أنشطة المبشرين الكوريين في العالم الإسلامي.. المسكوت عنه
التبشير «الخارجي» أساء إلى العلاقة بين المسلمين ومسيحيي الشرق
د. محمد السيد سليم
هناك دائما ما يسمى «المسكوت عنه» في الخطاب العام أي القضايا المهمة التي لايشار اليها الا فيما ندر أما لأنها لا تجذب الانتباه العام أو لحساسيتها المفرطة، أو لعدم توافر المعلومات عنها. ولعل من تلك القضايا هي قضية الدور الذي تقوم به الكنائس الكورية الجنوبية في العالم الاسلامي سواء بنشر مذاهبها بين المسيحيين المشارقة أو نشر المسيحية بين المسلمين في المشرق. هناك معارك صامتة تخوضها تلك الكنائس في العالم الاسلامي أدت الى طرد العديد منها من البلاد الاسلامية بل والى مقتل بعض قياداتها. ولكنهم مصممون على السير في طريقهم لأنهم يعتقدون أن المسيح - عليه السلام - قد أمرهم بذلك. ولعل من أبرز تجليات تلك الظاهرة ما أشارت احدى الصحف الكويتية الصادرة في 4 اكتوبر الماضي الى أن وزارة الخارجية الكورية الجنوبية قد أعلنت أن ليبيا قد أفرجت عن كوريين جنوبيين أحدهما قس مسيحي بتهمة ممارسة نشاطات تبشيرية وأن القس كان قد اعتقل في يونيو الماضى بتهمة ادخال كتب مسيحية ومواد تبشيرية الى ليبيا ما يشكل مخالفة لقوانين البلاد فيما اعتقل الكوري الجنوبي الآخر خلال شهر سبتمبر بتهمة المساعدة على تمويل النشاطات الدينية للقس. وفي شهر يونيو من سنة 2009 أعلن عن هروب مجموعة كنسية كورية بعد الكشف عن أنشطتها في أوساط البدو واللاجئين العراقيين في الأردن. فما هي قصة الكنائس الكورية الجنوبية في العالم الاسلامي؟ وما انعكاسات تلك الأنشطة على المجتمعات الاسلامية والعلاقات الاسلامية المسيحية؟ وهل تساندهم حكومة كوريا الجنوبية أم أنهم يعملون باستقلال عنها؟ وما العمل لحث هؤلاء على وقف استثمار ظروف المجتمعات الاسلامية الصعبة لصالحهم؟
(1)
كانت كوريا تقليديا دولة يدين معظم سكانها بالبوذية. ولكن الكاثوليكية انتشرت فيها في القرن التاسع عشرمن خلال نشاط البعثات الفرنسية الكاثوليكية في الصين. وفي فترة لاحقة من أواخر القرن التاسع عشر دخلت البروتستانتية الى كوريا من خلال البعثات التبشرية الأميركية. وتوسع نفوذ الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية في خلال حقبة الاحتلال اليابانى لكوريا منذ سنة 1910 حيث قبلت تلك الكنائس هذا الاحتلال ما ساعدها على النمو من خلال أنشطتها التعليمية. وبعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية وانشطار كوريا الى قسمين شمالي وجنوبي حظرت كوريا الشمالية أنشطة الكنائس في أراضيها ، في حين ازدهرت في الجنوب وبالذات بعد نهاية الحرب الكورية حيث تدفقت على كوريا الجنوبية مساعدات ضخمة من الولايات المتحدة الى الكنائس البروتستانتية التي وزعتها على المحتاجين ما زاد من شعبية تلك الكنائس وزاد من معدلات تحول الكوريين الجنوبيين الى البروتستانية. وخلال العقود الثلاثة الممتدة من بدء عصر النهضة الكورية في أوائل الستينيات حدثت طفرة كبيرة في معدلات التحول حتى زاد عدد البروتستانت من 800 ألف سنة 1957 الى 5.3 ملايين سنة 1978 الى 9.1 ملايين سنة 1986، كما زاد عدد الكاثوليك من 285 ألف سنة 1957 الى751 ألف سنة 1978 الى 2 مليون سنة 1986. كما زاد عدد الكنائس ليصل الى حوالي 26 ألف كنيسة وحوالي 41 ألف كاهن بحلول سنة 1986. وفي الوقت الراهن يوجد في كوريا 11 مليون بروتستانتي، 3 ملايين كاثوليكى يشكلون ثلث سكان كوريا الجنوبية.
(2)
بعد أن وطدت الكنائس أقدامها في كوريا الجنوبية بدأت تمد نطاق عملها لنشر المسيحية خارج أراضيها وبالذات في العالم الاسلامي. فقد أصبحت البعثات التبشيرية الكورية الجنوبية هي ثاني أكبر بعثات تبشير في العالم بعد البعثات الأميركية وقبل البعثات البريطانية. ولهم حوالي 17 ألف منصر ينتشرون في افريقيا وآسيا ويتمركز كثير منهم في الدول الاسلامية في صمت تحت ستار الأعمال الخيرية. ولهم مقار دائمة في كثير من الدول الاسلامية بعضها معلن عنه والبعض الآخر مستتر تحت لواء أنشطة طلابية ومهنية. ونظرا لصعوبة حصولهم على تأشيرات دخول للدول الاسلامية فانهم يلجأون الى الحصول على تأشيرات بصفات أخرى كالدراسة والمساعدة المهنية لدخول تلك الدول. بل ان بعضهم يعمل تحت ستار انشطة الهيئات التنموية الكورية الرسمية دون علم من الحكومة الكورية. والأكثر من ذلك ان الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية تتصارع مع بعضها حول عدد المنصرين الذين ترسلهم ووصل الأمر الى حد العمل على «اغلاق» أسواق معينة أمام الكنائس المنافسة من خلال تحريض الحكومات المحلية عليها. وقد استثمرت تلك الكنائس الفوضى التي عمت العالم الاسلامي بعد أحداث 11 سبتمبر سنة 2001 لكي تضاعف من أنشطتها، وبالذات في افغانستان والعراق، دون اغفال لأنشطتها في الدول الاسلامية الأخرى مثل اندونيسيا، وتركيا، وباكستان، ومصر، وماليزيا. ولابد أن نسجل أن حكومة كوريا الجنوبية لا توافق على أنشطة تلك الكنائس بل انها دعتهم الى وقف تلك الأنشطة، ولكنهم لا يصغون الى صوت الحكومة حيث يعتبرون أنهم مكلفين بمهمة مقدسة من السيد المسيح وأن تلك المهمة تفوق تعليمات الحكومة الكورية، كما قال لي أحد هؤلاء ممن قابلتهم في برشلونة في الصيف الماضي أثناء مشاركتي في مؤتمر دولي هناك.
(3)
استفادت الكنائس الكورية الجنوبية من خبرة انتشار المسيحية في بلادها بفضل العمل الخيري الذي كانت تقوم به في أوساط الكوريين أيام القحط والفقر بعد نهاية الحرب الكورية سنة 1953 وتصوروا أنهم يمكن أن ينشطوا في أماكن القحط والفقر والاضطراب في الدول الاسلامية لتكرار التجربة. وتعد الكنائس البروتستانتية الكورية الأكثر نشاطا في العالم الاسلامي لتمويلها من نظيرتها الأميركية. ومن أشهر تلك الكنائس كنيسة «يودو للانجيل الكامل» وهي الأكثر اهتماما بالدول الاسلامية ويقوم أعضاؤها بالصلاة خلال شهر رمضان لكي «يهدي الله المسلمين الى مملكة يسوع» ومن ثم نشطت تلك الكنائس في أفغانستان والعراق بعد الاحتلال الأميركي وساعدهم المحتلون رغم اعتراض حكومتهم. فقد نشط هؤلاء في العراق بعد سنة 2003، وأسر العراقيون عددا منهم في أبريل 2004 وتم الافراج عنهم، في حين تم اعدام المنصر الكوري كيم سون ايل في العراق في يونيو سنة 2004. كما لم ترتدع تلك الجماعات بعد أن قامت الحكومة الروسية، بطرد المنصر الكوري هنري لي سنة2003، لأنشطته التنصيرية في بلاد الشيشان وداغستان ذي الأغلبية الاسلامية. كذلك لم تأبه بتنديد البطريرك العراقي الكاثوليكي ايمانويل ديلي، بأنشطة الكنائس الانجيلية (ومنها الكنائس الكورية) في العراق في19 مايو سنة 2005 حين قال إنهم أتوا «لتحويل مسلمين فقراء عن دينهم باستخدام بريق المال والسيارات الفارهة»، مشيرا الى أنهم يدمرون التواصل الاجتماعي والديني للمجتمع العراقي.
(4)
لعل الحدث الأكبر الذي نبه العالم الاسلامي الى قضية الكنائس الكورية الجنوبية كان هو أسرحركة طالبان لقافلة من المنصرين الكوريين البروتستانت في 19 يوليو عام 2007 قرب مدينة قندهار (معقل حركة طالبان) تضم 23 منصرا أوفدتهم كنيسة «صايمل» التي يرأسها القس بانغ يونغ كيون. وتقوم هذه الكنيسة بأنشطة «اغاثة روحية» كما يقول دعاتها. وقد قال أحدهم اننا نذهب الى هناك «للبحث في الاحتياجات الروحية للمسلمين». وقد فعلت كنيسة صايمل ذلك رغم إرادة حكومة كوريا الجنوبيةولهذا بادر القس بانغ بالاعتذار للأمة الكورية عن الموقف الصعب الذي وضعها فيه . وقد قامت حركة طالبان باعدام رئيس المجموعة القس باي هيونغ كيو ليكون ثاني منصركوري يعدم في الدول الاسلامية بعد زميله كيم سون ايل الذي أعدم في العراق في يونيو سنة 2004. وانتهى الأمر بافراج حركة طالبان عن مجموعة كنيسة صايمل بشرط واحد هو تعهد أعضائها بعدم العودة وتعهد حكومة كوريا الجنوبية بمنع هؤلاء من السفر الى أفغانستان. كما اعلنت حكومة كوريا الجنوبية أنها منعت سفر بعثات من كنيسة صايمول كانت تتأهب للسفر الى اندونيسيا وباكستان وتركيا. ونضيف أن منصري كنيسة صايمل لم يكونوا هم الوحيدين في افغانستان حين تم القبض عليهم. فقد كان هناك خمسة بعثات أخرى قوامها 180 منصرا سارعوا جميعا بالفرار بعد القبض على مجموعة صايمل.
(5)
ولابد أن نشير هنا الى ردود أفعال شيخ الأزهر السابق ومنظمة المؤتمر الاسلامي على واقعة القبض على أعضاء كنيسة صايمل في أفغانستان لأنها ستدخل سجلات التاريخ. فقد نشط سفراء كوريا في المنطقة للافراج عن مجموعة كنيسة صايمل المقبوض عليها واستطاعوا أن يستصدروا بيانا من الشيخ طنطاوي، نشر في الأهرام في 6 أغسطس سنة 2007 رفض فيه تصرفات حركة طالبان إزاء هؤلاء «الأبرياء» الذين يكفل لهم الإسلام صيانة حرياتهم وأعراضهم، ودمائهم، طالما أنهم لم يأتوا معتدين ولا مفسدين، بل أوجب لهم الأمن والأمان». واستمر البيان ينفي عنهم أنهم أتوا مفسدين ومن ثم وصف الأسرى الكوريين بأنهممتطوعون لتقديم العون والإغاثة للمرضى والمحتاجين وهي أمور تعتبرها الشريعة من مراتب الجهاد والتعاون على البر والتقوى. استمر البيان يحذر حركة طالبان من أن موقفها من المتطوعين الكوريين» يعتبر موقفا مسيئا للإسلام ولأتباعه في كل مكان، وأنه يقدم أدلة رغم عدم صحتها للمغرضين والمتشككين تدعم مزاعمهم حول علاقة الدين الإسلامي بالعنف والإرهاب أما مجمع الفقه الاسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي فقد أصدر بيانا وضع على صفحة المنظمة على الانترنت وأزيل بعد ذلك يكاد يكون تكرارا حرفيا لما جاء في بيان شيخ الأزهر.
(6)
تعمل الكنائس الكورية في كثير من الدول الاسلامية في صمت تحت ستار ممارسة أنشطة مهنية كالتمريض والارشاد السياحي. والحق أن الدول الاسلامية لم تتوان عن تعقب أنشطتهم. فقد سبق أن أشرنا الى قيام الرئيس الأفغاني حميد كرزاي بطرد الآلاف منهم. وفي سنة 2009 طردت حكومات اليمن والأردن وايران 80 منصرا كوريا. وقد كان هؤلاء هم قمة جبل الثلج الطافي اذ أنهم في بلاد اسلامية كثيرة يعملون تحت ستار مهن الارشاد السياحي والتمريض والمشورة الفنية بل ان الكنائس تتصارع مع بعضها أحيانا لاحتكار سوق التنصير في بعض البلاد الاسلامية. وفي يونيو سنة 2009 تم الكشف عن مجموعة تنصيرية كورية في الأردن يتزعمها القس ديفيد يونغ شو. وبعد الكشف عنها هربت المجموعة بكامل أفرادها من الأردن. كما أنهم يتسمون بقدر كبير من الاصرار على ممارسة مهمتهم. فقد تحركت حكومة كوريا الجنوبية لمنع هؤلاء من السفر الى الدول الاسلامية وهددتهم بسحب جوازات سفرهم أو عدم تجديدها بعد أن عدلت الحكومة قانون اصدار الجوازات بما يعطيها هذا الحق. وهو جهد محمود ينبغى على الدول الاسلامية أن تدعمه. ويدفع حكومة كوريا الجنوبية الى ذلك تخوفها من أثر الأنشطة التنصيرية على أمن الكوريين العاديين المقيمين في الدول الاسلامية وعلى أمن السياح الكوريين. وقد لقيت تلك الاجراءات تأييدا شعبياً واسعاً في كوريا الجنوبية خاصة أن تلك الكنائس تهدد الديانات الكورية القديمة كالبوذية والتى يدين بها ربع الكوريين كما أن بعض منسوبي تلك الكنائس يهاجمون البوذية صراحة. ويدعون الى هدم المعابد البوذية فضلا عن أنهم يهددون العلاقات الودية بين مسلمي ومسيحيي الشرق كما قال بطريرك العراق. ولكن القس أوجستين كيم ميونغ-دونغ، رئيس «جمعية التبشير الكورية» صرح في اول مايو سنة 2008 ، بعد صدور الاجراءات الجديدة، بأنه لن يتوقف عن نشاطه في أفغانستان والى أنه في حاجة الى 3000 منصر كوري لكي يرسلهم الى أفغانستان ما دعى حكومة كوريا الى حذف تصريحاته من صفحة كنيسته على الانترنت.
(7)
ليست الكنائس الكورية وحدها هي الناشط الوحيد في بلاد المسلمين. فالحق أن أنشطتها هي جزء من أنشطة أشمل تقودها الكنائس الأميركية في البلاد الاسلامية المنكوبة، وتعمل تحت ستار الاغاثة والأعمال الخيرية. ولكن أنشطة الكنائس الأميركية والكورية هي الأكبر في العالم الاسلامي، كما أن كل منهم يكمل الآخر. فبعد حظر نشاط الكوريين في أفغانستان ضاعفت الكنائس الأميركية في جهودها. وفي سنة 2009 تم اعتقال بعض مبعوثيها في أفغانستان. واتصور أنه على الدول الاسلامية أن تنشط لمراقبة أنشطة الكنائس الكورية خاصة أنه بدا واضحا نبرتها المتحدية لتلك الدول بل ولحكومتها. ويشمل ذلك التحقق من أن الكوريين الذين يأتون الى الدول الاسلامية يأتون من أجل الأنشطة المتفق عليها بين الطرفين وليس لأنشطة أخرى من خلال مراقبة تأشيرات الدخول. كذلك فإن على الدول الاسلامية أن تبادر بدعم الجالية المسلمة في كوريا الجنوبية وهى تواجه ضغوطات هائلة منهم للتحول عن الاسلام. من ناحية أخرى، فانه من الضروري افساح المجال للجمعيات الخيرية الاسلامية لكي تقوم بدورها لاغاثة المسلمين في الدول المنكوبة طالما أنها تعمل في اطار قوانين الدولة فليس متصورا أن تحل الكنائس الكورية محل الجمعيات الاسلامية في بلاد المسلمين.