أصدر مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي تقريرا في أيلول/ سبتمبر 2008 ضمن قائمة تقاريره الخاصة بعنوان
“الصين،أسلحة الفضاء، والأمن الأمريكي”، وتكمن أهمية هذا التقرير في أنّه يأتي متزامنا مع نجاح ثلاثة رواد صينيين على متن المركبة الفضائية “شنتشو 7″ بالقيام بمهمة استغرقت ثلاثة أيام وتضمنت أول عملية سير في الفضاء لرواد صينيين لتصبح بذلك ثالث دولة بعد الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، يتمكن روادها من السير في الفضاء.
يتألف التقرير الذي اعدّه عضو مجلس العلاقات الخارجية “بروس ماكدونالد” وهو مستشار في ادارة شؤون سياسة الامن القومي والتكنولوجيا، شغل عددا من المناصب العالية منها مساعد مدير شؤون الأمن القومي في مكتب البيت الأبيض لسياسة العلوم والتكنولوجيا، ومدير رفيع المستوى في فريق العلوم والتكنولوجيا في مجلس الأمن القومي، كما عمل مستشارا في وزارة الخارجية كمتخصص في شؤون الاسلحة النووية والتكنولوجيا، وكعضو في لجنة هيئة القوات المسلّحة، من 71 صفحة وينقسم إلى ثلاث فصول رئيسية يليها خلاصة وتوصيات لكل من الولايات المتّحدة والصين.
ويتناول التقرير الأبعاد الاستراتيجية للتنافس العسكري الجديد في الفضاء خاصّة بعد أن استعرض الطرفان قدرتهما على تدمير الأقمار الصناعية في غضون 14 شهرا متتالية، كما ويركّز على المخاطر والفرص التي ستواجه الولايات المتّحدة في مجال الفضاء قريبا ويدعوها إلى أن تعمل على إيجاد بيئة فضائية أكثر استقرارا وأمنا لما فيه مصلحتها.
وينطلق المؤلف من المخاوف التي أثارتها الصين لدى العديد من البلدان ابّان إجرائها اختبارا ناجحا في شباط من العام 2007 لسلاح يهدف إلى إبطال عمل الأقمار الصناعية، وهو سلاح يدخل ضمن منظومة عمل الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية والتي تعرف باسم
ASAT، بحيث تضمّن الاختبار الأول من نوعه إصابة قمر صناعي صيني قديم يستخدم بهدف رصد الأحوال الجويّة متمركز على بعد 500 ميل أو حوالي 800 كلم في الفضاء.
أدّت التجربة
الصينية إلى رد فعل دولي سريع آذاك من قبل عدد كبير من الدول من بينها أستراليا وكندا وبريطانيا واليابان وكوريا الجنوبية لكن الرد الأعنف كان من قبل الولايات المتّحدة التي كانت أول من أعلن انّ الصين أطلقت سلاحا مضادا للأقمار الصناعية وأجرت تجربة له في 11 شباط 2007.
واستنادا إلى التقرير، فانّ التجربة
الصينية للسلاح المضاد للأقمار الصناعية يعدّ مؤشر على مدى قدرتها
المستقبلية في تدمير أو تخريب الأقمار الصناعية الأمريكية، خاصّة انّ الانعكاسات الاستراتيجية لهذه التجربة هزّت أركان الأوساط الأمنية والعسكرية في الولايات المتّحدة الأمريكية والعالم.
التحدي الذي تفرضه الصين في الفضاء
يتناول المؤلف طبيعة التحدّي الذي تفرضه الصين في مجال الفضاء والتهديدات التي تمثّلها أيضا، كما يؤكّد على ضرورة التمييز بين الاستخدام العسكري للفضاء والتسليح العسكري. فالأول متاح لجميع الدول، وباستطاعة كل دولة أن تستفيد من تموضعها في الفضاء للاستعمالات العسكرية سواءا في مجال المعلومات أو في مجال الاتصالات او غيرها، لكّن التسليح الفضائي قد يستعمل لمنع الخصم من استخدام الفضاء لأغراض عسكرية.
ومن هذا المنطلق، فانّ لدى الولايات المتّحدة تخوّف من أن تقوم الصين بوضع أسلحة مضادة للأقمار الصناعية في الفضاء مستقبلا أو بتركيز قواعد أرضية لهذه الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، وهو ما من شانه ان يقلّص فعالية القوات المقاتلة الأمريكية على الأرض بشكل كبير نظرا لاعتماد الولايات المتّحدة الغير محدود على أنظمة الاتصالات والمعلومات والقيادة والتحكم التي توفّرها هذه الأقمار الصناعية المتطورة التي تمتلكها. فإسقاط قمر صناعي أمريكي متطور في الفضاء من شأنه ان يرجع الولايات المتّحدة عشرين سنة إلى الوراء فيما يتعلق بالقدرات العسكرية ، كما من شانه أن يؤثر على الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد العالمي.
غموض عقيدة الصين “الفضائية”
كانت الصين تسعى إلى تطوير قدرات عسكرية ومدنية متطورة في مجال الفضاء منذ العام 1955، ولكن من غير المعروف ما إذا كانت تطوّر قدراتها في الفضاء من أجل الردع أو من أجل استخدامها عسكريا، وهو ما يطفي نوعا من الغموض ويترك المجال واسعا امام العديد من التفسيرات والتحليلات دون الوصول الى اليقين، على عكس العقيدة النووية
الصينية. فالقدرات النووية
الصينية صغيرة نسبيا وهي غير مخصصة لأهداف هجومية كما نصّت على ذلك صراحة “العقيدة النووية
الصينية” التي حرّمت استخدام القوة النووية في “الضربة الأولى” وحصرتها في الرد فقط. لكنّ الردع النووي مختلف عن الردع في الفضاء، ولذلك فالعقيدة
الصينية في الفضاء غير واضحة تماما، وتحتاج من الولايات المتّحدة الأمريكية إلى المزيد من التحليل والدراسة.
الردع في الفضاء
ففي مجال الردع، يؤكّد المؤلف على انّ القدرات اللامتناظرة الموجودة حاليا لدى الولايات المتّحدة والصين تؤثر بشكل كبير على مفهوم الردع خاصة لدى أمريكا. فالصين لا تمتلك حاليا أيّة أصول مهمة في الفضاء يمكن للولايات المتّحدة أن تستهدفها وبالتالي تسبب خسائر جسيمة للصين، بينما تمتلك الولايات المتّحدة الكثير من الأصول المهمّة جدا والغاية في الحساسية والخطورة والتي يمكن للصين استهدافها وإيقاع الخسائر البالغة فيها. لكن بما انّ قدرات الصين في مجال الفضاء تتزايد شيئا فشيئا وبشكل سريع، فمن المتوقع خلال 15 عاما أن يتلاشى هذا اللاتناظر وتصبح مفاتيح الصين في الفضاء في مرمى القدرات الأمريكية أيضا.
ويشير التقرير الى انّ الولايات المتحدة والصين تمتلكان حوافز قوية لتفادي أي حرب ممكنة في الفضاء، فالتداعيات العسكرية والاقتصادية الخطيرة التي يتركها مثل هذا الأمر يحتّم عليهما التفكير العميق على ان تطغى مثل هذه الأمور على كل الأولويات لدى البلدين. كما انّ مسار الأقمار الصناعية الممكن توقعّه والمعروف سلفا يجعلها ضعيفة أمام التقنيات المتطور للأسلحة الهجومية في الفضاء. ففي الفضاء، يتفوق الهجوم بشكل لافت على الدفاع، ويبدو انّ الولايات المتّحدة تقوم باتّخاذ العديد من الخطوات لتقليص مكامن الضعف هذه وتعزيز القدرات على الصعيدين الدفاعي والهجومي في الفضاء، وهي قد بدأت بتوزيع قدراتها في الفضاء على عدد كبير من الأقمار الصناعية بدلا من سياستها القديمة القاضية بحصرها بعدد محدد من الأقمار الصناعية العالية التطوّر التي قد يتم استهدافها في الفضاء في أي وقت.
الصين ليس لديها ما تخسره على المدى القصير
وتقف الولايات المتّحدة والصين على مفترق طرق فيما يتعلق بقدراتهما في التسلّح والفضاء، هل يمسكون عن هذا التنافس المحتمل في هذا المجال، وإذا كان كذلك فكيف يتم هذا؟. فبينما تتقدم الولايات المتحدة بشكل واضح فيما يتعلق بقدراتها الهجومية في الفضاء، فانّ الصين أقل اعتماد على الفضاء من الولايات المتّحدة في شؤونها العسكرية، وبالتالي فإنها في المدى القصير ليس لديها الكثير لتخسره هناك في أي نزاع عسكري في الفضاء في حال كان حصول مثل ذلك حتميا. ومن باب السخرية، فانّ الاعتماد الأقل للصين على الفضاء في المجال العسكري سيعطيها فيما يبدو أفضلية هجومية على المدى القصير تتيح لها إلحاق أذى أكبر في الأصول الأمريكية الموجودة في الفضاء أكثر مما يمكن للولايات المتّحدة أن تلحقه بما لدى الصين هناك، وهو ما يطرح موضوع الردع في الفضاء على بساط البحث. لكن من المتوقع أن تزول هذه القدرات “الغير متناظرة” على المدى الطويل الذي ستعمل الصين خلاله على تطوير قدراتها في مجال الفضاء.
ضرورة خلق نظام آمن ومستقر في الفضاء
ويشدد التقرير إلى انّ على الولايات المتّحدة أن تحافظ على قدرتها في جمع معلومات حساسة من شانها ان تسمح لها بتفعيل قدرتها العسكرية بشكل دائم، وهو ما يتطلب خلق نظام آمن ومستقر في الفضاء وذلك عبر:
- تركيز السياسات الأمريكية على الاستقرار، الردع، ضبط التصعيد، والشفافية.
- إنشاء مبادرات تشجع الأمم على تفادي الأعمال التي من شانها أن تزعزع الاستقرار.
- الحد من قدرة الخصم على استهداف وتدمير الأصول الموجودة في الفضاء.
- زيادة فترة الإنذار للتمكين من اتخاذ القرارات الاستراتيجية أو العملية ووضعها موضع التنفيذ.
- تسهيل الاتفاقات والتفاهمات التي من شأنها أن تحد من الإجراءات التي تزعزع الاستقرار في الفضاء وترسي قواعد طبيعية للعمليات العادية التي تجري في الفضاء.
- الحفاظ على الحوار بين الخبراء العسكريين الأمريكيين والصينيين لتعزيز المزيد من التعاون وتقليص فرص الوقوع في سوء تفاهم أو حسابات خاطئة بين الجانبين.
فالولايات المتّحدة تواجه تحدّيا كبيرا نظرا لاعتماد قدراتها العسكرية والاقتصادية بشكل متزايد على بنيتها التحتيّة الموجودة في الفضاء والتي تصبح أضعف فأضعف في مواجهة التكنولوجيا المتطورة والمعقدّة التي قد يتم استخدامها في الفضاء والتي تشهدا تطورا لدى بعض الدول خاصة الصين.
وبينما من المتوقع أن تظل الولايات المتّحدة متقدّمة في مجال تكنولوجيا الفضاء للسنوات الثلاثين القادمة، فإنها لن تكون قادرة بعد ذلك على احتكار القدرات العسكرية في الفضاء والتي كانت قد تمتّعت بها منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، فالصين تتقدم في خطى حثيثة في مجال الفضائي مع تركيزها على القدرات الهجومية مستقبلا، وهو الأمر الذي يطرح السؤال الملّح على الأوسط الأمريكية: “ما هو نوع النظام الذي من الممكن فرضه في الفضاء لتحقيق الاستقرار والذي يخدم الولايات المتحّدة ومصالحها الأمنية على أفضل شكل”.
التركيز على البراغماتية والديبلوماسية
ويقدّم التقرير في نهايته توصيات لكل من الولايات المتّحدة والصين ويسلّط الضوء من خلالها على العديد من الخيارات البراغماتية والديبلوماسية التي يجب على الولايات المتّحدة أن تتّخذها لحماية مصالحها الأمنية في الفضاء، ولتقليص الفرص من أن يتم قطع المنافع التي تحصل عليها هناك ويتم الاستفادة منها في الشأن العسكري في الوقت الذي تكون فيه في أمس الحاجة اليها. كما يدعو التقرير الولايات المتّحدة إلى تعزيز النواحي الايجابية لسياساتها المتّبعة في الفضاء حاليا وعقيدتها ذات الصلة بحيث يصب ذلك في تدعيم الأمن القومي، وهو ما يفرض عليها اتّباع تركيبة أو خليط من الخيارات السياسية، البراغماتية والديبلوماسية التي من شانها أن تؤسس لرد متين، قوي ومعقّد تجاه التحدّيات التي تفرضها الصين في الفضاء، ولا شك انّ من شان هذه الخطوات والخيارات أن تفتح قنوات اتصال وتواصل وتفاهم جديدة بين الولايات المتّحدة والصين بحيث تخدم مصالح الطرفين.