحفظها عن الحلف بالله كاذباً، وأن نحفظها عن كثرة الحلف والأيمان من غير حاجة، وأن نحفظها عن الحنث فيها إلا إذا كان الحنث خيراً من المضي فيها.
وكلُّ ما مضى ـ أيها الإخوة ـ يجعلنا ندرك أن الشرع الحكيم أولى موضوع الأيمان أهمية بالغة، وبيّن أحكامها تمام البيان، من أجل أن يعرف المسلم حدود هذه العبادة، وأحكامها، وما يجب وما يحرم وما يستحب، وأن ذلك كلّه إنما شرع ووضح تعظيماً لله جل وعلا، وليحفظ العبد يمينه من العبث بها، أو التقليل من شأنها، رزقنا الله وإياكم معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، وتعظيمها على الوجه الذي يحبه ويرضاه، وأن يمنحنا الفقه في دينه، والبصيرة فيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.
كتاب قواعد قرآنية - 50 قاعدة قرآنية في النفس والحياة
الشيخ عمر بن عبد الله المقبل
القاعدة الثالثة والأربعون : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فحياكم الله إلى هذه الحلقة الجديدة من حلقات هذه السلسلة القرآنية المباركة ـ إن شاء الله ـ: قواعد قرآنية؛ لنتذاكر شيئاً من معاني قاعدة قرآنية محكمة، وثيقة الصلة بموضوع الأخلاق، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {... وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر] (وقد أشار إلى كونها قاعدة كلية شيخنا العثيمين: في فتاوى نور على الدرب).
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة ـ في باب الأخلاق ـ لها صلة قوية بتربية القلب وتزكيته، كما أن لها صلةً بعلاقة الإنسان بغيره من الناس.
وهذه القاعدة وردت في كتاب الله في موضعين:
الأول: في سياق الثناء على الأنصار رضي الله عنهم في سورة الحشر، قال تعالى:
{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} .
ومعنى هذه القاعدة باختصار لا يتضح إلا ببيان معنى الشح:
فالشح ـ في أصل مادته اللغوية ـ "الأصل فيه المنع، ثم يكون منعاً مَعَ حِرص، ومن ذلك الشُّحُّ، وهو البُخل مع حِرص، ويقال: تَشَاحَّ الرّجلانِ على الأمر، إذا أراد كلُّ واحدٍ منهما الفوزَ به ومنْعَه من صاحبه" (معجم مقاييس اللغة لابن فارس (3 /178)).
ولما كان الشحُّ غريزةً في النفس أضافه الله إلى النفس { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } وهذا لا يعني أنه لا يمكن الخلاص منه، بل الخلاص منه يسير على مَن يسَّره الله عليه، ولكن الخلاص التام منه بأنواعه كلها الحسية والمعنوية، لا يوفق له إلا المفلحون، ولهذا رؤي عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه ـ وهو يطوف بالبيت ـ ويقول: رب قني شح نفسي! رب قني شح نفسي! لا يزيد على ذلك،
فقيل له في هذا؟
فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق، ولم أزنِ، ولم أفعل (تاريخ دمشق (35/294)).
وهذا من عمق فهم السلف، والصحابة منهم خصوصاً لمعاني كلام الله تعالى.
وقد قال جمع من المفسرين في قوله تعالى: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } هو ألا يأخذ شيئا مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئا أمره الله بأدائه، فالشح يأمر بخلاف أمر الله ورسوله، فإن الله ينهى عن الظلم ويأمر بالإحسان، والشح يأمر بالظلم وينهى عن الإحسان (مجموع الفتاوى (10/589)).
ويقول ابن تيمية رحمه الله: "فالشح ـ الذي هو شدة حرص النفس ـ يوجب البخل بمنع ما هو عليه؛ والظلمَ بأخذ مال الغير، ويوجب قطيعةَ الرحم، ويوجب الحسد" (مجموع الفتاوى (28/144)).
وقال في موضع آخر رحمه الله: "والشح يكون في الرجل مع الحرص وقوة الرغبة في المال، وبغضٍ للغير وظلمٍ له، كما قال تعالى:
{ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)} [الأحزاب] فشحهم على المؤمنين وعلى الخير يتضمن كراهيته وبغضه، وبغض الخير يأمر بالشر، وبغض الإنسان يأمر بظلمه وقطيعته كالحسد؛ فإن الحاسد يأمر حاسده بظلم المحسود وقطيعته كابني آدم وإخوة يوسف" (مجموع الفتاوى (10/590)) اهـ.
ولعلك لاحظتَ ـ أيها القارئ الكريم ـ ارتباط هذه القاعدة ـ في سورة الحشر والتغابن ـ بموضوع المال! لأنه ـ والله أعلم ـ هو أظهر ما يتضح فيه خلق الشح، وإن كان الشح لا ينحصر بالمال.
ومن الأمثلة التطبيقية التي توضح معنى هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }:
1 ـ ما وضحته آية الحشر، من المنقبة العظيمة التي مدح الله بها الأنصار الذين فتحوا بيوتهم وصدورهم لإخوانهم من المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين، رغم قلة ذات يد كثير منهم، وحسبك بهذه المدحة الإلهية، من العليم الخبير ـ الذي يعلم ما تكنه النفوس ـ:
{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}[الحشر].
فتأمل هذه الأعمال القلبية التي كشفها ربنا عنهم، وهي كلها تدل على سلامتهم من شح نفوسهم:
أ ـ أما العمل الأول { يُحِبُّونَ } إذ من شأن القبائل أن يتحرجوا من الذين يهاجرون إلى ديارهم لمضايقتهم.
ب ـ وأما العمل الثاني: ففي قوله: { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } لأنها لو كانت موجودة لأدركوها في نفوسهم.
ج ـ أما العمل الثالث: فهو الإيثار، وهو: ترجيح شيء على غيره بمكرمة أو منفعة، والمعنى: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ } في ذلك اختياراً منهم، والخصاصة: شدة الاحتياج (ينظر: التحرير والتنوير (15/72-75)).
فهل تريد ـ أيها القارئ نموذجاً ـ لم تسمع الدنيا بمثله؟!
استمع إلى هذا الموقف الذي رواه لنا الإمام البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وكان كثير المال،
فقال سعد: قد عَلِمَت الأنصارُ أني من أكثرها مالاً، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فأطلقها، حتى إذا حلت تزوجتها،
فقال عبد الرحمن بارك الله لك في أهلك، دلني على السوق (البخاري (3570))!
فتأمل هذا السخاء النادر، والإيثار العظيم!
والله لو كان الموقف يحكي تنازله عن جزء يسير من ماله لكان شهامةً ونُبلاً، فكيف وهو يتنازل عن شطر ماله! بل ويعرض عليه فراق إحدى زوجتيه!! أي نفوس هذه؟!
أين المطلعون على أخبار الأمم؛ ليأتونا بأمثال هؤلاء الرجال تلاميذ مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم!
أيها الإخوة الكرام:
2 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ما ذكره الله تعالى في حال خوف المرأة من نشوز زوجها وترفعه عنها وعدم رغبته فيها وإعراضه عنها، فالأحسن ـ والحال هذه ـ أن يصلحا بينهما صلحاً بأن تسمح المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها، فهي خير من الفرقة، ولهذا قال: { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ }، ثم ذكر المانع بقوله: { وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ } [النساء:128] أي: جبلت النفوس على الشح، وهو: عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك بطبيعتها، والمعنى: أنه ينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخلق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به بالسماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك، فمتى وفق الإنسان لهذا الخلق الحسن، سَهُلَ حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومُعَامِله، بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة؛ لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر (تفسير السعدي: (206)).
3 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ما أثنى الله به على أهل الإيثار، من الأنصار ومن وافقهم في هذا الخلق العظيم، الذي اعتبره ابن القيم: أحد مدارج السالكين إلى عبودية رب العالمين، فجعل منزلة الإيثار من جملة هذه المنازل.
فما الإيثار؟! الإيثار ضد الشح، فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه، والشحيح: حريص على ما ليس بيده فإذا حصل بيده شيء شح عليه، وبخل بإخراجه، فالبخل ثمرة الشح، والشح يأمر بالبخل.
ولنختم حديثنا بهذا الموقف الذي يدل على عظم نفوس أصحابه:
فهو لقيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما، وقد كان من الأجواد المعروفين، حتى إنه مرض مرةً فاستبطأ إخوانه في العيادة، فسأل عنهم؟
فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين!
فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حِلٍّ، فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه لكثرة من عاده! (مدارج السالكين (2/291)).
فلله تلك النفوس الكبيرة، والأخلاق العظيمة! وأكثر في الناس من أمثالهم،
وإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتاب قواعد قرآنية - 50 قاعدة قرآنية في النفس والحياة
الشيخ عمر بن عبد الله المقبل
القاعدة الرابعة والأربعون : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه حلقة جديدة من حلقات هذه السلسلة القرآنية التي تتابع، لنتذاكر ـ في هذه الحلقة ـ شيئاً من معاني قاعدة قرآنية محكمة، هي من أعظم القواعد التي تعين على تعبيد القلب لرب العالمين، وتربيته على التسليم والانقياد، تلكم هي القاعدة التي دل عليها قوله سبحانه وتعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر: 7].
وهذه القاعدة تدل دلالة واضحة ـ كما يقول أبو نعيم: في بيان شيء من خصائصه صلى الله عليه وسلم ـ على:
"أن الله تعالى فرض طاعته على العالم فرضاً مطلقاً لا شرط فيه، ولا استثناء، فقال: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وقال عز وجل: { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } [النساء:80] وإن الله تعالى أوجب على الناس التأسي به قولاً وفعلاً مطلقاً بلا استثناء، فقال: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب] واستثنى في التأسي بخليله، فقال: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ ـ إلى أن قال ـ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ ....(4)} [الممتحنة] "(نقله السيوطي في الخصائص الكبرى (2 / 297)).
ولقد دأب العلماء على الاستدلال بهذه القاعدة في جميع أبواب العلم والدين:
فالمصنفون في العقائد يجعلونها أصلاً في باب التسليم والانقياد للنصوص الشرعية، وإن خفي معناها، أو عسر فهمها على المكلف، قال الإمام أحمد رحمه الله: إذا لم نقر بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم رددنا على الله أمره، قال الله عز وجل: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (الإبانة لابن بطة (3 / 59)).
وفي أبواب الفقه: يعمد كثير من المفتين من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إلى النزع بهذه القاعدة في إيجاب شيء أو تحريمه، وإن شئت فقل: في الأمر بشيء أو النهي عنه، وإليك هذه القصة التي رواها الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه حينما حدّث وقال: لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله!
قال: فبلغ ذلك امرأةً من بني أسد يقال لها: أم يعقوب! ـ وكانت تقرأ القرآن ـ فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك؟ أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله؟
فقال عبدالله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله؟
فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته!
فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله عز وجل: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }!
فقالت المرأة: فإني أرى شيئاً من هذا على امرأتك الآن قال اذهبي فانظري قال فدخلت على امرأة عبدالله فلم تر شيئاً!
فجاءت إليه، فقالت: ما رأيت شيئاً! فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أما لو كان ذلك لم نجامعها (البخاري (4604)، مسلم (2125)).
وهذا عبدالرحمن بن يزيد رحمه الله: يرى محرماً عليه ثيابه، فنهر المحرم،
فقال: ائتني بآية من كتاب الله عز وجل بنزع ثيابي!
فقرأ عليه: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }.
وهذه قصة أخرى تؤكد وضوح هذا المعنى عند سلف الأمة رحمهم الله:
يقول عبد الله بن محمد الفريابي: سمعت الشافعي ببيت المقدس يقول: سلوني عما شئتم أخبركم عن كتاب الله، وسنة رسوله!
فقلت: إن هذا لجرئ! ما تقول أصلحك الله في المحرم يقتل الزنبور؟
فقال: نعم بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }(تاريخ دمشق (51 /271)).
ويقول محمد بن يزيد بن حكيم المستملي: رأيت الشافعي في المسجد الحرام، وقد جعلت له طنافس، فجلس عليها، فأتاه رجل من أهل خراسان، فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في أكل فرخ الزنبور؟
فقال: حرام.
فقال: حرام؟!
قال: نعم من كتاب الله، وسنة رسول الله، والمعقول، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (سير أعلام النبلاء (10/88)).
أيها الإخوة الكرام:
إن هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } لتدل بمفهومها على ضرورة حفظ السنة، حفظها من الضياع، وحفظها في الصدور، إذ لا يتأتى العمل بالسنة إلا بعد حفظها حساً ومعنى: قال إسماعيل بن عبيدالله رحمه الله: ينبغي لنا أن نحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحفظ القرآن لأن الله يقول: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ }(تاريخ دمشق (8/436)).
وأما الحفظ المعنوي: فإن جهود أئمة الحديث من عهد الصحابة رضي الله عنهم ومن تلاهم من التابعين والأئمة لا تخفى على أدنى مطلع، وليس هذا مقام الحديث عن هذا الموضوع، وإنما المقصود: التنبيه على أن الحفظ الذي تحقق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم على أيدي هؤلاء قد قام به أئمة الإسلام خير قيام، فلم يبق على من بعدهم إلا حفظ ألفاظها، والتفقه في معانيها، والعمل بمقتضاها، إذ هذا هو المقصود الأعظم من ذلك كلّه.
معشر القراء الفضلاء:
إن في الآثار التي سقت بعضها وتركتُ كثيراً منها لدلالةً على شمول الآية لجميع الأوامر سواء كانت واجبة أم مستحبة، وشاملة لجميع النواهي سواء كانت محرمة أم مكروهة.
ومن تأمل واقع الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ وجدهم أصحاب القدح المعلى في تلقي الأوامر والنواهي بنفوسٍ مُسلِّمة، وقلوب مخبتة، ومستعدة للتنفيذ، ولا تجد في قاموسهم تفتيشا ولا تنقيباً: هل هذا النهي للتحريم أم للكراهة؟ ولا: هل هذا الأمر للوجوب أم للاستحباب؟ بل ينفذون ويفعلون ما يقتضيه النص، فأخذوا هذا الدين بقوة، فصار أثرهم في الناس عظيماً وكبيراً.
ولما طغى على الناس ـ في القرون المتأخرة ـ كثرة السؤال والتنقيب: هل هذا الأمر واجب أم مستحب؟ وهل هذا مكروه أم محرم؟ صار أخذهم لأوامر الله ونواهيه ضعيفاً، فصار أثر التعبد لله هزيلاً، والانقياد عسيراً.
أيها الإخوة الفضلاء:
إنني لا أنكر انقسام الأوامر إلى واجب ومستحب، ولا أنكر انقسام النواهي إلى محرم ومكروه، ولا يُنكر أن الإنسان قد يحتاج إلى تفصيل الحال ـ عند وقوع المخالفة ـ ليتبين حكم الله، وما يجب عليه من كفارة ونحو ذلك، لكن الذي يؤسف عليه: أن أكثر الذين يسألون عن هذا التقسيم، ليس مرادهم طلب العلم وتحرير المسائل، بل التملص، والتنصل من الامتثال، وإلى هؤلاء يتوجه الحديث في هذه القاعدة القرآنية المحكمة: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }.
إنني موقن ـ أيها الإخوة ـ أن من ربى نفسه على ترك كل ما ينهى عنه، وفعل كل ما يستطيعه من الأوامر، من غير تنقيب عن حال هذا النهي أو ذاك الأمر، بل يبادر تعبداً لله تعالى بتعظيم الأمر والنهي، فإنه سيجد لذة عظيمة في قلبه، إنها لذة العيش في كنف العبودية، وظِلِّ الاستكانة والاستجابة والخضوع لله رب العالمين.
أيها الإخوة:
ومن أعظم دلالات هذه القاعدة ـ { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } ـ أنها ترد على أولئك الذين يزعمون الاكتفاء بالقرآن فقط في تطبيق أحكام الشريعة، فهاهو القرآن ذاته يأمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولن يكون ذلك إلا باتباع سنته، بل كيف يتأتى للإنسان أن يصلي، أو يزكي، أو يصوم، أو يحج بمجرد الاقتصار على القرآن؟!
وإلى هنا ينتهي ما أردنا الحديث عنه في هذه القاعدة القرآنية المحكمة، وإلى لقاء قادم بإذن الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.
كتاب قواعد قرآنية - 50 قاعدة قرآنية في النفس والحياة
الشيخ عمر بن عبد الله المقبل
القاعدة الخامسة والأربعون : { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ }
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا مرفأ جديد من مرافئ مركبنا القرآني ليرسو على شاطئ من شواطئ هذه القواعد القرآنية، نتدارس فيها شيئاً من معاني قاعدة قرآنية محكمة، يحتاجها كل مؤمن، وعلى وجه الخصوص من عزم على الإقبال على ربه، وقرع باب التوبة، تلكم هي القاعدة التي دل عليها قوله سبحانه وتعالى: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [هود: 114].
وهذه القاعدة هي جزء من آية كريمة في سورة هود، يقول الله تعالى:
{ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود]، وهذه الآية الكريمة سبقت بجملة من الأوامر العظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، يحسن ذكرها ليتضح الربط بينها، يقول تعالى:
{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)}[هود].
ومعنى الآية ـ التي تضمنت هذه القاعدة باختصار ـ: أن الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ـ وهو خطاب للأمة كلها ـ بأن يقيموا الصلاة طرفي النهار، وساعاتٍ من الليل، ينصب فيها قدميه لله تعالى، ثم ذكر علّلَ هذا الأمر فقال: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } أي يمحونها ويكفرنها حتى كأنها لم تكن ـ على تفصيل سيأتي بعد قليل إن شاء الله ـ والإشارة بقوله: { ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } إلى قوله: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } وما بعده، وقيل: إلى القرآن، { ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } : أي موعظة للمتعظين (ينظر: فتح القدير 2/678).
أيها القراء الأفاضل:
وكما أن هذه القاعدة صرحت بهذا المعنى، وهو إذهاب الحسنات للسيئات، فقد جاء في السنة ما يوافق هذا اللفظ تقريباً، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وحسنّه (وفي بعض النسخ: صحيح، وقد استبعد هذا ابن رجب في تعليقه على هذا الحديث في "جامع العلوم والحكم" ح (18)) من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن " (الترمذي (1987) وقد رجح الدارقطني إرساله، وانظر تعليق ابن رجب عليه في "الجامع" ح (18)).
أيها الإخوة المؤمنون: إذا تبين معنى هذه القاعدة بإجمال، فليعلم أن إذهاب السيّئات يشمل أمرين:
1 ـ إذهاب وقوعها، وحبها في النفس، وكرهها، بحيث يصير انسياق النّفس إلى ترك السيّئات سَهْلاً وهيّناً كقوله تعالى: { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ (7)} [الحجرات] ويكون هذا من خصائص الحسنات كلّها.
2 ـ ويشمل أيضاً محو إثمها إذا وقعت، ويكون هذا من خصائص الحسنات كلّها، فضلاً من الله على عباده الصالحين" (ينظر: التحرير والتنوير (7/284)).
ولقد بحث العلماء ههنا معنى السيئات التي تذهبها الحسنات، والذي يتحرر في الجمع بين أقوالهم أن يقال:
إن كانت الحسنة هي التوبة الصادقة، سواء من الشرك، أو من المعاصي، فإن حسنة التوحيد، والتوبة النصوح لا تبقي سيئة إلا محتها وأذهبتها، قال تعالى:
{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)} [الفرقان].
وفي صحيح مسلم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ـ لما جاءه يبايعه على الإسلام والهجرة ـ:
" أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ " (مسلم (121)).
وإن كان المراد بالحسنات عموم الأعمال الصالحة كالصلاة والصيام، فإن القرآن والسنة دلّا صراحةً على أن تكفير الحسنات للسيئات مشروط باجتناب الكبائر، قال تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} [النساء]، وقال عز وجل:
{ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللّمَم } [النجم:32].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر " (مسلم (233)).
أيها الإخوة المؤمنون: إن هذه القاعدة الجليلة: { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } والتي جاءت في مساق الحكم الشرعي، جاء معناها في القرآن الكريم على صور منها:
1 ـ في سياق الثناء على أهل الجنة ـ جعلني الله وإياكم من أهلها ـ قال تعالى: { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } [الرعد: 22].
قال ابن عباس رضي الله عنهما ـ في بيان معناها ـ: يدفعون بالصالحِ من العملِ السيئَ من العمل.
علق البغوي على كلمة ابن عباس، فقال: وهو معنى قوله: { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ }" (تفسير البغوي (4/313)).
2 ـ إثبات هذا المعنى في الأمم السابقة، قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [المائدة: 65].
3 ـ إثباته في سياق الحديث عن توبة العصاة، كما في آية الفرقان التي تلوتها قبل قليل: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ... إلى قوله: فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ... الآيات} [الفرقان: 68 - 71].
أيها المحبون لكتاب ربهم:
إن الأمثلة التطبيقية التي توضح وتؤكد معنى هذه القاعدة المحكمة: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } لكثيرة جداً، لكن لعلنا نذكر ما يسمح به وقت البرنامج، وأول ما نبدأ به من الأمثلة هو ما ذكره ربنا في الآية الكريمة التي تضمنتها هذه القاعدة، وهو:
1 ـ إقامة الصلاة طرفي النهار ـ وهو مبتدأه ومنتهاه ـ، وساعات من الليل، ولا ريب أن أول ما يدخل في هذه الصلوات الخمس، كما يدخل فيها: بقية النوافل، كالسنن الرواتب، وقيام الليل. وإذا كانت هذه الآية الكريمة تدل على أن الصلوات المفروضات والنوافل من أعظم الحسنات الماحية للسيئات، فإن السنة صرّحت بهذا ـ كما تقدم ـ بشرط اجتناب الكبائر.
فليبشر الذين يحافظون على صلواتهم فرضها ونفلها بأنهم من أعظم الناس حظاً من هذه القاعدة القرآنية: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ }، ويا تعاسة وخسارة من فرطوا في فريضة الصلاة!!
2 ـ ومن تطبيقات هذه القاعدة، ما رواه الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: أن رجلا أصاب من امرأة قُبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ }
فقال الرجل: يا رسول الله ألي هذا؟!
قال: " بل لجميع أمتي كلهم " (البخاري (503)، ومسلم (2763)).
3 ـ قصة توبة القاتل الذي قتل تسعةً وتسعين نفساً ـ وهي في الصحيحين ـ وهي قصة مشهورة جداً، والشاهد منها، أنه لما انطلق من أرض السوء إلى أرض الخير: " أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاه ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة " (البخاري (3283)، ومسلم (2766)).
فإلى كل من أسرف على نفسه، وقنّطه الشيطان من رحمة ربه، لا تأيسنّ ولا تقنطن، فهذا رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فلما صحّت توبته، رحمه ربه ومولاه، مع أنه لم يعمل خيراً قط من أعمال الجوارح سوى هجرته من بلد السوء إلى بلد الخير.. أفلا تحرك فيك هذه القصة الرغبة في هجرة المعاصي، والإقبال على من لا سعادة ولا أنس إلا بالإقبال عليه؟!
وتأمل في هذه الكلمة المعبرة، التي قال الحسن البصري رحمه الله: "استعينوا على السيئات القديمات بالحسنات الحديثات، وإنكم لن تجدوا شيئا أذهب بسيئة قديمة من حسنة حديثة، وأنا أجد تصديق ذلك في كتاب الله: { إن الحسنات يذهبن السيئات } (تفسير ابن أبي حاتم (8/279)).
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء يتجدد بكم ومعكم في حلقة من حلقات هذه السلسلة: قواعد قرآنية، نقلب فيها شيئاً من معاني قاعدة قرآنية محكمة، وثيقة الصلة بقضية مهمة في باب الصلة مع الله، ومع عباده، تلكم هي القاعدة التي دل عليها قوله سبحانه وتعالى: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ }[البقرة: 197].
وهذه القاعدة القرآنية المحكمة، جاء ذكرها ضمن سياق آيات الحج، قال تعالى:
{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)} [البقرة].
ويحسن قبل الشروع في مذاكرة هذه القاعدة، أن نوضح معنى الآية التي تضمنتها هذه القاعدة بإيجاز، فيقال:
1 ـ لما تقرر فرض فالحج، وذكرت بعض قبل هذه الآية ـ فيما يخص الإتمام والإحصار ـ بدأ الحديث عن جملة من الآداب والأحكام، ومنها: النهي عن الرفث "وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، خصوصا عند النساء بحضرتهن، والفسوق وهو: جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام، والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة" (تفسير السعدي (91)) فـ"لما نهاهم عن إتيان القبيح قولا وفعلا، حثهم على فعل الجميل وأخبرهم أنه عالم به، وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة"(تفسير ابن كثير (1/197)).
2 ـ وفي الإخبار بأنه ما من خير نفعله إلا وهو يعلمه سبحانه وتعالى، دلالة واضحة على أن هذا متضمن الإثابة على هذا، والحض عليه، وإلا فإنه سبحانه وتعالى يعلم الخير والشر، ونظير هذه القاعدة قوله سبحانه وتعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ }[البقرة: 270].
3 ـ وفي قوله تعالى: { مِنْ خَيْرٍ } في سياق هذه الجملة الشرطية: { وَمَا تَفْعَلُوا } دليل على شمول الآية لكل خير قليلاً كان أو كثيراً.
4 ـ ثم ختمت الآية بأمرين مهمين، تضمنهما قوله سبحانه وتعالى: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }، ففي قوله تعالى: { وَتَزَوَّدُوا } أي اتخذوا زاداً لغذاء أجسامكم، وغذاء قلوبكم -وهذا أفضل النوعين - لقوله تعالى: { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }، فلما رغب سبحانه وتعالى في التقوى، أمر بها طلباً لخيرها فقال تعالى:
{ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }، وإنما خوطب أصحاب العقول بهذا الخطاب ـ وهم أولوا الألباب ـ لأنهم هم الذين يدركون فائدة التقوى، وثمرتها؛ أما السفهاء فلا يدركونها" (ينظر: تفسير القرآن للعثيمين: (2/415)).
أيها المحبون لكتاب ربهم:
إن هذه القاعدة الجليلة، لتربي في المؤمن معاني إيمانيةٍ وتربوية كثيرة ـ وهو في سيره إلى الله والدار الآخرة ـ ولعلنا نلخص هذه المعاني فيما يلي:
أولاً: في هذه الآية ترغيب وحض على إخلاص العمل لله جلّ وعلا، وإن لم يطلع عليه أحد، بل إن الموفق من عباد الله من يحرص كل الحرص على إخفاء العمل عن الخلق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وفي ذلك من الفوائد والعوائد على القلب والنفس الشيء الكثير، ولابن القيم كلمات تكتب بماء الذهب في هذا المعنى، حيث يقول:
"وكم من صاحب قلب وجمَعية وحال مع الله، قد تحدث بها، وأخبر بها، فسلبه إياها الأغيار، فأصبح يقلب كفيه، ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله، وأن لا يطلعوا عليه أحداً، ويتكتمون به غاية التكتم، كما أنشد بعضهم في ذلك:
من سارروه فأبدى السر مجتهداً * لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وأبعدوه فلم يظفر بقربهم * وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا
لا يأمنون مذيعا بعض سرهم * حاشا وِدادِهِمُ من ذلكم حاشا
والقوم أعظم شيءٍ كتماناً لأحوالهم مع الله، وما وهب الله لهم من محبته والأنس به، وجمعية القلب عليه، ولا سيما للمبتدئ والسالك، فإذا تمكن أحدهم وقوي وثبتت أصول تلك الشجرة الطيبة ـ التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه، بحيث لا يخشي عليه من العواصف ـ فإنه إذا أبدى حاله وشأنه مع الله ليقتدي به ويؤتم به؛لم يبال، وهذا باب عظيم النفع وإنما يعرفه أهله" (بدائع الفوائد 3/847 (ط.عالم الفوائد)).
ثانياً: ومن المعاني التي تربيها هذه القاعدة: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } في نفوس أهلها:
راحة النفس، واطمئنان القلب، ذلك أن المحسن إلى الخلق، المخلص في ذلك لا ينتظر التقدير والثناء من الخلق، بل يجد سهولةً في الصبر على نكران بعض الناس للجميل الذي أسداه، أو المعروف الذي صنعه! فإنه إذا يفعل الخير ويوقن بأن ربّه يعلمه علماً يثيب عليه، هان عليه ما يجده من جحود ونكران، فضلاً عن التقصير في حقه، ولسان حاله ـ كما أخبر الله عن أهل الجنة ـ:
{ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان].
أعرف رجلاً مفضالاً، له شفاعات ووجاهات لنفع الخلق، وابتلي بأناس نسوا جميله، وتنكروا لمعروفه، بل شعر أن بعضهم طعنه من الخلف، أو قلب له ظهر المجن!
فذكرتُ له هذا المعنى ـ الذي ندندن حوله ههنا ـ فاستراح كثيراً.
ومع ما تقدم ذكره، فإني أهدي لإخواني ـ الذين منّ الله عليهم بالإحسان إلى الخلق وابتلوا بجفائهم ـ هذا النص النفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية:، حيث يقول في كلام طويل له حول هذا المعنى، قال رحمه الله:
"ولا يحملنك هذا على جفوة الناس؛ وترك الإحسان إليهم؛ واحتمال الأذى منهم؛ بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم؛ وكما لا تخفهم فلا ترجهم؛ وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله؛ وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله؛ وكن ممن قال الله فيه: { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)}[الليل]. وقال فيه:
{ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان]" (مجموع الفتاوى (1/31)).
وقال في موضع آخر: موصياً من يتصدى لنفع الخلق:
"وإذا أحسن إلى الناس فإنما يحسن إليهم: ابتغاء وجه ربه الأعلى، ويعلم أن الله قد من عليه بأن جعله محسناً، ولم يجعله مسيئاً، فيرى أن عمله لله وأنه بالله، وهذا مذكور في فاتحة الكتاب { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}... فالمؤمن يرى: أن عمله لله لأنه إياه يعبد وأنه بالله؛ لأنه إياه يستعين، فلا يطلب ممن أحسن إليه جزاء ولا شكوراً؛ لأنه إنما عمل له ما عمل لله كما قال الأبرار { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } [الإنسان: 9]، ولا يمن عليه بذلك ولا يؤذيه، فإنه قد علم أن الله هو المان عليه إذ استعمله في الإحسان، وأن المنة لله عليه وعلى ذلك الشخص، فعليه هو: أن يشكر الله إذ يسره لليسرى، وعلى ذلك: أن يشكر الله إذ يسر له من يقدم له ما ينفعه من رزقٍ أو علمٍ أو نصر أو غير ذلك.
ومن الناس: من يحسن إلى غيره ليمن عليه، أو يرد الإحسان له بطاعته إليه، وتعظيمه أو نفع آخر، وقد يمن عليه، فيقول: أنا فعلت بك كذا، فهذا لم يعبد الله ولم يستعنه، ولا عمل لله ولا عمل بالله، فهو المرائي، وقد أبطل الله صدقة المنان وصدقة المرائي... الخ" (مجموع الفتاوى (14/329)).
والمقصود ـ أيها القراء الكرام ـ أن من فهم ما ترشد إليه هذه القاعدة القرآنية المحكمة: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } أقدم على فعل الخير، وسهل عليه الصبر على تقصير الخلق وجفائهم؛ لأنه لا يرجو سوى الله،
نسأل الله تعالى بمنّه وكرمه أن يرزقنا فعل الخيرات، والإخلاص لله تعالى في كل ما نأتي ونذر، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا لقاء جديد من حلقات هذه السلسلة: قواعد قرآنية، نتأمل فيها شيئاً من معاني قاعدة قرآنية محكمة، نحن بأمس الحاجة إليها كل حين، وخاصة حين يبتلى الإنسان بمصيبة من المصائب المزعجة، وما أكثرها في هذا العصر، إنها القاعدة التي دل عليها قوله سبحانه وتعالى:
{ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [التغابن: 11].
وهذه القاعدة القرآنية جاء ذكرها ضمن آية كريمة في سورة التغابن يقول الله فيها:
{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)} .
والآية ـ كما هو ظاهر وبيّن ـ تدل على أنه ما من مصيبة أيّاً كانت، سواء كانت في النفس أم في المال أم في الولد، أم الأقارب، ونحو ذلك، فكل ذلك بقضاء الله وقدره، وأن ذلك بعلمه وإذنه القدري سبحانه وتعالى، وجرى به القلم، ونفذت به المشيئة، واقتضته الحكمة، والشأن كل الشأن، هل يقوم العبد بما يجب عليه من عبودية الصبر والتسليم ـ الواجبين ـ، ثم الرضا عن الله تعالى؟! وإن كان الرضا ليس واجبا بل مستحباً.
وتأمل ـ أيها المؤمن ـ أن الله تعالى علق هداية القلب على الإيمان؛ ذلك أن الأصل في المؤمن أن يروضه الإيمان على تلقي المصائب، واتباع ما يأمره الشرع به من البعد عن الجزع والهلع، متفكراً في أن هذه الحياة لا تخلوا من منغصات ومكدرات:
جبلت على كدر وأنت تريدها *** صفوا من الأقذاء والأقذار!
وهذا كما هو مقتضى الإيمان، فإن في هذه القاعدة: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } إيماءً إلى الأمر بالثبات والصبر عند حلول المصائب؛ لأنه يلزم من هَدْيِ الله قلبَ المؤمن عند المصيبة = ترغيبَ المؤمنين في الثبات والتصبر عند حلول المصائب، فلذلك جاء ختم هذه الآية بجملة: { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (ينظر: التحرير والتنوير (28/251)).
وهذا الختم البديع بهذه الجملة: { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } يزيد المؤمن طمأنينة وراحة من بيان سعة علم الله، وأنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء مما يقع، وأنه عز وجل الأعلم بما يصلح حال العبد وقلبه، وما هو خير له في العاجل والآجل، وفي الدنيا وفي الآخرة، يقرأ المؤمن هذا وهو يستشعر قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له " (مسلم (2999)).
ويقول عون بن عبدالله بن عتبة رحمه الله: "إن الله ليكره عبده على البلاء كما يكره أهل المريض مريضهم، وأهل الصبي صبيهم على الدواء، ويقولون: اشرب هذا، فإن لك في عاقبته خيرا" (حلية الأولياء (4/252)).
أيها الإخوة المؤمنون:
ولنعد إلى هذه القاعدة: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } التي هي موضع حديثنا في هذه الحلقة.
وثمة كلماتٍ نورانية، قالها سلف هذه الأمة تعليقاً على معنى هذه القاعدة، ولنبدأ بحبر الأمة وترجمان القرآن حيث يقول رضي الله عنه ـ في قوله تعالى: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ }: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه (تفسير الطبري (23/421)).
ويقول علقمة بن قيس رحمه الله في هذه القاعدة: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ }: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضَى (تفسير الطبري (23/421)).
وقال أبو عثمان الحيري: من صح إيمانه، يهد الله قلبه لاتباع السنة (تفسير القرطبي (18/139)).
ومن لطيف ما ذكر من القراءات المأثورة ـ وإن كانت ليست متواترة ولا مشهورة ـ: أن عكرمة قرأ: " ومن يؤمن بالله يهدأ قلبه " أي: يسكن ويطمئن (تفسير القرطبي (18/139)).
أيها الإخوة القراء:
ومجيء هذه القاعدة في هذا السياق له دلالات مهمة، من أبرزها:
1 ـ تربية القلب على التسليم على أقدار الله المؤلمة ـ كما سبق ـ.
2 ـ أن من أعظم ما يعين على تلقي هذه المصائب بهدوء وطمأنينة: الإيمان القوي برب العالمين، والرضا عن الله تعالى، بحيث لا يتردد المؤمن ـ وهو يعيش المصيبة ـ بأن اختيار الله خير من اختياره لنفسه، وأن العاقبة الطيبة ستكون له ـ ما دام مؤمناً حقاً ـ فإن الله تعالى ليس له حاجة لا في طاعة العباد، ولا في ابتلائهم! بل من وراء الابتلاء حكمة بل حِكَمٌ وأسرار بالغة لا يحيط بها الإنسان، وإلا فما الذي يفهمه المؤمن حين يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل " (الترمذي (2398) وابن ماجه (4023)، وابن حبان (699، 700)، وقد صححه الترمذي وابن حبان وغيرهما، ولعله لشواهده)؟!
وما الذي يوحيه للإنسان ما يقرأه في كتب السير والتواريخ من أنواع الابتلاء التي تعرض لها أئمة الدين؟!
إن الجواب باختصار شديد: "أن أثقال الحياة لا يطيقها المهازيل، والمرء إذا كان لديه متاع ثقيل يريد نقله، لم يستأجر له أطفالا أو مرضى أو خوارين؛ إنما ينتقى له ذوى الكواهل الصلبة، والمناكب الشداد!! كذلك الحياة، لا ينهض برسالتها الكبرى، ولا ينقلها من طور إلى طور إلا رجال عمالقة وأبطال صابرون!" (خلق المسلم، باختصار (133- 134)).
أيها القراء الأفاضل:
ليس بوسع الإنسان أن يسرد قائمة بأنواع المصائب التي تصيب الناس، وتكدر حياتهم، لكن بوسعه أن ينظر في هدي القرآن في هذا الباب، ذلك أن منهج القرآن الكريم في الحديث عن أنواع المصائب حديث مجمل، وتمثيل بأشهر أنواع المصائب، لكننا نجد تركيزاً ظاهراً على طرق علاج هذه المصائب، ومن ذلك:
1 ـ هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } فهي تنبه إلى ما سبق الحديث عنه من أهمية الصبر والتسليم، بالإضافة إلى ضرورة تعزيز الإيمان الذي يصمد لهذه المصائب.
2 ـ ومن طرق معالجة القرآن لشأن المصائب: الإرشاد إلى ذلك الدعاء العظيم الذي جاء ذكره في سورة البقرة، يقول تعالى:
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} [البقرة].
3 ـ كثرة القصص عن الأنبياء وأتباعهم، الذين لقوا أنواعاً من المصائب والابتلاءات التي تجعل المؤمن يأخذ العبرة، ويتأسى بهم، ويهون عليه ما يصيبه إذا تذكر ما أصابهم، وعلى رأسهم نبينا وإمامنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ويتبع هذا العلاج القرآني: النظر في سير الصالحين من هذه الأمة وغيرهم، ممن ابتلوا فصبروا، ثم ظفروا، ووجدوا ـ حقاً ـ أثر الرضا والتسليم بهداية يقذفها الله في قلوبهم، وهم يتلقون أقدار الله المؤلمة، والموفق من تعامل البلاء بما أرشد الله إليه ورسولُه صلى الله عليه وسلم، وبما أرشد إليه العقلاء والحكماء، ففي كلام بعضهم عبر متينة، وتجارب ثرية، فاستمع ـ مثلاً ـ إلى مقولة الإمام الجليل أبي حازم: ـ والتي تزيح جبال الهمّ التي جثمت على صدور الكثيرين، يقول رحمه الله: الدنيا شيئان: فشيء لي، وشيء لغيري، فما كان لي لو طلبته بحيلة من في السموات والأرض لم يأتني قبل أجله، وما كان لغيري لم أرجه فيما مضى، ولا أرجوه فيما بقي، يمنع رزقي من غيري كما يمنع رزق غيري مني، ففي أي هذين أفني عمري؟!" (حلية الأولياء (10/104)).
وبعد ـ أيها القراء الكرام ـ لماذا يتسخط بعضنا ويتوجع على حادثٍ حصل قبل سنوات؟!
ولماذا يقلب أحدنا ملف زواجٍ فاشل؟! أو صفقةٍ تجارية خاسرة، أو أسهم بارت تجارتها؟! وكأنه بذلك يريد أن يجدد أحزانه!!
فيا كل مبتلى:
اصبر على القدر المجلوب وارض به... وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
فما صفا لامرئٍ عيشٌ يسرّ به... إلاّ سيتبع يوماً صفوة كدر
(الكامل في اللغة (2/ 33))
وأوصي في ختام هذه الحلقة بقراءة رسالة قيمة جداً، قليلة الكلمات، عظيمة المعاني؛ لشيخ شيوخنا: العلامة الجليل، الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: وعنوان رسالته: "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة"،
جعل الله أيامنا جميعاً أيام أنس وسرورٍ بالله، وسرورٍ بما يقدره الله، ويقضيه الله، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فحياكم الله إلى هذه الحلقة الجديدة من حلقات هذه السلسلة: قواعد قرآنية، نتفيأ في هذه الحلقة ظلال قاعدة قرآنية محكمة، سارت مسار الأمثال، وهي أثر من آثار حكمة الله عز وجل في خلقه، تعين من تدبرها على رؤية الأمور بتوازن واعتدال، تلكم هي القاعدة التي دل عليها قوله سبحانه وتعالى: { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ } [البقرة: 60].
وهذه القاعدة هي جزء من آية كريمة في سورة البقرة وسورة الأعراف، في قصة استسقاء نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام لقومه، يقول تعالى:
{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)} [البقرة].
والمعنى الخاص الذي يتعلق بهذه الآية الكريمة، أن الله تعالى امتن على بني إسرائيل بأن جعل العيون التي انفجرت من ذلك الحجر اثنتي عشرة عيناً، بعدد قبائل بني إسرائيل، منعاً للزحام، وتيسيراً عليهم، ليعرف كل سبط من أسباط بني إسرائيل، فلما تحققت هذه المنة، اكتملت عليهم النعمة، بتنوع المآكل والمشارب من غير جهد ولا تعب، بل هو محض فضل الله ورزقه، وتمت عليهم النعمة بتنظيم أمرهم في الورود والصدور، فأصبحوا منظمين، لا يبغي أحد على أحد، ولا ينقص أحد حق أحد.
وهذا المعنى ـ الذي دلّت عليه هذه القاعدة ـ جاء ذكره في قاعدة أخرى لكن بلفظ مغاير، وذلك في قوله عز وجل: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } [الإسراء: 84] أي على طريقته وسيرته التي اعتادها صاحبها، ونشأ عليها.
كما أن هذا المعنى الذي دلّت عليه هذه القاعدة جاءت السنة بتقريره كما في قوله صلى الله عليه وسلم:
" اعملوا، فكل ميسر لما خلق له "(البخاري (7112)، مسلم (2648)).
والحاصل أن هذا المعنى جاءت الشريعة بتقريره بعبارات متنوعة، وجُمَلٍ مختصرة، وألفاظ مختلفة؛ ولهذا دلالته ومغزاه، من جهة أهمية تدبر هذه المعاني والإفادة منها في واقعنا، ولعلنا في هذه الحلقة نشير إلى أهم هذه التطبيقات التي حصل بسبب الإخلال بها بعض الآثار السيئة، وفات بسبب ذلك بعض المكاسب الطيبة، ذلكم هو ـ معشر الإخوة ـ:
أهمية معرفة الإنسان للمواهب والقدرات التي وهبه الله إياها، ليفعلها في المجال الذي تناسبه؛ إذ من المتقرر أن الناس ليسوا على درجة واحدة في المواهب والقدرات والطاقات، ولم يجتمع الكمال البشري إلا في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فمعرفة الإنسان لما يحسنه ويتميز به مهم جداً في تحديد المجال الذي ينطلق فيه ليبدع؛ ولينفع أمته، إذ ليس القصد هو العمل فحسب، بل الإبداع والإتقان.
ومن نظر في سير الصحابة رضي الله عنهم أدرك شيئاً من دقة تطبيقهم لمعاني هذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها: { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ } فمنهم العالم المتخصص، ومنهم المعروف بالسنان ومقارعة الفرسان، وثالث يبدع في ميادين الشعر والبيان.
ومن جميل ما يذكر في هذا المقام القصة التي رواها ابن عبدالبر في كتابه القيم "التمهيد"، ذلك أن عبدالله بن عبدالعزيز العمري العابد، كتب إلى الإمام مالك يحضه إلى الانفراد والعمل، ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم، فكتب إليه مالك: إن الله عز وجل قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، ونشرُ العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير، ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قسم له، والسلام (التمهيد (7/185)).
وهذا الجواب من الإمام مالك لا يدل على علمه فحسب، بل على وفور عقله وسمو أدبه، وجودة بيانه عن هذه القضية التي تاه في تقديرها فئام من الناس.
وفي عصرنا هذا برز سجالٌ يشبه هذا نبه الإمام مالك على خطئ قصور النظر فيه، فإنك واجدٌ في مقالات بعض الناس الذين نفروا للجهاد في سبيل الله عتاباً ولوماً لبعض العلماء المتفرغين للتعليم ونشر العلم، طالبين منهم النفير والخروج إلى الجهاد؛ لأن الجهاد أفضل الأعمال، وأنه فرض الوقت،... في سلسلة من التعليلات التي يُصَدّرون بها هذا اللون من العتاب، ويقابل ذلك ـ أحياناً ـ عتاب آخر من قبل بعض المشتغلين بالعلم والدعوة بلوم هؤلاء المتفرغين للجهاد، ورميهم لهم بأن كثيراً منهم ليس بعالم، ولا يفقه كثيراً من مسائل الشرع، في سلسلة من المآخذ التي كان يمكن تهذيبها وتخفيف حدتها لو تأمل الجميع هذه القاعدة وما جاء في معناها، كقوله تعالى: { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } وكالقاعدة النبوية الآنفة الذكر: " اعملوا، فكل ميسر لما خلق له ".
يوضح هذا ويبينه قول النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيحين ـ: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة يا عبدالله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان،
قال أبو بكر الصديق يا رسول الله ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم وأرجو أن تكون منهم" (البخاري ـ في مواضع ـ منها: (3466)، مسلم: (1027)).
قال ابن عبدالبر رحمه الله: " وفيه: أن أعمال البر لا يفتح في الأغلب للإنسان الواحد في جميعها، وأن من فتح له في شيء منها حرم غيرها في الأغلب، وأنه قد تفتح في جميعها للقليل من الناس وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من ذلك القليل" (التمهيد (7/185)).
أيها القراء الفضلاء:
في الساحة نماذج كثيرة خسرت الأمة طاقاتهم بسبب الإخلال بما دلّت عليه هذه القاعدة، فهذا شاب مبدع في العلم، وآتاه الله فهماً، وقدرةً على الحفظ، وسلك طريقه في العلم، فيأتيه من يأتيه ليقنعه بالانخراط في العمل الخيري، وكأنه ـ وهو في طريق الطلب ـ في طريق مفضول، أو عمل مرجوح!
والعكس صحيح، فمن الشباب من يحاول في طلب العلم، لكنه لا ينجح ولا يتقدم، ويعلم مَنْ حوله أنه ليس من أهل هذا الشأن، فليس من الحكمة في شيء أن يطالب هذا الرجل وأمثاله بأكثر مما بذل، فقد دلّت التجربة على أنه ليس من أحلاس العلم، فينبغي توجيهه إلى ما يحسنه من الأعمال.. فالأمة بحاجة إلى طاقات في العمل الخيري، والإغاثي، والاجتماعي، والدعوي، وصدق الله: { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ }.
وفيما أشرنا إليه في تنوع اهتمامات الصحابة رضي الله عنهم ما يؤكد أهمية فهم هذه القاعدة على الوجه الصحيح، حتى لا نخسر طاقات نحن بأمس الحاجة إليها، خصوصاً في هذا الزمن الذي تنوعت فيه الاهتمامات، وتعددت فيه طرائق خدمة الإسلام، ونفع الناس، والموفق من عرف ما يحسنه، فوظفه لخدمة دينه، وأمته، وفي الأثر: " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" (أخرجه أبو يعلى (7/349) ح (4386) وفي سنده ضعف، لكن معناه صحيح)، وكيف يتأتى الإتقان من شخص لا يحسن ما يعانيه ويعالجه!
هذه ـ أيها الإخوة ـ هي هدايات الوحي: { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ }، { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ }، " اعملوا، فكل ميسر لما خلق له "(سبق تخريجه آنفاً)، فهل نتدبرها ونستفيد منها، من أجل فاعلية أكثر لطاقاتنا؟
وإلى هنا ينتهي ما أردت الإشارة إليه في هذه الحلقة، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فحياكم الله إلى هذه الحلقة الجديدة، نتفيأ في هذه الحلقة ظلال قاعدة قرآنية محكمة، لها أثرها البالغ في تصحيح سير الإنسان إلى ربه، وضبط عباداته ومعاملاته وسلوكياته، ومعرفة ما يخفى عليه أو يشكل من أمر دينه، إنها القاعدة التي دل عليها قوله تعالى:
{ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل]
{ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)} [الأنبياء]
وهذه القاعدة تكررت بنصها في موضعين من كتاب الله تعالى:
الموضع الأول في سورة النحل، يقول تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} [النحل].
والموضع الثاني: في سورة الأنبياء، يقول سبحانه وتعالى:
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)} [الأنبياء].
وكلا الآيتين جاء في سياق إرشاد الكفار ـ المعاندين والمكذبين ـ إلى سؤال من سبقهم من أهل الكتاب، وفي هذا الإرشاد إيماء واضح إلى أن أولئك المشركين المعاندين لا يعلمون، وأنهم جهال، وإلا لما كان في إرشادهم إلى السؤال فائدة.
وإذا تأملت ـ أيها القارئ الكريم ـ في هذه القاعدة مع سياقها في الموضعين من سورة النحل والأنبياء، خرجت منها بأمور:
1 ـ عموم هذه القاعدة فيها مدح لأهل العلم.
2 ـ وأن أعلى أنواعه: العلمُ بكتاب الله المنزل، فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث.
3 ـ أنها تضمنت تعديل أهل العلم وتزكيتهم، حيث أمر بسؤالهم.
4 ـ أن السائل والجاهل يخرج من التبعة بمجرد السؤال، وفي ضمن هذا: أن الله ائتمنهم على وحيه وتنزيله، وأنهم مأمورون بتزكية أنفسهم، والاتصاف بصفات الكمال.
5 ـ كما أشارت هذه القاعدة إلى أن أفضل أهل الذكر أهلُ هذا القرآن العظيم، فإنهم أهل الذكر على الحقيقة، وأولى من غيرهم بهذا الاسم (ينظر: تفسير السعدي: (441، 519)).
6 ـ الأمرُ بالتعلم، والسؤالُ لأهل العلم، ولم يؤمر بسؤالهم إلا لأنه يجب عليهم التعليم والإجابة عما علموه.
7 ـ وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم نهي عن سؤال المعروف بالجهل وعدم العلم، ونهي له أن يتصدى لذلك.
8 ـ وفي هذه القاعدة دليل واضح على أن الاجتهاد لا يجب على جميع الناس؛ لأن الأمر بسؤال العلماء دليل على أن هناك أقواماً فرضهم السؤال لا الاجتهاد، وهذا كما هو دلالة الشرع، فهو منطق العقل ـ أيضاً ـ إذ لا يتصور أحدٌ أن يكون جميع الناس مجتهدين.
أيها المحبون لكتاب ربهم:
مرّ بنا كثيراً في هذا البرنامج، أن المقرر في علم أصول التفسير: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذه القاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها مثال لذلك، فهذه الآية وإن كان سببها خاصاً بأمر المعاندين أن يسألوا عن حالة الرسل المتقدمين لأهل الذكر ـ وهم أهل العلم ـ فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين: أصوله وفروعه، إذا لم يكن عند الإنسان علمٌ منها وبها، فعليه أن يسأل من يعلمها.
وهذا من الوضوح بمكان، بحث لا يحتاج إلى استطراد، إلا أن الذي يحتاج إلى تنبيه وتوضيح هو ما يقع من مخالفة هذه القاعدة في واقع الناس، وخرقٍ للآداب التي تتعلق بهذا الموضوع المهم، ومن صور ذلك:
1 ـ أنك ترى بعض الناس حينما تعرض له مشكلة أو نازلة، واحتاج إلى السؤال عنها سأل عنها أقرب شخص له، ولو لم يعلم حاله، هل هو من أهل العلم أم لا؟ وبعض الناس يعتمد على المظاهر، فإذا رأى من سيماه الخير ظنّ أنه من طلاب العلم أو العلماء الذين يستفتى مثلهم!
وكل ذلك غلط بيّن، ومخالف لما دلت عليه هذه القاعدة المحكمة: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }!
ولا أدري، ماذا يصنع هؤلاء إذا مرض أحدهم؟ أيستوقفون أول مارٍّ عليهم في الشارع فيسألونه أم يذهبون إلى أمهر الأطباء وأكثرهم حذقاً؟
ولا أدري ماذا يصنع هؤلاء إذا أصاب سيارته عطل أو تلف؟ أيسلمها لأقرب من يمر به؟ أم يبحث عن أحسن مهندس يتقن تصليح ما أصاب سيارته من تلف؟
إذا كان هذا في إصلاح دنياه، فإن توقيه في إصلاح دينه أعظم وأخطر!
قال بعض السلف: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.
ومن صور مخالفة هذه القاعدة:
2 ـ عدم التثبت في الأخذ عن أهل الذكر حقاً، ذلك أن المنتسبين للعلم كثرٌ، والمتشبهين بهم أضعاف ذلك، ومن شاهد بعض من يظهرون في الفضائيات أدرك شيئاً من ذلك؛ فإن الناس ـ بسبب ضعف إدراكهم، وقلة تمييزهم ـ يظنون أن كلّ من يتحدث عن الإسلام عالمٌ، ويمكن استفتاؤه في مسائل الشرع! ولا يفرقون بين الداعية أو الخطيب وبين العالم الذي يعرف مآخذ الأدلة، ومدارك النصوص، فظهر ـ تبعاً لذلك ـ ألوان من الفتاوى الشاذة، بل والغلط الذي لا يحتمل، ولا يُقْبَل، وكثر اتباع الهوى وتتبع الرخص من عامة الناس، فرقّت أديانهم، وضعفت عبوديتهم، بأسباب من أهمها فوضى الفتاوى التي تعج بها كثير من الفضائيات.
وهذا ما يجعل الإنسان يفهم ويدرك جيداً موقع المقالات المأثورة عن السلف ـ رحمهم الله ـ في شأن الفتوى وخطورتها، وهي نصوص ومواقف كثيرة، منها ما رواه ابن عبدالبر رحمه الله:
أن رجلاً دخل على ربيعة بن عبدالرحمن ـ شيخ الإمام مالك ـ فوجده بيكي! فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟
فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له! وظهر في الإسلام أمر عظيم!
قال ربيعة: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق (جامع بيان العلم وفضله - (2 / 201))
علّق العلامة ابن حمدان الحراني على هذه القصة فقال:
"قلت: فكيف لو رأى ربيعة زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا مع قلة خبرته وسوء سيرته وشؤم سريرته؟ وإنما قصده السمعة والرياء ومماثلة الفضلاء والنبلاء والمشهورين المستورين، والعلماء الراسخين والمتبحرين السابقين، ومع هذا فهم يُنْهَون فلا ينتهون، ويُنَبّهون فلا ينتبهون، قد أملي لهم بانعكاف الجهال عليهم، وتركوا ما لهم في ذلك وما عليهم" (صفة الفتوى: (11)) اهـ.
والمقصود من هذا البيان الموجز: التنبيه على ضرورة تحري الإنسان في سؤاله، وأن لا يسأل إلا من تبرأ به الذمة، ومن هو أتقى وأعلم وأورع، فهؤلاء هم أهل الذكر حقاً الذين نصت هذه القاعدة على وصفهم بهذا: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }.
وختاماً.. فإن الحديث السابق لا يفهم منه ـ أبداً ـ أن جميع من يظهرون على الفضائيات كمن ذكروا آنفاً، بل فيمن يظهر ـ ولله الحمد ـ عدد طيب من العلماء الراسخين، والشيوخ المتقنين، لكن الحديث كان منصباً على طوائف من المفتين، ليسوا على جادة أهل العلم في الفتوى، وليسوا أهلاً لها: { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } [محمد:30]،
والله المستعان،وعليه التكلان، ونعوذ به سبحانه وتعالى أن نقول عليه أو على رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا نعلم، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه هي الحلقة الأخيرة من حلقات هذه السلسلة التي وسمت بـ"قواعد قرآنية" نحاول أن نتحدث عن قاعدة لعلها تناسب ختام هذه السلسلة، والتي تجعل المؤمن يزداد يقيناً بعظمة هذا القرآن، وأنه الكتاب الوحيد الذي يصلح لكل زمان ومكان، إنها القاعدة التي دل عليها قوله تعالى: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9].
وهذه القاعدة جاءت ضمن آية كريمة في سورة الإسراء، والتي يقول الله فيها: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)} [الإسراء]
قال قتادة رحمه الله ـ في بيان معنى هذه القاعدة ـ: " إن القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم فأما دائكم فالذنوب والخطايا وأما دواؤكم فالاستغفار " (الدر المنثور (5/245)) . وهذا التفسير من هذا الإمام الجليل إشارة واضحة إلى شموله إلى علاج جميع الأدواء، وأن فيه جميع الأدوية، لكن يبقى الشأن في الباحثين عن تلك الأدوية في هذا القرآن العظيم.
ومن أراد أن يقف ـ من الإخوة الكرام ـ على شيء من محاولات العلماء ـ رحمهم الله ـ في الوقوف على شيء من ذلك، فليقرأ ما كتبه العلامة الشنقيطي - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية الكريمة، والقاعدة التي نحن بصدد الحديث عنها، فإنه قد كتب - رحمه الله - نحواً من ستين صفحة وهو يتحدث عن نماذج عالجها القرآن، وهدى لأقوم الطرق في حلها.
يقول رحمه الله: "ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهدا برب العالمين جل وعلا ـ يهدي للتي هي أقوم. أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب،... وهذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق، وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم؛ لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة، ولكننا إن شاء الله تعالى سنذكر جملاً وافرة في جهات مختلفة كثيرة من هدي القرآن للطريق التي هي أقوم بياناً لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة، تنبيها ببعضه على كله من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار، وطعنوا بسببها في دين الإسلام، لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة،... ثم سرد جملة من المسائل العقدية والاجتماعية" (أضواء البيان (3/17 - 54)).
أيها القارئ المحب لكتاب ربه:
دعنا نستعرض ـ بإجمال شديد ـ شيئاً من أنواع هذه الهدايات التي دل هدى القرآن للطريق الأقوم فيها:
"إنه يهدي للتي هي في ضبط التوازن بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله..
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء، ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفراداً وأزواجاً، وحكومات وشعوباً، ودولاً وأجناساً، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى؛ ولا تميل مع المودة والشنآن؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض..
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها، فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام.." (ينظر: في ظلال القرآن (4/2215))
أيها الإخوة الأكارم:
إذا تأملنا هذا الإطلاق في هذه القاعدة: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } أدركت أنها آية تتجاوز في هدايتها حدود الزمان والمكان.. وتتجاوز كل الأنظمة والقوانين التي كانت قائمة أو التي ستقوم بعد ذلك!
إنها قاعدة تقطع الطريق على جميع المنهزمين والمتخاذلين من أهل الإسلام أو المنتسبين له، أو من الزنادقة، الذين يظنون ـ لجهلهم ـ أن هذا القرآن إنما هو كتاب رقائق ومواعظ، ويعالج قضايا محدودة من الأحكام! أما القضايا الكبرى، كقضايا السياسة، والعلاقات الدولية، ونحوها، فإن القرآن ليس فيه ما يشفي في علاج هذه القضايا!!
وهذا الكلام فضلاً عن كونه خطيراً وقد يؤدي إلى الكفر، فإنه سوء أدب مع الله، ذلك أن ربنا ـ وهو العليم الخبير ـ يعلم حين أنزل القرآن أن العباد سيقبلون على متغيرات كثيرة، وانفتاح، وعلاقات، ومستجدات، فلم يتركهم هملاً، بل حفظ لهم هذا القرآن ليرجعوا إلى هداياته، وحفظ لهم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لتكون شارحةً لما أجمل من قواعد القرآن، بل وجعل في السنة أحكاماً مستقلة، فمن أراد الهداية وجدها فيهما، ومن كان في عينيه عشى، أو في قلبه عمى، فليتهم نفسه، ولا يرمين نصوص الوحي بالنقص والقصور:
قد تنكرُ العينُ ضوء الشمسِ من رمدٍ * ويُنْكِرُ الفَمُّ طَعْمَ الماء منْ سَقَم
أيها الإخوة الفضلاء:
وأختم ما أردتُ الإشارة إليه في الحديث عن هذه القاعدة القرآنية المحكمة: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } بهذه القصة التي وقفتُ عليها، وهي أنني أذكر أن أحد العلماء لما طُلِبَ منه أن يلقي محاضرة حول هداية هذه القاعدة: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } قال في نفسه: وماذا سأقول عن هذه الآية في ساعة أو أكثر؟! فقررت أن أراجع كلام بعض المفسرين حولها، فبدأت بتفسير السعدي، فوجدته يقول: "يخبر تعالى عن شرف القرآن وجلالته وأنه { يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } أي: أعدل وأعلى من العقائد، والأعمال، والأخلاق" (تفسير السعدي: (454)).
فقررت أن أبدأ بالحديث عن هداية القرآن للتي هي أقوم في أبواب العقائد، فانتهى وقت المحاضرة ولم أنته من الحديث عن هذه الجزئية فقط! فكيف بمن أراد الحديث عن هداية القرآن للتي هي أقوم في أبواب العبادات؟
والمعاملات؟
والأحوال الشخصية؟
والحدود؟
والأخلاق والسلوك؟
فعلمت أن من يريد الحديث عن هذه القاعدة، فسيحتاج إلى عشرات المحاضرات.
أيها الموقنون بهذا الكتاب العظيم:
هذا كتاب ربنا، يخبرنا فيه أنه { ييَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }، فأين الباحثون عن هداياته؟
وأين الواردون حياضه؟
وأين الناهلون من معينه؟
وأين المهتدون بتوجيهاته؟.
وبعد ـ أيها الإخوة والأخوات الكرام من المتابعين لهذه الحلقات ـ:
فهذه هي الحلقة المتممة للخمسين، وبها تنتهي حلقات هذه السلسلة التي حاولت فيها المرور على جملة من القواعد التي تضمنها كتاب الله العظيم، وتسليط الضوء على تلك القواعد، وإبراز بعض ما تضمنته تلك القواعد من هدايات وتوجيهات ربانية، ومحاولة تنزيلها على واقع الناس، لأن من أجلى صور عظمة القرآن هو تجدد معانيه بتجدد أحوال الناس، ليبقى هادياً ومقيماً لمن أراد الله هدايته واستقامته.
وإنني ـ في ختام هذه الحلقات ـ لأشكر جميع الذين تواصلوا معي باقتراحاتهم، أو ملاحظاتهم، والتي حاولت الإفادة منها، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتاب قواعد قرآنية - 50 قاعدة قرآنية في النفس والحياة
الشيخ عمر بن عبد الله المقبل
القاعدة العاشرة : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ }
إنها قاعدة جليلة قرآنية محكمة مؤكَّدة، تشع منها القدرة الإلهية؛ لتساند جند الإيمان في كل زمان ومكان، "ومعلوم أن نصر الله إنما هو باتباع ما شرعه: بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه ونصرة رسله وأتباعهم، ونصرة دينه وجهاد أعدائه، وقهرهم حتى تكون كلمته جل وعلا هي العليا، وكلمة أعدائه هي السفلى")(أضواءالبيان: (5/ 265))
إن هذه القاعدة العظيمة هي سنة من سنن الله تعالى الماضية مضي الليل والنهار، الراسخة رسوخ الجبال.
"وقوله سبحانه :{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } عطف على جملة { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ }، أي أمر الله المسلمين بالدفاع عن دينهم، وضمن لهم النصر في ذلك الدفاع؛ لأنهم بدفاعهم ينصرون دين الله، فكأنهم نصروا الله؛ ولذلك أكد الجملة بلام القسم ونون التوكيد (التحريروالتنوير: (1/ 202)
وهذه القاعدة جاءت ضمن آيتني كريمتين، أبرزتا أسباب النصر، يقول تعالى:
{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) [الحج]َ
ففي هاتين الآيتين الكريمتين وعد الله ُ بالنصر من ينصره وعدا مؤكدا بمؤكدات َمعنوية ولفظية:
أما المؤكدات اللفظية : فهي القسم َّ المقدُر ، لأن التقدير: ( والله لينصرن اللهُ من ينصره ) وكذلك اللام والنون في { وَلَيَنصُرَنَّ } كلاهما يفيد َ التوكيد
وأما التوكيد ُّ المعنوي: ففي قوله { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } فهو سبحانه قوي َّلا يضعف وعزيز لا يذل ، وكل قوة وعزة ستضاده ستكون ذُلاً ً وضعفا
وفي قوله سبحانه: { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } تثبيت للمؤمن عندما يستبعد النصر في نظره لبعد أسبابه عنده ، فإن عواقب الأمور لله وحَدُه َ ، يغيرِّ َ سبحانه ما شاء حسب ما تقتضيه حكمته (مجالس شهر رمضان (95) للعثيمين)
وهذه الجملة التي تضمنتها هذه القاعدة جاءت عطفا على جملة: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } بالجهاد وإقامة الحدود { لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } (( وفي الآية قراءتان: بتخفيف الدال (هُدِمَتْ) وبالتشديد على التكثير، فالتخفيف يكون للتقليل والتكثير والتشديد يختص بالتكثير، ينظر: تفسير البغوي (5 /389 )) .
فإن قيل: لم قدمت مساجد أهل الذمة ومصلياتهم على مساجد المسلمين؟ قيل: لأنها أقدم بناء. وقيل: لقربها من الهدم وقرب المساجد من الذكر، كما أخر السابق في قوله عز وجل: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) } [فاطر] ((ينظر: تفسير القرطبي (12 / 72))
وهذه هي معابد أهل الملل الكبرى ثم قال سبحانه بعد ذلك -مؤكدا هذه القاعدة والسنة الإلهية المطردة - : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ }
والسؤال: كيف يكون نصر الله؟
وهل الله محتاج إلى نصره وهو الغني القوي العزيز؟
والجواب على ذلك: أن نصره يكون بنصرة دينه، ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم في حياته، ونصرة سنته بعد مماته ، وتتمة الآية التي بعدها تكشف حقيقة النصر الذي يحبه الله ُ، ويريده، بل هو النصر الكفيل باستمرار التمكين في الأرض، قال تعالى: { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) [الحج]
لذا، ما نُصِرَ دين الله بأعظم من إظهار هذه الشعائر العظيمة:
ُالصلاة: التي هي صلة بين العباد وربهم، وبها يستمدون قوتهم الحسية والمعنوية، وراحتهم النفسية. ِ
وإيتاء الزكاة: فأدوا حق المال، وانتصروا على شح النفس، وتطهروا من الحرص، وغلبوا وسوسة الشيطان، وسدوا خلة الجماعة، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج، وحققوا لها صفة الجسم الحي ( في ظلال القرآن 4/2427)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وفيه إصلاح لغيرهم، فالناس ما بين جاهل ٍ ، أو غافل، فهؤلاء يؤمرون بالخير ويذكرون به، أو عاص ومعاند فهؤلاء يُنهون عن المنكر.
فمتى ما علم الله من أي أمة من الأمم أو دولة من الدول أنها ستقيم هذه الأصول الأربعة من أصول التمكين؛ أمدها الله بتوفيقه، وعونه وإن تكالبت عليها الأمم، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ومن سار سيرتهم أصدق الشواهد وأنصعها.
أما إذا علم الله من أحوالهم أنهم إذا عادوا إلى الأرض ومكنوا فيها ما أقاموا صلاة ً ، ولا آتوا زكاة ً ، ولا رجحوا معروفا، ولا قبحوا منكرا، فإن الله تعالى يكلهم إلى أنفسهم، ويسلط عليهم عدوهم، أو يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، وفي التاريخ عبرة!
وإنك لتعجب - بعد هذا الإيضاح الرباني لأصول النصر والتمكين- من أناس ينتسبون إلى الإسلام، كيف تنكبوا عنه؟ أم كيف استبدلوا به مذاهب لا دينية أصلاً؟ ّ ولا ينسى الناس قول أحد القياديين في منظمة التحرير الفلسطينية -لما أرادوا إعلان الدولة الفلسطينية -: نريدها دولة علمانية!
إن انتصار اليهود على هؤلاء أقرب؛ فهم أهل كتاب ودين وإن كانوا قتلة مجرمين. إن من يقرأ القرآن الكريم بأدنى تأمل، سيجد الحديث فيه ظاهرا وبينا عن أسباب ْ النصر وأسباب الهزيمة في مواطن متفرقة، وهي تحكي مواقف وقعت لأشرف جيش عرفته الدنيا، قائده محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجنوده الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
لقد تساءل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أُحد عن سبب الهزيمة؟
فجاء الجواب من السماء :
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران]
وفي حنين، وقع إعجاب من بعض مُسلمة الفتح بكثرتهم، فكاد الجيش أن ينهزم، فجاء التعقيب الذي تضمن تذكيرا بمنن الله عليهم في مواطن كثيرة:
{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) } [التوبة]
( وفي حديث القرآن عن غزوة بدر -في سورة الأنفال - تصريح بأهم أسباب النصر وأخطر أسباب الهزيمة:
{ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) [الأنفال]
ونجد تصريحا بسبب آخر من أسباب النصر ألا وهو الإيمان، إذ يقول الله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم]
والسؤال: أين النصر اليوم عن المسلمين؟
المسلمون في بلدان كثيرة مضطهدون ً مهزومون، يعيشون ضعفا ً ويذوقون عجزا!
أين النسخ المكررة من يوم الفرقان في بدر الكبرى؟ ويوم الأحزاب؟ واليرموك؟ َ ونهاوند؟ أو يوم كُسرِ التتار حين غزوا بلاد الإسلام في أوائل القرن الثامن؟!
إنني حرصت أن أنقل إجابات أربعة من علماء الإسلام في القديم والحديث، ٍ ومن نواح متفرقة، من المغرب والمشرق؛ لنرى كيف ينظر هؤلاء العلماء إلى الداء والدواء:
يقول القرطبي (ت: 671هـ) مجيبا على هذا السؤال القديم في ضوء هذه القاعدة { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ }
هكذا يجب علينا نحن أن نفعل (أي أن ننصر دين الله) لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة! وذلك بما كسبت أيدينا
وفي البخاري: قال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم وفيه مسند (أي في صحيح البخاري حديث مسند) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( هل تُرْزَقون وتُنْصَرون إلا بضُعَفائِكم ) ( صحيح البخاري ح 2896)
وفي رواية النسائي: إنَّما نصرَ اللَّهُ هذِه الأمَّةَ بضَعَفَتِهم بدعواتِهم وصلاتِهم وإخلاصِهم
، وله شاهد من حديث أبي الدرداء عند أحمد والنسائي بلفظ: إنما تُنصرونَ وتُرزقونَ بضعفائِكم
، قال ابن بطال : تأويل الحديث أن الضعفاء أشد إخلاصا في الدعاء، وأكثر خشوعا في العبادة؛ لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا . فتح الباري لإبن حجر 6/89))
فهذه أسباب النصر وشروطه، وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا! فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه! لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد، حتى استولى العدو شرقا وغربا برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن! ولا عاصم إلا من رحم (تفسير القرطبي3 /255))
ويقول الإمام ابن تيمية (ت: 728 هـ) مشخصا الداء ومبينًا الدواء:
إذا كان في المسلمين ضعف، وكان العدو مستظهرا عليهم؛ كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم - إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنًا وظاهرا- وإما بعدوانهم بتعدي الحدود باطنًا وظاهرا، قال الله تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)} [آل عمران] ، وقال تعالى:
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} [آل عمران] وقد قال تعالى:
{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج] (مجموعة الرسائل والمسائل لإبن تيمية - رشيد رضا -: (1 /58))
وللعلامة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله ( ت: 1354هـ ) جواب عن هذا ٍالسؤال يحسن إيراده ، وهو العالم الذي عاش فترة ضعف وهوان شديدين مرت بهما أمة الإسلام:
و لكننا نرى كثيرا من الذين يدعون الإيمان في هذه القرون الأخيرة غير منصورين، فلا بد أن يكونوا في دعوى الإيمان غير صادقين، أو يكونوا ظالمين غير مظلومين، ولأهوائهم لا لله ناصرين، ولسننه في أسباب النصر غير متبعين، وإن الله لا يخلف وعده ولا يبطل سننه، وإنما ينصر المؤمن الصادق وهو من يقصد نصر الله وإعلاء كلمته، ويتحرى الحق والعدل في حربه لا الظالم الباغي على ذي الحق والعدل من خلقه، يدل على ذلك أول ما نزل في شرع القتال قوله تعالى - من سورة الحج-:
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ... (39)} إلى قوله: { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ.. (40)}
فأما الرسل الذين نصرهم الله ومن معهم فقد كانوا كلهم مظلومين، وبالحق والعدل معتصمين، ولله ناصرين. وقد اشترط الله مثل ذلك في نصر سائر المؤمنين، فقال في -سورة القتال-:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} [ محمد ]
والإيمان سبب حقيقي من أسباب النصر المعنوية، يكون مرجحا بين من تساوت أسباهبم الأخرى، فليس النصر به من خوارق العادات ( تفسير المنار )7 /317.))
وأما العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله (ت: 1376هـ) فيضمن بيانه عن الداء والدواء حديثاً مهما عن الفأل، فيقول:
إيمان ضعيف، وقلوب متفرقة، وحكومات متشتتة، وعداوات وبغضاء باعدت بين المسلمين، وأعداء ظاهرون وباطنون، يعملون سرا وعلنًا للقضاء على الدين، َ وإلحاد وماديات، جرفت بتيارها الخبيث، وأمواجها المتلاطمة الشيوخ والشبان، ودعايات إلى فساد الأخلاق، والقضاء على بقية الرمق!!
ثم إقبال الناس على زخارف الدنيا، وبحيث كانت هي مبلغ علمهم، وأكبر همهم، ولها يرضون ويغضبون، ودعاية خبيثة للتزهيد في الآخرة، والإقبال بالكلية على تعمير الدنيا وتدمير الدين، واحتقار واستهزاء بالدين وما ينسب إليه، وفخر وفخفخة، واستكبار بالمدنيات المبنية على الإلحاد التي آثارها وشرها وشررها قد شاهده العباد...
ولكن مع ذلك: فإن المؤمن لا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من روح الله، ولا يكون نظره مقصورا على الأسباب الظاهرة، بل يكون ملتفتا في قلبه كل وقت إلى مسبب الأسباب، الكريم الوهاب، ويكون الفرج بين عينيه، ووعده الذي لا يخلفه، بأنه سيجعل الله بعد عسر يسرا، وأن الفرج مع الكرب، وأن تفريج الكربات مع شدة الكربات وحلول المفظعات (بهجة قلوب الأبرار ص230)
ُنسأل الله تعالى أن يعز دينه وأن يجعلنا من أنصاره، وأن يُظهر أولياءه، ويذل أعداءه..
كتاب قواعد قرآنية - 50 قاعدة قرآنية في النفس والحياة
الشيخ عمر بن عبد الله المقبل
التمهيد
يحسن قبل الدخول إلى ما تيسر إعداده من قواعد، أن أبينّ ّ حد هذه القواعد، ومرادي بها؛ فأقول: تضمن العنوان كلمتي: قواعد، وقرآنية ،
فأما (القواعد):
فهي جمع قاعدة، وأصلها اللغوي يعود الى مادة (قعد) وهي كما يقول ابن فارس ـ أصْلٌ مُطَرِدٌ مُنْقَاسٌ لا يُخْلَفُ وإنْ كَانَ يُتَكّلَّمُ في مَوَاضِعَ لا يُتَكَلَّمُ فيهَا بالجُلُوسِ … وقواعد البيت أساسه (مقاييس اللغة 5/108)
فكأن قَواعد البيت في سفولها تخالف عواليه. ولهذا يقال والقاعدُ والقاعدة أصل الأس
وفي التنزيل : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } [ البقرة:127] وفيِه : { فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ َّ } [النحل :26]
قال الزجاج القواعد َ أساطين البناء التي تَعمده (المحكم والمحيط الأعظم لإبن سيده 1/172)
وعلى هذا فقاعدة الباب: ُ الأصل الذي تنبني عليه مسائله، وفروعه.
أما تعريف القاعدة إصطلاحا . فهو قضيَّة كلية منطبقة على جزيئاتها
((تيسير التحرير (1 / 14 ) وينظر: التعريفات (171) إجابة السائل شرح بغية الآمل، ص 25) ، حاشية العطار على شرح الجلال المحلى على جمع الجوامع، ص 1/31))
- فقولهم: (قضية كلية) أي يدخل تحتها جميع أجزائها، لا يشذ من ذلك شئ.
وهذا الوصف دقيق، ومطرد في حق القواعد القرآنية التي تعتمد الآية الكريمة، او جزء منها في إثباتها؛ لأنها تعتمد على النص القرآني، فهو كلام الله تعالى الذي :
{ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)}(فصلت)
أما بالنسبة للقواعد التي يصوغها علماء الأصول، أو علماء التفيسر، فهذه الكلية قد تنتقض في بعض صورها، فهي -إذن- نسبية، وليست مطردة.ولا يلزم -في هذه القواعد- من ذلك تعديل الصياغة ليقال بأن القواعد »حكم أغلبي«؛ لوجود استثناءات في بعض القواعد، كلا؛ لأن هذه الإستثناءات لا تخرق القاعدة ِ َ ْ فالعبرة بالأغلب، كما يقول الكفوي: (( وتخلف الأصل في موضع أو موضعين لا ينافي أصالته(الكليات: 122))، وللشاطبي رحمه الله كلام نفيس في تقرير صحة الاعتماد على القواعد وإن وجد لها استثناءات، أو تخلفت بعض جزئياتها، ((ينظر: الموافقات: (2/83) قواعد التفسير للسبت: (1/23))
- وقولهم: » منطبقة على جزئياتها « لأن هذه هي حقيقة القاعدة، فهي الأساس والأصل لما فوقها، وهي تجمع فروعا َمن أبواب شَّتى (الكليات: 728)
- وأما » القرآنية :
فنسبة إلى القرآن، وهو ً لغة: َ مأخوذ من قرأ، وأصلها من قريَ ـ كما يقول ابن فارس ـ الذي يدل على جمع واجتماع
ومنُه ُ القرآن ، كأنْه سمي بذلك لجمعه ما فيه من الأحكام والقصص وغير ذلك (( مقاييس اللغة: 5/78 ) بتصرف، وفي »الإتقان « للسيوطي: (2/339)(النوع السابع عشر) بسط وتوسع في اشتقاقه، ليس هذا موضع بسطه)).
وأقرب ما قيل في تعريفه ً اصطلاحا: » كلام الله تعالى حقيقة، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته ((ينظر: " الإتقان" للسيوطي: 2/339 (النوع السابع عشر)، مباحث في علوم القرآن لمناع القطان (17))
ومما يحسن ذكره ههنا، ما علقه الشيخ محمد بن عبدالله دراز رحمه الله حيث قال - بعد أن تحدث عن فضل القرآن على ما سبقه من الكتب السماوية -: لما كان القرآن بهذا المعنى الأسمى جزئيًّا حقيقياً كان من المتعذر تحديده بالتعاريف المنطقية ذات الأجناس والفصول والخواص،...،
وأما ما ذكره العلماء من تعريفه بالأجناس والفصول - كما تعرف الحقائق الكلية - فإنما أرادوا به تقريب معناه، وتمييزه عن بعض ما عداه، مما قد يشاركه في الاسم ولو توهما؛ ذلك أن سائر كتب الله تعالى، والأحاديث القدسية، وبعض الأحاديث النبوية، تشارك القرآن في كونها وحيا إلهيا فربما ظن ظان أنها تشاركه في اسم القرآن أيضا، فأرادوا بيان اختصاص الاسم به ببيان صفاته التي امتاز بها عن تلك الأنواع « ا.هـ. ينظر: النبأ العظيم (43.)
وأما استعمال هذا اللفظ (قرآنية)؛ فإنني لم أقف على استعمال هذه النسبة (قرآنية) في كتب المتقدمين من أئمة اللغة، وإنما وجدتها عند بعض المتأخرين، كما في تاج العروس للزبيدي (ت: 1205)، ((11/163 ،18/190) (ًينظر -على سبيل المثال-: تاج العروس))وفي(كليات « أبي البقاء الكفوي) ت: 1094 الكليات 1/421
وأما ورود هذه النسبة في كتب المفسرين من القرن السادس والسابع فكثير، ومن أقدم من وقفت على استعماله لها: الرازي (ت: 606 ) في تفسيره مفاتيح الغيب (ينظر -على سبيل المثال-: 7/ 110 ،10/162 ،17/269.).وأبي حيان ( ت: 745 ) في البحر المحيط (ينظر على سبيل المثال: البحر المحيط في التفسير: 6/74)
وأما وروده في كلام غير المفسرين من المتأخرين، فكثير جدا، وليس هذا مما يعنينا ههنا.
وبناءً على ما تقدم، فيمكن الخلوص إلى تعريف القواعد القرآنية ( نظرا لأن هذا الميدان بكرٌ فلم أقف على من عرفها باعتبار مجموع الكلمتين لأن هذا العنوان لا أعلمه طُرقَ من قبل، ولهذا، فيمكن اختيار تعريف لهذه الجملة )، باعتباره لقبا على ما اصطلح عليه حديثا بهذه الجملة، فيقال في تعريفها، هي:
» أحكام كلية قطعية، مستخرجة من نصوص القرآن «.
ولتوضيح هذا التعريف يقال:
- قولنا: أحكام كلية فقد سبق البحث فيها قريبا
- وقولنا: قطعية أي: أن حكمها مقطوع به، فلا يتطرق إليه الظن في أصل بنيتها؛ لأنها مأخوذة من كلام الله تعالى، فهو حق متيقن؛ وإنما يتطرق الظن في ما يدخله المتأمل من أفراد تلك القاعدة.كما أن للظن مجالاً في ما يتعلق بتصنيف القواعد إلى كبرى وصغرى.
- قولنا: » مستخرجة من نصوص القرآن « وفي هذا إشارة إلى مادة هذه القواعد، فهي مأخوذة من الآيات القرآنية، وليست كقواعد المفسرين أو الأصوليين التي يجتهد العلماء في صياغتها وتحرير ألفاظها.