الكرامة والاستنزاف :
النكسة رغم بشاعتها إلا أنها أدت إلى إعادة تنظيم الخطط العسكرية العربية ، وبعد قرابة العام وتحديدا فى 21 مارس 1968 ، قامت معركة الكرامة التي صد خلالها الجيش الأردني والفدائيين الفلسطينيين عدوانا إسرائيليا جديدا على الضفة الشرقية لنهر الأردن ، كما نجحت القوات المصرية في إلحاق خسائر فادحة بالاحتلال عبر معركة رأس العش وتدمير المدمرة إيلات والتى كانت بدايات لحرب الاستنزاف.بعض أبطال الهجوم على ميناء إيلات
ورغم أن إسرائيل ادعت أن الهجوم الواسع الذي بدأته على الضفة الشرقية لنهر الأردن في منطقة الكرامة كان بحجة تدمير قوة الفدائيين ، إلا أنها كانت تخطط إلى احتلال مرتفعات البلقاء والاقتراب من العاصمة عمان للضغط على القيادة الأردنية لقبول شروط الاستسلام التي تفرضها، ومحاولة إيجاد ولو موضع قدم على أرض شرقي نهر الأردن بقصد المساومة عليها لتحقيق أهدافها وتوسيع حدودها ، وضمان الأمن والهدوء على خط وقف إطلاق النار مع الأردن ، وتوجيه ضربات قوية ومؤثرة إلى الجيش الأردنى ، وأخيرا ، زعزعة الروح المعنوية والصمود عند السكان المدنيين وإرغامهم على النزوح من أراضيهم ليشكلوا أعباء جديدة، وحرمان المقاومة من وجود قواعد لها بين السكان وبالتالي المحافظة على الروح المعنوية للجيش الإسرائيلي بعد المكاسب التي حققها على الجبهات العربية في عدوان 5 يونيو .
إحباط مخططات إسرائيل
إسرائيل فشلت في تحقيق أي من الأهداف السابقة ، حيث لعب سلاح المدفعية الأردني وقناصو الدروع دوراً كبيراً في معركة الكرامة وعلى طول الجبهة وخاصة في السيطرة على جسور العبور ما منع الجيش الإسرائيلي من دفع أية قوات جديدة لإسناد هجومه الذي بدأه وذلك نظراً لعدم قدرته على السيطرة على الجسور خلال ساعات المعركة وقد أدى ذلك إلى فقدان القوات الإسرائيلية المهاجمة لعنصر المفاجأة وساهم ذلك بشكل كبير في تخفيف زخم الهجوم وعزل القوات المهاجمة شرقي النهر وبشكل سهل التعامل معها واستيعابها وتدميرها .
وما يؤكد هزيمة إسرائيل في تلك المعركة أن القوات الإسرائيلية التي نجحت في عبور جسر الملك حسين إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن كانت بحجم فرقة وهي القوات التي عبرت في الساعة الأولى من الهجوم وبعدها لم تتمكن القوات المهاجمة من زج أية قوات جديدة شرقى النهر بالرغم من محاولتها المستميتة للبناء على الجسور التي دمرت .
لقد كسب الجيش الأردنى بحسب المحللين العسكريين مفاجأة إطلاق النار الكثيف عند بدء الهجوم من القوات الإسرائيلية ولو تأخر في ذلك لأتاح للقوات المهاجمة الوصول إلى أهدافها .
انتصار أردني
ولعل إلقاء نظرة على خسائر الجانبين من شأنها أن توضح أكثر وأكثر حجم الهزيمة الموجعة التي تلقتها إسرائيل ، حيث بلغ عدد القتلى في صفوف قواتها المهاجمة 250 جندياً ، و450 جريحاً ، بالإضافة إلى تدمير 88 آلية وهي عبارة عن 27 دبابة و 18 ناقلة و 24 سيارة مسلحة و 19 سيارة شحن ، أما بالنسبة لخسائر القوات المسلحة الأردنية ، فكان عدد القتلى 61 جندياً ، و108 جرحى ، وتدمير 39 آلية مختلفة .
وأمام تلك الخسائر المحدودة في صفوف القوات الأردنية ، سجلت معركة الكرامة بأحرف من نور في إنجازات العسكرية العربية بل واعتبرت أول نصر عربي على إسرائيل منذ نكبة 1948 ، وترتب عليها أيضا استرجاع الأردن لآلاف الأراضي التي احتلت في حرب 1967 ، كما رفعت من معنويات الجبهات العربية الأخرى ، وأكدت بما لايدع مجالا للشك أن الإرادة والتصميم يمثلان جزءا لا يتجزأ من النصر على الأعداء.
ويرى الكاتب الفلسطيني زياد أبو شاويش أن الملمح الرئيس في تلك المعركة كان هو الشراكة الفلسطينية الأردنية الصادقة والحقيقية في مواجهة عدو واحد للطرفين، قائلا :" هذا الملمح وهذه الظاهرة أرست في حينه أهمية العمل الفدائي والمساندة النظامية في نفس الوقت وأظهرت كم هو مفيد وضروري للانتصار تجميع كل قوانا سواء من قوات مغاوير أو جيش نظامي بمدفعيته ودباباته وأسلحته الثقيلة وقتاله الكلاسيكي مع مجموعات فدائيين منتشرة بشكل مجموعات صغيرة وتستخدم تكتيكات الدفاع المتحرك والمواقع غير الثابتة، هذا المظهر الذي كان الأكثر إشراقاً ولا يزال في عنوان التضامن والتعاون بين المقاومة والجيش النظامي لم يتكرر بنفس الطريقة للآن برغم أهميته ونجاعته في مواجهة عدو متفوق".
واستطرد يقول :" من يتصور معركة تتلاقى فيها القوات الإسرائيلية التي تم إنزالها في المنطقة والمقاتلين الفلسطينيين المتحصنين في الجبال والخنادق التي توفرها طبيعة المنطقة مع قيام المدفعية الأردنية بالقصف المتواصل على القوات الزاحفة من الغرب وكذلك على المواقع المتمركزة غرب النهر كقوات مساندة ، يستطيع أن يفهم لماذا كان دور الجيش الأردني ضروري ولاغنى عنه كما دور المقاومة التي تصدت بشكل مباشر للعدوان وأوقعت خسائر فادحة بقوات العدو ودحضت الدعاية الصهيونية في تلك الفترة حول الأسطورة التي لا تلحق بها الخسارة والتي نجحت في احتلال أراضي ثلاث دول عربية في أقل من 6 أيام ".
لقد كانت معركة الكرامة نصراً مزدوجاً، في وجهه الأول كان انتصار للتضامن والتعاون بين الجيش والمقاومة، وهو الدرس الذي لازال العرب في حاجة ماسة لترسيخه والاستفادة منه في أية معارك قادمة مع العدو الإسرائيلي ، وفي وجهه الآخر فتحت الطريق أمام دول الطوق لخوض معركتها الأهم لتحرير أراضيها وليس فقط التصدي لعدوان إسرائيلي جديد والمقصود هناحرب أكتوبر المجيدة .
حرب الاستنزاف
انتهت حرب 5 يونيو أو حرب الأيام الستة كما سمتها إسرائيل بنهاية مأساوية كشفت عن كثير من أوجه القصور في القوات المسلحة المصرية بشكل عام وفي القوات التي تتولى مهام الدفاع الجوي بشكل خاص ولذا وضعت القيادة السياسية جملة من الأهداف لتجاوز النكسة تتمثل فى : إعادة بناء القوات المسلحة ، إعادة الثقة للجنود في أنفسهم وفي قادتهم ، إعادة الضبط والربط ، إعادة تدريب القوات ، وتنظيم الوحدات ، ومن هنا بدأت مرحلة الصمود وحرب الاستنزاف.
مرحلة الصمود
فبعد النكسة حاول الإسرائيليون الدخول واحتلال مساحات أوسع من أرض سيناء حيث تحركت قوات العدو من القنطرة في اتجاه بور فؤاد ولكن بعض قوات الصاعقة المصرية قامت ببث الألغام في طريقهم وعندما تقدم العدو انفجرت هذه الألغام فمنعت العدو من التقدم في 1 يوليو 67 وهى المعركة التى أطلق عليها " معركة رأس العش " .
وفي 2 يوليو 67 ، حاولت إسرائيل الاستيلاء علي بور فؤاد ولكن أفراد القوات المصرية تصدوا لهم بالأسلحة الخفيفة ودمرت عربات المدرعات المتقدمة واضطر العدو أن ينسحب بقواته وسميت هذه المعركة بمعركة راس العين .
وفى 14و 15 يوليو 67 ، قامت القوات المصرية بإطلاق مدفعية عنيفة علي طول الجبهة وذلك بعد اشتباكات مع العدو في الجنوب في اتجاه السويس والفردان وقد كان ذلك تمهيدا لطلعة طيران قوية حيث خرجت القوات الجوية باكملها وهى تضرب في الجنوب فتحول العدو بقواته الي الجنوب وترك الشمال بغير غطاء فانطلق الطيران المصري الي الشمال وأوقع خسائر كبيرة فى صفوف القوات الاسرائيلية .
وقامت القيادة الإسرائيلية علي إثر هذه الضربة الجوية المصرية الصائبة بطلب وقف إطلاق النار من أمريكا التي كلفت الأمين العام للأمم المتحدة بإبلاغ الرئيس جمال عبد الناصر عبر التليفون بهذا الطلب الإسرائيلي وكان قائد الطيران المصري في هذا الوقت هو الفريق مدكور أبو العز.
وفي 21 أكتوبر67 ، قامت البحرية المصرية بتدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات ، ويروي اللواء محمد عبد الغنى الجمسى رئيس هيئة العمليات بحرب أكتوبر فى مذكراته تفاصيل ما حدث في هذا اليوم ، قائلا :" جاء يوم 21 أكتوبر 1967 وقد وصلت إلى مركز قيادة الجبهة بعد راحة ميدانية ، فوجدت اللواء أحمد إسماعيل ومعه العميد حسن الجريدلى رئيس عمليات الجبهة ، وقد كنت أنا وقتها رئيس أركان للجبهة ، يتابعان تحركات المدمرة الإسرائيلية إيلات بالقرب من المياه الإقليمية لمصر فى المنطقة شمال بورسعيد . كانت المعلومات تصلنا أولا بأول من قيادة بورسعيد البحرية التى كانت تتابع تحركات المدمرة ، وقد استعدت قوات القاعدة لمهاجمة المدمرة عندما تصدر الأوامر من قيادة القوات البحرية بالتنفيذ . وظلت المدمرة المعادية تدخل المياه الإقليمية لفترة ما ثم تبتعد إلى عرض البحر ، وتكرر ذلك عدة مرات بطريقة استفزازية وفى تحرش واضح ، لإظهار عجز قواتنا البحرية عن التصدى لها ".
واستطرد يقول :" وبمجرد أن صدرت أوامر قائد القوات البحرية بتدمير هذه المدمرة عند دخولها المياه الإقليمية ، خرج لنشان صاروخيان من قاعدة بورسعيد لتنفيذ المهمة . هاجم اللنش الأول بإطلاق صاروخ أصاب المدمرة إصابة مباشرة فأخذت تميل على جانبها ، وبعد إطلاق الصاروخ الثانى تم إغراق المدمرة الإسرائيلية " إيلات " شمال شرق بورسعيد بعد الخامسة مساء يوم 21 أكتوبر 1967 وعليها طاقمها ، وقد غرقت المدمرة داخل المياه الإقليمية المصرية بحوالى ميل بحرى، وعاد اللنشان إلى القاعدة لتلتهب مشاعر كل قوات جبهة القناة وكل القوات المسلحة لهذا العمل الذى تم بسرعة وكفاءة وحقق تلك النتيجة الباهرة".
لقد كان إغراق المدمرة إيلات بواسطة الصواريخ البحرية التي استخدمت لأول مرة بحسب الجمسي بداية مرحلة جديدة من مراحل تطوير الأسلحة البحرية والقتال البحرى فى العالم وأصبح هذا اليوم ـ بجدارة ـ هو يوم البحرية المصرية ، مؤكدا أن هذه الضربة كانت هي حديث العالم كله في هذا الوقت .
حرب الاستنزاف
الجندى المصرى نقل المعركة إلى مواقع العدو
هو التعبير الذى أطلقه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر على العمليات العسكرية التي دارت بين القوات المصرية والاحتلال الإسرائيلى شرق قناة السويس والتى نقلت مصر خلالها المعركة إلى مواقع العدو بعد أن نجحت في مرحلة الصمود ومنع العدو من احتلال أراض جديدة وكان الهدف الأساسى من تلك الحرب هو إسقاط أكبر عدد ممكن من القتلى والجرحى والآليات في صفوف العدو وتدريب الجنود المصريين على عمليات قتالية في شرق القناة تمهيدا للحظة العبور.
وقد شرح جمال عبد الناصر فلسفته في هذة الحرب في حوار مع الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل ، قائلا :" أن يستطيع العدو أن يقتل 50 ألفا منا فإننا نستطيع الاستمرار لأننا نمتلك لاحتياطي الكافي و لكن أن يفقد العدو 10 آلاف فسوف يجد نفسه مضطر إلى أن يوقف القتال فهو لا يمتلك الاحتياطي البشري الكافي ".
وبدأت تلك الحرب في مارس 1969 وانتهت بموافقة عبد الناصر على مبادرة وزير الخارجية الأمريكى حينئذ روجرز لوقف إطلاق النار فى الثامن من أغسطس 1970 .
وفي كتاب " أسرار جديدة عن حرب الاستنزاف" الذى صدر عن الهيئة المصرية للكتاب في 2005 ، واعتمد في محتوياته على شهادة شخصيتين كان كل منهما قريبا جدا من أسرار حرب الاستنزاف وعملياتها ، هما: عبده مباشر رئيس القسم العسكري الأسبق في الأهرام، وعميد بحري سابق إسلام توفيق ، جاء أن اللواء محمد صادق مدير المخابرات الحربية في هذا الوقت أقنع الرئيس عبد الناصر أن صورة القائد والضابط والجندي الإسرائيلي في مخيلة القوات المصرية على ضوء نتيجة يونيو 1967 هي صورة المقاتل السوبر (المقاتل الذي لا يقهر)، ولو تم ترك هذه الصورة لتترسخ لأصبح من المتعذر على القوات المصرية أن تواجه جيش الاحتلال الإسرائيلي في أي صراع عسكري مقبل .
ووفقا للواء محمد صادق أيضا ، فإنه إذا كانت مصر ستخوض معركة مقبلة لتحرير أرضها واستعادة كبريائها ، فإن الخطوة الأولى هي تحطيم صورة المقاتل الإسرائيلي السوبر قبل أن تترسخ في عقول المقاتلين المصريين ، ولتحقيق هذا الهدف فإنه من الضروري أن تبدأ عمليات فدائية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في شرق قناة السويس ، مؤكدا أن سقوط قتلى وجرح وأسرى فى صفوف العدو سيؤدي إلى استنزافه ونزع هذه الهالة التي اكتسبها في يونيو 1967.
وبالفعل وعلى أساس تلك الرؤية العسكرية ، انطلقت حرب الاستنزاف في مارس 1969 وتضمنت هجمات متعددة ضد الاحتلال في سيناء وحتى فى مناطق خارج منطقة الصراع تماما مثل عملية تفجير حفار إسرائيلي في المحيط الأطلنطي .
وكان من أهم إنجازات تلك الحرب عملية إيلات التي تم خلالها الهجوم على ميناء أم الرشراش المصري الذي أسمته إسرائيل إيلات بعد احتلاله ، حيث تم تلغيم الميناء وقتل عدد من العسكريين وإغراق بارجة إسرائيلية ، وذلك من قبل رجال الضفادع البشرية المصريين بالتعاون مع القوات الأردنية والعراقية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
كما سطر أبطال "المجموعة 39 قتال" التي كان يقودها العميد إبراهيم الرفاعي الذى استشهد فيما بعد بحرب أكتوبر بأسمائهم في سجل التاريخ بالنظر إلى المهام الخطيرة التى أوكلت إليهم وتم تنفيذها بنجاح خلال تلك الحرب ، وكانت تلك المجموعة تضم خيرة مقاتلي الصاعقة والضفادع البشرية والصاعقة البحرية وأذاقت جيش الاحتلال الإسرائيلي الويل والأهوال وسببت لجنوده حالة هيستيريا دائمة حتى أنهم كانوا يحاولون الوصول بأية وسيلة إلي معلومات عن تلك المجموعة وأساليب عملها ، بل أنهم حددوا أسماء ثلاثة من رجال المجموعة للوصول إليهم أحياء أو أموات وهم الشهيد إبراهيم الرفاعي والقائد الثاني للمجموعة الدكتور علي نصر ثم المقاتل الفذ علي أبو الحسن الذي شارك في 44 عملية خلف خطوط العدو في حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر .
حائط الصواريخ
في رد وحشى على خسائره في حرب الاستنزاف ، هاجم العدو الإسرائيلى أهدافا مدنية داخل مصر بسبب ضعف الدفاعات الجوية المصرية مثل مجزرة بحر البقر التي قصف فيها العدو مدرسة ابتدائية وأدت تلك العمليات الجوية الاسرائيلية إلى دفع مصر لإنشاء سلاح للدفاع الجوي كقوة مستقلة في عام 1968 وتبعه إنشاء حائط الصواريخ الشهير بالاعتماد الكلي على الصواريخ السوفيتية سام وقد حمى كل السماء المصرية وأضعف التفوق الجوي الاسرائيلي.
لقد كانت قوات الدفاع الجوي قبل النكسة تعتبر فرعاً من سلاح المدفعية، وتحت القيادة العملياتية للقوات الجوية وهذا التنظيم معمول به في كثير من دول العالم ولكن من دروس حربى 1956 و 1967 وجد أن القوة الجوية الإسرائيلية مركزة في يد قائد واحد ولذا من الضرورى تركيز جميع الأسلحة والمعدات المضادة لها والمكلفة بالتعامل معها وصدها في يد قائد واحد ضماناً للتنسيق وتوحيداً للمسئولية وتحقيقاً للنجاح.
وكان القرار بإنشاء قوات الدفاع الجوي المصري قوة مستقلة قائمة بذاتها، لتصبح القوة الرابعة ضمن القوات المسلحة المصرية التي تشمل القوات البرية والبحرية والجوية وذلك في أول فبراير 1968 .
وبدأ التخطيط لبناء منظومة دفاع جوي من منطلق الدور الرئيسي لهذه المنظومة والذي يتمثل في توفير الدفاع الجوي عن القوات والأهداف الحيوية في الدولة ضد هجمات العدو الجوي لذا ينبغي أن تحقق المنظومة ثلاثة أهداف رئيسية هي استطلاع العدو الجوي والإنذار عنه ومنع العدو من استطلاع القوات المصرية ثم توفير الدفاع الجوي عن القوات والأهداف الحيوية.
ولتحقيق هذا تضمنت منظومة الدفاع الجوى عدة عناصر متناسقة متعاونة تعمل تحت قيادة واحدة هي : نظام القيادة والسيطرة ، نظام الاستطلاع والإنذار ويضم أجهزة رادار أرضية أو محمولة جواً، وأقماراً صناعية، وشبكات المراقبة الجوية بالنظر ، نظم القتال الإيجابية، وتشمل: المقاتلات، والصواريخ الموجهة، والمدفعية المضادة للطائرات ، أنظمة الحرب الإلكترونية.
أما بالنسبة لحائط الصواريخ ، فإنه عندما ارتفعت خسائر إسرائيل نتيجة حرب الاستنزاف فقد قررت فى 6 يناير1970 بناء على اقتراح وزير الحرب موشى ديان إدخال السلاح الجوى الإسرائيلي إلى المعركة ، وزعمت رئيسة وزراء إسرائيل في هذا الوقت جولدا مائير أن الطريقة الوحيدة لمنع المصريين من تحرير سيناء هي ضرب العمق المصري بعنف.
ودخل الطيران الإسرائيلي بكل ثقلة مدعوما بالمقاتلات الحديثة من طراز سكاى هوك والفانتوم والميراج ليبدأ بمهاجمة القوات العسكرية فى البداية ثم انتقل إلى الأهداف المدنية .
ونظرا لأن السياسة التى اتبعها السوفيت عقب نكسة 1967 كانت تقضى بتزويد مصر بأسلحة دفاعية وعدم تزويدها بأسلحة متقدمة فقد فرضت إسرائيل سيطرتها الجوية ليس فقط على الجبهة ولكن على مصر كلها .
ونفذ الاحتلال الإسرائيلى العديد من الهجمات الجوية خلال الفترة من يناير حتي إبريل عام1970 م وبلغ إجمالي طلعات الطيران3838 طلعة جوية ، وخلال هذا التصعيد ارتكبت مقاتلات الاحتلال الإسرائيلى جريمتين بشعتين وهما الغارة الجوية على مصنع أبو زعبل والأخري على مدرسة بحر البقر في 8 إبريل 1970 ، الأولى تسببت بمقتل 70 عاملا وإصابة 69 آخرين وزعمت إسرائيل أنها وقعت بطريق الخطأ والأخرى تسببت بمقتل 31 طفلا وجرح 36 آخرين ، مما أساء الاستياء العالمى.
أمام كل هذا عقد الرئيس جمال عبد الناصر ثلاثة اجتماعات رئيسية مع القيادت الجوية والدفاع الجوى اللذين أكدوا له عجز شبكة الدفاع الجوى المصرى عن التصدي للطائرات الإسرائيلية بأجهزتها المتطورة ولذلك قرر السفر إلى موسكو فى زيارة سرية لامداد مصر بنظام دفاع جوى متكامل .
كانت شبكة الدفاع الجوى اللازمة للجيش المصرى تطلب عدة عناصر رئيسية وهى: وجود أجهزة رادارية متطورة للانذار المبكر وتتبع الطيران المعادى ، توافر مقاتلات اعتراضية للاشتباك والمطاردة خارج الحدود ، ايجاد شبكة متطورة من الصواريخ أرض جو للدفاع الثابت ، توافر الأجهزة الإلكترونية التى يمكن بفضلها اكتشاف الطائرات المعادية على مسافات بعيدة وأيضا إطلاق صواريخ جو جو أو أرض جو على الطائرات المغيرة .
ولذا طلب جمال عبد الناصر من السوفيت تزويد مصر بوحدات كاملة من المقاتلات الاعتراضية المتطورة (ميج 21 بالمحرك ي 511) ووحدات متكاملة من كتائب صواريخ سام 3 لمواجهة الطيران المنخفض وأيضا أجهزة رادار متطورة للانذار (ب15) .
وفي هذا الصدد ذكر الفريق محمد زاهر عبد الرح أحد قادة قوات الدفاع الجوى في أحد تصريحاته أن الصراع العربي الإسرائيلي تحول في ذلك الوقت إلي صراع بين القوات الجوية الإسرائيلية وقوات الدفاع الجوي المصرية حتي أن الرئيس جمال عبدالناصر اجتمع مع بعض من قادة لواءات وكتائب الصواريخ مرتين خلال شهر إب
المدمرة الإسرائيلية التى دمرت في حرب الاستنزاف ريل1970 .
ووفقا لما ذكره الفريق محمد زاهر فقد بدأ التنفيذ لبناء شبكة الصواريخ بالجبهة وتم حشد كميات هائلة من المواد الهندسية لتنفيذ بناء مواقع الصواريخ, وصلت إلي30 مليون متر مكعب من أعمال الحفر والردم و3 ملايين متر مكعب من الخرسانة ومئات الكليومترات من الطرق واشترك في البناء معظم شركات المقاولات المصرية مع زملائهم من ضباط وجنود القوات المسلحة واستمرت إسرائيل في مهاجمة قواعد الصواريخ الجاري إنشاؤها واستشهد العديد من رجال وشباب القوات المسلحة والمهندسين والعمال من شركات المقاولات وسالت الدماء علي أرض مصر في سبيل تحرير الأرض واستكمال تنفيذ بناء القواعد.
وفي صباح يوم30 يونيو 1970 تم استكمال مواقع الصواريخ على طول الجبهة وكانت المفاجأة الكبري لإسرائيل فقامت في نفس اليوم بهجوم جوي بعدد24 طائرة مقاتلة وكانت النتيجة تدمير أربع طائرات وأسر ثلاثة طيارين ولذا أطلقت المعاهد الإستراتيجية العالمية علي الإنجاز المصرى أسبوع تساقط الفانتوم واستمرت المحاولات الإسرائيلية لتدمير شبكة الصواريخ وخلال38 يوما وحتي1970/8/7 كانت خسائر الجانب الإسرائيلي كما نشر في مجلة "Aviationweek " هي تدمير17 طائرة وإصابة 34 طائرة أخرى .
وفي تأكيد على براعة حائط الصواريخ المصرى ، صرح عزرا وايزمان الذى كان قائدا لسلاح الجو الاسرائيلى في الفترة من 1958 - 1966 وكان مستشارا لرئيس أركان الجيش الإسرائيلى في حرب أكتوبر وتولى رئاسة إسرائيل في الفترة من 1993 - 2000 ، بأن حرب الاستنزاف انتهت دون أن تجد إسرائيل حلا لمشكلة صواريخ الدفاع الجوي ، قائلا :" لقد فشلنا في تدمير شبكة الصواريخ وإنني مقتنع أنها المرة الأولي التي لم ننتصر فيها" .
قالوا عن حرب الاستنزاف
ويؤكد الخبراء العسكريون أن حرب الاستنزاف هى التى مهدت الطريق لنصر 6 أكتوبر ، ففى تقرير نشرته جريدة "العربى الناصرى " فى 5 أكتوبر 2003 ، قال اللواء صلاح المناوي رئيس عمليات القوات الجوية المصرية خلال حرب أكتوبر :" إن حرب الاستنزاف كانت المدرسة التي أعدت القوات المسلحة المصرية لحرب أكتوبر المجيدة فقد كشفت لنا حرب الاستنزاف كل تجمعات العدو وطريقة اقترابه في الهجوم والشكل القتالي الذي يتواجد به كما كشفت لنا أيضا عدد طائرات العدو المستخدمة في الجو والأخري بالمظلات مما ساعدنا علي إعداد خطة أكتوبر ونجاح القوات المسلحة الباسلة في تدمير طائرات العدو وهي علي الأرض".
وفي السياق ذاته ، أكد اللواء أحمد حجازى أحد أبطال نصر أكتوبر أن التاريخ لن ينسي الانتصارات المصرية خلال حرب الاستنزاف لأنها غيرت وجهة النظر الحربية خاصة في القوات البحرية ، فبعد نجاح القوات البحرية المصرية في تدمير ميناء إيلات ، استبدلت جيوش العالم كله المدمرات والقطع الكبيرة بالزوارق واللنشات الخفيفة ، قائلا :" حرب الاستنزاف كانت نصرا لمصر ولذا سارعت أمريكا لإنقاذ إسرائيل عبر مبادرة روجرز لوقف إطلاق النار ".
ويمكن القول إن حرب الاستنزاف دحضت المزاعم الإسرائيلية حول أن الجيش المصرى تحول إلى جثة هامدة بعد نكسة 1967 .
النكسة رغم بشاعتها إلا أنها أدت إلى إعادة تنظيم الخطط العسكرية العربية ، وبعد قرابة العام وتحديدا فى 21 مارس 1968 ، قامت معركة الكرامة التي صد خلالها الجيش الأردني والفدائيين الفلسطينيين عدوانا إسرائيليا جديدا على الضفة الشرقية لنهر الأردن ، كما نجحت القوات المصرية في إلحاق خسائر فادحة بالاحتلال عبر معركة رأس العش وتدمير المدمرة إيلات والتى كانت بدايات لحرب الاستنزاف.بعض أبطال الهجوم على ميناء إيلات
ورغم أن إسرائيل ادعت أن الهجوم الواسع الذي بدأته على الضفة الشرقية لنهر الأردن في منطقة الكرامة كان بحجة تدمير قوة الفدائيين ، إلا أنها كانت تخطط إلى احتلال مرتفعات البلقاء والاقتراب من العاصمة عمان للضغط على القيادة الأردنية لقبول شروط الاستسلام التي تفرضها، ومحاولة إيجاد ولو موضع قدم على أرض شرقي نهر الأردن بقصد المساومة عليها لتحقيق أهدافها وتوسيع حدودها ، وضمان الأمن والهدوء على خط وقف إطلاق النار مع الأردن ، وتوجيه ضربات قوية ومؤثرة إلى الجيش الأردنى ، وأخيرا ، زعزعة الروح المعنوية والصمود عند السكان المدنيين وإرغامهم على النزوح من أراضيهم ليشكلوا أعباء جديدة، وحرمان المقاومة من وجود قواعد لها بين السكان وبالتالي المحافظة على الروح المعنوية للجيش الإسرائيلي بعد المكاسب التي حققها على الجبهات العربية في عدوان 5 يونيو .
إحباط مخططات إسرائيل
إسرائيل فشلت في تحقيق أي من الأهداف السابقة ، حيث لعب سلاح المدفعية الأردني وقناصو الدروع دوراً كبيراً في معركة الكرامة وعلى طول الجبهة وخاصة في السيطرة على جسور العبور ما منع الجيش الإسرائيلي من دفع أية قوات جديدة لإسناد هجومه الذي بدأه وذلك نظراً لعدم قدرته على السيطرة على الجسور خلال ساعات المعركة وقد أدى ذلك إلى فقدان القوات الإسرائيلية المهاجمة لعنصر المفاجأة وساهم ذلك بشكل كبير في تخفيف زخم الهجوم وعزل القوات المهاجمة شرقي النهر وبشكل سهل التعامل معها واستيعابها وتدميرها .
وما يؤكد هزيمة إسرائيل في تلك المعركة أن القوات الإسرائيلية التي نجحت في عبور جسر الملك حسين إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن كانت بحجم فرقة وهي القوات التي عبرت في الساعة الأولى من الهجوم وبعدها لم تتمكن القوات المهاجمة من زج أية قوات جديدة شرقى النهر بالرغم من محاولتها المستميتة للبناء على الجسور التي دمرت .
لقد كسب الجيش الأردنى بحسب المحللين العسكريين مفاجأة إطلاق النار الكثيف عند بدء الهجوم من القوات الإسرائيلية ولو تأخر في ذلك لأتاح للقوات المهاجمة الوصول إلى أهدافها .
انتصار أردني
ولعل إلقاء نظرة على خسائر الجانبين من شأنها أن توضح أكثر وأكثر حجم الهزيمة الموجعة التي تلقتها إسرائيل ، حيث بلغ عدد القتلى في صفوف قواتها المهاجمة 250 جندياً ، و450 جريحاً ، بالإضافة إلى تدمير 88 آلية وهي عبارة عن 27 دبابة و 18 ناقلة و 24 سيارة مسلحة و 19 سيارة شحن ، أما بالنسبة لخسائر القوات المسلحة الأردنية ، فكان عدد القتلى 61 جندياً ، و108 جرحى ، وتدمير 39 آلية مختلفة .
وأمام تلك الخسائر المحدودة في صفوف القوات الأردنية ، سجلت معركة الكرامة بأحرف من نور في إنجازات العسكرية العربية بل واعتبرت أول نصر عربي على إسرائيل منذ نكبة 1948 ، وترتب عليها أيضا استرجاع الأردن لآلاف الأراضي التي احتلت في حرب 1967 ، كما رفعت من معنويات الجبهات العربية الأخرى ، وأكدت بما لايدع مجالا للشك أن الإرادة والتصميم يمثلان جزءا لا يتجزأ من النصر على الأعداء.
ويرى الكاتب الفلسطيني زياد أبو شاويش أن الملمح الرئيس في تلك المعركة كان هو الشراكة الفلسطينية الأردنية الصادقة والحقيقية في مواجهة عدو واحد للطرفين، قائلا :" هذا الملمح وهذه الظاهرة أرست في حينه أهمية العمل الفدائي والمساندة النظامية في نفس الوقت وأظهرت كم هو مفيد وضروري للانتصار تجميع كل قوانا سواء من قوات مغاوير أو جيش نظامي بمدفعيته ودباباته وأسلحته الثقيلة وقتاله الكلاسيكي مع مجموعات فدائيين منتشرة بشكل مجموعات صغيرة وتستخدم تكتيكات الدفاع المتحرك والمواقع غير الثابتة، هذا المظهر الذي كان الأكثر إشراقاً ولا يزال في عنوان التضامن والتعاون بين المقاومة والجيش النظامي لم يتكرر بنفس الطريقة للآن برغم أهميته ونجاعته في مواجهة عدو متفوق".
واستطرد يقول :" من يتصور معركة تتلاقى فيها القوات الإسرائيلية التي تم إنزالها في المنطقة والمقاتلين الفلسطينيين المتحصنين في الجبال والخنادق التي توفرها طبيعة المنطقة مع قيام المدفعية الأردنية بالقصف المتواصل على القوات الزاحفة من الغرب وكذلك على المواقع المتمركزة غرب النهر كقوات مساندة ، يستطيع أن يفهم لماذا كان دور الجيش الأردني ضروري ولاغنى عنه كما دور المقاومة التي تصدت بشكل مباشر للعدوان وأوقعت خسائر فادحة بقوات العدو ودحضت الدعاية الصهيونية في تلك الفترة حول الأسطورة التي لا تلحق بها الخسارة والتي نجحت في احتلال أراضي ثلاث دول عربية في أقل من 6 أيام ".
لقد كانت معركة الكرامة نصراً مزدوجاً، في وجهه الأول كان انتصار للتضامن والتعاون بين الجيش والمقاومة، وهو الدرس الذي لازال العرب في حاجة ماسة لترسيخه والاستفادة منه في أية معارك قادمة مع العدو الإسرائيلي ، وفي وجهه الآخر فتحت الطريق أمام دول الطوق لخوض معركتها الأهم لتحرير أراضيها وليس فقط التصدي لعدوان إسرائيلي جديد والمقصود هناحرب أكتوبر المجيدة .
حرب الاستنزاف
انتهت حرب 5 يونيو أو حرب الأيام الستة كما سمتها إسرائيل بنهاية مأساوية كشفت عن كثير من أوجه القصور في القوات المسلحة المصرية بشكل عام وفي القوات التي تتولى مهام الدفاع الجوي بشكل خاص ولذا وضعت القيادة السياسية جملة من الأهداف لتجاوز النكسة تتمثل فى : إعادة بناء القوات المسلحة ، إعادة الثقة للجنود في أنفسهم وفي قادتهم ، إعادة الضبط والربط ، إعادة تدريب القوات ، وتنظيم الوحدات ، ومن هنا بدأت مرحلة الصمود وحرب الاستنزاف.
مرحلة الصمود
فبعد النكسة حاول الإسرائيليون الدخول واحتلال مساحات أوسع من أرض سيناء حيث تحركت قوات العدو من القنطرة في اتجاه بور فؤاد ولكن بعض قوات الصاعقة المصرية قامت ببث الألغام في طريقهم وعندما تقدم العدو انفجرت هذه الألغام فمنعت العدو من التقدم في 1 يوليو 67 وهى المعركة التى أطلق عليها " معركة رأس العش " .
وفي 2 يوليو 67 ، حاولت إسرائيل الاستيلاء علي بور فؤاد ولكن أفراد القوات المصرية تصدوا لهم بالأسلحة الخفيفة ودمرت عربات المدرعات المتقدمة واضطر العدو أن ينسحب بقواته وسميت هذه المعركة بمعركة راس العين .
وفى 14و 15 يوليو 67 ، قامت القوات المصرية بإطلاق مدفعية عنيفة علي طول الجبهة وذلك بعد اشتباكات مع العدو في الجنوب في اتجاه السويس والفردان وقد كان ذلك تمهيدا لطلعة طيران قوية حيث خرجت القوات الجوية باكملها وهى تضرب في الجنوب فتحول العدو بقواته الي الجنوب وترك الشمال بغير غطاء فانطلق الطيران المصري الي الشمال وأوقع خسائر كبيرة فى صفوف القوات الاسرائيلية .
وقامت القيادة الإسرائيلية علي إثر هذه الضربة الجوية المصرية الصائبة بطلب وقف إطلاق النار من أمريكا التي كلفت الأمين العام للأمم المتحدة بإبلاغ الرئيس جمال عبد الناصر عبر التليفون بهذا الطلب الإسرائيلي وكان قائد الطيران المصري في هذا الوقت هو الفريق مدكور أبو العز.
وفي 21 أكتوبر67 ، قامت البحرية المصرية بتدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات ، ويروي اللواء محمد عبد الغنى الجمسى رئيس هيئة العمليات بحرب أكتوبر فى مذكراته تفاصيل ما حدث في هذا اليوم ، قائلا :" جاء يوم 21 أكتوبر 1967 وقد وصلت إلى مركز قيادة الجبهة بعد راحة ميدانية ، فوجدت اللواء أحمد إسماعيل ومعه العميد حسن الجريدلى رئيس عمليات الجبهة ، وقد كنت أنا وقتها رئيس أركان للجبهة ، يتابعان تحركات المدمرة الإسرائيلية إيلات بالقرب من المياه الإقليمية لمصر فى المنطقة شمال بورسعيد . كانت المعلومات تصلنا أولا بأول من قيادة بورسعيد البحرية التى كانت تتابع تحركات المدمرة ، وقد استعدت قوات القاعدة لمهاجمة المدمرة عندما تصدر الأوامر من قيادة القوات البحرية بالتنفيذ . وظلت المدمرة المعادية تدخل المياه الإقليمية لفترة ما ثم تبتعد إلى عرض البحر ، وتكرر ذلك عدة مرات بطريقة استفزازية وفى تحرش واضح ، لإظهار عجز قواتنا البحرية عن التصدى لها ".
واستطرد يقول :" وبمجرد أن صدرت أوامر قائد القوات البحرية بتدمير هذه المدمرة عند دخولها المياه الإقليمية ، خرج لنشان صاروخيان من قاعدة بورسعيد لتنفيذ المهمة . هاجم اللنش الأول بإطلاق صاروخ أصاب المدمرة إصابة مباشرة فأخذت تميل على جانبها ، وبعد إطلاق الصاروخ الثانى تم إغراق المدمرة الإسرائيلية " إيلات " شمال شرق بورسعيد بعد الخامسة مساء يوم 21 أكتوبر 1967 وعليها طاقمها ، وقد غرقت المدمرة داخل المياه الإقليمية المصرية بحوالى ميل بحرى، وعاد اللنشان إلى القاعدة لتلتهب مشاعر كل قوات جبهة القناة وكل القوات المسلحة لهذا العمل الذى تم بسرعة وكفاءة وحقق تلك النتيجة الباهرة".
لقد كان إغراق المدمرة إيلات بواسطة الصواريخ البحرية التي استخدمت لأول مرة بحسب الجمسي بداية مرحلة جديدة من مراحل تطوير الأسلحة البحرية والقتال البحرى فى العالم وأصبح هذا اليوم ـ بجدارة ـ هو يوم البحرية المصرية ، مؤكدا أن هذه الضربة كانت هي حديث العالم كله في هذا الوقت .
حرب الاستنزاف
هو التعبير الذى أطلقه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر على العمليات العسكرية التي دارت بين القوات المصرية والاحتلال الإسرائيلى شرق قناة السويس والتى نقلت مصر خلالها المعركة إلى مواقع العدو بعد أن نجحت في مرحلة الصمود ومنع العدو من احتلال أراض جديدة وكان الهدف الأساسى من تلك الحرب هو إسقاط أكبر عدد ممكن من القتلى والجرحى والآليات في صفوف العدو وتدريب الجنود المصريين على عمليات قتالية في شرق القناة تمهيدا للحظة العبور.
وقد شرح جمال عبد الناصر فلسفته في هذة الحرب في حوار مع الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل ، قائلا :" أن يستطيع العدو أن يقتل 50 ألفا منا فإننا نستطيع الاستمرار لأننا نمتلك لاحتياطي الكافي و لكن أن يفقد العدو 10 آلاف فسوف يجد نفسه مضطر إلى أن يوقف القتال فهو لا يمتلك الاحتياطي البشري الكافي ".
وبدأت تلك الحرب في مارس 1969 وانتهت بموافقة عبد الناصر على مبادرة وزير الخارجية الأمريكى حينئذ روجرز لوقف إطلاق النار فى الثامن من أغسطس 1970 .
وفي كتاب " أسرار جديدة عن حرب الاستنزاف" الذى صدر عن الهيئة المصرية للكتاب في 2005 ، واعتمد في محتوياته على شهادة شخصيتين كان كل منهما قريبا جدا من أسرار حرب الاستنزاف وعملياتها ، هما: عبده مباشر رئيس القسم العسكري الأسبق في الأهرام، وعميد بحري سابق إسلام توفيق ، جاء أن اللواء محمد صادق مدير المخابرات الحربية في هذا الوقت أقنع الرئيس عبد الناصر أن صورة القائد والضابط والجندي الإسرائيلي في مخيلة القوات المصرية على ضوء نتيجة يونيو 1967 هي صورة المقاتل السوبر (المقاتل الذي لا يقهر)، ولو تم ترك هذه الصورة لتترسخ لأصبح من المتعذر على القوات المصرية أن تواجه جيش الاحتلال الإسرائيلي في أي صراع عسكري مقبل .
ووفقا للواء محمد صادق أيضا ، فإنه إذا كانت مصر ستخوض معركة مقبلة لتحرير أرضها واستعادة كبريائها ، فإن الخطوة الأولى هي تحطيم صورة المقاتل الإسرائيلي السوبر قبل أن تترسخ في عقول المقاتلين المصريين ، ولتحقيق هذا الهدف فإنه من الضروري أن تبدأ عمليات فدائية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في شرق قناة السويس ، مؤكدا أن سقوط قتلى وجرح وأسرى فى صفوف العدو سيؤدي إلى استنزافه ونزع هذه الهالة التي اكتسبها في يونيو 1967.
وبالفعل وعلى أساس تلك الرؤية العسكرية ، انطلقت حرب الاستنزاف في مارس 1969 وتضمنت هجمات متعددة ضد الاحتلال في سيناء وحتى فى مناطق خارج منطقة الصراع تماما مثل عملية تفجير حفار إسرائيلي في المحيط الأطلنطي .
وكان من أهم إنجازات تلك الحرب عملية إيلات التي تم خلالها الهجوم على ميناء أم الرشراش المصري الذي أسمته إسرائيل إيلات بعد احتلاله ، حيث تم تلغيم الميناء وقتل عدد من العسكريين وإغراق بارجة إسرائيلية ، وذلك من قبل رجال الضفادع البشرية المصريين بالتعاون مع القوات الأردنية والعراقية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
كما سطر أبطال "المجموعة 39 قتال" التي كان يقودها العميد إبراهيم الرفاعي الذى استشهد فيما بعد بحرب أكتوبر بأسمائهم في سجل التاريخ بالنظر إلى المهام الخطيرة التى أوكلت إليهم وتم تنفيذها بنجاح خلال تلك الحرب ، وكانت تلك المجموعة تضم خيرة مقاتلي الصاعقة والضفادع البشرية والصاعقة البحرية وأذاقت جيش الاحتلال الإسرائيلي الويل والأهوال وسببت لجنوده حالة هيستيريا دائمة حتى أنهم كانوا يحاولون الوصول بأية وسيلة إلي معلومات عن تلك المجموعة وأساليب عملها ، بل أنهم حددوا أسماء ثلاثة من رجال المجموعة للوصول إليهم أحياء أو أموات وهم الشهيد إبراهيم الرفاعي والقائد الثاني للمجموعة الدكتور علي نصر ثم المقاتل الفذ علي أبو الحسن الذي شارك في 44 عملية خلف خطوط العدو في حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر .
حائط الصواريخ
في رد وحشى على خسائره في حرب الاستنزاف ، هاجم العدو الإسرائيلى أهدافا مدنية داخل مصر بسبب ضعف الدفاعات الجوية المصرية مثل مجزرة بحر البقر التي قصف فيها العدو مدرسة ابتدائية وأدت تلك العمليات الجوية الاسرائيلية إلى دفع مصر لإنشاء سلاح للدفاع الجوي كقوة مستقلة في عام 1968 وتبعه إنشاء حائط الصواريخ الشهير بالاعتماد الكلي على الصواريخ السوفيتية سام وقد حمى كل السماء المصرية وأضعف التفوق الجوي الاسرائيلي.
لقد كانت قوات الدفاع الجوي قبل النكسة تعتبر فرعاً من سلاح المدفعية، وتحت القيادة العملياتية للقوات الجوية وهذا التنظيم معمول به في كثير من دول العالم ولكن من دروس حربى 1956 و 1967 وجد أن القوة الجوية الإسرائيلية مركزة في يد قائد واحد ولذا من الضرورى تركيز جميع الأسلحة والمعدات المضادة لها والمكلفة بالتعامل معها وصدها في يد قائد واحد ضماناً للتنسيق وتوحيداً للمسئولية وتحقيقاً للنجاح.
وكان القرار بإنشاء قوات الدفاع الجوي المصري قوة مستقلة قائمة بذاتها، لتصبح القوة الرابعة ضمن القوات المسلحة المصرية التي تشمل القوات البرية والبحرية والجوية وذلك في أول فبراير 1968 .
وبدأ التخطيط لبناء منظومة دفاع جوي من منطلق الدور الرئيسي لهذه المنظومة والذي يتمثل في توفير الدفاع الجوي عن القوات والأهداف الحيوية في الدولة ضد هجمات العدو الجوي لذا ينبغي أن تحقق المنظومة ثلاثة أهداف رئيسية هي استطلاع العدو الجوي والإنذار عنه ومنع العدو من استطلاع القوات المصرية ثم توفير الدفاع الجوي عن القوات والأهداف الحيوية.
ولتحقيق هذا تضمنت منظومة الدفاع الجوى عدة عناصر متناسقة متعاونة تعمل تحت قيادة واحدة هي : نظام القيادة والسيطرة ، نظام الاستطلاع والإنذار ويضم أجهزة رادار أرضية أو محمولة جواً، وأقماراً صناعية، وشبكات المراقبة الجوية بالنظر ، نظم القتال الإيجابية، وتشمل: المقاتلات، والصواريخ الموجهة، والمدفعية المضادة للطائرات ، أنظمة الحرب الإلكترونية.
أما بالنسبة لحائط الصواريخ ، فإنه عندما ارتفعت خسائر إسرائيل نتيجة حرب الاستنزاف فقد قررت فى 6 يناير1970 بناء على اقتراح وزير الحرب موشى ديان إدخال السلاح الجوى الإسرائيلي إلى المعركة ، وزعمت رئيسة وزراء إسرائيل في هذا الوقت جولدا مائير أن الطريقة الوحيدة لمنع المصريين من تحرير سيناء هي ضرب العمق المصري بعنف.
ودخل الطيران الإسرائيلي بكل ثقلة مدعوما بالمقاتلات الحديثة من طراز سكاى هوك والفانتوم والميراج ليبدأ بمهاجمة القوات العسكرية فى البداية ثم انتقل إلى الأهداف المدنية .
ونظرا لأن السياسة التى اتبعها السوفيت عقب نكسة 1967 كانت تقضى بتزويد مصر بأسلحة دفاعية وعدم تزويدها بأسلحة متقدمة فقد فرضت إسرائيل سيطرتها الجوية ليس فقط على الجبهة ولكن على مصر كلها .
ونفذ الاحتلال الإسرائيلى العديد من الهجمات الجوية خلال الفترة من يناير حتي إبريل عام1970 م وبلغ إجمالي طلعات الطيران3838 طلعة جوية ، وخلال هذا التصعيد ارتكبت مقاتلات الاحتلال الإسرائيلى جريمتين بشعتين وهما الغارة الجوية على مصنع أبو زعبل والأخري على مدرسة بحر البقر في 8 إبريل 1970 ، الأولى تسببت بمقتل 70 عاملا وإصابة 69 آخرين وزعمت إسرائيل أنها وقعت بطريق الخطأ والأخرى تسببت بمقتل 31 طفلا وجرح 36 آخرين ، مما أساء الاستياء العالمى.
أمام كل هذا عقد الرئيس جمال عبد الناصر ثلاثة اجتماعات رئيسية مع القيادت الجوية والدفاع الجوى اللذين أكدوا له عجز شبكة الدفاع الجوى المصرى عن التصدي للطائرات الإسرائيلية بأجهزتها المتطورة ولذلك قرر السفر إلى موسكو فى زيارة سرية لامداد مصر بنظام دفاع جوى متكامل .
كانت شبكة الدفاع الجوى اللازمة للجيش المصرى تطلب عدة عناصر رئيسية وهى: وجود أجهزة رادارية متطورة للانذار المبكر وتتبع الطيران المعادى ، توافر مقاتلات اعتراضية للاشتباك والمطاردة خارج الحدود ، ايجاد شبكة متطورة من الصواريخ أرض جو للدفاع الثابت ، توافر الأجهزة الإلكترونية التى يمكن بفضلها اكتشاف الطائرات المعادية على مسافات بعيدة وأيضا إطلاق صواريخ جو جو أو أرض جو على الطائرات المغيرة .
ولذا طلب جمال عبد الناصر من السوفيت تزويد مصر بوحدات كاملة من المقاتلات الاعتراضية المتطورة (ميج 21 بالمحرك ي 511) ووحدات متكاملة من كتائب صواريخ سام 3 لمواجهة الطيران المنخفض وأيضا أجهزة رادار متطورة للانذار (ب15) .
وفي هذا الصدد ذكر الفريق محمد زاهر عبد الرح أحد قادة قوات الدفاع الجوى في أحد تصريحاته أن الصراع العربي الإسرائيلي تحول في ذلك الوقت إلي صراع بين القوات الجوية الإسرائيلية وقوات الدفاع الجوي المصرية حتي أن الرئيس جمال عبدالناصر اجتمع مع بعض من قادة لواءات وكتائب الصواريخ مرتين خلال شهر إب
ووفقا لما ذكره الفريق محمد زاهر فقد بدأ التنفيذ لبناء شبكة الصواريخ بالجبهة وتم حشد كميات هائلة من المواد الهندسية لتنفيذ بناء مواقع الصواريخ, وصلت إلي30 مليون متر مكعب من أعمال الحفر والردم و3 ملايين متر مكعب من الخرسانة ومئات الكليومترات من الطرق واشترك في البناء معظم شركات المقاولات المصرية مع زملائهم من ضباط وجنود القوات المسلحة واستمرت إسرائيل في مهاجمة قواعد الصواريخ الجاري إنشاؤها واستشهد العديد من رجال وشباب القوات المسلحة والمهندسين والعمال من شركات المقاولات وسالت الدماء علي أرض مصر في سبيل تحرير الأرض واستكمال تنفيذ بناء القواعد.
وفي صباح يوم30 يونيو 1970 تم استكمال مواقع الصواريخ على طول الجبهة وكانت المفاجأة الكبري لإسرائيل فقامت في نفس اليوم بهجوم جوي بعدد24 طائرة مقاتلة وكانت النتيجة تدمير أربع طائرات وأسر ثلاثة طيارين ولذا أطلقت المعاهد الإستراتيجية العالمية علي الإنجاز المصرى أسبوع تساقط الفانتوم واستمرت المحاولات الإسرائيلية لتدمير شبكة الصواريخ وخلال38 يوما وحتي1970/8/7 كانت خسائر الجانب الإسرائيلي كما نشر في مجلة "Aviationweek " هي تدمير17 طائرة وإصابة 34 طائرة أخرى .
وفي تأكيد على براعة حائط الصواريخ المصرى ، صرح عزرا وايزمان الذى كان قائدا لسلاح الجو الاسرائيلى في الفترة من 1958 - 1966 وكان مستشارا لرئيس أركان الجيش الإسرائيلى في حرب أكتوبر وتولى رئاسة إسرائيل في الفترة من 1993 - 2000 ، بأن حرب الاستنزاف انتهت دون أن تجد إسرائيل حلا لمشكلة صواريخ الدفاع الجوي ، قائلا :" لقد فشلنا في تدمير شبكة الصواريخ وإنني مقتنع أنها المرة الأولي التي لم ننتصر فيها" .
قالوا عن حرب الاستنزاف
ويؤكد الخبراء العسكريون أن حرب الاستنزاف هى التى مهدت الطريق لنصر 6 أكتوبر ، ففى تقرير نشرته جريدة "العربى الناصرى " فى 5 أكتوبر 2003 ، قال اللواء صلاح المناوي رئيس عمليات القوات الجوية المصرية خلال حرب أكتوبر :" إن حرب الاستنزاف كانت المدرسة التي أعدت القوات المسلحة المصرية لحرب أكتوبر المجيدة فقد كشفت لنا حرب الاستنزاف كل تجمعات العدو وطريقة اقترابه في الهجوم والشكل القتالي الذي يتواجد به كما كشفت لنا أيضا عدد طائرات العدو المستخدمة في الجو والأخري بالمظلات مما ساعدنا علي إعداد خطة أكتوبر ونجاح القوات المسلحة الباسلة في تدمير طائرات العدو وهي علي الأرض".
وفي السياق ذاته ، أكد اللواء أحمد حجازى أحد أبطال نصر أكتوبر أن التاريخ لن ينسي الانتصارات المصرية خلال حرب الاستنزاف لأنها غيرت وجهة النظر الحربية خاصة في القوات البحرية ، فبعد نجاح القوات البحرية المصرية في تدمير ميناء إيلات ، استبدلت جيوش العالم كله المدمرات والقطع الكبيرة بالزوارق واللنشات الخفيفة ، قائلا :" حرب الاستنزاف كانت نصرا لمصر ولذا سارعت أمريكا لإنقاذ إسرائيل عبر مبادرة روجرز لوقف إطلاق النار ".
ويمكن القول إن حرب الاستنزاف دحضت المزاعم الإسرائيلية حول أن الجيش المصرى تحول إلى جثة هامدة بعد نكسة 1967 .