في صعوبة العودة لوقف اطلاق نار جديد في الصحراء
عشية انعقاد جلسة احاطة لمجلس الامن الدولي حول نزاع الصحراء، بعد جولة المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة الاستكشافية. يعود السؤال حول إمكانية و أفق التسوية و سبل خفض منسوب التوتر المتصاعد بين الجزائر و المغرب منذ أزمة الكركرات و التطورات الميدانية و الديبلوماسية الهامة التي أعقبت العملية الأمنية التي قامت بها القوات المسلحة المغربية في 13 نوفمبر 2020 و تم بموجبها تامين المعبر الحدودي مع موريتانيا، و استعادة نشاطه من جديد، بعد ثلاثة اسابيع على غلقه من طرف عناصر تابعة للبوليساريو. العملية التي رأت فيها الجبهة خرقا لإتفاقية وقف اطلاق النار الموقعة مع الامم المتحدة منذ 6/9/ 1991. و أعلنت بسببها العودة للكفاح المسلح. بينما يستمر المغرب في التشبث بالتزامه بالمسار الاممي و اتفاقية وقف إطلاق النار مع احتفاظه بحق الرد على اي استفزاز قد يتعرض له،حسب تصريحات مسؤوليه.
لم يتنبه قادة البوليساريو و الجهات الجزائرية التي شاركتهم قرار التنصل من إتفاقية وقف إطلاق النار بأن ظروفهم سنة 2020 كانت مشابهة أو أسوأ من تلك التي حتمت عليهم القبول بوقف إطلاق النار أول مرة سنة 1991. و أن خيار المحافظة على الوضع القائم على علاته كان أفضل بكثير من الجنوح نحو التصعيد.
فالكل يذكر الظروف التي كانت تعيشها الجزائر نهاية ثمانينيات و مطلع تسعينيات القرن الماضي، و التي كان من نتائجها انفجار الوضع نهاية 1991 إثر تدخل العسكر و توقيف المسار الانتخابي بعد فوز الجبهة الاسلامية للانقاذ و اقالة الرئيس الشاذلي بن جديد (ديسمبر 1991)، و دخول البلاد في حالة من الفوضى و العنف و إنعدام الدولة استمر لأكثر من عشر سنوات.
المجهول الذي كانت تتجه إليه الجزائر سنة 1991 جعل قادتها يسارعون لوقف إطلاق نار في الصحراء و إيداع ملف البوليساريو لدى الامم المتحدة حتى لا يستغل المغرب ضعفهم و انشغالهم بمشاكلهم الداخلية و يجهز على البوليساريو. كما حاول فعلا لما تفطن أنه لم يكن الوحيد الذي كان يحتاج الهدنة لالتقاط الانفاس بعد 16 سنة من الحرب المدمرة. فتعمد خرق الاتفاقية بعد التوقيع عليها بخمسة أيام (يوم 11 سبتمبر) و أخرج أرتال من قواته من الحزام في تجاه تفاريتي و بير لحلو و ميجك في مسعى لاستدراج البوليساريو للعودة للحرب. و كادت تبتلع الطعم نظرا لسهولة التعامل مع تلك القوات بحكم التشكيل و التسليح المتواضع الذي خرجت به من الحزام، لولا تدخل الجزائر و إرسالها لمحمد عبد العزيز و وزير دفاعه ولد البوهالي على عجل الى الخطوط الأمامية من أجل سحب قواتهم نحو الاراضي الموريتانية و تجنب الدخول في مواجهة مع القوات المغربية التي تبحث عن ذريعة للتنصل من الاتفاقية الموقعة حديثا.
ما لم تحققه الحيلة للملك الراحل الحسن الثاني سنة 1991، حققه تهور "غالي" و من دفعه الى الاعلان عن التنصل من اتفاقية وقف إطلاق ، لخليفته الملك محمد السادس الذي عمل طيلة العقود الثلاثة الماضية على تعزير القدرات الدفاعية المغربية و دعمها بمنظومة ردعية متطورة في انتظار اللحظة المناسبة لاستكمال ما بدأه والده. و من حسن الحظ حانت تلك اللحظة في وقت كانت فيه جزائر الحراك أواخر 2020 في اضعف أحوالها. و ليس بها من السلط غير رئيس مشكوك في شرعيته منتخب حديثا يتلقى العلاج في الخارج منذ فترة. و لا يعرف من يدير البلاد في غيابه.
تشابه الظرفين كان يستلزم من أي سياسي راشد في البوليساريو و الجزائر ان لا يبادر اواخر 2020 بما من شانه ان يعطي الحجة للمغرب لخرق إتفاقية وقف إطلاق النار في ظل ضعف الجزائر. ما يطرح العديد من علامات الاستفهام حول من دفع "غالي" الى إتخاذ قرار أضر بمنظمته و سندها الجزائر و أفسد تدبيرهم الذي ظلوا عليه عاكفين لعقود. فغلق معبر الكركرات أنهى المنطقة العازلة التي كانت تعزل المغرب عن عمقه الافريقي و أعاده لموقعه الطبيعي الرابط بين ثلاث قارات. و قرار التنصل من وقف إطلاق النار أنهى وجود البوليساريو الفعلي شرق الحزام. و اصبحت حقيقة مغرب من طنجة الى لكويرة في عهد الملك محمد السادس واقعا يلمسه كل المغاربة بعد قرون من التشظي. و هو مكسب لن يعودوا للتفريط فيه مهما كانت التضحيات المطلوبة، ما يضع جزائر الحراك التي ما زالت تتخبط في مشاكلها الداخلية أمام خيارات صعبة:
فالبحث عن صيغة لوقف إطلاق نار جديد غير واردة و لا مطروحة، لأنها تعني التسليم بواقع سيطرة المغرب الحاصل عمليا على كامل الاقليم و بقاء البوليساريو داخل الاراضي الجزائرية الى الابد تستنزف الخزينة الجزائرية دون ان تشكل أي تهديد للمغرب.
و تسليح الجبهة كما يطالب أنصارها و بعض قادتها في غياب تحصينات تحمي العتاد و طريق إمداد آمن ليس مجديا أمام التفوق الجوي و التقني المغربي. فضلا عن كونه قد يدفع المغرب المسنود بحلفاء أقوياء، و لا يخدمه الدخول في حرب استنزاف طويلة مع البوليساريو الى المبادرة بعملية عسكرية جراحية جديدة في شمال الاقليم تعزله نهائيا عن الحدود الجزائرية، تْبقى البوليساريو محاصرة داخل الاراضي الجزائرية.
و الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع المغرب بمعطيات ما بعد الجائحة و بالحالة السياسية التي عليها الجزائر و العالم مرهقة و مكلفة و غير مدعومة دوليا، و قد تؤدي بالبلد الى الانهيار.
لتلك الاسباب ما زالت الجزائر عاجزة عن إتخاذ قرار فيما يتعلق بالمنحى الذي سيأخذه نزاع الصحراء. فهي تعلم و المغرب يعلم و المجتمع الدولي أن ردة فعلها التي لم تتحدد معالمها بعد على التطورات الميدانية التي أستجدت منذ أزمة الكركرات الاخيرة، ستكون لها الكلمة الفصل فيما يتعلق بمستقبل النزاع و المنطقة.
المؤكد ان الوضعية الميدانية التي عليها النزاع حاليا لا تخدم الدور الاقليمي الذي يريده ساسة الجزائر في المنطقة. و هم غير جاهزين لمجابهتها. و ليس أمامهم في الظرفية الراهنة غير الانحناء أمام العاصفة كما هو حاصل، مع المحافظة على حد ادنى من التوتر مع المغرب يبقي على ذكر البوليساريو في معادلة النزاع ريثما يتم تأهيلها لتكون قادرة على الاضرار بمصالح المغرب من جديد، و يستقر وضع الجزائر الداخلي، و ينتعش اقتصادها و تتضح معالم الخارطة الدولية ما بعد حرب أوكرانيا.
و في النهاية تبقى المواجهة العسكرية بين الجارين الغريمين هي الراجحة رغم كلفتها الباهظة، و إن لم يحن وقتها بعد. و قبلها سنعيش أعواما أخر من حرب باردة تتخللها حوادث ساخنة تذكر بالنزاع لا ترقى لمستوى التوتر الخطير.