عبد العزيز الحيص
هنالك شك بالغ حول جدوى العنف، لكن المجتمعات التي تورطت به، وجدت نفسها رهينة لقوى تؤمن به كحل. تكاد لغة العنف أن تصبح اللغة الوحيدة المعبرة، بعد خراب المجال السياسي، ولا يجاورها تحت مظلة هذا الخراب سوى لغة الكبت والصمت. المجتمعات التي تعاني العنف، من الصعب توقع عودتها لسابق عهدها، فكيف تستتب الأمور بعد القتل والعنف الأهلي، الذي من خصائصه التي تفرقه عن الحروب المنهجية، أن القتلى فيه معظمهم من المدنيين بما فيهم النساء والأطفال. مشاكل العنف الداخلي متعددة، وهذه ليست أقلها، فمن ذلك، اختفاء المظاهر المدنية السياسية كالحوار والمفاوضات. وأيضاً، صعوبة التفرقة بين الصواب والخطأ، فالفرقاء أبناء بلد واحد ومتشابهون في المنبع والذاكرة، وربما حتى في الأهداف.
لكن تجارب المجتمعات العالمية، التي مرت بدائرة العنف، يُخبر أن هذه المجتمعات تجاوزتها. هنالك جيل جديد يحضر، ويولد معه منطقه الآخر للأمور. أهم من ذلك، المجتمعات تتعب في النهاية. المجتمع يعود دوما لقاعه الطبيعي، بعد أن يمل فترة العنف والشدة. ويتخفف لاحقاً من هراء كل أيدلوجيا جعلته يرحب بالدم يوماً. التسويات والمصالحات التي تمت في العالم لم تكن مقنعة وعادلة للجميع، لكن منذ متى تعودنا أن نرى الحياة نفسها عادلة؟!
بعد مرحلة الستينيات التي نشطت فيها الحركات الطلابية العالمية، وحركة الحقوق المدنية، نشطت في أيرلندا الشمالية حركة حقوق مدنية، تطالب بحقوق الأقلية الكاثوليكية تحت الحكم البروتستانتي البريطاني، وتطور أمر الحركة الاحتجاجية إلى تسلح أذرع لها، وبدأت بذلك حرب أهلية طائفية، قادها الجيش الجمهوري الأيرلندي الذي هدف إلى توحيد شمال وجنوب أيرلندا، واستمرت هذه الحرب لثلاثة عقود، تم تقسيم أحياء السكان فيها، واستهداف المدنيين على نطاق واسع. هذه الحرب التي كان الإرهاب أحد وجوهها، لم تكن لتنتهي لولا محاولة بعض أطراف البحث عن مخرج سلمي، بما فيهم قيادة الجيش الجمهوري الأيرلندي، أهم اللاعبين في هذا النزاع.
إن تحويل أطراف المشكلة ليكونوا أطرافا في الحل عملية معقدة. وهذا ما يتطلب التضحية، فعملية السلام بدأت في أيرلندا الشمالية في العام 1994، حين علقت الحركة الجمهورية عملياتها المسلحة دون قيد أو شرط بانتظار البدء بعملية سياسية لحل النزاع. وذلك بعد مفاوضات سرية حول وقف إطلاق النار استمرت بين عامي 1990 و1994. بعد ذلك استمرت المفاوضات بين الأحزاب المختلفة حتى عام 1998، بعد أن تم التوصل لاتفاقية بلفاست أو ما عرف بـ «اتفاقية الجمعة العظيمة». رعت الحكومتان البريطانية والأيرلندية دعم المسار السياسي، ومسار المحادثات السرية مع القيادة الجمهورية. لم يتم التوقف تماما عن العنف والتسليم بوقف إطلاق النار في السنوات اللاحقة لاتفاق 1994، فهذه القفزة تحتاج إلى إيمان وصبر واثق. لكن وقف إطلاق النار له أثر مهم في بدء وخلق عملية سلام تراكمية. إن السلام وإلقاء السلاح شرط لبدء عملية السلام وليس نتيجة له. وهذا ما يتطلب المغامرة من القيادات المختلفة والمؤثرة لتغامر، حتى تلك التي راهنت على العنف دوماً.
ومن عوامل إنجاح عمليات السلام، عدم الاستهانة بدور القيادات المتمردة والمقاومة، ولا بالدور الخارجي للدول في الوساطة، فالأول عامل مهم لأنهم قادة لكيانات مسلحة أثبتت استمرارها وقدرتها على البقاء، وعامل الوساطة الخارجية ضروري لغياب الثقة في العادة بين أقطاب الصراع الداخلي. ومما دفع لإتمام عملية السلام في أيرلندا الشمالية، مشاركة كل الأطراف، والثقة بعملية التفاوض، وكذلك التزام الفرقاء وترحيبهم بالوساطة الموثوقة والمتفق عليها، ومن ذلك ابتعاد بريطانيا، اللاعب السياسي الأقوى، عن رفضها المعتاد لأي تدخل خارجي في شؤون أيرلندا الشمالية. من هنا لعب السناتور جورج ميتشيل، مبعوث الرئيس بيل كلنتون، دوراً محورياً في عملية السلام، طور السناتور لاحقا ما أصبح يعرف بـ «مبادئ ميتشل»، التي مثلت العمود الفقري لعملية السلام، وهي: حل سلمي وديمقراطي للنزاع المسلح، نزع سلاح التنظيمات، تشكيل لجنة مستقلة للتحقق من نزع الأسلحة، التخلي عن استخدام القوة للتأثير على السياسة، عدم الموافقة على الاتفاقيات يتم التعبير عنه بشكل سلمي، تعليق كل عقوبات الضرب والقتل التي تمارسها الجماعات شبه العسكرية.
يُخبر «تقرير لجنة مراقبة السلام في أيرلندا الشمالية» الصادر عام 2012، عن استمرار جدران الفصل وزيادتها التي أبقت المجتمع الأيرلندي الشمالي مجتمعا منقسماً. لكن التقييم الشامل يعلن أن عملية السلام قد نجحت فعلاً، وقد انخفض مستوى العنف بشكل كبير مقارنة بالعنف المدمر في ثلاثة عقود مضت، واستطاعت أجهزة الدولة السياسية إثبات متانتها، كما أن الأجهزة الأمنية تعرضت لإصلاح جدي.
العنف حكاية تولد، لوجود حكايات متصارعة. كل طرف لديه شعبيته، ولديه ذاكرته الجمعية الخاصة، وحكايات مظلمته التي تتفرع منها. تجاوز هذا العنف يحضر بسبب ولادة حكاية أخرى تتغلب على هذه الحكايات المتصارعة. كثير من المجتمعات اتجهت أنظارها إلى الدولة المدنية ودولة المؤسسات والحقوق، ولذا هذبت صراعاتها وتجاوزتها. ومن الصعب تصور مسار آخر لإنهاء العنف.
تزعم الكيانات المتطرفة دوما في أدبياتها أنها جاءت بسبب حاجة المجتمع لها. وهذا كلام فيه من الصحة، فلا يوجد كيان متطرف يستمر مهيمناً في بقعة جغرافية إلا ولديه حاضنة شعبية من نوع ما. لكن هذا الكلام الخطير يرتد على أهل هذه الكيانات نفسها، فإذا كان المجتمع من أحضرهم، فهو من ينفيهم أيضاً، وهي تلك اللحظة التي تحدثنا عنها حين يتعب المجتمع من العنف ويفقد قدرته على مواصلة لعب دور في دوامة العنف واختياراته.