حرب جزر فوكلامد بين بريطانيا والارجنتين عام 1982

إنضم
22 يوليو 2009
المشاركات
871
التفاعل
8 0 0
المبحث الأول
النزاع بين بريطانيا والأرجنتين
أولاً: الخلفية التاريخية
تعود جذور الأزمة التي تفجرت بين المملكة المتحدة والأرجنتين في أبريل عام 1982م حول تبعية جزر "فوكلاند" إلى مئات السنين. وقد اختلفت المصادر حول اكتشاف جزر فوكلاند فبينما نسبته المصادر البريطانية إلى الكابتن "جون ديفيز John Devis الذي تشير إلى أنه اكتشفها مصادفة عام 1592م عندما جرفت العواصف الشديدة سفينته دزاير Desire نحو تلك الجزر، فقد نسبته مصادر أخرى إلى الرحالة البرتغالي فرديناند ماجلان Ferdinand Magellan الذي تشير إلى أنه اكتشفها خلال رحلة قام بها عام 1520م، إلاّ أنه لم يطأ أراضيها.
غير أن الثابت والمسجل أن أول من وطأ تلك الجزر هو أحد البحارة الإنجليز ويُدْعى الكابتن "جون سترونج"، وقد وصل إليها عام 1690 وأطلق عليها اسم "فوكلاند" نسبة للفيكونت "فوكلاند" أمين خزانة البحرية البريطانية في ذلك الوقت. وسجل "جون سترونج" في مذكراته وصفاً دقيقاً لتلك الجزر تضمَّن طبيعتها الجغرافية ومناخها والكائنات التي تقطنها وجميع مظاهر الحياة فيها.
إلاّ أنه يمكن القول إن أول من أقام مستعمرة سكنية على جزر "فوكلاند" هو الفرنسي "لويس أنطون دي بوجانفيل Luis Antoin de Bouganvile"، الذي حضر إليها عام 1764 وأقام على جزيرة "فوكلاند الشرقية" أول مستعمرة فرنسية تضمنت قلعة صغيرة تشرف على مدخل الميناء الذي أطلق عليه اسم "بورت لويس Port Louis"، وكان الفرنسيون قد اكتشفوا جزر "فوكلاند" خلال رحلاتهم بين "سان مالو" و"ريو دي بلاتا"، وأطلقوا على هذه الجزر اسم "جزر مالومين Les Iles Malouine"، وهو الاسم الذي حوره الأسبان بعد ذلك إلى "لاس ايلاس مالفيناس Les Ioles Malvinas".
وفي العام التالي لإنشاء المستعمرة الفرنسية ظهر الإنجليز مرة أخرى، عندما حضر الكابتن "جون بيرون Jone Byron" في رحلة استكشافية إلى الجزر وأقام على جزيرة "سوندرز Sounders " (شمال جزيرة فوكلاند الغربية) أول مستعمرة بريطانية وأطلق على ميناءها اسم "بورت إجمونت Port Egmont". وقبل مغادرته للجزر ترك "بيرون" حامية بريطانية من عدد قليل من الأفراد في "بورت إجمونت".
1. النزاع الفرنسي البريطاني الإسباني على ملكية الجزر
ظل الوضع على ما هو عليه لمدة عامين آخرين قبل أن تكتشف المستعمرتان الفرنسية والبريطانية كل منهما الأخرى، وفي إحدى الرحلات التي كانت تقوم بها سفن المستعمرة البريطانية حول الجزر اكتشفت وجود المستعمرة الفرنسية، وطالبوا سكانها بمغادرة الجُزر على أساس أنها من الممتلكات البريطانية. ونشب نزاع بين المستعمرين حول أحقية كل منهما في ملكية الجُزر.
وبينما الفرنسيون والبريطانيون في نزاعهم، ظهرت أسبانيا على مسرح الأحداث كطرف ثالث في النزاع، وأعلنت لكل من الطرفين الفرنسي والبريطاني أن المنطقة بأسرها من الممتلكات الأسبانية وطالبتهم بالجلاء عن الجزر. وفي عام 1766م تنازل الفرنسيون عن مستعمرتهم نظير تعويض مالي ورحلوا عنها، فقام الأسبان بتغيير اسم ميناءها "بورت لويس" وأطلقو عليه اسم "بورتو دي لاسوليداد"، وبعد أربعة أعوام تمكنت أسبانيا من طرد البريطانيين من "بورت إجمونت".
ولمّا كانت الحكومة البريطانية عاجزة في ذلك الوقت عن اتخاذ إجراء عسكري مضاد ضد أسبانيا- التي كانت تسيطر على أمريكا الجنوبية- فقد دخلت في مفاوضات مع الحكومة الأسبانية لتحصل منها على موافقة بأحقية التواجد البريطاني في جزر "فوكلاند". وبالفعل تمكن البريطانيون في نهاية المفاوضات من الحصول على الموافقة المطلوبة، إلاّ أن الحكومة البريطانية لم تتمكن من الاحتفاظ بمستعمرتها في "بورت إجمونت" طويلاً بعد العودة إليها لعدم قدرتها على مواصلة الإنفاق على حاميتها هناك، خاصة بعد اندلاع الثورة في مستعمراتها في أمريكا الشمالية وانشغالها في إخماد تلك الثورة، ومن ثم أصدرت تلك الحكومة أوامرها عام 1774م بسحب حاميتها من "بورت إجمونت".
وخيَّم الهدوء والاستقرار على منطقة "فوكلاند" حتى عام 1806م، وعندما خضعت أسبانيا لسيطرة "نابليون" بدأت بريطانيا في مهاجمة الحكم الأسباني في "بوينس أيريس"، وشهدت تلك الحقبة تدهوراً في أحوال الجزر، ورحل عنها حاكمها الأسباني دون أن يترك إدارة مسئولة، مما تسبب في شيوع الفوضى وعدم استقرار الأمن وظهور بعض العصابات الإجرامية.
2. سيادة الأرجنتين على الجزر
وعلى أثر استقلال الأرجنتين عن أسبانيا عام 1816م، أعلنت سيادتها على جزر "فوكلاند" وغيَّرت اسمها إلى "لاس مالفيناس Las Malvinas" وعدَّت جميع الجزر الواقعة أمام سواحلها من ممتلكاتها الخاصة على أساس أنها الوريثة الوحيدة للمستعمرات الأسبانية في تلك المنطقة.
ولم يهتم أحد في ذلك الوقت بما ادَّعته الأرجنتين حقاً من حقوقها، ومضت عدة سنوات على هذا الوضع قبل أن تبدأ الأرجنتين محاولة جادة لبسط سلطانها على الجزر أو تأكيد ما تدعيه من حقوق. وفي عام 1829م عينت حكومة الأرجنتين "لويس فيرنيت Louis Vernet" حاكما على "لاس مالفيناس" وأعطته سلطات واسعة، بما في ذلك حق التصريح بالصيد ومنعه في المياه المحيطة بالجزر.
وأدّى هذا التصرف من جانب الأرجنتين إلى تورطها عام 1831م في مشاكل مع قوة أخرى ظهرت حديثا على المسرح، هي الولايات المتحدة الأمريكية. وقد بدأت المشكلة عندما تحدت ثلاث سفن تابعة للولايات المتحدة تعليمات "فيرنيت" ولم تعترف بسلطانه على المنطقة، وقامت بالصيد من دون الحصول على إذن بذلك منه، فقام "فيرنيت" بالقبض عليها، وأرسل إحداها إلى "بوينس أيريس" لمحاكمة رُبَّانها وبحَّارتها، مما أثار غضب الولايات المتحدة، وقام قنصلها في "بوينس أيريس" "جورج سلاكوم George Slacum" بمطالبة الحكومة الأرجنتينية بالإفراج الفوري عن السفن الثلاثة وبحارتها، واعتبر هذا العمل من جانب فريت" أحد أعمال القرصنة التي توجب محاكمته عليها.
ولم تستجب حكومة الأرجنتين لما طلبته الولايات المتحدة على لسان قنصلها وماطلت في الرد عليها، فأصدرت الولايات المتحدة أوامرها إلى الكوماندر "سيلاس دانكان Cdr. Silas Duncan" قائد الفرقاطة "ليكسنجتون" “ بالإبحار إلى جزر "مالفيناس" لتأديب حاكمها والثأر لسفن الصيد. وفور وصول الفرقاطة إلى الجزر قامت بإطلاق مدافعها على مقر قيادة "فيرنيت" في سوليداد Soledad فدكته بقنابلها ونسفت مستودعات ذخائره، كما قام بحارة السفينة بالإغارة على قصر الرئاسة ونهبوا كل محتوياته وأسروا سبعة من أعوان "فيرنيت" واقتادوهم مكبلين بالأغلال إلى الفرقاطة الأمريكية التي أبحرت بهم. وفي طريق عودتها، عرَّجت الفرقاطة على ميناء "مونتفيديو" حيث قامت بإطلاق سراح الأسرى السبعة، غير أن حكومة الأرجنتين ثارت لما حدث من انتهاك لسيادتها وطالبت الولايات المتحدة بتعويض عن الأضرار التي لحقت بممتلكاتها على الجزيرة، لكن الولايات المتحدة لم تأبه بتلك المطالب التي ظلت الحكومة الأرجنتينية تطالبها بها لمدة ثلاثة وخمسين عاماً.
3. عودة البريطانيين إلى الجزر
أغرى ضعف الأرجنتين الحكومة البريطانية باستعادة سيادتها على الجزر، وعهدت بتلك المهمة إلى الكابتن "جون أنسلو" قائد البارجة "كليو Clio" التي وصلت إلى الجزر عام 1833م، ولم تلق البارجة أي مقاومة من حامية الجزيرة المكونة من خمسين جندياً أرجنتينياً انصاعوا على الفور لأوامر البارجة عندما أمرتهم بالاستسلام، وبذلك رُفِعَ العلم البريطاني مرة أخرى على جزر "فوكلاند".
وأرسلت الأرجنتين احتجاجاً إلى الحكومة البريطانية وطالبتها بإجلاء قواتها عن الجزر، وماطل اللورد "بالمرستون Lord Palmerston" في الرد على الاحتجاج الأرجنتيني، وبعد ستة أشهر أرسل رد الحكومة البريطانية الذي أكدت فيه أن جزر "فوكلاند" من ممتلكات التاج البريطاني وليس للأرجنتين أي حق في الاحتجاج على ذلك.
وظلت الجزر حتى عام 1841م يتولى إدارتها حاكم عسكري تعينه الحكومة البريطانية من ضباط البحرية الملكية، غير أنه بعد هذا التاريخ وُضعت الجزر تحت إدارة مدنية استقرت في "بورت لويس". وفي عام 1845م تم تكوين المجالس التنفيذية والتشريعية، كما تم إعداد الدستور في عام 1877م. ومنذ ذلك التاريخ استقرت الأوضاع السياسية الداخلية والخارجية للجزر حتى الحرب العالمية الأولى، عندما شهدت مياه الجزر عدة معارك بين الأسطولين الألماني والبريطاني انتهت بانتصار الأخير. وخلال الحرب العالمية الثانية اتخذت بريطانيا من ميناء "ستانلي" قاعدة بحرية لأسطولها في جنوب الأطلسي أنشأت فيها محطة للاتصالات اللاسلكية ذات أهمية استراتيجية.
4. النزاع بين بريطانيا والأرجنتين على الجزر
أ. مؤتمر هافانا عام 1942
استمرت الأرجنتين في المطالبة باستعادة الجزر، وفي عام 1940م حصلت على تأييد مؤتمر الدول الأمريكية الذي تَمَّ عقده في "هافانا" حيث أقَّرت دول المؤتمر أحقيتها في استعادة الجزر، كما طلبت "شيلي" هي الأخرى بضم جميع الأراضي الواقعة بين خطي طول 35 و90 درجة غرباً، بما في ذلك جزر "ساوث شيتلندز South Shetlands"، لكن بريطانيا عارضت ذلك بشدة ولجأت إلى محكمة العدل الدولية في "لاهاي" وفي مارس 1947 رفضت تلك المحكمة نظر القضية بسبب معارضة كل من "شيلي" و"الأرجنتين".
وفي عام 1958، عُرضت المشكلة على الأمم المتحدة غير أن بريطانيا احتجت على ذلك، على أساس أن البت في هذه المشكلة من اختصاص محكمة العدل الدولية في "لاهاي"
وفي عام 1959م اتفقت كل من بريطانيا والأرجنتين وشيلي على جعل المنطقة جنوب خط عرض 60 درجة جنوباً، منطقة منزوعة السلاح، وتضمن الاتفاق حظر تحرك السفن الحربية جنوب هذا الخط. وفي شهر ديسمبر 1959، أقرت هذا الاتفاق منظمة دول أمريكا اللاتينية على أن يشمل الاتفاق كل منظمة "القارة القطبية الجنوبية"
وفي عام 1964، قامت كل من الأرجنتين وشيلي بعمل مناورات بحرية في منطقة جزر "فوكلاند" مِمَّا أدَّى إلى احتجاج الحكومة البريطانية وإثارة المشكلة مرة أخرى في الأمم المتحدة في حضور ممثلين عن سكان الجزر.
وأثناء تناول المشكلة أبدى سكان الجزر على لسان ممثليهم، رغبتهم في الاستمرار تحت السيادة البريطانية، وتبعاً لذلك أصدرت المنظمة الدولية، في 21 سبتمبر 1964، قرارها باحترام رغبة السكان، وأوصت بإجراء مفاوضات مباشرة بين الحكومتين البريطانية والأرجنتينية، على أن يُؤخذ في الاعتبار احترام رغبات سكان الجزر وحقهم في تقرير مصيرهم.
ب. المفاوضات بين بريطانيا والأرجنتين
جرت المفاوضات، عام 1971، بين بريطانيا والأرجنتين في "بوينس أيرس" بغرض التوصل إلى صيغة تربط جزر "فوكلاند" بالأرجنتين وبالفعل توصلت الدولتان إلى اتفاق يحقق الاندماج التدريجي لسكان الجزر مع الأرجنتين، وتضمن الاتفاق إنشاء خطوط مواصلات بحرية وجوية، وإنشاء خدمات للبريد والبرق وخدمات طبية وثقافية. لكن بريطانيا اشترطت لإتمام هذا الاتفاق أخذ موافقة سكان الجزر، الأمر الذي أدَّى في النهاية إلى توتر العلاقات مرة أخرى بين الدولتين.
واستمر الوضع في التدهور إلى أن وصل إلى ذروته في عهد حكومة "بيرون" عام 1975، عندما أرسلت بريطانيا بعثة تجارية إلى الجزر على أثر ظهور شواهد بترولية، الأمر الذي أغضب حكومة الأرجنتين وقامت بسحب سفيرها في "لندن"، وبالمثل سحبت الحكومة البريطانية سفيرها من "بوينس أيريس"، في الوقت الذي قامت فيه سراً بإرسال قوة بحرية إلى منطقة الجزر لتأمينها تحسُّبا لأية محاولة من جانب حكومة الأرجنتين للاستيلاء عليها بالقوة. وبعد فترة جرت محاولات لاستئناف المفاوضات بين الدولتين غير أنها لم تسفر عن نتائج تُذكر سوى عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما عام 1979.
وفي نوفمبر 1980، اقترح وزير الخارجية البريطانية على حكومة الأرجنتين أن تقوم بريطانيا بالاعتراف بالسيادة الأرجنتينية على الجزر مقابل أن تتخلى الأرجنتين عنها لمدة تسعين عاماً، وقد قبلت الأرجنتين هذا الاقتراح، إلاّ أن سكان الجزر رفضوا السيادة الأرجنتينية، ولما كانت بريطانيا تربط موافقتها بقبول سكان الجزر للحل المقترح، فقد تعثرَّت المفاوضات وزاد الموقف الأرجنتيني تشدداً خاصة بعد تولي الجنرال "ليوبولدو جالتيري" رئاسة الدولة وإعلانه أن الأرجنتين لن تقبل أن يكون جزءٌ من أراضيها محتلاً، وهكذا عاد الموقف مرة أخرى للتدهور.
ثانياً: مسرح الحرب (أُنظر خريطة مسرح حرب فوكلاند)، و(خريطة مسرح عمليات فوكلاند)، و(خريطة جزر فوكلاند)، و(خريطة جزيرة جورجيا الجنوبية)
غطى مسرح حرب "فوكلاند" معظم المحيط الأطلسي، حيث تقع الجزر البريطانية في شمال شرق هذا المحيط، بينما تقع كل من الأرجنتين وجزر "فوكلاند" و"جورجيا الجنوبية" في جنوبه الغربي، وتبعد جزر "فوكلاند" عن بريطانيا بنحو ثمانية آلاف ميل (12865 كم) في الوقت الذي لا تبعد فيه عن الأرجنتين أكثر من أربعمائة ميل (643 كم).
ويقع بين الجزر البريطانية وأرخبيل "فوكلاند" عدد من الجزر التي كانت في الماضي ضمن المستعمرات البريطانية أبرزها جزيرة "أسنشن" عند خط عرض 8 ْ جنوباً وخط طول 14 ْ غرباً، على مسافة نحو 4000 ميل (6432 كم) من جزر "فوكلاند".
كما توجد بعض الجزر التابعة لبريطانيا جنوب شرق أرخبيل "فوكلاند"، أبرزها جزيرة "جورجيا الجنوبية South Gorgia" الواقعة بين خطي عرض 54 ْ و55 ْ جنوباً وبين خطي طول 54- 35 ْ و15- 38 ْ غرباً، على مسافة نحو 800 ميل (1286 كم) من "بورت ستانلي" عاصمة جزر "فوكلاند".
وقد غطَّتَ أعمال التحضير والحشد والإبحار معظم المحيط الأطلسي بين الجزر البريطانية وجزيرة "جورجيا الجنوبية"، إلاّ أن العمليات وأعمال القتال الرئيسية تركزت أساساً في جزر "فوكلاند" وطرق الاقتراب إليها ومنها إلى الجزر المجاورة وساحل الأرجنتين.
1. الوصف الجغرافي لمنطقة "فوكلاند" (أُنظر خريطة جزر فوكلاند)، و (خريطة جزيرة جورجيا الجنوبية) و (خريطة جورجيا الجنوبية "منطقة العمليات")
أ. عام
يتكون أرخبيل "فوكلاند" من أكثر من مائتي جزيرة تغطي مساحة قدرها 4618 ميلاً مربعاً (11690 كم2). وتكثر بهذه الجزر المضايق والخلجان التي تصلح كموانئ جيدة لإيواء السفن، كما تكثر بها المرتفعات والسهول الساحلية الصخرية الخالية من الأشجار. وتُعَّد جزيرتي "فوكلاند الشرقية" و"فوكلاند الغربية" الجزيرتين الرئيسيتين في هذا الأرخبيل، ويفصل بينهما مضيق "فوكلاند"، وتنتشر حولهما مجموعات من الجزر الصغيرة معظمها مهجور عدا اثنتي عشرة جزيرة يوجد بها بعض السكان.
وتتصل جزر "فوكلاند" بقارة أمريكا الجنوبية بواسطة سلسلة من الجبال الغارقة تحت مياه المحيط. والحياة النباتية على الجزر تشبه إلى حد كبير الحياة النباتية على القارة، إلاّ أن الجُزر تخلو تماماً من الأشجار التي بُذلت عدة محاولات لغرسها غير أنها فشلت جميعها بسبب الرياح الشديدة المستمرة التي تهب على تلك الجزر.
ولا توجد أي شواهد تنبئ بأن الإنسان قد سبق له الإقامة على تلك الجزر قبل إنشاء أول مستعمرة بها في منطقة "بورت لويس" عام 1764م بواسطة الرحالة الفرنسي "لويس أنطوان دي بوجانفيل".
ومنذ ذلك التاريخ تزايد عدد سكان الجزر حتى بلغ 2392 نسمة عام 1931، إلاّ أن هذه الأعداد أخذت في التراجع بعد هذا التاريخ حتى وصلت إلى نحو 1800 نسمة فقط عام 1981، وهو ما يرجع بالدرجة الأولى إلى صعوبة الحياة على الجزر بسبب قسوة الطقس وقلة الخدمات العامة، فضلاً عن وجود الجزر في مكان ناء وموحش.
وينحدر غالبية السكان من أصل اسكوتلاندي وايرلندي مع وجود أقلية من أصل اسكندنافي، ولكن الجميع يَدِينون بالولاء لبريطانيا وطنهم الأم، ويسكن ما يقرب من نصف السكان بالعاصمة "ستانلي"، أما باقي السكان فإنهم يقيمون بالمزارع.
وباستثناء قطعان عجول وأفيال البحر ومستعمرات طيور البطريق، فإن الحيوانات التي استوطنت الجزيرة قليلة للغاية، وحتى قطعان الماشية التي أحضرها المستوطنون الأوائل وأطلقوها في الجزر كي تتوالد نفق معظمها ولم يتبق منها سوى قطعان الخراف التي أصبحت تربيتها وتصدير صوفها مصدر الدخل الرئيسي لسكان الجزر.
وتنحصر وسائل الاتصال التي تربط الجزر بالعالم الخارجي في محطة رئيسية للاتصال اللاسلكي بالعاصمة وأخرى فرعية في خليج "فوكس"، كما توجد خطوط ربط لاسلكية بين جميع المزارع ومختلف أنحاء الجزر، مما يجعلها على اتصال دائم بالعاصمة، كما تقوم الحكومة بتسيير عدد من السفن الصغيرة لأغراض التنقل بين الجزر، بالإضافة إلى بعض الزوارق الخاصة وخط الطيران الداخلي الذي يستخدم طائرات برمائية.
ب. جزيرة فوكلاند الشرقية
تُعدّ جزيرة فوكلاند الشرقية أكبر الجزر الواقعة في الأرخبيل، وتبلغ مساحتها 2550 ميلاً مربعاً (6604 كم2)، وتنتشر في الجزء الشمالي منها سلسلة من المرتفعات الوعرة أبرزها مرتفعات "ويكهام" التي تمتد من الشرق إلى الغرب، ويبلغ أقصى ارتفاع لها 2245 قدماً (684 م) عند قمة جبل "أسبورن"، أمّا باقي سطح الجزيرة فهو سهل متعرج تنمو عليه الأعشاب، وليس بالجزيرة سوى محورين تكتيكيين لتقدم الوحدات البرية من الشرق إلى الغرب والعكس، لا تزيد سعة كل منهما عن لواء مشاة، الأول في شمال الجزيرة ويمتد من "ستانلي" إلى "سان كارلوس" ماراً "بتيل" و"دوجلاس"، والثاني شمال خليج "شواسل" ويمتد من "ستانلي" إلى "جوس جرين" ماراً بـ"بلف كوف" و"فيتزوري" و"دارون". وأبرز معالم هذه الجزيرة هي:
(1) رأس دولفين Dolphin Head
ويقع هذا الرأس في أقصى الشمال الغربي للجزيرة، وهو عبارة عن شريط رفيع من الأرض يبرز عن الخط العام للساحل في اتجاه الشمال الغربي لمسافة تسعة أميال (14 كم).
(2) صخرة "أديستون"
تقع هذه الصخرة على مسافة تقرب من أربعة أميال في اتجاه الشمال الغربي من رأس "دولفين" ويبلغ ارتفاعها 79 م، والبحر مضطرب بينها وبين رأس "دولفين" ويشكل خطورة بالغة على السفن الصغيرة.
(3) مضيق "بيركلي" Berkely Sound
يقع هذا المضيق في أقصى الشرق من جزيرة فوكلاند الشرقية، ويمتد في اتجاه الغرب لمسافة ستة عشر ميلاً (25.7كم) وينتهي إلى مينائي "جونسون" و"بورت لويس"، وهما مرسيان جيدان حيث تبلغ الأعماق عند مدخليهما ما بين 18.3 و 36.6 م، ثم تقل داخل المينائين إلى ما بين ستة أمتار و12 م.
(4) مضيق "ويليم"
يقع هذا المضيق جنوب مضيق بيركلي ويوجد به ميناءا "ستانلي" و"ويليم"، ويتم الدخول إليه من نقطة "منجيري" ورأس "بمبروك" على الطرف الشرقي لشبه جزيرة رملية بيضاء تشكل الجانب الشرقي للميناء وتوفر مَرْسىً جيداً يحمي من الرياح الغربية السائدة، ويقع مدخل ميناء "ستانلي" في الجزء الجنوبي من ميناء "ويليم"، ويبلغ عدد سكانه حوالي ألف نسمة.
(5) ميناء "سان كارلوس" Port San Carlos
يقع هذا الميناء على الساحل الغربي لجزيرة "فوكلاند الشرقية" شمال غرب جبل "أسبورن"، وهو ميناء آمن وفسيح وخالٍ من العوائق الملاحية تقريباً، وينقسم جزئين على مسافة ميلين ونصف من المدخل، حيث يتصل نهر "سان كارلوس" بأحد أجزاء الميناء، وهو صالح للملاحة بالنسبة إلى السفن الصغيرة لمسافة 3 ـ 4 أميال (4.8 ـ 6.4 كم) ولمسافة ستة أميال (9.6 كم) بالنسبة إلى اللنشات.
ج. جزيرة "فوكلاند الغربية"
تأتي هذه الجزيرة بعد جزيرة "فوكلاند الشرقية" من حيث المساحة والأهمية، وعلى عكس الجزيرة الأخيرة فإن مرتفعات جزيرة "فوكلاند الغربية" التي أبرزها مرتفعات "هورنباي"، تمتد بمحاذاة مضيق "فوكلاند" من اتجاه الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، وتبلغ أقصى ارتفاع لها عند قمة جبل "آدم"، حيث تبلغ تلك القمة 2290 قدماً (698 م). ويُعد ميناء "هوارد" من أبرز معالم جزيرة "فوكلاند الغربية"، وهو يوفر مَرْسىً جيداً للسفن الكبيرة، حيث تبلغ أعماقه 4-5 قامة (7.3-9.1 م).
د. جزيرة "ببل Pebble"
تقع هذه الجزيرة في أقصى الشمال الشرقي لجزيرة "فوكلاند الغربية" ويفصلها عن الأخيرة مضيق "ببل". وتمثل قمم مرتفعات "ببل" علامات واضحة للتعرف على هذا الجزء من الساحل الذي يخلو من المراسي الجيدة، إلاّ أن مضيق "ببل" يمكن أن يوفر مَرسى جيداً للسفن المحلية الصغيرة فقط، نظراً إلى الجزر الصغيرة والمياه الضحلة التي تعوق الملاحة فيه.
هـ. مضيق "فوكلاند"
يمتد مضيق "فوكلاند" من جنوب مضيق شمال "فوكلاند" حتى جزيرة "سبيدول" لمسافة خمسين ميلاً (80,4 كم) فاصلاً بين جزيرتي فوكلاند الشرقية وفوكلانـد الغربية، ويبلغ عرضه عند طرفه الشمالي نحو ميلين ونصف (4 كم)، إلاّ أنه يتسع في اتجاه الجنوب الغربي ليبلغ ثمانية عشر ميلاً (29 كم) عند طرفه الجنوبي، وتنتشر في هذا المضيق العديد من الجزر التي أبرزها مجموعة جزر "سوان" في الوسط ومجموعة جزر "نيس" في الجنوب، كما تقع جزيرة "رجلز" عند الطرف الجنوبي الشرقي للمضيق تحيط بها رقعة من الصخور يبلغ ارتفاع الماء فوقها 180سم.
2. الأحوال الجومائية السائدة في منطقة "فوكلاند"
أ. الطقس
(1) عام
يتسم الطقس في منطقة "فوكلاند" بالتقلب، حيث يمكن مشاهدة كل فصول السنة في يوم واحد، وفي معظم الأيام تسود الرياح التي لا تقل سرعتها عن 15 عقدة (27 كم في الساعة). وعندما يكون البحر هادئاً يصبح منبسطاً تماماً، إلاّ أنه يمكن لهذا الهدوء أن يتغير بسرعة ليفسح المجال للأمواج العالية التي يزيد ارتفاعها في كثير من الأحيان عن عشرين قدماً (ستة أمتار) تصاحبها رياح تصل سرعتها إلى 30 عقدة (54 كم في الساعة).
ومع حلول الشتاء في جنوب الأطلسي، فإنه يجلب معه في منطقة "فوكلاند" طقساً قارس البرودة مصحوباً بسلسلة متعاقبة من العواصف القطبية والرياح الشديدة، والضباب والثلوج والبرد والأمطار، ويصبح شائعاً ارتفاع الأمواج ما بين 30 و40 قدماً (9,1 ـ 12,1 م)
(2) حرارة الجو والرطوبة
يبلغ متوسط درجة الحرارة صيفاً في ميناء "ستانلي" 50 درجة فهرنهيت، وتقل عن ذلك في مناطق الساحل الغربي، حيث تصل درجة الحرارة إلى 47 فهرنهيت، ويبلغ معدل التفاوت اليومي في درجات الحرارة حوالي 12 درجة فهرنهيت. وتزداد نسبة الرطوبة في رأس "بمبروك"، حيث يصل متوسطها 80% صيفاً و88% شتاءً، بينما يصل متوسط التباين اليومي حوالي 10% صيفاً و5% شتاءً.
(3) الرياح
الرياح السائدة في المنطقة هي الرياح الغربية العاصفة، التي تميل لتكون جنوبية غربية في الصيف، وشمالية غربية في الشتاء، وتقل سرعة الرياح بصفة عامة في الليل عنها في النهار، وقد تهب بعض الرياح الشديدة فجأة.
وتمر معظم المنخفضات الجوية إلى الجنوب من جزر "فوكلاند"، مما يتسبب في حدوث عواصف فيما بين اتجاه الشمال والجنوب الغربي، غير أنه في بعض الأحيان يمر مركز العاصفة بجوار أو فوق الجزر متجهاً نحو الشمال الشرقي أو الشرق، وفي هذه الحالة قد تصل سرعة الرياح الشرقية في جبهة المنخفض إلى قوة العاصفة وتصحبها أمطار غزيرة، أما العواصف الجنوبية فتسبب هياجاً شديداً في البحر بعيداً عن السواحل الجنوبية، وقد يحدث ثمانية عشر منخفضاً جوياً بين شهري إبريل وأغسطس، وأثناء حدوث المنخفضات العميقة صيفاً أو شتاءً يستمر هبوب الرياح التي تبلغ قوتها 7 بمقياس "بيفورت" أو أكثر ما يقرب من يومين.
(4) السُّحُب
تتكون السُّحُب الكثيفة فوق جزر "فوكلاند"، وتظل السماء غائمة طول العام، وقد تكون السماء أكثر غياماً على السواحل الغربية المكشوفة، وتكون السماء في أصفى حالاتها قرب منتصف الليل، بينما تكون في أسوأ حالاتها عند شروق وغروب الشمس، وعادة ما يحدث هبوط في درجة كثافة السحب عند منتصف النهار.
(5) الأمطار والثلوج
يبلغ المتوسط السنوي للأمطار فوق ميناء "ستانلي" 26 بوصة (66 سم) ويزداد المتوسط عن ذلك المعدل على الساحل الغربي المكشوف وتتوزع كثافة الندى بشكل جيد على مدار العام، إلاّ أنه يبلغ أعلى درجاته صيفاً وأدناها في الربيع.
وتتساقط الأمطار فوق ميناء "ستانلي" بغزارة شديدة بمعدل مرة واحدة في الشهر، فيما بين شهري نوفمبر ومايو، وبدرجة تقل عن ذلك في باقي شهور السنة، ويزداد هذا المعدل بالنسبة إلى السواحل الغربية للجزر، كما تكون الأمطار مقترنة بحدوث المنخفضات الجوية.
وتتساقط الثلوج ما يقرب من عشرة أيام شهرياً خلال الشتاء. أما الثلوج الدائمة فإنها تقع على ارتفاع ألف متر فوق سطح البحر، كما يمكن مقابلة أعداد كبيرة من جبال الثلوج في المناطق البحرية الجنوبية والشرقية والشمالية من جزر "فوكلاند".
(6) الضباب ووضوح الرؤية
يتمُّ رصد الضباب عند رأس "بمبروك" بمعدل 3 ـ 4 أيام في الشهر طوال العام ويبلغ أقصى معدل لتكراره في الساعة الرابعة صباحاً وأدناه حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر صيفاً، أمّا شتاءً فلا تغيير في معدلاته.
ويوضح الجدول التالي عدد فترات الضباب وانخفاض مدى الرؤية صباحاً في ميناء ستانلي على أساس أن (أ) تمثل عدد فترات الصباح التي يكون مدى الرؤية فيها أقل من نصف ميل، و(ب) تمثل عدد فترات الصباح التي يكون مدى الرؤية فيها أقل من ميليَن:
ميناء ستانلي
نوفمبر ـ مارس
مايو ـ سبتمبر
أ​
ب​
أ​
ب​
2​
15​
5​
31​
ب. التيارات المائية
(1) تيار المحيط الجنوبي
يسري هذا التيار شرقاً حول محيطات العالم، وبالنسبة إلى جنوب المحيط الأطلسي فإنه يتسع في المنطقة القريبة من جزر فوكلاند وينتشر الجزء الشمالي منه كالمروحة في الاتجاه الشمالي إلى الشرقي أمام السواحل الجنوبية والشرقية لجزر "فوكلاند" حتى يصل إلى خط عرض 38 ه جنوباً حيث يملأ هذا التيار البارد تلك المنطقة بالكامل حتى خط عرض 60 ه جنوباً، وتبلغ سرعة هذا التيار 1 ـ 2 عقدة (1,8 ـ 3,6 كم في الساعة)، والاتجاه الرئيسي لسريانه في كل فصول السنة هو الشمال الشرقي والشرق.
(2) تيار فوكلاند
هو فرع من تيار المحيط الجنوبي ويسري في اتجاه الشمال والشمال الشرقي أمام الجانب الغربي من جزر فوكلاند، ويجلب المياه الباردة إلى الشمال من تيار المحيط الجنوبي ولا تتجاوز سرعة هذا التيار عقدة واحدة (1,8 كم في الساعة)، إلاّ أنه قد تبلغ سرعته أحياناً 2,5 عقدة (4,5 كم في الساعة).
(3) تيار المد والجزر
يُعد تيار المد والجزر ضعيفاً للغاية ولا يجب وضعه في الحسبان في الجزء الجنوبي الشرقي من جزر فوكلاند، غير أنه يوجد تيار سرعته من نصف عقدة إلى عقدة واحدة يسير في اتجاه الريح عادة، إلاّ أنه بعد المرور في اتجاه الشمال الشرقي من مدخل ميناء "هاريت"، يبدأ ظهور تيار شديد للمد والجزر، وعند الاقتراب من رأس بمبروك وحولها تصبح سرعة التيار من عقدتين إلى ثلاث عقد (3,6-5,4 كم في الساعة)، تبعاً لظهور القمر، ثم تهدأ سرعته كلما اتجهنا شمالاً، حيث يوجد تيار ضعيف جداً في ميناء "ويليم" ومضيق "بيركلي"، كما أن سريان المد في اتجاه الجنوب قوي أيضاً بدرجة متساوية، ويمتد اندفاع قوي من المد إلى مسافة ميلَيْن، من رأس "بمبروك" أثناء هبوب الرياح الشديدة.
وعموماً فإن سرعة تيار المد والجزر عند مدخل ميناء "ستانلي" تبلغ عقدة ونصف العقدة (2,7 كم في الساعة) عند المد العالي، غير أنه قد تتزايد هذه السرعة بدرجة كبيرة في أحوال خاصة.
ج. الأعماق
يبعد خط عمق 100 قامة (180 م) عن جزر فوكلاند حوالي 50 ميلاً (80,4 كم) من اتجاه الشمال حتى الغرب في اتجاه عقرب الساعة حول الجزر، أمّا في الاتجاه العكسي من الشمال حتى الغرب، فإن العمق على تلك المسافة يقلّ عن 100 قامة (180 م)، ومن ثمّ فإنه يحد من عمل الغواصات النووية.
http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Siasia2/Vokland/sec01.doc_cvt.htm




 
رد: حرب جزر فوكلامد بين بريطانيا والارجنتين عام 1982

المبحث الثاني
الغزو وتداعيات الموقف
أولاً: الغزو الأرجنتيني للجزر (أُنظر خريطة فكرة الغزو الأرجنتيني) و (خريطة الاستيلاء على ستانلي)، و (خريطة جزيرة جورجيا الجنوبية "منطقة العمليات")
استهدف الغزو الأرجنتيني لجزر "فوكلاند" استعادة السيطرة على تلك الجزر وضمها للأرجنتين من ناحية، وتحويل أنظار الشعب الأرجنتيني عمَّا تعانيه البلاد من أزمات اقتصادية وتزايد معدلات البطالة وتدهور لقيمة العملة من ناحية أخرى، وعلى ذلك كانت قضيَّة الجزر تمثل مخرجاً وطنيا لإعادة ثقة الشعب في النظام العسكري الحاكم، الذي صوَّر العملية على أنها خطوة وطنية شجاعة لاستعادة حقوق الأرجنتين المغتصبة، بالإضافة إلى ما أثير في ذلك الوقت عن اكتشاف ظواهر بترولية في تلك الجزر توحي بأنها غنية بالبترول، في الوقت الذي أشارت فيه جميع التقارير المتعلقة بالصناعات البترولية في الأرجنتين إلى ضرورة العمل السريع من أجل اكتشاف حقول بترولية جديدة، لأن معظم الحقول في المناطق الوسطى والشمالية من البلاد في طريقها إلى النضوب سريعاً، وأن الفشل في العثور على احتياطيات جديدة سيضع الأرجنتين في مأزق اقتصادي خطير.
ومن ناحية أخرى، كان تقدير المجلس العسكري الحاكم للظروف المحيطة مشجعاً لعملية الغزو، فبالإضافة إلى العوامل الأرجنتينية الداخلية السابقة كان المجلس يرى أن الولايات المتحدة وان كانت حليفة لبريطانيا في إطار حلف "الناتو" فإنها كانت حريصة على تقوية وتدعيم روابطها بدول أمريكا الجنوبية، مما يدفع الإدارة الأمريكية إلى اتخاذ موقف متوازن بين الجانبين إذا اشتعلت الحرب بينهما، كما قدَّر المجلس العسكري أن البُعد الجغرافي للجزر عن المملكة المتحدة وعدم وجود قوات بريطانية يُعتد بها في المنطقة يوفر للأرجنتين الفرصة للاستيلاء على الجزر وتدعيم أوضاعها فيها ويفرض أمراً واقعاً جديداً يجعل الحكومة البريطانية تتردد كثيراً قبل الإقدام على مغامرة عسكرية غير مضمونة النتائج لاستعادة سيطرتها على تلك الجزر، في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تعاني منها بريطانيا والتي ستزيد أي عمليات عسكرية من ضائقتها.
ولتنفيذ العملية خصصَّت القيادة الأرجنتينية قوة من نحو خمسة آلاف فرد وثلاث مجموعات عمليات بحرية شُكلت على النحو التالي:
1. مجموعة العمليات رقم (40)
وكلفت هذه المجموعة بعملية الإنزال البحري على جُزر "فوكلاند" والاستيلاء عليها وتأمينها لحين وصول قوة الاحتلال، وشُكلت هذه المجموعة من السفن التالية:
أ. سفينة إبرار الدبابات "كابو سان أنطونيو" لإنزال 19 مركبة برمائية كبيرة، وسفينة النقل "ايلا دي لوس استادوس" لنقل المعدات والإمدادات.
ب. المدمرتين "سانتا سيما ترينداد" و"هيركوليز"، والفرقاطتين "دروموند" و"جرانفيل" لأغراض الحماية والمعاونة بالنيران.
ج. الغواصة "سانتا في" وكاسحة الجليد "الميرانت ايرزار" لأغراض التأمين والمعاونة.
د. وحدة الكوماندوز الخاصة لمشاة البحرية Buzo Tactico.
هـ. كتيبة مشاة البحرية الثانية.
وأسندت قيادة قوة الإبرار إلى رير أدميرال "كارلوس بسر" (تحمل مشاة البحرية الأرجنتينية رتباً بحرية).
2. مجموعة العمليات رقم (60)
وكُلفت هذه المجموعة بالاستيلاء على جزيرة "جورجيا الجنوبية"، وشُكلت من سفينة النقل الصغيرة "باهيا باريزو Bahia Baraiso" (حمولة 4600 طن)، والفرقاطة "جيريكو Guerrico".
3. مجموعة العمليات رقم (20)
وكُلفت هذه المجموعة بتوفير الحماية عن بعد على طرق الاقتراب من الشمال إلى المجموعتين السابقتين، وشُكلت تلك المجموعة من الوحدات التالية:
أ. حاملة الطائرات الهجومية "25 مايو Veinticinco de Mayo".
ب. ثلاث مدمرات طراز "آلان سومنر" ("سجوي D25"، "هيبوليتو بوشار D26"، بيدرابونا D29").
ج. المدمرة "كومودورو باي D27" طراز "جيرنج".
وقد تلخصت الفكرة العامة لعملية الغزو الأرجنتيني للجزر فيما يلي:
استغلال الظروف السياسية السائدة في المنطقة وما يتيحه الموقع الجغرافي لجزر "فوكلاند" وضعف الوجود العسكري البريطاني في المنطقة للقيام بعملية إنزال بحري بواسطة مشاة الأسطول تساندها الوحدات البحرية والقوات الجوية للاستيلاء على الجزر وإعلان السيادة الأرجنتينية عليها.
وفي حالة ظهور نوايا بريطانية للقيام بعمل عسكريّ لاستعادة هذه الجزر يتم تدعيم القوات الأرجنتينية بالمنطقة بقوات إضافية أخرى استعداداً للدخول في معارك دفاعية مع القوات البريطانية تحت ظروف الحصار البحري والجوي البريطاني، مع استغلال التفوق الجوي الأرجنتيني في مسرح العمليات لإيقاع الهزيمة بالقوات البريطانية المهاجمة.
وطبقاً لخطة العملية كان على وحدة الكوماندوز الخاصة النزول إلى الشاطئ أولاً في "موليت كريك" والاستيلاء على مقر الحكومة وثكنات مشاة البحرية البريطانية في "مودي برووك Moody Brook"، يليها الكتيبة الثانية مشاة بحرية، التي كان سيتم إبرارها في منطقتين، الأولى قرب المطار للاستيلاء عليه وتأمينه، والثانية في ميناء "ستانلي" مباشرة. وكان من المأمول أن تنجح وحدة الكوماندوز الخاصة في فرض الاستسلام على الهدفين المحددين لها، فإذا لم تستطع كان على قوات الكتيبة الثانية مشاة بحرية- التي ستُبر في أعقابها- القيام بهذه المهمة. أمّا بالنسبة إلى السكان المدنيين فقد كانت التعليمات القاطعة للقيادة الأرجنتينية تقضي بعدم تعريضهم للخطر.
وفور تأمين مشاة البحرية مطار "ستانلي" والقضاء على المقاومة البريطانية في المنطقة، كان على طائرات النقل من طراز "سي 130" بدء الجسر الجوي لنقل الفوج الخامس والعشرين مشاة الذي كان مقرراً أن يُشكل قوة الاحتلال الرئيسية فور انسحاب مشاة البحرية بعد استيلائها على "ستانلي".
4. الإبحار إلى منطقة العمليات
في الثامن والعشرين من مارس كانت معظم سفن المجموعات البحرية الأرجنتينية الثلاث تبحر في طريقها إلى منطقة عملها طبقاً لخطة العملية، تحت غطاء المشاركة في المناورات المشتركة مع بحرية أورجواي. وأبحر على رأس هذا الأسطول- الذي خرجت معظم سفنه من قاعدة "بورتو بلجرانو" البحرية- الأدميرال (فريق أول بحري) "جولتار أللارا" قائد العملية على متن المدمرة "سانتا سيما ترينيداد" حاملة الصواريخ الموجهة، بينما أبحر قائد قوة الإبرار ومعه ثماني مائة جندي من مشاة البحرية ومركباتهم البرمائية، بالإضافة إلى فصيلة من الفوج الخامس والعشرين (39 جندياً) على متن سفينة إبرار الدبابات، وحملت كاسحة الجليد الاحتياطي التكتيكي للعملية، أما سفينة النقل فقد حُملت بشحنة هامة من المعدات والإمدادات العسكرية.
واستغرقت الرحلة البحرية لمجموعة العمليات رقم (40) خمسة أيام، ولم تتم تلك الرحلة كما خُطط لها نتيجة لقسوة الأحوال الجوية، حيث تم التخلي عن خط السير الذي كان يلتف من الجنوب حول الجزر بحيث يحقق الاقتراب النهائي من اتجاه الجنوب الشرقي. كما تأخرت توقيتات العملية بما فيها ساعة الصفر أربعاً وعشرين ساعة، واستدعت حالة الطقس في أول أبريل تعديل بعض المهام، وفي اليوم نفسه صدرت الأوامر لمجموعة العمليات رقم (60) باحتلال "جرايتفكن" وميناء "ليث" في جزيرة "جورجيا الجنوبية".
وبينما كانت مجموعة العمليات رقم (40) تقترب من منطقة عملياتها، كان البريطانيون يستعدون لهم بعد أن التقطت أجهزة مخابراتهم العديد من البرقيات اللاسلكية الأرجنتينية ونجحت في فك شفراتها. وقد أمدتها تلك البرقيات بالعديد من المعلومات الثمينة، وكان من أبرز هذه البرقيات تلك التي أُرسلت إلى الغواصة سنتافي" يوم 31 ديسمبر تأمرها بالطفو على السطح وإجراء استطلاع لشواطئ الإنزال قرب "ستانلي".
وصادفت عملية الغزو التوقيت السنوي لتبديل الحامية البريطانية في الجزر، حيث وصلت قوة الحامية الجديدة قبل ثلاثة أيام من تاريخ الغزو، وعلى ذلك كان هناك في جزيرة "فوكلاند الغربية" قوة مضاعفة عندما بدأ الإبرار يوم 2 أبريل. وتولى الميجور (الرائد) "ميك نورمان" القائد الجديد للحامية قيادة القوة التي توفرت في الجزيرة، والتي كانت لا تزيد عن 164 جندياً وأربعة ضباط، منهم 66 جندياً وضابطان من مشاة البحرية وتسعة أفراد من طاقم السفينة "انديورنس".
وعلى الرغم من وصول معلومات جديدة من لندن تشير إلى أن التحركات الأرجنتينية أكثر من مجرد استعراض للقوة وتزيد من احتمالات الغزو، فإن حاكم الجزيرة ظل على اعتقاده بأن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مظاهرة، واكتفى برفع حالة الاستعداد، وأعطى أوامره بأنها إذا أنزلت الغواصة الأرجنتينية التي رُصدت بالمنطقة مجموعة أفراد للتظاهر على الشاطئ، فإنه يجب إلقاء القبض عليهم. أما إذا اتخذ الإنزال صبغة عسكرية تكتيكية، فإنه يجب إطلاق النار عليهم، إلاّ أنه يجب تجنب القتال قرب المنازل في "ستانلي". وهذه الأوامر من الحاكم "ركس هنت" توضح أنه كان يعتقد أن الأمر لن يعدو إنزال مجموعة من الأفراد للتظاهر على الشاطئ ورفع علم الأرجنتين، ثم يسمحون بالقبض عليها كنوع من الفرقعة الإعلامية. وعلى ذلك فإنه كان ينوي إلقاء القبض عليهم وإحضارهم إلى مقر الحكومة وإلقاء درس قاسي عليهم ثم ترحيلهم إلى الأرجنتين.
وعلى المستوى الدفاعي كانت القوة المتاحة للحامية لا تفي باحتياجات الدفاع، كما كان كل مخزون مشاة البحرية من الموانع في الجزر لا يزيد عن بضعة لفات من السلك الشائك تم نشرها على أكثر الشواطئ احتمالاً للإنزال قرب المطار، بينما أتم جنود مشاة البحرية تحضيراتهم بحمل ما يستطيعون من الذخيرة.
ومع اقتراب موعد الغزو تزايدت التقارير التي تلقاها الحاكم والتي ترجح وقوع غزو وشيك للجزر. فعقد الحاكم اجتماعاً في أول أبريل وأعطى تعليماته للرسميين المدنيين بحرق مستندات معينة، وأعلن أنه سيذيع بياناً على الشعب في الجزر. وخلال الاجتماع أُثير موضوع الإجراء الذي يجب اتخاذه حيال نحو أربعين أرجنتينياً يعملون في مدينة "ستانلي". وكان من رأي الميجور "نورمان" إلقاء القبض عليهم حتى لا يعملوا كطابور خامس لقوات الغزو، إلاّ أنه تم استبعاد هذا الاقتراح حتى لا تتخذه الأرجنتين ذريعة للغزو فعلاً إذا لم تكن هناك نية لتنفيذه، وعلى ذلك تقرر بقاء هؤلاء الأرجنتينيين أحراراً إلى حين. وفور فض الاجتماع اتجه الحاكم لمحطة الإذاعة المحلية ليعلن على شعب الجزر أن الغزو أصبح وشيكاً، وأنه يُنتظر وقوعه خلال الليلة القادمة (ليلة 1/2 أبريل) أو في صباح اليوم التالي (2 أبريل).
أمّا عن الجانب الأرجنتيني، تلقت قيادة عملية الإبرار في أول أبريل معلومات بأن حامية الجزر قد تضاعف عددها وأن حاكم الجزر أعلن في الإذاعة عن غزو وشيك، فقدرت تلك القيادة أن المقاومة البريطانية ستزداد خاصة بعد ضياع المفاجأة، ومن ثمَّ قرَّر قائد قوة الإبرار تركيز كل قواته في منطقة "ستانلي" واستبعاد إبرار مجموعات صغيرة على ساحل خليج "فوكس Fox Bay" و"جوس جرين Goos Green" كما كانت تقضي الخطة الأصلية.
وفي الوقت الذي كان فيه قائد قوة الإبرار يجري التعديل السابق على خطته، تقدَّم ثلاثةٌ وعشرون مدنياً من سكان "ستانلي" للتطوع تلبية لنداء الحاكم الذي طلب من أعضاء الدفاع المحلي- حتى السابقين منهم- تقديم أنفسهم للخدمة، وكُلف هؤلاء المدنيون باتخاذ مواقعهم في نقاط مختلفة للقيام بأعمال المراقبة، بينما اتخذ مشاة البحرية مواقعهم على الشاطئ قبل منتصف الليل. وخلال ليلة 1/2 أبريل استقبلت محطة الإذاعة في "ستانلي" نداء سفينة القيادة الأرجنتينية تطلب من البريطانيين في المدينة التسليم بهدوء، إلاّ أن ذلك الطلب رُفض على الفور.
5. الاستيلاء على جزر "فوكلاند"
بدأت سفن مجموعة العمليات رقم (40) تقترب من الشاطئ الشرقي لجزيرة "فوكلاند الشرقية خلال ليلة 1/2 أبريل"، وفي الساعة 2100 تسللَّت القوارب المطاطية من المدمرة "سانتاسيما ترينداد" تحمل أفراد وحدة كوماندوز مشاة البحرية (نحو ستين فرداً) وولَّت وجهتها نحو "بورت هارييت" جنوب "ميناء ستانلي Stanley Harbour"، حيث كان عليها التقدم شمالاً سيراً على الأقدام والاستيلاء على كلِّ من مقر الحكم وثكنات الحامية البريطانية.
وفي فجر 2 أبريل قامت الغواصة "سنتا في" من وضع الغطس بانزال مجموعة من الضفادع البشرية بالقرب من نقطة "شارلس" شمال شرق خليج "يورك"، بغرض استطلاع أي عوائق أو موانع في منطقة الإبرار على شاطئ ذلك الخليج،وبعد ساعة واحدة كانوا قد انتهوا من تنفيذ مهمتهم وأصبحوا على مسافة تسعة كيلومترات من ميناء "ستانلي".
وفي الساعة الخامسة والربع صباح 2 أبريل وصلت سفن السطح بالقرب من أهدافها وبدأت الفتح النهائي إلى المواقع المحددة لها في خطة الاقتحام البرمائي، في الوقت الذي احتلت فيه كل من المدمرة "سانتاسيما ترينداند" والفرقاطة "جرانفيل" مواقعها للمعاونة بالنيران إذا تطلب الموقف ذلك، بينما أبحر إلى ميناء "كروساك" شمال "بورت ستانلي" كل من سفينة إبرار الدبابات "كابو سان أنطونيو" والمدمرة "هيركوليز" والفرقاطة "دروموند" لانزال المركبات البرمائية.
وفي الوقت الذي كان يجرى فيه الإبرار على شاطئ خليج "يورك" شمال غرب مطار "ستانلي"، كانت وحدة كوماندوز مشاة البحرية تقترب من هدفيها بعد أن انقسمت إلى مجموعتين اتجهت الأولى منها شمالاً نحو مقر الحكم، بينما اتجهت الثانية نحو ثكنات الحامية في "مودي برووك". ووصلت المجموعة الأخيرة إلى هدفها الساعة الخامسة والنصف صباح 2 أبريل، إلاّ أنها وجدت الثكنات خالية فتم احتلالها دون خسائر.
غير أن مجموعة الكوماندوز الأولى لم يكن لها حظ الثانية، فبالرغم من أن تلك المجموعة وصلت بقيادة قائد الوحدة إلى الأراضي المرتفعة خلف مبنى الحاكم دون أن تُكتشف، فقد كان المبنى مُدافعاً عنه جيداً بواسطة ثلاثة وأربعين جندياً من مشاة البحرية والبحارة البريطانيين وبعض الموظفين المدنيين بقيادة الميجور "نورمان" نفسه. وبدأ الهجوم الأول على مقر الحكم الساعة السادسة والنصف صباح 2 أبريل، إلاّ أن ذلك الهجوم انتهى بالفشل وقُتل وأُسر الستة جنود الذين حاولوا التسلُّل من الباب الخلفي لمقر الحكم.
وعلى أثر فشل عملية التسلل تزايد تبادل إطلاق النيران بين الجانبين حتى هدأ التراشق في نحو الساعة السابعة صباحاً واقتصر على نيران القناصة، بينما كانت مجموعة الكوماندوز المهاجمة تنتظر تدعيمها كي يمكنها التغلب على المقاومة البريطانية، ولم يكن ذلك الدعم بعيداً، فمنذ السادسة والنصف صباحاً كان هناك ما لا يقل عن 19 مركبة برمائية من سفينة إبرار الدبابات "كابو سان أنطونيو" تقوم بإنزال رجال الكتيبة الثانية مشاة بحرية على شاطئ خليج "يورك". ولما كان أقرب جنود مشاة البحرية البريطانية لمنطقة الإبرار هما جنديان يتخذان موقعهما على بعد نحو كيلومتر ونصف الكيلو متر من المنطقة، فقد انطلق رتل طويل من العربات البرمائية نحو "ستانلي" التي كانت تبعد نحو عشرة كيلومترات من شاطئ الإبرار، في الوقت الذي أنزلت فيه "طائرة عمودية "سي كنج" كانت على سطح كاسحة الجليد "ألميرانت إيريزر" مجموعة أخرى لتطهير ممر هبوط الطائرات في المطار وإزالة العوائق منه.
وجاءت أول أعمال المقاومة الحقيقية لرتل المركبات البرمائية المتقدمة نحو "ستانلي" من جماعة (8 أفراد) من مشاة البحرية البريطانية مسلحة بأسلحة خفيفة مضادة للدبابات بقيادة الملازم "بل ترلوب Bill Trllope"، فما أن اقترب الرتل من طرف المدينة حتى أطلق عليه أفراد تلك الجماعة بعض القذائف المضادة للدبابات، فأصيبت المركبة الأمامية وتوقف الرتل. فأمطر المدافعون المركبات بوابل من طلقات الأسلحة الصغيرة وأجبروا المركبات على الانتشار واتخاذ أوضاع الاشتباك، وما أن تم ذلك حتى انسحبت جماعة مشاة البحرية البريطانية في اتجاه مقر الحكم لعدم قدرتها على مواصلة القتال أمام تلك القوة المتفوقة.
ومن ثمَّ عاودت المركبات تقدمها نحو ستانلي حيث واجهت بعض أعمال المقاومة المحدودة، المتفرقة داخل المدينة قبل أن يتم لها السيطرة عليها، إلاّ أن مقر الحكم كان لازال خارج نطاق هذه السيطرة. وعندما وصلت مركبات مشاة البحرية الأرجنتينية في النهاية إلى ذلك المقر، كانت مجموعة الكوماندوز التي استولت على ثكنات مشاة البحرية البريطانية في "مودي برووك" قد سبقها إليه وانضمت إلى مجموعة الكوماندوز الأولى التي تعثر هجومها، ومن ثم بدأت مركبات مشاة البحرية الأرجنتينية تنتشر حول هذا الموقع البريطاني الأخير، في الوقت الذي هبطت فيه في مطار "ستانلي" أولى طائرات الجسر الجوي الأرجنتيني حاملة مقدمة الفوج الخامس والعشرين مشاة.
ودعا المهاجمون المدافعين عن المقر إلى التسليم، إلاّ أنهم لم يتلقوا رداً سوى إطلاق النار من جانب البريطانيين، وفي الثامنة ونصف- بعد أن جرى تبادل إطلاق النار بين الجانبين- أبلغ الميجور "نورمان" الحاكم رسمياً أنه لا يستطيع الاحتفاظ بالمقر إلى ما لا نهاية في مواجهة نيران الأسلحة الثقيلة للمهاجمين التي بدأت تصل إلى المنطقة، وأنه أمام الحاكم ثلاث خيارات، أن يحاول هو ومشاة البحرية التسلل من المقر وممارسة الحكم في مكان آخر، أو مواصلة المقاومة حتى يتم تدمير المبنى، أو التفاوض مع المهاجمين للاتفاق على هدنة بين الجانبين. وإزاء الموقف الميؤوس منه اختار الحاكم التفاوض الذي انتهى بوقف إطلاق النار والاستسلام للأرجنتينيين.
وفي الساعة الحادية عشر صباح 2 أبريل أعلنت الحكومة الأرجنتينية رسمياً إتمام عملية استعادة جزر "مالفيناس" (فوكلاند)، دون أن يفقد البريطانيون قطرة دم واحدة، وتعيين حاكم جديد للجزر هو الجنرال "أوسفالدو جارسيا"، مما أعطى انطباعاً بأن المقاومة البريطانية كانت وهمية. وفي اليوم نفسه تمَّ ترحيل مشاة البحرية البريطانية والحاكم "هنت" جواً إلى الأرجنتين ومنها إلى بريطانيا بعد ثلاثة أيام.
وسرعان ما عادت معظم قوات الغزو إلى الأرجنتين تاركةً الفوج الخامس والعشرين مشاة كحامية للجزر، بالإضافة إلى المدمرة "هيركوليز" التي بقيت كسفينة حراسة والعمل كمحطة إيجاد اتجاه لخدمة الملاحة الجوية في منطقة الجزر لحين إصلاح جهاز إيجاد الاتجاه الذي خرَّبه البريطانيون.
6. الاستيلاء على جزيرة "جورجيا الجنوبية"
كان الموقف في جزيرة "جورجيا" الجنوبية يهدد بحدوث مواجهة بين فصيلة مشاة البحرية البريطانية التي أنزلتها الكاسحة "انديورنس" في الجزيرة والقوة الأرجنتينية التي تمَّ إنزالها في خليج "ليث" ليلة 25/26 مارس، إلاّ أن الأخيرة ظلت كامنة في محطة صيد الحِيتَان بالميناء، ولم تقم بأي نشاط تعرضي، بينما قامت مشاة البحرية البريطانية باتخاذ أوضاعها الدفاعية في مدخل "شرم الملك إدوارد" أمام "جرايتفكن" متجنبين كشف مواقعهم للأرجنتينيين.
وما أن سقطت جزر "فوكلاند" حتى ظهرت السفينة "باهيا باريزو" في خليج "كمبرلاند" أمام "جرايتفكن" دون أن تعلم بوجود فصيلة مشاة البحرية البريطانية على الشاطئ، وأخطرت مقر بعثة المساحة البريطانية لاسلكياً أن جزر "فوكلاند" قد استسلمت للأرجنتينيين وطالبتهم باستسلام "جورجيا الجنوبية" هي الأخرى تجنباً لسفك الدماء دون مبرر، وسرعان ما وصل إلى ميناء "ليث"سفينة أرجنتينية أخرى هي الفرقاطة "جيريكو Guerrico"، وكانت السفينتان تحملان على متنهما ثلاث طائرات عمودية وقوة من مشاة البحرية، وكانت خطة القائد الأرجنتيني لمجموعة العمليات رقم (60) هي استطلاع "جرايتفكن" وما حولها بالطائرات العمودية، فإذا لم يكن هناك دفاعات فإنه يتم إبرار قوة من مشاة البحرية جواً للسيطرة على القرية وقاعدة بعثة المساحة، أما إذا كانت هناك مقاومة فستقوم المدمرة بقصف مصادرها وإخمادها قبل الإبرار.
وعلى الجانب البريطاني كان قائد فصيلة مشاة البحرية يواجه مهمة صعبة بفصيلته التي لا تزيد عن 22 جندياً أفضل أسلحتهم قواذف خفيفة مضادة للدبابات، فخلال ذلك اليوم تسلم قائد الفصيلة سلسلة من البرقيات من لندن، وكانت الأوامر الصادرة له في البداية تقضي بالتفاوض مع القائد الأرجنتيني في الجزيرة للتوصل إلى حل دون قتال، إلاّ أن البرقيات التالية كانت تأمره بالدفاع عن مواقعه بطريقة تؤكد أن الأرجنتينيين قد استولوا على "جرايتفكن" بالقوة، على أن يتجنب أي خسائر في الأرواح قدر الإمكان.
وفي الثالث من أبريل، بينما كانت مشاة البحرية البريطانية في مواقعها وفريق العلماء في ملجئهم بدأت طائرتان عموديتان "ألويت" أرجنتينيتان استطلاع المنطقة، ويبدو أن الطائرتين لم تكتشفا مواقع مشاة البحرية البريطانية، حيث بدأت طائرة عمودية أخرى من طراز "بوما" إبرار خمسة عشر جندياً أرجنتينياً من مشاة البحرية على الجانب الأخر لشرم "الملك إدوارد" وفي مرورها الثاني نجح أحد جنود مشاة البحرية البريطانية في إصابتها إلاّ أن الطيار نجح في الهبوط بها. وما لبث أن ظهرت الفرقاطة "جيريكو" في المدخل الضيق للخليج قرب مواقع البريطانيين الذين نجحوا في إصابتها بقذيفة مضادة للدبابات عيار 86 مم من أحد القواذف الخفيفة التي يحملونها قبل أن تكتشف السفينة مواقعهم، فأسرعت بالابتعاد عن مَرْمَى أسلحتهم وبدأت تقصفهم بمدافعها، في الوقت الذي تمكنت فيه مشاة البحرية الأرجنتينية التي تمَّ إبرارها جواً وبالزوارق من الالتفاف خلف مواقعهم وإجبارهم على التسليم.
وبينما كانت تجري الأحداث السابقة في "جورجيا الجنوبية" كانت الكاسحة "انديورنس" التي سبق أن أرسلت في اتجاه جزر فوكلاند تستعد للاشتباك مع السفن الأرجنتينية، إلاّ أن قائدها الكابتن "باركر" تلقى من لندن الأمر بإخفاء سفينته في أي مكان.
وما لبثت حكومة الأرجنتين أن أعلنت أنها استعادت جُزر "مالفيناس" و"جورجيا الجنوبية" و"ساندوتش الجنوبية" وقررَّت وضع هذه الأراضي والمجالين البحري والجوي لها تحت السيادة الأرجنتينية، وظل الجنرال "جالتيري" والنخبة العسكرية الحاكمة على ظنِّهم بأنهم اتخذوا قراراً صحيحاً، على ضوء النتائج التي أسفرت عنها أحداث الغزو، وبقي عليهم أن يديروا المعركة الدبلوماسية بالقدر نفسه من النجاح.
وقد بُني الموقف الأرجنتيني على ثلاثة فروض أثبتت الأحداث فيما بعد خطئها جميعا، وهذه الفروض هي:
أ. أن بريطانيا لن تقوم بأي إجراء عسكري لاستعادة سيادتها على الجزر.
ب. أن الولايات المتحدة ستظل محايدة.
ج. أن الأمم المتحدة ستفشل في اتخاذ أي خطوة إيجابية وستكون سعيدة بالأوضاع الجديدة التي خلصتها من مشكلة مزمنة.




[1] كان خروج الأرجنتين فائزة، في تلك الأزمة، كفيلا بسقوط وزارة السيدة تاتشر.


http://defense-arab.com/vb/showthread.php?p=190919#_ftnref1
 
رد: حرب جزر فوكلامد بين بريطانيا والارجنتين عام 1982

المبحث الثالث


موقف وأوضاع الجانبين

أولاً: تطور موقف وأوضاع القوات البريطانية
1. موقف القوات البريطانية عشيَّة الغزو الأرجنتيني للجزر
أ. موقف القوات البحرية
كانت المملكة المتحدة عشية حرب "فوكلاند" تحتل المركز الثالث أو الرابع في مجموعة الدول البحرية الكبرى، وتتضمن قواتها البحرية كافة عناصر القوة التي يمكن استخدامها في الحرب البحرية مثل وحدات سفن السطح والغواصات ووحدات المدفعية والصواريخ الساحلية، وطيران البحرية ومشاتها، بالإضافة إلى الأسطول التجاري وسفن المساحة البحرية.
وقد جاءت حرب "فوكلاند" والقوات المسلحة البريطانية تمرُّ بمرحلة انتقالية بين إستراتيجيين، ففي ظل مرحلة الانكماش الاقتصادي الذي كانت تمرُّ بها بريطانيا في أوائل الثمانينيات ومسؤوليات المملكة المتحدة في حلف "الناتو"، كان "جون نوت" وزير الدفاع الجديد يرى أن هناك أربعة أدوارٍ رئيسية تقع على عاتق القوات المسلحة البريطانية هي:
(1) الردع، وتقوم به غواصات "بولاريس" آنذاك و"تريدنت" فيما بعد، وكلا النوعين مسلح بصواريخ نووية.
(2) الدفاع الجوي عن الجزر البريطانية، وتقوم به المقاتلات الاعتراضية للقوات الجوية وصواريخ الدفاع الجوي.
(3) المشاركة في الدفاع عن الجبهة المركزية في أوروبا، ويقوم بهذا الدور الجيش البريطاني في حوض "الراين".
(4) حماية النشاطات البحرية وتقوم به وحدات سفن السطح والغواصات التقليدية.
وعلى ذلك فإنه باستثناء الغواصات المسلحة بصواريخ نووية ـ التي وقع على عاتقها مسؤولية الردع ـ فقد انحصر دور القوات البحرية البريطانية في القيام بحماية النشاطات البحرية وهو تراجع عن دور هذه القوات في الإستراتيجية البحرية لحلف "الناتو" التي سبق أن حدَّدها الأدميرال "إسحاق كيد" القائد الأعلى لقوات ذلك الحلف – وهي أن على القوات البحرية للناتو أن تقاتل معركة دموية وأن تكتسح مقاومة حلف "وارسو" بقوة ضخمة لكي تقدم دعماً بحرياً حيوياً لأوروبا الغربية.
وتأكيداً لتقلص دور القوات البحرية أعلن وزير الدفاع البريطاني في يونيه 1981 أنه سيتم التركيز على أسطول الغواصات النووية (قنص وتدمير) وطائرات الاستطلاع البحري من طراز "نمرود" في تأخير وإلحاق أكبر خسائر بالقوات البحرية السوفيتية التي تسعى لدخول شمال الأطلسي، ثم ربط بين تقليص أعداد سفن السطح وتقليل عدد أحواض بناء السفن قائلاً "إن خمسة أحواض لبناء السفن عدد زائد عن الحد، ولذا يجب تقليل حجم الأسطول إلى المستوى الذي يسمح بتقديم الدعم الفني اللازم له بحوضين فقط من أحواض بناء السفن"، ولذلك أكد الوزير على ضرورة الانتهاء مبكراً من العمرات التي تجري للمدمرات والفرقاطات في منتصف أعمارها، حتى يمكن لحوضي بناء السفن "ديفونبورت" و"روسيث" ـ وهما الحوضان الوحيدان اللذان سوف يُستبقيان ـ للقيام بالعبء الإضافي الذي سيطلب منهما على إثر الاستغناء عن الأحواض الأخرى).
وعلى ذلك فإنه كان مخططاً إغلاقُ حوض بناء السفن في "شاثام" (في مقاطعة "كِنْت" جنوب شرق إنجلترا) في مارس 1984، بالإضافة إلى خفض طاقة حوض بناء السفن في "بورت سموث" إلى مستوى قاعدة تشغيل ذات تسهيلات دعم محدودة، بينما يتحول حوض جبل طارق خلال عام 1983 إلى حوض إصلاح للسفن التجارية إذا أمكن توفير استثمار تجاري له، ومن ثمَّ لم يكن من المسْتَغرب انخفاض الروح المعنوية في "ساثام" و"بورت سموث" و"جبل طارق" إلى أدنى مستوى لها، حيث كانت أعداد كبيرة من العُمَّال المهرة قد رحلت واضْطُرت للبحث عن وظائف جديدة.
وبالنسبة إلى سفن القتال كان الجاهز منها عندما بدأت تشكيل "قوة الواجب Task Force" ـ التي تقررَّ دفعها إلى جنوب الأطلسي ـ هي القوات التالية:
· حاملتا طائرات خفيفة.
· 14 مدمرة.
· 46 فرقاطة.
· 16 غواصة تقليدية.
· 12 غواصة نووية مسلحة بأسلحة تقليدية.
· 4 غواصة نووية من نوع "بولاريس" تمثل قوة الردع النووي لبريطانيا.
وكانت الحكومة البريطانية قد قررَّت إخراجَ عددٍ من هذه الوحدات من الخدمة العاملة، خاصة بعد القرار الذي اتخذته بضم أربع غواصات نووية جديدة من طراز "تريدنت" لتدعيم قوة الردع النووّي، كما قررَّت بناء حاملة الطائرات "اليستريوس" طراز الحاملة "انفنسبل" (التي شاركت في حرب "فوكلاند" والتي تم إنشاؤها في الأصل لحساب أستراليا) وشرعت في بناء حاملة طائرات ثالثة تحمل اسم "أرك رويال" على نفس اسم حاملة الطائرات القديمة "أرك رويال" التي شاركت في الحرب العالمية الثانية، وخرجت من الخدمة في عام 1978.
وبالنسبة إلى مشاة البحرية البريطانية كانت القوة القتالية الرئيسية تمثل اللواء الثالث كوماندوز الذي يضم ثلاث كتائب مشاة قوامها نحو 2000 جندي، وكان مخططاً أن تنضمَّ عليه مشاة البحرية الهولندية لو كانت الحرب تخصُّ حلف "الناتو"، أما في حرب "فوكلاند" فقد دُعِّم هذا اللواء بكتيبتي مظلات وبطارية مدفعية عيار 105 مم هاوتز من الجيش البريطاني.
وكان لهذا اللواء طيرانُه الخاص الذي كان يتكون من سرب طائرات عمودية، كما كان يضم سرب الإغارة الأول المجهز بزوارق خفيفة للمهام الساحلية، والسرب 59 مهندسين، بالإضافة إلى فوج إداري وتروب دفاع جوي ووحدة صغيرة للإجراءات الإلكترونية المضادة.
وكان هناك عدة سفن لنقل وإبرار هذا اللواء على رأسها "هيرمس"[1]، إلا أنه في ظل الخفض السنوي لميزانية الدفاع قبل حرب فوكلاند لم يتصور مخططو العمليات إمكانية القيام بعمليات برمائية رئيسية وخاصة على مسافات بعيدة، وعلى أثر القرار الخاص باستخدام "هيرمس" كحاملة طائرات، لم يتبق سوى سفينتي اقتحام خدمة عامة هما "فيرلس Fearls" و"انتربيد Interpid" وست سفن إبرار أخرى صغيرة من نوع "سير لانسلوت Sir Lanselot".
ب. موقف القوات الجوية وطيران البحرية
فاجأت حرب "فوكلاند" القوات الجوية البريطانية كما فاجأت طيران بحريتها، فقد تمَّ تشكيلهما وتدريبهما لخوض الحرب في أوروبا وشمال المحيط الأطلسي بالتعاون مع قوات حلف "الناتو" ضد قوات حلف "وارسو"، وليس لخوض الحرب ضد إحدى دول العالم الثالث في جنوب الأطلسي على بعد 8000 ميل من القواعد البريطانية في أرض الوطن، وهو ما كان يحتاج إلى نُظم تسليح ومعدات وإمداد مختلفة، فعلى سبيل المثال كانت القوات الجوية البريطانية تمتلك عدة أسراب من طائرات "الفانتوم F-4 Phantom II" وهي طائرة متعددة المهام طويلة المدى أثبتت جدارتَها في مسرح عمليات فيتنام ومسارح عمليات الشرق الأوسط، إلا أن مداها التكتيكي بالرغم من طوله كان أقل من نصف المسافة بين جزر فوكلاند وأقرب مطار بريطاني أو حليف في المحيط الأطلسي (قاعدة "وايد أويك" في "أسنشن")، كما كان تشغيل هذه الطائرت يتطلب مدارج طويلة أو حاملات طائرات هجومية كبيرة، ومن ثمَّ كان أقصى ما تسمح به خصائصها في حرب "فوكلاند" هو استخدامها في مهام الدفاع الجوي عن جزيرة "أسنشن".
وعشية اندلاع الحرب كانت القوات الجوية البريطانية تُعد إحدى القوى الجوية الكبرى في العالم، حيث كانت تملك نحو سبعمائة طائرة قتال ـ كان معظمها ـ مرتبطاً بحلف "الناتو" أو للدفاع عن الجزر البريطانية، كما كانت تلك القوات لا تزال تملك ثلاثة أسراب من القاذفات الإستراتيجية مجهزة بطائرات "فولكان Volcan" التي تستطيع توجيه الضربات الجوية ليلاً ضد أهداف بعيدة بواسطة حمولتها الكبيرة من القنابل التي تصل إلى 21 قنبلة زنة كل منها ألف رطل (454 كجم) في كل طائرة.
وبالإضافة إلى طائرات القتال والقاذفات الإستراتيجية، كانت القوات الجوية تملك خمسين طائرة نقل وثلاثاً وعشرين طائرة صهريج لإعادة الملء بالوقود جواً، بالإضافة إلى العديد من الطائرات العمودية التي كان أبرزها ثلاثة وثلاثين "شينوك"، كانت قد دخلت الخدمة حديثاً، وهي طائرة عمودية نقل تستطيع حمل أربعة وأربعين فرداً بمعداتهم، أو ما يساوي 9400 كجم من المعدات والاحتياجات.
وقد استدعى تخفيض ميزانية الدفاع خفض أعداد هذه القوات واستبدال طرازات طائراتها القديمة بأخرى أكثر حداثة، فعلى سبيل المثال كان مقدراً الاستغناء عن القاذفات الإستراتيجية من طراز "فولكان"ـ التي كانت تمثل العمود الفقري للقاذفات بعيدة المدى ـ عام 1982، وكانت الأسراب الثلاثة التي سبقت الإشارة إليها هي آخر ما تبقى من هذا الطراز عند اندلاع حرب "فوكلاند".
وكانت الطائرات الهجومية من طراز "تورنيدو جي. آر-1 Tornado GR-1" هي البديل الأحدث لقاذفات فولكان إلا أنها لم تكن قد دخلت الخدمة بعد في القوات الجوية البريطانية، كما كانت خصائصها غير ملائمة لنوع المهام التي قامت بها طائرات "فولكان" في جنوب الأطلسي.
وبالرغم من الحجم الكبير والكفاءة النوعية العالية للقوات الجوية البريطانية وطرازات الطائرات المتعددة التي تمتلكها، إلا أنها كانت تفتقر إلى عنصر من أهم عناصر الحرب الجوية الحديثة وهو نظام الإنذار المبكر المحمول جواً “Airborn Early Warning”، حيث كانت القوات الجوية البريطانية تعتمد فيه على ما لدى حلف "الناتو" من هذه الطائرات. كما كانت معظم طائرات القوات الجوية البريطانية غير ملائِمة أو غير قادرة على المشاركة في حرب تبعد نحو ثمانية آلاف ميل (12872 كم) عن قواعدها في الجزر البريطانية.
أمّا طيران البحرية البريطانية فقد كان يتوفر له 32 طائرة من طراز "سي هاريرSea Harrier" ـ التي تتميز بالقدرة على الإقلاع والهبوط عمودياً ـ بالإضافة إلى نحو 90 طائرة عمودية من طرازات مختلفة، كان أبرزها الطائرات العمودية "سي كنج 5 Sea King HAS.5" المجهزة ضد الغواصات، والطائرات العمودية "سي كنج 4 Sea King HC.4" و"ويسكس Wessex HU.5" لنقل الأفراد والمعدات، والطائرات العمودية "جازيل Gazelle" للاستطلاع وإخلاء الجرحى.
وقد انعكس خفض ميزانية الدفاع على طيران البحرية أيضاً، فبعد استغناء القوات البحرية عن آخر حاملاتها الكبيرة في نهاية السبعينيات، أصبح الدفاع عن الأسطول على المسافات البعيدة يعتمد على حاملتي الطائرات المتبقيتين وهما "هيرمس Hermes" و"انفنسبل Invincible"، وهما حاملتان صغيرتان تصلحان فقط لطائرات الإقلاع والهبوط الرأسي مثل "الهارير" والطائرات العمودية.
ولم يكن من مهام طائرات هذه الحاملات التي لا تزيد قوتها عن سربي "سي هارير" القتال من أجل السيطرة الجوية في منطقة العلميات أو حتى في منطقة رأس الشاطئ، وإنما فقط حماية التشكيل البحري من طائرات الاستطلاع والطائرات الهجومية السوفيتية بعيدة المدى.
وهكذا كان على القيادة البريطانية الاعتماد على قاذفات "فولكان" المنطلقة من جزيرة "أسنشن" في توجيه الضربات الجوية بعيدة المدى ليلاً، بينما كانت طائرات "سي هارير" المنطلقة من الحاملات هي الطراز الوحيد المتاح سواءً لأعمال قتال الدفاع الجوي عن القوة البحرية جنوب الأطلسي، أو تقديم المعاونة الجوية القريبة.
2. الاستعدادات البريطانية الأولية (أُنظر جدول السفن الحربية البريطانية التي اشتركت في الحرب)
أ. تشكيل قوة الواجب ودفعها إلى جزيرة "أسنشن"
على أثر تطورات الموقف في جزيرة "جورجيا الجنوبية" خلال الأسبوع الأخير من مارس 1982، قرَّر وزير الدفاع البريطاني إبقاء الكاسحة "انديورنس" في منطقة الجزر وعدم سحبها لإنهاء خدمتها في البحرية كما كان مخططاً من قبل، كما تلقت سفينة الإمداد "فورت أوستن" الأمر بالاستعداد للإبحار إلى جنوب الأطلسي لإعادة إمداد الكاسحة "انديورنس". وفي الساعة 1000 يوم 29 مارس أبحرت السفينة "فورت أوستن" من جبل طارق إلى جنوب الأطلسي، في الوقت الذي كانت فيه قيادة اللواء الثالث كوماندوز في "بلايموث" تجري بعض التحضيرات على ضوء الأمر الإنذاري الذي تلقته بالاستعداد للرحيل إلى جنوب الأطلسي.
وعلى أثر تلقي المعلومات عن تحرك الأسطول الأرجنتيني نحو الجنوب أصدر وزير الدفاع أوامر بدفع ثلاث غواصات مجهزة بمحركات نووية إلى جنوب الأطلسي، وكانت تلك الغواصات بسرعتها التي تصل إلى 30 عقدة في الساعة هي أسرع الوحدات البحرية المتاحة للقيادة البريطانية في ذلك الوقت لمواجهة الموقف المتوتر المتصاعد في جنوب الأطلسي.
وفي أول أبريل أبحرت الغواصة "سبارتان Spartan" من جبل طارق إلى الجنوب، كما اُستُدعيت الغواصة "سبلندد Splended" من شمال الأطلسي حيث أُعيد إمدادها ودفعها على عجل لتلحق بالغواصة الأولى، أما الغواصة الثالثة "كونكرر "Conqueror" فقد تبعتهما في الرابع من أبريل. وكانت الغواصات الثلاث قادرة على الإبحار حول العالم دون حاجة إلى الصعود على السطح أو إعادة التزود بالوقود.
وفي الساعة 100 صباح الثاني من أبريل أقلعت أُولى طائرات النقل الجوي من طراز سي 130 التابعة للسرب 24 من مطار "لينهام Lyneham" تحمل أُولى شحنات الإمداد للعملية "كوربوريت Corporate"، مفتتحة جسر الإمداد الجوي إلى جزيرة "أسنشن". ولما كان مدى هذا الطراز من الطائرات لا يسمح بالوصول إلى تلك الجزيرة في وثبة واحدة، فقد كان على تلك الطائرات استخدام مطار جبل طارق كمطار إعادة ملء.
وبينما كانت أُولى طائرات النقل السابقة في طريقها إلى جبل طارق، تلقى قائد الأسطول الأول ـ الذي كان يجري أسطوله الصغير مناورة "قطار الربيع" في المحيط الأطلسي أمام الدار البيضاء ـ الأمر بإعداد سبع سفن من أسطوله للتوجه جنوباً حيث ستنضم إليه السفن الثلاث التي سبقته إلى المنطقة. وفي الوقت الذي كان فيه قائد الأسطول الأول رير أدميرال (لواء بحري) "وودوارد Woodward" يتلقى الأوامر السابقة كان يجري إبرار أُولى القوات الأرجنتينية على شاطئ "مولت كريك Mullet Creek" في جزيرة "فوكلاند الشرقية".
وفي الساعة 230 صباح الثالث من أبريل كان هناك سبع سفن قتال وناقلة بترول ـ خُصصِّت للعملية "كوربوريت" ـ تستعد للإبحار من جبل طارق، وفي الساعة 1030 من اليوم نفسه أصدر وزير الدفاع أوامره بإبحار السفن المخصَّصة للعملية بأسرع ما يمكن، إلا أنه كان هناك عددٌ من المشاكل التي كان يجب على قيادة البحرية حلُّها أولاً، كان أبرزها عدم وجود أي نوع من طائرات الإنذار الجوي المبكر والنقص الحاد في مقاتلات الدفاع الجوي عن التشكيل البحري والسفن اللازمة لنقل القوات والطائرات والطائرات العمودية. وباستثناء طائرات الإنذار المبكر فقد تمَّ معالجة أوجه النقص الأخرى.
فبالنسبة إلى المقاتلات كان الحل الوحيد المتاح لقيادة القوات البحرية هو دعم طائرات "سي هارير" على الحاملتين المتيسرتين "هيرمس" و"إنفنسبل" ونقل أعداد أخرى منها بواسطة بعض سفن النقل التي عُبّأت وجُهزت لهذا الغرض على وجه السرعة، مثل سفينتي الحاويات "أتلانتك كونفيار" و"أتلانتك كوزواي"، كما عالجت النقص في السفن بتعبئة وتأجير الأعداد المطلوبة من سفن الأسطول التجاري(أُنظر جدول السفن التجارية المعبأة والمستأجرة لدعم قوة الواجب).
وفي الوقت الذي كان يجرى فيه تجهيز حاملتي الطائرات على وجه السرعة وصلت طائرات "سي هارير" واحتلت أماكنها على متن هاتين الحاملتين في ميناء "بورت سموث"، فزود السرب 800 على متن الحاملة "هيرمس" باثنتي عشرة طائرة من طراز "سي هارير" كما زود السرب 801 على متن الحاملة "إنفنسبل" بثماني طائرات من الطراز نفسه. وكان على السربين السابقين وطياريهم - الذين كانوا أقلَّ من ثلاثين طياراً – توفير الحماية الجوية لقوة الواجب التي خُصِّصت للعملية "كوربوريت".
وفي الخامس من أبريل أبحرت حاملتا الطائرات من "بورت ثموت" مصحوبة بدعاية كبيرة، وتوديع من جمع غفير من أهل المدينة، حيث كان الجمهور يعُد هاتين الحاملتين بمثابة القلب لقوة الواجب المخصَّصة للعملية. وأبحرت في اليوم نفسه الفرقاطتان "ألاكريتي Alacrity" و"أنتيلوب Antelope" من نفس الميناء، وفي أعقابهما ناقلة البترول "بيرليف Pearleaf" وسفينتا الإمداد "ريسورس Resource" و"أولميدا Olmeda".
ولم يكن الجمهور البريطاني يعلم شيئاً عن السفن السبع التي أبحرت من جبل طارق نحو الجنوب أو سفينتي القتال "برودسورد Broadsword" و"يارموث Yarmouth" اللتين كانتا في البحر المتوسط متجهتين إلى الخليج العربي وصدرت لهم الأوامر بالعودة والتوجه نحو الجنوب في الخامس من أبريل. وهكذا كان هناك بعد ثلاثة أيام من الغزو الأرجنتيني قوة بحرية مشكلة من حاملتي طائرات وسبع مدمرات وخمس فرقاطات وأربع ناقلات بترول وسفن إمداد تمخر البحر نحو جزيرة "أسنشن". وكانت هذه السفن هي التي شكلت قوة الواجب الأصلية قبل أن تنضم إليها سفن وقوات أخرى فيما بعد.
ففي الثاني من أبريل تلقى البريجادير (العميد) "جوليان طومسون Julian Thompson" قائد اللواء الثالث كوماندوز (مشاة بحرية) الأمر بالاستعداد للإبحار بكتائبه الثلاث أرقام 40، 42، 45 ـ التي كانت تتمركز في "بلايموث" ـ خلال ثلاثة أيام، وقد واجه تجميع هذه الكتائب بعض الصعوبات، حيث كان معظم جنود الكتيبة الثانية والأربعين مبعثرين في أنحاء البلاد في عطلة بعد عودتهم من مشروع للتدريب التكتيكي في النرويج. كما كان بعض جنودها وضباطها خارج البلاد، في الوقت الذي كانت فيه الكتيبة الأربعون تنهي تدريبها على الرماية في ميدان "التكار Altcar" بالقرب من "لفربول Liverpool"، كما كانت إحدى سرايا الكتيبة الخامسة والأربعين في "بروناي" تتدرب على حرب الأدغال، وسرية أخرى يجري تدريبها في "أسكتلندا".
وعلى ضوء المعلومات التي وصلت إلى وزارة الدفاع عن حجم قوات الغزو الأرجنتينية تقرَّر في الثالث من أبريل دعم اللواء الثالث كوماندوز بكتيبة مشاة من الجيش (الكتيبة الثالثة)، وبطارية من الفوج الثاني عشر دفاع جوي (زُوِّدت باثني عشر قاذفاً لصواريخ "رابير Rapier" المضادة للطائرات)، بالإضافة إلى مفرزة مدرعات مشكلة من ثماني دبابات خفيفة وعربة مدرعة، وبذلك الدعم وصلت قوة اللواء الثالث كوماندوز وعناصر دعمه إلى 5500 فرد.
أمّا بالنسبة إلى سفن الاقتحام والإبرار فكان المتيسر منها يوم 2 أبريل - عندما صدر الأمر للواء الثالث بالاستعداد للإبحار ـ هي سفينة الاقتحام "فيرلس" وأربع سفن إبرار صغيرة من طراز "سير لانسلوت" المجهزة لحمل العربات والإمدادات، وعلى ذلك أبحرت "فيرلس" يوم 6 أبريل وعلى متنها قيادة اللواء الثالث كوماندوز وعددٌ من أفراد اللواء، بعد أن جُهِّزت كسفينة قيادة لقوة الإبرار، ثم انضمت إليها السفن الأربعة الأخرى التي أبحرت من ميناء "مارشوود Marchwood" العسكري في "سوث هامبتون"، بعد أن حُملت بمدافع اللواء وبطارية الصواريخ المضادة للطائرات وسرب طائرات اللواء العمودية وبعض المركبات ومواد الإمداد.
أمّا سفينةُ الاقتحام الثانية (انتربيد) وسفينتا الإبرار الصغيرتان المتبقيتان فقد تم تجهيزها وتحميلها على وجه السرعة ـ بعد عودتها من مهامها السابقة ـ ودفعها للحاق بزميلاتها التي سبقتها إلى جزيرة "أسنشن".
وبسبب عدم وجود سفن حربية أخرى لنقل باقي قوات اللواء الثالث وعناصر الدعم البرية التي دُعِّم بها، اتجهت القيادة البريطانية إلى تعبئة وتأجير بعض سفن الأسطول التجاري، وتركز الاهتمام في البداية على ثلاث سفن ركاب كبيرة هي السفينة "كوين اليزابث الثانية"، والسفينة "كانبرا" والعَبَّارة الكبيرة "نورلاند". ولما كانت السفينة الثانية هي المتاحة في البداية، فقد تمَّ تجهيزها بسطح لحمل الطائرات العمودية وإجراء بعض التعديلات الأخرى عليها حتى تستطيع حمل 2400 جندي، وفور انتهاء تحميلها أبحرت السفينة من "سوث هامبتون" في التاسع من أبريل متجهة جنوباً نحو جزيرة "أسنشن" بينما تأجل تعبئة السفينة "كوين اليزابيث الثانية"، أما العبارة "نورلاند" فقد حُمِّلت بباقي قوات اللواء الثالث، بينما نُقلت بعض الوحدات الأخرى بطريق الجو لتنضم إلى قوة الواجب في جزيرة "أسنشن".
وفي الوقت الذي كان يجري فيه تحميل قوات اللواء الثالث في "سوث هامبتون" تمَّ تحميل سفينة النقل المعبأة "إلك Elk" بألفي طن من الذخائر ومواد الإمداد الأخرى في نفس الميناء، وفور تحميلها أبحرت تلك السفينة في التاسع من أبريل مع السفينة "كانبرا" متجهتين نحو الجنوب.
وكان على معظم هذه القوات التوجه إلى جزيرة "أسنشن" في البداية قبل انطلاقها إلى جنوب الأطلسي، حيث كانت هذه الجزيرة بموقعها المتوسط بين الجزر البريطانية وجزر "فوكلاند" ووقوعها خارج مدى القوات الجوية الأرجنتينية بمثابة قاعدة متوسطة آمنة لإعادة تجميع وتنظيم القوات البريطانية لتكوين أسطول متوازن وتوفير الدعم الإداري له. كما كان المطار الموجود بهذه الجزيرة يسمح باستخدامه كقاعدة متقدمة لطلعات القاذفات الإستراتيجية والاستطلاع البحري وإعادة التموين جواً.
ب. تعديل الطائرات والطائرات العمودية ورفع كفاءتها القتالية
منذ اللحظة التي رُفعت فيها درجة استعداد القوات وخلال الأيام التي كان يجري فيها تشكيل قوة الواجب وإبحارها، أجرت قيادة القوات البحرية والجوية عدة تعديلات على طائراتها وطائراتها العمودية التي قررت دفعها إلى جنوب الأطلسي لتتواءم مع ظروف المسرح الجديد والمهام الموكلة إليها.
فبالنسبة إلى الطائرات أُجريت على معظمها عِدَّة تعديلات بالتعاون بين القوات الجوية والبحرية والمنشآت الصناعية المختصة التي عمل كل منها لإتمام تلك التعديلات في الوقت المناسب، وجرى عمل بعض هذه التعديلات في المملكة المتحدة، بينما تمَّ البعض الأخر في جزيرة "أسنشن" وأثناء الإبحار جنوباً.
فبالنسبة إلى طائرات "سي هارير" سُلِّحت بصواريخ جو/ جو طراز "سايد وندر AIM-9L" الأكثر كفاءة بدلاً من صواريخها الأصلية “AIM-9G/H”، كما جُهزت لإطلاق صواريخ جو/ أرض عيار 5 سم، وقذف قنابل المستودعات، كما أُدخلت بعض التعديلات على الحاسب الخاص بنظام قذف القنابل أثناء التسلق، والسماح بالإقلاع من المنٍّصات بوزن أكبر مما كان مسموحاً به من قبل، ممَّا أتاح للطائرة استخدام خزاني وقود سعة كل منهما 1500 لتر. وللوقاية من نيران المدفعية والصواريخ المعادية المضادة للطائرات تمَّ تطوير نظام داخلي لإطلاق الشرائح المعدنية “Chaff” والكرات الحرارية “Flare” باستخدام معدات أمريكية، وخلال الإبحار جنوباً بُذلت جهود مكثَّفة لضبط أجهزة الرادار المزودة بها هذه الطائرات، والتي كانت تعطي من قبل قراءات غير دقيقة.
أمَّا طائرات "هارير GR-3"، فكانت في حاجة أكثر إلى تطوير مكوناتها، فجسم الطائرات ومحركاتها ومعظم نظم تشغيلها لم تكن مُهيئةً للعمل من فوق الحاملات في عرض المحيط، كما لم تكن هذه الطائرات مجهزة للقيام بمهام الدفاع الجوي، الأمر الذي استوجب إجراء عدة تعديلات عليها حتى أصبحت قادرةً على العمل من فوق الحاملات، وإطلاق صواريخ "سايد وندر"، فضلاً عن قصف القنابل زنة ألف رطل (454 كجم) الموجهة بالليزر.
ولم تقتصر تعديلات الطائرات على طرازي الهارير، فقد جرت تعديلات أخرى على بعض طائرات القوات الجوية البريطانية التي اشتركت في تلك الحرب، فبالنسبة إلى قاذفات "فولكان" أُعيد تجهيزها بنظام إعادة الملء بالوقود جواً، الذي كان قد سبق الاستغناء عنه، كما جُهزت طائرات الاستطلاع البحري "فولكان SR-2" التابعة للسرب السابع والعشرين بحمالات جديدة لوضع مستشعرات إضافية، كما جُهِّزت طائرة واحدة على الأقل لحمل صواريخ "شرايك AGM.45 A" المضادة للرادار، أمَّا طائرات الاستطلاع البحري من طراز "نمرود" فقد اقتصرت التعديلات التي أجريت عليها على تجهيزها بنظام لإعادة الملء بالوقود جواً وتسليح بعضها بصواريخ جو/ جو من طراز "سايد وندر"، كما جُهزت سبع طائرات نقل من طراز "سي 130"، بخزانات وقود إضافية (خزانين بكل طائرة)، كما تم تحويل أربع طائرات أخرى إلى صهاريج وقود لتموين باقي الطائرات جواً.
وبالنسبة إلى الطائرات العمودية فقد أُجريت عليها عدة تعديلات قبل بدء القتال، وكان معظمُ هذه التعديلات مُعَّداً مُسبقاً لاستخدامها عند الضرورة، وهو ما يُعرف بأسلوب “Off- the- shelf modifcation kit”، ويرجع عدم إجراء هذه التعديلات وقت السلم لاعتبارات تتعلق بزيادة وزن الطائرة العمودية.
وكانت أبرز التعديلات تلك التي أجريت للطائرات العمودية "جازيل"، حيث تمَّ تجهيزها لإطلاق صواريخ جو/ أرض من طراز ماترا عيار 68 مليمتراً بناء على طلب مشاة البحرية، وبلغ ما تمٍّ تعديله من الطائرات العمودية "جازيل" ست عشرة طائرة، تضَّمنت التعديلات التي أُجريت عليها تدريعها بشرائح من الصلب لوقايتها من نيران الأسلحة الخفيفة، وتجهيزها بعدادات ارتفاع أكثر دقة، وأجهزة تعارف مع وسائل الدفاع الجوي الأرضية، بالإضافة إلى مروحة عُلوية يمكن طيها أثناء الإبحار على مَتْن السفن وفردها قبل الإقلاع.
كما أُجريت تعديلات أخرى لطائرات "جازيل" التي خُصِّصت لمعاونة مشاة البحرية، فتمَّ تزويدها بمدافع متعددة الأغراض ونزع الباب الأيسر لزيادة قوس النيران والسماح لطاقمها بمغادرتها بسرعة في الأحوال الاضطرارية، كما جُهز كل منها بأربع نقاط تحميل على جسم الطائرة العمودية يمكن أن يركب بها ست حمالات "صواريخ ماترا" بالنقطتين الداخليتين، وقنابل لإضاءة أرض المعركة ليلاً بالنقطتين الخارجيتين.
ج. تعبئة وتجهيز السفن التجارية لدعم قوة الواجب
إزاء عدم قدرة أسطول السفن الحربية المساعدة وحْدَة على توفير الدعم اللازم لسفن القتال، والبعد الكبير لمسرح العمليات عن القواعد البحرية البريطانية، اضطرت قيادة القوات البحرية إلى تعبئةِ وتأجيرِ عدد كبير من سفن الأسطول التجاري كان يتطلب استخدامها تعديل وتجهيز معظمها لتتواءم مع المهام التي كان عليها القيام بها.
ومن ثمَّ واجهت أحواض السفن في بريطانيا وقاعدة جبل طارق كماً هائلاً من العمل فور إبحار السفن الأولى لقوة الواجب إلى جزيرة "أسنشن"، وجرت أكثر التعديلات صعوبة على سفينتي الركاب "كانبرا" و"كوين اليزابيث الثانية" في حوض "ساوث هامبتون"، حيث شملت تلك التعديلات تركيب أسطح لإقلاع وهبوط الطائرات العمودية، وأماكن نوم إضافية، وتسهيلات طبية بالإضافة إلى تزويدها بمعدات اتصال بحرية خاصة.
أمّا ناقلات البترول وسفن الدحرجة[2]، وسفن الصيد والعبَّارات، فقد أجريت بها تعديلات أكثر شمولاً، كما جُهزت سفن الشحن والعبارات لإعادة التموين في البحر، بالإضافة إلى عمل بعض التجهيزات في كثير من السفن التجارية لتركيب المدافع الخفيفة، وتزويد أربع من سفن الصيد بمعدات كسح الألغام.
وشملت التعديلات البارزة الأخرى تحويل سفينة الركاب "أوغندا" إلى سفينة مستشفى كاملة التجهيز، وتحويل سفن المساحة البحرية الثلاث "هلكا" و"هيرالد" و"هيدرا" إلى سفن إسعاف لنقل الجرحى إلى السفينة "أوغندا"، بالإضافة إلى تجهيز سفينتي الحاويات "أتلانتك كونفيار" و"أتلانتك كوزاوي" لهبوط وإقلاع طائرات "سي هارير" والطائرات العمودية. (أنظر جدول السفن التجارية المعبأة والمستأجرة لدعم قوة الواجب)
د. تنظيم القيادة والسيطرة
لم يُقتبس نظام القيادة والسيطرة على العملية "كوربوريت" من أي نظام سابق وإنما رُوعي فيه مبدآن أساسيان: الأول تمتع مجلس الوزراء المصغر (مجلس الحرب) ـ الذي يتشكل من مجموعة مختارة من الوزراء برئاسة رئيسة الوزراء نفسها ـ بالسلطة والمسؤولية الكاملة عن السياسة العامة التي تحكم إدارة الحملة، والثاني ترك الإدارة التفصيلية للعمليات في أيدي القادة العسكريين المسؤولين عن العملية.
وبذلك كان مجلس الوزراء المصغر الذي يجتمع يومياً مسئولاً عن توجيه الإستراتيجية العامة والتنسيق بين اتجاهات العمل الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، وكان يحضر هذه الاجتماعات الأدميرال "لوين" رئيس هيئة أركان الدفاع يصحبه أحيانا بعض القادة المعنيين لإطلاع مجلس الوزراء المصغر على تطورات العملية والحصول على التصديق بالنسبة إلى المهام والأعمال التالية.
وكانت سمة هذا النظام القيادي أن التوجيهات السياسية تصدر فقط إلى رئيس هيئة أركان الدفاع الذي يترك له تحويلها إلى توجيهات عسكرية مفصلة ترسل إلى الأدميرال "جون فيلد هاوس" قائد القوات البحرية البريطانية في "نورث وود"، الذي عُين قائداً عاماً لكافة القوات المشتركة في العملية "كوربوريت" (البحرية والجوية والبرية)، وعين له نائبان، الأول للقوات البرية وهو ميجور جنرال (لواء) "جيري مور" والثاني للقوات الجوية وهو أير مارشال (فريق جوي) "كيرتس"- قائد القوات الجوية المشتركة في العملية.
وكان القائد العام وهيئة قيادته مسؤولين عن السيطرة المباشرة على إدارة العمليات من خلال شبكة الاتصالات عَبْر الأقمار الصناعية، بينما كان رير أدميرال "وودوارد" يمارس السيطرة المحلية على العمليات في جنوب الأطلسي.
ولأن أغلب القوات التي أبحرت إلى الجنوب على عجل لم يكن لديها إلا فكرة محدودة عن العمليات المطلوب تنفيذها بعد الوصول إلى جنوب الأطلسي، اجتمع القادة الميدانيون للعملية على متن الحاملة "هيرمس" يوم 17 أبريل للاطلاع على تفاصيل الخطة العامة للأدميرال "فيلد هاوس" والتي كانت تتطلب انتشار قوة الواجب ـ عند الوصول إلى جنوب الأطلسي ـ إلى خمس مجموعات لتحقيق المهام الابتدائية التالية:
(1) فرض الحصار حول جزر "فوكلاند".
(2) استعادة جزيرة "جورجيا الجنوبية".
(3) تحقيق السيطرة الجوية والبحرية في منطقة العمليات.






[3] تبلغ المسافة بين قاعدة ريو جراندي إلى بورت ستانلي 960 كم، بينما تصل المسافة من قاعدة كومودورو ريفالدافيا إلى بورت ستانلي نحو 960 كم.


[1] كانت الحاملة هيرمس مجهزة كسفينة اقتحام لنقل وإبرار مشاة البحرية البريطانية قبل استخدامها كحاملة طائرات خلال حرب فوكلاند.​


[2] سفن الدحرجة هي سفن مجهزة بأبواب خلفية متحركة لسرعة التحميل والتفريغ شبيهة بالعبَّارت.​








 
التعديل الأخير:
رد: حرب جزر فوكلامد بين بريطانيا والارجنتين عام 1982

المبحث الرابع
التحضيرات البريطانية للحرب
أولاً: فرض الحصار البحري والجوي حول جزر فوكلاند
كانت الحكومة البريطانية قد أعلنت في الثامن من أبريل عن نيتها فرض حصارٍ بحريٍّ حول جزر "فوكلاند" لمسافة مائتي ميل بحري (حوالي 370 كم) من مركز الجزر ابتداءً من الساعة 0500 بتوقيت لندن (0100 بتوقيت الأرجنتين) يوم 12 أبريل، وعَدت الأرجنتين هذه الخطوة بمثابة اعتداء عليها على أساس أنه ليست هناك حالة حرب مُعلنة بينها وبين المملكة المتحدة، إلا أن الأخيرة برَّرت موقفها بحق الدفاع عن النفس طبقاً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة على ضوء الغزو الأرجنتيني للجزر ورفضها الانسحاب منها طبقاً لقرار مجلس الأمن الذي أدان هذا الغزو.
ورداً على إعلان الحصار البحري البريطاني أعلنت الأرجنتين بدورها عن منطقة حظر بطول الساحل الأرجنتيني وحول جزر "فوكلاند" و"جورجيا الجنوبية" و"ساندوتش الجنوبية" ولمسافة مائتي ميل بحريٍّ من الساحل يحظر فيها تواجد السفن البريطانية.
ونتيجة للقرار البريطاني أصبح هناك منطقة نصف قطرها مائتا ميلٍ بحريٍّ من مركز الجزر يحظر على السفن الأرجنتينية الاقتراب منها، وكان الغرض من ذلك الحظر هو إضعاف قدرة القيادة الأرجنتينية على دعم وإمداد قواتها في جزر "فوكلاند" قبل عملية الإبرار البحري المحتملة، ولما كانت قوة الواجب لازالت بعيدة عن منطقة الحظر، فقد تمَّ إسناد مهمة فرض الحظر إلى الغواصات الثلاث "سبارتان" و"سبلندد" و"كونكرر" المزودة بمحركات نووية، وفي اليوم السابق لفرض الحظر وصلت إلى المنطقة الغواصات الثلاث، فقامت "سبارتان" بمراقبة منطقة "ستانلي"، بينما عملت "سبلندد" كدورية متحركة بين ساحل الأرجنتين وسواحل الجزر، أما "كونكرر" فاتجهت إلى جزيرة "جورجيا الجنوبية".
وأثناء مراقبتها لمنطقة "ستانلي" رصدت الغواصة "سبارتان" سفينة الإبرار الأرجنتينية "كابو سان أنطونيو" تقوم ببث الألغام أمام شواطئ ستانلي طوال أربعة أيام متتالية، وعندما طلب قائد "سبارتان" الإذن بالهجوم على السفينة الأرجنتينية رُفض طلبه حتى لا يكشف الهجوم وجوده من ناحية، وحتى لا يفجر الحرب في الوقت الذي كانت لا تزال فيه الجهود الدبلوماسية جارية من ناحية أخرى، خاصة وأن القوات الرئيسية لقوة الواجب كانت لا تزال بعيدة عن "فوكلاند".
ومع اقتراب قوة الواجب الأصلية من منطقة العمليات في جنوب الأطلسي أصدرت الحكومة البريطانية بياناً يوم 23 أبريل أعلنت فيه أن إجراءات فرض الحظر البحري القائم حول جزر فوكلاند منذ الثاني عشر من أبريل لا تّجُبُّ حق المملكة المتحدة في اتخاذ أي إجراءات إضافية قد تكون لازمة لممارسة حق الدفاع عن النفس طبقاً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وأكدت الحكومة البريطانية على أن أي اقتراب من جانب سفن الأسطول أو الطائرات الحربية الأرجنتينية يمكن أن يشكل تهديداً لمهمة القوات البريطانية في جنوب الأطلسي سوف يواجه بالرد المناسب.
وخلال الفترة من 12 إلى 30 أبريل نجح فرض الحظر في ردع معظم السفن الأرجنتينية، إلاَّ أن بعض هذه السفن نجح في اختراق منطقة الحظر وتوصيل قوات الدعم والإمدادات إلى جزر "فوكلاند". (أُنظر خريطة مناطق الحظر البريطانية والأرجنتينية)
وما إن وصلت قوة الواجب إلى مشارف منطقة الحظر حتى أعلنت الحكومة البريطانية يوم 30 أبريل توسيع نطاق الحظر في منطقة المائتي ميلٍ بحريٍّ لتشمل كافة السفن والطائرات مهما كانت جنسيتها، فيما عُرف "بمنطقة الحظر الكلي Total Exclusion Zone "، وهو ما يعني أن أي سفينة أو طائرة تحمل قوات أو إمدادات إلى جزيرة "فوكلاند" معرضة للهجوم عليها من قِبَل قوة الواجب مهما كانت جنسية العَلمَ الذي تحمله.
ثانياً: استعادة جزيرة "جورجيا الجنوبية South Gorgia"(أُنظر خريطة جورجيا الجنوبية "منطقة العمليات")، و(شكل عملية ثلاجة فورتونا)، و (شكل عملية خليج كمبرلاند)، و (شكل عملية خليج ستورمنس) و (شكل الهجوم على الغواصة سانتافي)
كان الأدميرال "فيلد هاوس" ـ القائد العام للعملية ـ يرى منذ البداية ضرورة التحرك بكل سرعة لاسترجاع جزر "فوكلاند" مع التركيز على الأهداف الحيوية في الجزر التي أبرزها مدينة "ستانلي"، إلا أنه من ناحية أخرى كان يرى ضرورة التخلص من التهديد المتمثل في السيطرة الأرجنتينية على جزيرة "جورجيا الجنوبية" قبل التقدم نحو جزر "فوكلاند".
وبعد بضعة أيام من الغزو الأرجنتيني للجزر أوضح الأدميرال "فيلد هاوس" للأدميرال "لوين Lewin" رئيس أركان الدفاع أن هناك عدداً كافياً من القوات يسمح بالهجوم لاستعادة جزيرة "جورجيا الجنوبية" من دون تعطيل العملية الرئيسية لاسترجاع جزر "فوكلاند"، ولما كان الأخير يرغب في تحقيق نصر سريع يُقْنِع السياسيين بأن العسكريين قادرون على تحقيق ما يدَّعُون أنهم قادرون عليه، فقد طرح هذا الخيار أمام مجلس الوزراء المصغر (مجلس الحرب)، الذي كان عليه أن يقرِّر إرسال جزءٍ من القوات لاستعادة جزيرة "جورجيا الجنوبية"، أو الانتظار حتى تتم عملية "فوكلاند" الرئيسية.
ولما كان الخيار الذي طرحه الأدميرال "لوين" على مجلس الحرب يتمشى مع سياسة الحكومة البريطانية في التصعيد المتدرج للأعمال العسكرية، لإقناع المجلس العسكري الحاكم في الأرجنتين بإصرار تلك الحكومة على استرجاع الجزر، فقد وافق مجلس الحرب في السابع من أبريل على اقتراح الأدميرال "لوين". ومن ثمَّ تلقى رير أدميرال "وودوارد" الأمر بفصل المدمرتين "أنتريم Antrim" و"بلايموث Plymouth" عن سفن قوة الواجب التي أبحرت من جبل طارق، ودفعهما على وجه السرعة إلى جزيرة "اسنشن"، حيث سينضم عليهما ناقلة البترول "تايد سبرنج Tide Spring" ـ التي يمكنها العمل أيضاً كسفينة لنقل القوات ـ والكاسحة "انديورنس" التي تحركت إلى الشمال بعد إمدادها بواسطة السفينة "فورت أوستن"، ليشكل الجميع مجموعة قتال مستقلة مهمتها استعادة جزيرة "جورجيا الجنوبية".
وفي "أسنشن" تمَّ تحميل قوة الإبرار التي تشكلت من إحدى سرايا الكتيبة 42 كوماندوز ونحو مائة فرد من القوات الخاصة (منها جزء من القوة الجوية الخاصة وجزء آخر من القوة البحرية الخاصة)، وفي الثاني عشر من أبريل أبحرت سفن هذه المجموعة من "أسنشن" ـ بعد تجهيزها بالاحتياجات اللازمة للقتال في المنطقة القطبية ـ لتبدأ العملية التي أُطلق عليها اسم "باركيوت Paraquat" بقيادة الكابتن (عقيد بحري) "براين يونج B. G. Young" الذي اتخذ من المدمرة "أنتريم" مركزاً لقيادته.
وبالإضافة إلى قوة الإبرار كانت سفن المجموعة تحمل على متنها ست طائرات عمودية (2 من طراز وسكس 5، وواحدة من طراز وسكس 3، بالإضافة إلى ثلاث آُخر من طراز واسب) كانت قادرة على نقل وإبرار قوة صغيرة من عشرين فرداً في الطلعة الواحدة. وقبل أن تقترب مجموعة الكابتن "يونج" من جزيرة "جورجيا الجنوبية" سبقتها إلى هناك إحدى طائرات القوات الجوية البريطانية من طراز "فكتور Victor K2" يوم 20 أبريل لتفتش المنطقة المحيطة بالجزيرة لمسافة 250 ميلاً من سواحلها حتى تتأكد من خلو المنطقة من السفن الأرجنتينية، وفي صباح 21 أبريل وصلت سفن الكابتن "يونج" أمام شواطئ الجزيرة مستعدة لتنفيذ مهامها.
وطبقاً للخطة كان على المدمرة "أنتريم" والناقلة "تايد سبرنج" إبرار ستة عشر فرداً من القوة الجوية الخاصة بواسطة الطائرات العمودية على ثلاجة فورتونا غرب "ليث"، بينما تقوم الكاسحة "انديورنس" والمدمرة "بلايموث" بإبرار جماعة من القوة البحرية الخاصة على الشاطئ جنوب غرب "جرايتفكن"، وقد تحفظ بعض أفراد القوة الجوية الخاصة على حكمة إبرارهم على المنطقة الجليدية بدلاً من الشاطئ، بعد أن حذرهم أحد رجال المساحة القطبية المصاحب لهم من أن التصدعات العميقة في منطقة الإبرار المختارة سوف تمنع أي تحرك في تلك المنطقة إلى "ليث"، إلا أنه لم يجر أي تغيير لمنطقة الإبرار.
وفي الساعة 1300 من اليوم نفسه (بالتوقيت المحلي) بدأت العملية "باركيوت" بإبرار جماعة القوة الجوية الخاصة على ثلاجة "فورتونا" في ظروف جوية سيئة، وكان من المقدر أن تصل هذه الجماعة إلى "ليث" سيراً على الأقدام في صباح اليوم التالي. وفي الوقت الذي كان يجري فيه إبرار الجماعة السابقة حاولت طائرتان عموديتان "واسب" إبرار جماعة القوة البحرية الخاصة على ساحل خليج "كمبرلاند"، إلا أنها لم تتمكن من ذلك نتيجة لوجود عاصفة ثلجية عنيفة في المنطقة، وعلى ذلك تَّم إبرار تلك الجماعة على الساحل بالقوارب في وقت لاحق، وكان عليها بعد ذلك أن تشق طريقها إلى نقطة قريبة من "جرايتفكن" عندما يتحسَّن الطقس.
أمّا جماعة القوة الجوية الخاصة فقد وجدت بعد إبرارها وتحركها أنها لن تستطيع عبور المنطقة الجليدية بالسرعة المطلوبة، واضطرت إلى قضاء الليل في خيامها، إلا أن عاصفة عنيفة هبَّت واقتلعت إحدى الخيام، وإزاء استمرار العاصفة في صباح اليوم التالي اضطرت الجماعة إلى طلب النجدة باللاسلكي، فأقلعت ثلاث طائرات عمودية (واحدة وسكس 3، واثنتان وسكس 5) متجهة إلى المنطقة الجليدية، إلا أنها فشلت في الوصول إلى هدفها بسبب العاصفة الثلجية، واضطرت للعودة إلى السفن التي أقلعت منها على مسافة 32 كم، من الشاطئ لإعادة التزود بالوقود.
وفي المحاولة التالية نجحت الطائرات العمودية في الوصول إلى رجال القوة الجوية الخاصة، وجرى تحميلهم على وجه السرعة في الطائرات العمودية الثلاث، إلا أن الرياح الهوجاء والدوامات الهوائية أدَّت إلى تدمير طائرتي "وسكس 5" وهما لا يزالان في مرحلة الإقلاع، ولم يكن أمام قائد الطائرة العمودية الثالثة إلاّ العودة وحده بحمولته الزائدة وتقديم تقرير عن الحادث، فاستغلت فترة قصيرة هدأت فيها الرياح لإقلاع طائرة وسكس ونجحت في الوصول إلى منطقة الحادث والعودة برجال القوة الجوية الخاصة وطاقمي الطائرتين المحطمتين سالمين على الرغم من حمولتها الزائدة.
وعلى أثر ذلك الحادث تلقت الفرقاطة "برليانت" الأمر بالانفصال علن قوة الواجب والإسراع على الفور إلى جزيرة "جورجيا الجنوبية" وعلى متنها طائرتان عموديتان "لينكس" لازمتان للإبرار النهائي على تلك الجزيرة. وفي اليوم التالي جرت محاولة لإبرار مجموعة أخرى من رجال القوة الجوية الخاصة على جزيرة "جراس Grass Island"، إلا أن الطقس العنيف واجههم مرة أخرى، حيث تحطَّم قاربان نتيجة لشدة الرياح، إلا أن الطائرة العمودية وسكس نجحت في التقاط ركاب أحدهما بعد سبع ساعات من البحث، كما نجح ركاب القارب الثاني في الوصول إلى الشاطئ، بينما وصلت باقي الجماعة إلى الجزيرة وبدأت في مراقبة "ليث"، غير أن القوات الأرجنتينية في الأخيرة رأتهم هي الأخرى وكان يمكنها إطلاق النار عليهم لو كان لديها مدافع ذات مَدىً مناسب.
وسرعان ما ظهرت طائرة نقل أرجنتينية في سماء الجزيرة بعد ظُهْر يوم 23 أبريل واقتربت لمسافة ثمانية أميال (نحو 14 كم) من القوات البريطانية، وتمكنت من رصد المدمرة "بلايموث" والناقلة "تايد سبرنج" وأبلغت عن وجودهما.
وفي الوقت نفسه، تقريباً، تلقى الكابتن "يونج" قائد مجموعة القتال معلومات من لندن تفيد باقتراب غواصة أرجنتينية من المنطقة التي رست فيها سفنه، فشعر أن قواته مهددة من الجو والبحر، وسرعان ما تلقى قائد المدمرة "بلايموث" الأمر بالخروج إلى عرض البحر ومعه الناقلة "تايد سبرنج" وناقلة أخرى كانت قد وصلت إلى المنطقة منذ فترة وجيزة لإعادة تموين الناقلة الأولى، وتبعت المدمرة "أنتريم" السفن الثلاث إلى عرض البحر وبدأ الجميع في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتضليل الغواصة الأرجنتينية.
أمّا الكاسحة "انديورنس" فقد بقيت في المنطقة تمارس لعبتها القديمة في الاختباء خلف جبال الجليد العائمة لتكون على اتصال بجماعتي القوات الخاصة اللذين تم إبرارهما على الشاطئ لاستطلاع "ليث" و"جرايتفكن".
وعندما تلقت الغواصة البريطانية "كونكرر" المعلومات الخاصة باقتراب الغواصة الأرجنتينية من جزيرة "جورجيا الجنوبية" حاولت البحث عنها إلا أنها لم تستطع تحديد محلها، وبينما كانت سفن الكابتن "يونج" في عرض البحر لمدة 24 ساعة رصدت طائرة استطلاع أرجنتينية من طراز "بوينج 707" الكاسحة "أنديورانس"[1]، كما رصدتها الغواصة "سنتا في" إلا أن الكابتن "هوراشيو بيكين Horatia Bicain" قائد الغواصة ـ الذي كان قد أُستقبل بحفاوة على متن الكاسحة "أنديورانس" قبل تفجر الأزمة ـ وجد من الصعب عليه إطلاق طوربيداته عليها.
وبعد ظهر الرابع والعشرين من أبريل وصلت إلى المنطقة الفرقاطة "برليانت" وعليها طائرات الدعم العمودية، في الوقت الذي تلقى فيه الكابتن "يونج" أوامر الأدميرال "فيلد هاوس" بالعودة بسفنه إلى جزيرة "جورجيا الجنوبية" مع ترك الناقلة "تايد سبرنج" في عرض البحر.
وفي اليوم التالي كان هناك خمسُ طائرات عمودية مسلحة مستعدة للهجوم على الغواصة الأرجنتينية فور اكتشافها، وكانت أُولاها هي آخر طائرات وسكس (التي تبقت بعد حادث ثلاجة فورتونا)، وسرعان ما اكتشف قائد الطائرة العمودية الغواصة "سنتا في" على السطح متجهة شمالاً بعد أن أبرت بعض القوات لدعم القوة الأرجنتينية في الجزيرة، فقام قائد الطائرة العمودية بالهبوط إلى أقل من ثلاثين متراً فوق الغواصة وألقى قنبلتي أعماق مصممتين للهجوم على الغواصات الطافية، فانفجرت إحداها قرب أسطح قيادة الغواصة، بينما انزلقت الثانية على سطحها وانفجرت بجوارها، فاستدارت الغواصة عائدة إلى "جرايتفكن" وخلفها خط طويل من البترول، ومن ثَّم طُلبت الطائرات العمودية الأخرى لاستكمال المهمة.
وكانت إحدى الطائرات العمودية "لينكس" من الفرقاطة "برليانت" أول من وصل، وبدأت في إطلاق صواريخها من طراز “AS-12”، ثم تناوبت طائرات "لينكس" و"واسب" الهجوم على الغواصة بعد ذلك حتى أصابها أحد الطوربيدات الموجهة، فلم تعد قادرة على الغوص('أوضح قائد الغواصة سنتافي بعد أسره أنه لم يأمر بغطس غواصته بعد الهجوم الأول عليها بقنابل الأعماق لأنه تصوَّر أن الطائرة العمودية ستكرر الهجوم على الغواصة بالطوربيدات الموجهة.')، إلا أنها استمرت في طريقها حتى توقفت عند الشاطئ قرب "جرايتفكن".
وأثناء الهجوم على الغواصة "سنتا في" عُقد اجتماع على متن مدمرة القيادة "أنتريم" لبحث الخطوة التالية، ورأى المجتمعون أن مرحلة الاستطلاع الساكن قد انتهت بعد أن علم كل طرف بوجود الطرف الآخــر وموقف قواته وحجمها على وجه التقريب، وكان تقدير المجتمعين أن القوة الأرجنتينية أصبحت تزيد على مائة فرد بعد تدعيمها، إلا أن أغلبهم لم يمضوا على الشاطئ أكثر من ساعة ولم يتسع لهم الوقت بعد للتعرف على الجزيرة، وأنه يُحتمل أن الهجوم على الغواصة قد أضعف معنوياتهم.
واقترح الميجور (الرائد) "شريدان Sheridan" قائد قوة الإبرار ضرورة تجهيز قوة إبرار على الفور من كل القوات الموجودة على المدمرة "أنتريم" وإنزالها على الشاطئ بالطائرات العمودية للهجوم على "جرايتفكن" تحت غطاء من نيران مدفعية المدمرتين "أنتريم" و"بلايموث"، لأن التأخير سوف يسمح للأرجنتينيين بتنظيم قواتهم ودعم دفاعاتهم في الجزيرة، وتمت الموافقة على الاقتراح وتحددت ساعة الصفر لتكون 1445 من اليوم نفسه.
وفي الساعة 1415 أنزلت الطائرة العمودية "واسب" طاقم إدارة نيران المدفعية على الشاطئ، وفي أعقابها قامت ست طائرات عمودية بإبرار اثنين وسبعين جندياً على الشاطئ في رحلتين، ثم أطلقت مدفعية المدمرتين 235 طلقة على بعض الأهداف خارج "جرايتفكن"، حيث كانت الأوامر التي تلقاها الكابتن "يونج" تقضي بتجنب هدم مباني البلدة إذا كان ذلك ممكناً، وكان القصف المدفعي السابق بمثابة استعراض لما سيحلُّ بالأرجنتينيين إذا رفضوا التسليم.
وبعد أن أقام الميجور "شريدان" موقعاً للهاون لمعاونة قواته أَمرَهُم بالتقدُّم حتى وصلوا إلى نحو كيلومتر واحد من أقرب موقع أرجنتيني، وعندئذ اقترح "شريدان" دخول إحدى المدمرات الخليج والتهديد بإطلاق مدافعها على الأرجنتينيين مباشرة، وسرعان ما دخلت "أنتريم" الخليج وأعلنت تهديدها على تردد اللاسلكي المحلي، وجاءها الرد على الفور يطلب عدم إطلاق النار، وفي الساعة الخامسة كان هناك ثلاثة أعلام بيضاء تلوح على الشاطئ من دون أن تطلق قوات الميجور "شريدان" طلقة واحدة.
وفور استسلام القوة الأرجنتينية في الجزيرة تم نقلها على متن الناقلة "تايد سبرنج" إلى جزيرة "أسنشن"، ومنها عاد أفراد القوة إلى بلدهم يوم 14 مايو، أما قائدها الكابتن "أستز Astiz" فقد نُقل إلى بريطانيا للاستجواب كأسير حرب ثم لحق برجاله بعد شهر من وصولهم.
ثالثاً: الإبحار إلى منطقة العمليات (أُنظر جدول القوات البحرية للجانبين (الوحدات التي شاركت في الحرب))
كانت مجموعة القتال المشكلة من ثلاث مدمرات طراز 42 والفرقاطتين "برليانت" و"أرو" هي أولى السفن التي أبحرت من جزيرة "أسنشن" إلى جنوب الأطلسي، فقد تلقى رير أدميرال "وودوارد" أوامر القائد العام للعملية بدفع وحداته الرئيسية ـ قبل وصول حاملتي الطائرات ـ لاتخاذ أوضاعها في منطقة تبعد ألف ميل عن كل من "بوينس أيرس" و"جورجيا الجنوبية" و"بورت ستانلي". وفي 14 أبريل وصلت مجموعة القتال السابقة إلى الموقع المحدَّد لها، في الوقت الذي استمر فيه تدفق السفن الحربية والتجارية المعبأة التي تمَّ تجهيزها على جزيرة "أسنشن".
وفي السابع عشر من أبريل وصلت السفينة "فيرلس" إلى "أسنشن" بعد يوم واحد من وصول حاملة الطائرات "هيرمس" إلى الجزيرة، وفي ذلك اليوم عُقد مؤتمرٌ بقاعة التلقين بالحاملة حضره الأدميرال "فيلد هاوس" واير مارشال "كيرتس" والميجور جنرال "مور" الذين طاروا من "نورث وود" لتلقين القادة المشاركين في العملية والاستماع إلى ملاحظاتهم والرد على استفساراتهم، وحضر ذلك المؤتمر نحو مائة ضابط من القادة وضباط الأركان، كان على رأسهم رير أدميرال "وودوارد" قائد أسطول قوة الواجب والبريجادير "طومسون" قائد لواء مشاة البحرية الثالث والكومودور "كلاب" قائد مجموعة سفن الإبرار.
وفي ذلك المؤتمر أوضح الأدميرال "فيلد هاوس" للقادة والضباط الحاضرين الهدف من العملية مشيراً إلى أن وزارة الحرب اتخذت قراراً باستعادة جزر "فوكلاند" بالقوة مهما كان الثمن إذا فشلت الجهود الدبلوماسية الجارية، كما أوضح للحاضرين أن الخطة العامة للعملية تقضي بانقسام القوات المخصصة للعملية إلى خمس مجموعات منفصلة لتحقيق الأهداف الأربعة الرئيسية التالية:
1. فرض الحصار البحري حول جزر "فوكلاند".
2. استعادة جزيرة "جورجيا الجنوبية" (سوث جورجيا).
3. تحقيق السيطرة الجوية والبحرية على منطقة العمليات.
4. استعادة جزر "فوكلاند".
ثم انتقل الأدميرال "فيلد هاوس" للمرحلة التالية، فأشار إلى ضرورة تحرك مجموعة القتال الرئيسية جنوباً لفرض الحصار والاستعداد لبدء المعركة الجوية والبحرية والقيام بعمليات الاستطلاع الضرورية.
وفي اليوم التالي للمؤتمر، 18 أبريل، أبحرت مجموعة القتال الرئيسية بقيادة رير أدميرال "وودوارد" إلى منطقة العمليات جنوب الأطلسي، بينما بقيت مجموعة الإبرار في "أسنشن" لاستكمال التخطيط والتحضير لحين وصول باقي قوات الإبرار إلى الجزيرة. وفي التاسع عشر من أبريل كان هناك ثلاث عشرة سفينة قتال وأربع سفن إمداد تمخر عباب المحيط إلى جنوب الأطلسي بعيداً عن جزيرة "أسنشن" في ثلاثة تشكيلات منفصلة، قامت بتغطيتها خلال المرحلة الأولى من رحلتها طائرات السرب 42 من طراز "نمرود Nimord" لاستطلاع المناطق المحيطة بخط سيرها.
وفي اليوم نفسه، أبحرت إلى "أسنشن" فرقاطتان حديثتان هما "أرجنوت Argonaut" و"أردنت Ardent" لتنضما إلى سفن الإبرار والاقتحام في الجزيرة وتشكل معها المجموعة البرمائية، التي كان كان عليها الإبحار إلى الجنوب والانضمام إلى مجموعة القتال الرئيسية فور وصول باقي قوات الإبرار إلى "أسنشن". كما أبحر من جبل طارق إلى الجنوب سفينة الركاب "أوغندا Uganda" بعد تجهيزها كسفينة مستشفى، وأبحر في أعقابها سفن المساحة الثلاث "هكلا Hecla" و"هيرالد Herald" و"هيدرا Hydra" المجهزة بأسطح لهبوط وإقلاع الطائرات العمودية، أمّا القسم الأخير من قوة الواجب فلم يبحر حتى 26 أبريل.
فعلى ضوء متابعة القيادة البريطانية لتطور أعداد القوات الأرجنتينية في "فوكلاند" قرَّرت دعم مشاة البحرية في قوة الواجب بكتيبة المظلات الثانية، ليصبح إجمالي كتائب قوة الإبرار خمس كتائب منها كتيبتا مظلات، بالإضافة إلى بطارية مدفعية ميدان، والسرب التاسع مهندسي مظلات، ورف طائرات عمودية من طيران الجيش مزود بثلاث طائرات استطلاع عمودية، ووُضعت كل عناصر الدعم البرية السابقة تحت قيادة البريجادير (العميد) "طومسون" قائد اللواء الثالث، وبذلك ظلَّت قيادة القوات البحرية تسيطر على كل عناصر قوة الواجب.
وفي السادس والعشرين من أبريل أبحرت الكتيبة الثانية مظلات ومعظم أفراد وحدات الدعم الأخرى على متن العبَّارة "نورلاند"، بينما أبحرت المعدات الثقيلة والمدافع والطائرات العمودية على متن العبَّارة "أوربك فيري" لينضم الجميع على المجموعة البرمائية في "أسنشن".
وفي الوقت الذي كان يجري فيه حشد القوات والسفن السابقة في جزيرة "أسنشن" كان الاهتمام مركزاً على مجموعة القتال الرئيسية التي التفت حول حاملتي الطائرات، والتي اتخذت وجهتها نحو الجنوب الغربي قاطعة أكثر من أربعة آلاف ميل (أكثر من 6436 كم) خلال اثني عشر يوماً، حرصت فيها على الابتعاد عن ساحل الأرجنتين بنحو ستمائة ميل (965 كم)، وخلال الرحلة البحرية الطويلة كانت طائرات النقـل من طراز "سي ـ130" تقوم بإسقاط الإمدادات والبريد العاجل للتشكيلات البحرية.
ومنذ الحادي والعشرين من أبريل واظبت طائرة أرجنتينية من طراز "بوينج 707" على متابعة مجموعة القتال الرئيسية ورصد مواقعها بدقة وإبلاغها لقيادتها في "بوينس أيرس". وفي بعض المرات أقلعت مقاتلات "سي هارير"لإبعادها عن مسار التشكيل البحري من دون أن تطلق عليها النار، حيث كانت التعليمات الصادرة إليها تقضي بعدم فتح النار على الطائرات غير المسلحة حتى يوم 25 أبريل، وبعد أن تمَّ إنذار الأرجنتين لإبعاد طائراتها عن مسار التشكيل البحري، بدأت الطائرة تحافظ على مسافة كبيرة بينها وبين التشكيل البحري، وإن استمرت في عملية المتابعة.
وحتى وصول مجموعة القتال الرئيسية في الأول من مايو إلى منطقة الحظر الكلي المفروضة حول جزر "فوكلاند"، لم يعكر صفو الرحلة البحرية الطويلة سوى سوء حالة الطقس المتقلب وفقد الحاملة "هيرمس" لإحدى طائراتها العمودية من طراز "سي كنج 4"" نتيجة لفقد الطيار اتجاهه عندما ساءت الرؤية أثناء إحدى عمليات النقل من سفن الإمداد المصاحبة لمجموعة القتال الرئيسية يوم 23 أبريل.
وخلال الرحلة إلى منطقة الحظر الكلي انضمت مجموعة القتال الأولى ـ التي أبحرت مبكرةً من "أسنشن" إلى جنوب الأطلسي ـ إلى المجموعة الرئيسية، ثم انضَّم إلى المجموعتين الفرقاطتان "بلايموث" و"برليانت" في وقت لاحق بعد استعادة جزيرة "جورجيا الجنوبية". وبوصول مجموعات القتال الثلاثة متتابعة إلى منطقة الحظر الكلي اعتباراً من مساء أول مايو اتخذت سفن هذه المجموعات أوضاعها في المنطقة استعداداً لتنفيذ مهامها القتالية، بعد أن وِسَّعت الحكومة البريطانية نطاق الحظر في اليوم السابق ليشمل جميع الطائرات والسفن مهما كانت جنسيتها.
وحتى ذلك التاريخ كانت القوات التي خُصِّصت للعملية "كوربوريت" قد بلغت الحجم التالي:
1. 20 سفينة قتال بما فيها الكاسحة "انديورنس".
2. 8 سفن إنزال.
3. نحو أربعين من السفن المعاونة (كان بعضها تابع للقوات البحرية والبعض الآخر من السفن المعبأة والمستأجرة).
4. نحو 15 ألف فرد (منهم نحو 7000 من مشاة البحرية والقوات البرية والقوات الخاصة).
أمّا بالنسبة إلى الطائرات والطائرات العمودية التي خُصِّصت للعملية، فبالإضافة إلى العشرين طائرة "سي هارير" المحمولة على متن الحاملتين "إنفنسبل" و"هيرمس"، انتشرت عدة وحدات من الطائرات العمودية على متن سفن الواجب على النحو التالي:
1. طائرات عمودية "سي كنج Sea King"
خمس طائرات طراز “HAS.2” تابعة للسرب 828 تمركزت على متن السفينة "فورت جرانج Fort Grange" وناقلة البترول "أولميدا Ogmeda"، بالإضافة إلى عشر طائرات عمودية من الطراز نفسه تابعة للسرب 825 نُقلت على متن سفينة الحاويات "أتلانتك كوزواي Atlantic Causeway". كما تمركزت أربع عشرة طائرة عمودية طراز “HC.4” من السرب 846 على متن حاملة الطائرات "هيرمس" وسفينة الاقتحام "فيرلس"، وتسع طائرات عمودية طراز “HAS.5” من السرب 820 فوق الحاملة "أنفنسبل"، فضلاً عن تسعة أخرى من السرب 626 فوق الحاملة "هيرمس".
2. طائرات عمودية "ويسكس Wessex"
طائرتان عموديتان طراز “HAS. 3” من السرب 737 إحداهما على المدمرة "أنتريم Antrim" والثانية على المدمرة "جلامورجان Glamorgan"، كما نُقلت ست عشرة من طراز “HU. 5” من السرب 845 على متن سفينة الحاويات أتلانتك كوزواي" والسفينة "انجادين Engadine"، بالإضافة إلى 12 طائرة عمودية من السرب 848 على متن سفينة الحاويات "أتلانتك كنفيور Atlantic Conveyor" وبعض السفن الأخرى.
3. طائرات عمودية "لينكس Lynx"
اثنتان وعشرون طائرة طراز “HAS. 2” من السرب 815 على متن بعض المدمرات والفرقاطات.
4. طائرات عمودية "واسب Wasp"
إحدى عشرة طائرة عمودية على متن بعض الفرقاطات وبعض سفن الشحن، فضلاً عن كاسحة الجليد "انديورنس".
5. طائرات الجيش العمودية
بالإضافة إلى الطائرات السابقة التابعة لطيران البحرية تضَّمنت قوة الواجب ست طائرات عمودية "سكاوت Scout" طراز “AH. 1”، واثنتي عشرة طائرة "جازيل Gazelle" طراز “AH. 1” تابعة للواء مشاة البحرية الثالث.
ولم تكن الطائرات والطائرات العمودية السابقة هي كل ما دفعت به قيادة العملية إلى جنوب الأطلسي. فبالنسبة إلى الطائرات أقلعت اثنتا عشرة طائرة استطلاع بحري بعيد المدى من طراز "نمرود" التابعة للقوات الجوية يوم 12 أبريل من قواعدها في الجزر البريطانية إلى جزيرة "أسنشن"، وبعد أسبوع أعلنت قيادة القوات الجوية أنه سيتم دفع بعض القاذفات من طراز "فولكان" المتبقية إلى الجزيرة نفسها.
رابعا: دعم قوة الواجب
1. الدعم الجوي
بمضي الوقت من دون أن تظهر بادرة على استعداد الأرجنتين للانسحاب من جزر "فوكلاند" أو التوصل إلى تسوية سلمية، بدأت القيادة البريطانية تشعر أن لواء الكوماندوز الثالث والسفن والطائرات التي تدعمه لن تكون كافية وحدها لاتمام عملية استعادة جزر "فوكلاند"، بعد أن دُعمت القوات الأرجنتينية في تلك الجزر، وأن الأمر يحتاج إلى دعم قوة الواجب لتمكينها من تنفيذ مهمتها بنجاح.
وفي ظل التفوق الجوي الأرجنتيني في ميزان القوى الجوية، كان أكبر ما تحتاجه قوة الواجب من دعم هو الطائرات. ولما لم يكن هناك أسراب إضافية من طائرات "سي هارير" لدفعها إلى جنوب الأطلسي، فقد بدأ تشكيل سرب بحري جديد من ذلك الطراز هو السرب 809، الذي اُستحضرت طائراته من التخزين، وجرى تطقيمه بالطيارين الذين سبق لهم الطيران على ذلك الطراز بعد استدعائهم من مناطق مختلفة، وبنهاية شهر أبريل كان هناك ثماني طائرات "سي هارير" من السرب الجديد في طريقها إلى جزيرة "أسنشن" بعد تزويدها بالوقود جواً عدة مرات، ثم غادرتها لتستقر فوق سفينة الحاويات "أتلانتك كونفيور Atlantic Conveyor"، التي كانت قد أبحرت من إنجلترا يوم 23 أبريل.
وأضافت القوات الجوية دعماً جديداً تمثَّل في أربع عشرة طائرة من السرب الأول المزود بطائرات "هارير GR-3" المقاتلة القاذفة، لاستيعاض الطائرات المقاتلة من طراز "سي هارير" التي كان من المنتظر فقدها في القتال، وسرعان ما تمَّ تجهيز هذه الطائرات للعمل من فوق الحاملات، وتزويدها بصواريخ جو/ جو من طراز "سايدوندر Sidewinder"، ودُفع تسعٌ منها في الخامس من مايو إلى جزيرة "أسنشن" بعد اختبارها في القتال الجوي المكثَّف، أعقبها الخمس طائرات الباقية في نهاية ذلك الشهر.
وبالإضافة إلى الطائرات السابقة، كانت هناك حاجة ماسة إلى مزيد من الطائرات العمودية، وخاصة طائرات النقل العمودية، التي طلبها قائد اللواء الثالث من الأدميرال "فيلد هاوس" في اجتماع يوم 17 أبريل، ومن ثمَّ شكلت قيادة طيران البحرية من آخر الطائرات العمودية المتوفرة لديها في وحدات التدريب السربين 847 و848 المزودين بأربع عشرة طائرة عمودية من طراز "وسكس"، والسرب 825 المزَّود بتسع طائرات عمودية "سي كنج" المضادة للغواصات، وجرى تطقيم هذه الأسراب بالمدرسين والطيارين الذين كان يجري تدريبهم في وحدات التدريب، كما أضافت القوات الجوية خمس طائرات نقل عمودية ضخمة من طراز "شينوك Shinook" إلى الدعم السابق.
ولمّا كانت الحاملتان "هيرمس" و"إنفنسبل" هما الوحيدتين المتيسرتين للبحرية البريطانية في ذلك الوقت، فقد شكل نقل طائرات الدعم السابقة إلى منطقة العمليات مشكلة للقيادة البريطانية، إلاّ أنها سرعان ما وجدت الحل لتلك المشكلة في سفينتي الحاويات الكبيرتين "أتلانتك كنفوير Atlantic Conveyor" و"أتلانتك كوز واي Atlantic Causeway"، اللتين كانتا في حجم حاملة الطائرات "أنفنسبل".
وعندما توصَّلت القيادة البريطانية إلى هذا الحل كانت السفينة الأولى راسية في نهر "فال" من دون عمل، فتمَّ تحريكها إلى "ديفونبورت حيث حُملت بكميات كبيرة من مخزونات الجيش في عنابر الشحن السفلية، بينما أصبح سطحُها العلويُّ مُعدَّا لاصطفاف الطائرات مع حمايتها من تقلبات الطقس بصف من صناديق الحاويات، وقد اتخذت ست طائرات عمودية "وسكس" من السرب 848، وخمس طائرات عمودية "شينوك" تابعة للقوات الجوية مكانها على سطح هذه السفينة التي أبحرت في الخامس والعشرين من أبريل إلى جزيرة "أسنشن"، حيث أُنزلت إحدى طائرات "الشينوك" للعمل في الجزيرة وحُملت بست طائرات "هارير GR-3" من السرب الذي وصل جواً تاركة الطائرات الثلاث الباقية من ذلك السرب في "أسنشن" مؤقتاً لعدم وجود أماكن لها على متن تلك السفينة.
2. الدعم البري
ومع تلقي القيادة العامة للعملية "كوربوريت" أنباء الدعم البري المتزايد للقوات الأرجنتينية في فوكلاند، قرر مجلس الحرب يوم 25 أبريل ـ بناءًا على طلب الأدميرال "فيلد هاوس" ـ دفع لواء مشاة كامل مع أسلحته المعاونة إلى جنوب الأطلسي مع عدم المساس بالقوات البريطانية في حوض الراين في ألمانيا، ولما كان اللواء الخامس المشاة غير تابع لحلف "الناتو" فقد استقر عليه الاختيار لعملية الدعم البري، ونظراً إلى أأنَّ كتيبتين من كتائبه الثلاث (الثانية والثالثة مظلات) قد تَّم دفعهما فعلاً ضمن قوة الواجب الأصلية ولم يبق باللواء سوى أكبر كتائبه1/7 جوركاز (720 فرداً)، فقد قرَّرت قيادة القوات البرية استكمال قوة اللواء المطلوبة بواسطة كتيبتين من الحرس الملكي، وقد استغرق تجميع هذا اللواء وإعداده لمهمته في "فوكلاند" نحو ثلاثة أسابيع، حتى أن بعض القادة قدّر أن الحرب قد تنتهي قبل وصوله إلى منطقة العمليات.
وقد بلغ عدد قوات هذه الموجة من الدعم نحو 3200 فرد من القوات البرية، وبذلك بلغ إجمالي ما خُصِّص للعملية "كوربريت" من تلك القوات ومشاة البحرية نحو 10500 فرد تشكل ثماني كتائب مشاة، وبعض الوحدات الفرعية الخاصة قوامها نحو 1300 فرد.
وبدفع اللواء الجديد إلى المنطقة أصبحت هناك حاجة إلى قائد بري جديد غير قائد اللواء الثالث ليقود القوة البرية المشتركة في العملية ـ بعد أن بلغ حجمها ما يقرب من فرقة مشاة من القوات البرية ومشاة البحرية والوحدات الخاصة ـ ومن ثمَّ عُيِّن الميجور جنرال "جيرمي مور" قائد قوات الكوماندوز ـ الذي كان يعمل مساعداً للأدميرال "فيلد هاوس" للقوات البرية ـ قائداً لتلك القوات، كما عُيِّن البريجادير (العميد) "جون ووترز John Waters" من القوات البرية نائباً له.
ولنقل قوات موجة الدعم الجديدة إلى منطقة العمليات استدعى الأمر استئجار سفينة الركاب الضخمة "كوين إليزابيث الثانية Queen Elizabeth 2" لنقل الأفراد، وهو ما كان يُكلف الخزانة البريطانية مليون جنيه إسترليني كل أسبوع، علاوةً على السبعمائة ألف جنيه تكلفة استئجار السفينة "كانبرا"، بينما نقلت الأسلحة المعدات على متن السفينتين "بلتك فيري Baltic Ferry" و"نوردك فيري Nordic Ferry" اللتين أبحرتا في التاسع من مايو وتبعتهما السفينة "كوين اليزابيث الثانية" بعد ثلاثة أيام.
3. الدعم البحري
ولم يقتصر دعم الموجة الثانية على الوحدات الجوية والبرية السابقة، حيث اشتملت تلك الموجة أيضاً على عشر سفن سطح هي حاملة الطائرات الجديدة "الستريوس Illustrious" التي لم ُيْكتَبْ لها المشاركة في الحرب (لوصولها بعد انتهائها) وتسع مدمرات وفرقاطات هي المدمرة "بريستول Bristol" ـ التي جُهزت بنظام مواصلات أمريكي متطور لتعمل كسفينة قيادة تبادلية للحاملة "هيرمس" ـ والمدمرتين "اكستر Exter" و"كارديف Cardiff"، والفرقاطتين "أكتف Active" وأفنجر Avenger" ـ اللتين كانتا أسرع السفن السابقة وصولاً إلى منطقة العمليات ـ بالإضافة إلى الفرقاطات "أندروميدا Andromeda" و"مينرفا Minervy" و"بينلوبي Penelope" و"أمبوسكيد" Ambusced"، كما شملت تلك الموجة على ثلاث غواصات إضافية هي "كوراجس Courageous" و"فاليانت Valiant" و"أونكس Onyx".
4. إجمالي قوة الواجب بعد موجات الدعم
بنهاية موجات الدعم السابقة، كانت قوة الواجب تحت قيادة الأدميرال "فيلد هاوس" قد بلغت الحجم التالي:
أ. القوة البشرية (أُنظر جدول القوات البرية للجانبين (الوحدات التي شاركت في الحرب))
نحو 25 ألف فرد من كافة التخصصات البرية والبحرية والجوية.
ب. السفن
أكثر من مائة سفينة حربية وتجارية، منها 33 سفينة قتال على النحو التالي:
(1) ثلاث حاملات طائرات.
(2) 24 مدمرة وفرقاطة.
(3) ست غواصات نووية وتقليدية.
ج. الطائرات والطائرات العمودية[2] (أُنظر جدول الخصائص التكتيكية للطائرات والطائرات العمودية البريطانية التي شاركت في الحرب)، و (جدول القوات الجوية للجانبين (الطائرات التي شاركت في الحرب))
نحو مائتي وخمسين طائرة وطائرة عمودية، منها ثلاثٌ وأربعون طائرَة قتالٍ هي:
(1) 29 طائرة مقاتلة من طراز "سي هارير".
(2) 14 طائرة مقاتلة قاذفة من طراز "هارير GR-3".


[1] كانت طائرات النقل من طراز بةينج 707 (التابعة للخطوط الجوية) وسي -130 هي الطرازات المتاحة للأرجنتين من أجل الاستطلاع البحري على مسافات بعيدة في عرض البحر.


[2] لا يدخل في هذه الأعداد طائرات أسراب القوات الجوية التي شاركت في مجهود العملية كوربوريت من قواعدها في بريطانيا وجزيرة أسنشن وهي: أسراب الاستطلاع البحري أرقام 40، 51، 120، 201، 206 المزودة بطائرات نمرود سرب الاستطلاع بالصور رقم 39 المزود بطائرات كانبرا، سرب المقاتلات رقم 29 المزودة بطائرات فانتوم للدفاع الجوي عن جزيرة أسنشن، أسراب القاذفات أرقام 44، 50، 101 المزودة بطائرات فولكان، أسراب النقل أرقام 24، 30، 47، 70 المزودة بطائرات سي 130، سرب النقل رقم 10 المزود بطائرات في سي-10 VC10، سريا إعادة الملأ جواً رقمي 55، 57 المزودان بطائرات صهاريج من طراز فيكتور Victor K2، سرب طائرات النقل العمودية الرقم 202 المزود بطائرات سي كنج.
 
رد: حرب جزر فوكلامد بين بريطانيا والارجنتين عام 1982

المبحث الخامس
أعمال قتال الجانبين خلال المرحلة الافتتاحية للحرب
أولاً: عام (أُنظر خريطة مسرح حرب فوكلاند)
على الرغم من أن مشكلة فوكلاند كانت تخص في ظاهرها مباشرة المصالح البريطانية والأرجنتينية فقط، إلاّ أنها جذبت اهتمام القوتين العظميين، فبدأت أقمار التجسس الأمريكية في تزويد القيادة البريطانية بما تحصل عليه من معلومات عن تحركات القوات الأرجنتينية أولاً بأول، بما في ذلك التعليمات التي تصدرها قيادة الأخيرة إلى وحداتها في عرض المحيط، وعلى الجانب الآخر قامت أقمار التجسس وطائرات الاستطلاع السوفيتية بعيدة المدى المتمركزة في "كوبا" و"أنجولا" بجمع المعلومات عن تحركات القوات البريطانية ومواقعها وإرسالها إلى القيادة الأرجنتينية بعد التقارب الفجائي بين البلدين في أعقاب صدور قرار مجلس الأمن الذي أدان الغزو الأرجنتيني للجزر.
وفي الوقت الذي كانت فيه القيادة البريطانية تحشد قواتها جنوب الأطلسي، رفعت القيادة الأرجنتينية بدورها استعداد قواتها وعبأت احتياطياتها، وبدأت في تجهيز أسطولها وتزويده بالمؤن والذخائر بالقدر الذي يكفي عشرين يوماً من القتال.
وفي 14 أبريل، عقد مجلس العموم البريطاني اجتماعاً طارئاً أعلنت فيه رئيسة مجلس الوزراء الخطوات الدبلوماسية التي تخطوها لحل الأزمة سياسيا في الوقت الذي كان يجري فيه حشد وتدعيم قوة الواجب لتوفير خيار عسكري ملائم إذا فشلت الجهود السياسية.
وابتداءً من منتصف أبريل كانت قوة الواجب البريطانية تحت المراقبة المستمرة لطائرات الاستطلاع السوفيتية وطائرات البوينج الأرجنتينية. وعلى الجانب الآخر بدأت طائرات "نمرود" البريطانية من جزيرة "أسنشن" دورياتها الاستطلاعية لمراقبة نشاط الأسطول الأرجنتيني جنوب الأطلسي. وفي ليلة 20/21 أبريل قامت طائرات الاستطلاع الإلكتروني من طراز "فكتور XL 192" من السرب 57 بتنفيذ طلعة استطلاع راداري بعيد المدى للمسرح البحري مَسَحت خلالها 7000 ميل مربع (11263 كم2) خلال ما يقرب من خمس عشرة ساعة من الطيران المستمر، ساندها خلالها أربع طائرات "فكتورK2 " لإعادة الملء بالوقود أثناء الطيران.
في الوقت الذي كانت فيه مجموعة القتال التي دفعها الأدميرال "فيلدهاوس" مبكرا ـ لاسترجاع جزيرة "جورجيا الجنوبية" تقوم بأعمال قتالها في تلك الجزيرة كانت مجموعات القتال الأخرى لقوة الواجب تقترب من منطقة عملياتها. وما أن دخلت وحدات تلك القوة في مدى عمل طائرات القتال الأرجنتينية، حتى بدأت أسراب القتال البريطانية على ظهر حاملتي الطائرات أعمال الدوريات الجوية على طرق الاقتراب إلى مجموعات قوة الواجب لصد أي محاولة من طائرات القتال الأرجنتينية للاقتراب من السفن البريطانية.
ثانياً: أعمال القتال الافتتاحية للجانبين في منطقة "فوكلاند"، الأول من مايو، (أُنظر شكل القتال للجانبين 1 مايو)
بدأ العدُّ التنازليّ لشن الحرب قبل أن يعلن "الكسندر هيج" رسمياً في الثلاثين من أبريل فشل وساطته لحل المشكلة سياسيا، فما أن تم إبلاغ الحكومة البريطانية برفض المجلس العسكري الحاكم في الأرجنتين لمقترحات "هيج" الأخيرة حتى أرسل الأدميرال "فيلد هاوس" إلى قائد قوة الواجب في جنوب الأطلسي أمراً إنذارياً بالاستعداد للحرب اعتباراً من منتصف ليلة 29 أبريل، إلاّ أنه إزاء تأخر قوة الواجب في اتخاذ أوضاعها داخل منطقة العمليات بسبب سوء الأحوال الجوية أثناء الرحلة البحرية، وعدم إعلان "هيج" رسمياً عن فشل جهود وساطته إلاّ يوم 30 أبريل تأجل الموعد المحدد لبدء القتال.
وكانت الخطة البريطانية تقضي القيام بمجموعة من أعمال القتال البحرية والجوية في منطقة جزر "فوكلاند" وما حولها لمدة تصل إلى أسبوعين بهدف دفع القوات البحرية والجوية الأرجنتينية إلى القتال حتى يمكن هزيمتها وتحقيق السيطرة الجوية والبحرية في منطقة العمليات قبل القيام بعمليات الإبرار، كما كان هذان الأسبوعان من القتال يهدفان إلى الضغط على القيادة الأرجنتينية من ناحية وإتاحة المزيد من الوقت للحلول السياسية من أجل انسحاب القوات الأرجنتينية من ناحية أخرى.
وإزاء قصور إمكانات الإنذار الجوي المتاحة لقوة الواجب وقلة أعداد المقاتلات التي تصاحبها على متن حاملتي الطائرات، اقتضت خطة العملية توفير الحماية الجوية لتلك القوة في منطقة العمليات بمجموعة مختلطة من أعمال قتال الدفاع الجوي بالمقاتلات والصواريخ والمدفعية المضادة للطائرات، مع شن سلسلة من الهجمات الجوية والقصف البحري والإغارات البرية (بالقوات الخاصة المحمولة بالطائرات العمودية) على المطارات ووسائل الدفاع الجوي في جزر "فوكلاند".
أمّا على الجانب الأرجنتيني، فإنه إزاء الضعف النسبيّ للوحدات الجوية التي أمكن تمركزها في مطارات "فوكلاند"، وعودة حاملة الطائرات 25 مايو إلى قاعدتها على أثر بعض الأعطال الفنية بعد أقل من أسبوعين من وصول قوة الواجب، كان على القيادة الأرجنتينية الاعتماد أساسا على أسراب القتال ـ التي أعادت تمركزها في المطارات الجنوبية للوطن الأم ـ لصد أي محاولة إبرار بريطانية على شواطئ فوكلاند. ولما كانت الجُزر المستهدفة تقع على أقصى مدى عمل لطائرات تلك الأسراب، فإن ذلك كان يعني أنه لن يكون هناك وقتٌ أمام طياري القتال للبحث عن الأهداف البرية الصغيرة والمتحركة لتدميرها بعد الإبرار، وعلى ذلك قرَّرت القيادة الأرجنتينية تركيز جهودها الرئيسية ضد السفن البريطانية لإحباط عملية الإبرار أو تكبيد البريطانيين من الخسائر ما يجبرهم على الانسحاب أو التفاوض.
وما أن أعلن وزير الخارجية الأمريكية فشل جهود الوساطة، بدأت تشكيلات قوة الواجب في اتخاذ أوضاعها داخل منطقة العمليات، حتى وصل إلى جزيرة "أسنشن" مساء 30 أبريل تعليمات ايرمارشال "كيرتس" قائد الوحدات الجوية المخصَّصة للحملة التي يأمر فيها ببدء أعمال القصف الجوي للعملية "بلاك بك واحد Black Buck One " [1] في الساعة 700 صباح الأول من مايو بتوقيت "جرينتش" (300 بتوقيت فوكلاند)، وكان قد وصلت إلى الجزيرة في اليوم السابق قاذفتان من طراز "فولكان" من السرب 101 لتنفيذ هذه المهمة، وعلى الرغم من المدى الكبير لقاذفات "فولكان" فإنها كانت غير قادرة على الوصول إلى جزر "فوكلاند" وتنفيذ مهمتها والعودة إلى "أسنشن" ـ قاطعة نحو ثمانية آلاف ميل (12872 كم) ـ من دون التزود بالوقود في الجو عدة مرات، ومن ثم كان هناك في انتظارها في الجزيرة عددٌ من طائرات "فكتور K2" لتزويدها بالوقود خلال الرحلة الجوية.
وفي الموعد المحدَّد أقلعت إحدى القاذفتين لقصف مطار "ستانلي" إلاّ أنها سرعان ما عادت بعد بضع دقائق لخلل في الطائرة، فحلَّت محلها الطائرة الثانية على الفور، وفي الساعة 0130 صباح الأول من مايو بتوقيت جرينتش (1030 مساء 30 أبريل بتوقيت فوكلاند) بينما كانت القاذفة الثانية في طريقها إلى منطقة العمليات جنوب الأطلسي كانت مجموعة القتال الرئيسية بقيادة رير ادميرال "ساندي وودوارد" تعبر حدود منطقة الحظر الكلي على مسافة مائتي ميل من جزر "فوكلاند"، تسبقها بنحو ساعة مدمرات المقدمة للحلقة الخارجية للتشكيل البحري التي تكونت ومن المدمرات طراز 42 بينما اتخذت مدمرات الدفاع الجوي المسلحة بصواريخ "سي وولف" محلاتها على أجناب حاملتي الطائرات "انفنسبل" و"هيرمس"، وبالقرب منها مدمرات وفرقاطات الخدمة العمومية، أمّا المدمرات المسلحة بصواريخ "سي دارت" المضادة للطائرات فقد اتخذت محلاتها على مسافة عشرين ميلاً (32 كم) في المقدمة ناحية الاتجاه الأكثر تهديداً من طائرات القتال الأرجنتينية.
وكان على هذه المجموعة اتخاذ أوضاع القتال في محلاتها قبل انبلاج صبح الأول من مايو، فبعد القصف الليلي لمطار "ستانلي" بواسطة طائرة "الفولكان"، كان على السرب 800 "سي هارير" المتمركز على متن الحاملة "هيرمس" توجيه الضربة الثانية ضد مطاري "ستانلي" و"جوس جرين" بطائراته الاثنتي عشرة مع أول ضوء ذلك اليوم، بينما كان على الحاملة "انفنسبل" برادارها الحديث وطائراتها الثماني من طراز "سي هارير" القيام بمهام الدفاع الجوي عن التشكيل البحري، وعمل مظلة جوية لتغطية ذلك التشكيل بالتعاون مع عناصر الدفاع الجوي الأخرى على متن باقي السفن (الصواريخ والمدفعية المضادة للطائرات).
وفي الوقت الذي كانت فيه حاملتا الطائرات تقتربان حتى 70 ميلاً (113 كم) من جزر "فوكلاند"، كانت قاذفة "الفولكان" في خط اقترابها النهائي من مطار "ستانلي" بعد رحلة طويلة قطعت فيها نحو أربعة آلاف ميل في ما يزيد على ست ساعات، قام فيها عددٌ من طائرات "فكتور K2 " بإعادة تزويدها بالوقود عدة مرات، وفي نحو الساعة 0340 صباح الأول من مايو، ألقت القاذفة البريطانية إحدى وعشرين قنبلة زنة كل منها ألف رطل (454 كيلوجراماً)، فأصابت إحداها المدرج الوحيد بالمطار، وأحدثت باقي القنابل أضراراً في الطائرات الجاثمة على الأرض، فضلاً عن تدمير بعض منشآت المطار.
ومع أول ضوء الأول من مايو، اتَّخذت ست طائرات "سي هارير" من الحاملة "انفنسبل" محلاتها في المظلة الجوية لحماية التشكيل البحري، بينما أقلعت الموجة الأولى من القوة الضاربة (4 طائرات سي هارير) من الحاملة "هيرمس" متوجهة نحو مطار "ستانلي" لاسكات وسائل الدفاع وشل محطة الرادار التي كان يُعتقد أنها تتخذ مواقعها على تلي "كانوبص Canopus" و"ماري Mary" غرب المطار، وعند وصولها إلى أهدافها قام التشكيل بالهجوم عليها باستخدام أسلوب القذف أثناء التسلق (Toss-Bombing) حيث ألقت كل طائرة ثلاث قنابل زنة كل منها ألف رطل (454 كيلوجراماً) على الهدف المخصص لها، انفجر أغلبها على الفور بينما تبقت بعض القنابل الزمنية لتنفجر في أوقات لاحقة.
وفي أعقاب الموجة الأولى، اقتربت الموجة الثانية (5 طائرات سي هارير) لقصف المطار نفسه، حيث قامت أربع منها بقصف الطائرات في منطقة الانتظار، ومخازن الوقود والذخيرة بقنابل المستودعات “Cluster Bombs"، بينما قامت الطائرة الخامسة بقصف المدرج بقنابل البارشوت الفرملية.
وفي الوقت الذي كان يجري فيه الهجوم على مطار "ستانلي"، توجه تشكيل آخر من ثلاث طائرات "سي هارير" من السرب نفسه للهجوم على المطار العشبي في "جوس جرين"، حيث قامت طائرتان بإلقاء قنابل المستودعات، بينما قامت الثالثة بإسقاط قنابل الألف رطل وأدَّى الهجوم البريطاني على المطارين في هذا اليوم إلى وضعهما خارج الخدمة بعض الوقت، بالإضافة إلى تدمير ثلاث طائرات "بوكارا" وقتل أحد الطيارين في "جوس جرين"، في الوقت الذي عادت فيه جميع طائرات السرب 800 إلى حاملتها سالمة.
ولم تقتصر أعمال القتال البريطانية في ذلك اليوم على القصف الجوي للمطارين، فبعد عشر دقائق من سقوط أول قنبلة على مطار "ستانلي" انفصلت خمس سفن عن مجموعة العمليات الرئيسية واتخذت وجهتها نحو شواطئ "فوكلاند" في مجموعتين، الأولى مشكَّلة من المدمرة "جلامورجان" والفرقاطتين "أرو" و"الكريتي"، وكُلفت بالعمل كمجموعة نيران لقصف ستة أهداف حول "ستانلي"، والثانية مُشكلة من المدمرة "برليانت" والفرقاطة "يارموث" يعاونهما ثلاث طائرات عمودية "سي كنج" من الحاملة "هيرمس"، وكُلفت بمسح المنطقة شمال "ستانلي" بنحو 20 ميلاً (32 كم) بحثاً عن الغواصة الأرجنتينية التي يُشك أنها في تلك المنطقة، وتدميرها.
وكانت مجموعة البحث عن الغواصة هي الأسرع في الوصول إلى المنطقة المحددة لها، حيث انضمت إليها الطائرات العمودية "سي كنج" الثلاث. وسرعان ما ظهرت ثلاث طائرات أرجنتينية طاردتها طائرتا "سي هارير" بعيداً عن السفن، بينما استمرت عملية البحث التي استغرقت طوال اليوم، ممَّا دعا الطائرات العمودية "سي كنج" إلى إعادة التزود بالوقود من السفينتين عدة مرات، وفي النهاية تمَّ اكتشاف مكان الغواصة فانهمرت عليها قنابل الأعماق من السفينتين والطائرات العمودية حتى طفا على السطح بقعة كبيرة من البترول تشير إلى إصابة الغوَّاصة، فأملَ المهاجمون أن تكون قد غرقت.
أمّا بالنسبة إلى مجموعة النيران، فقد بدأت مهمتها في قصف أهدافها الستة في منتصف نهار ذلك اليوم، حيث قامت السفن الثلاث بقصف منطقة انتظار الطائرات في مطار "ستانلي" بمدافعها عيار 4.5 بوصة، ثم حَّولت مدافعها بعد ذلك إلى عدد من الأهداف الفردية (الطريق بين "ستانلي" والمطار، محطات الرادار، مواقع المدفعية الساحلية شمال وجنوب "ستانلي).
ويبدو أن القيادة الأرجنتينية قدَّرت أن القصف البريطاني للمطارين وحول "ستانلي" هو مقدمة لغزو وشيك، حيث بدأت أسراب القتال الأرجنتينية سلسلة من الطلعات ابتداءً من الساعة العاشرة صباح ذلك اليوم، بلغت ستاً وخمسين طلعةً، وُجهت ضد السفن البريطانية في المنطقة كلِّها، إلاّ أنها لم تكتشف إلاّ القليل منها، وشارك في تنفيذ هذه الطلعات طائرات "سكاي هوك" من المجموعتين الرابعة والخامسة، وطائرات "داجر" من المجموعة السادسة، بالإضافة إلى "رف كانبرا" من المجموعة الثانية، بينما قامت طائرات "الميراج" من المجموعة الثامنة بتوفير الحماية لهذه الطائرات على الارتفاعات العالية، ودعَّمها في مهمتها بعض طائرات "داجر" من المجموعة السادسة في وقت لاحق من ذلك اليوم.
وقد جَرَت الهجمات الجوية الأرجنتينية على السفن البريطانية بشكل متقطع، إلاّ أنها كانت أكثر كثافة ابتداءً من الساعة 1415 (بتوقيت فوكلاند) مساء ذلك اليوم، وقد أسفرت الهجمات الجوية على السفن عن إصابة كلٍّ من المدمرة "جلامورجان" والفرقاطتين "أرو" و"الكريتي" ببعض الأضرار.
وبالنسبة إلى أعمال القتال الجوية السابقة، فإنه يمكن القول إن قلة أعداد الطائرات الأرجنتينية التي نجحت في الوصول إلى منطقة انتشار السفن البريطانية سمحت لطائرات "الهارير" ـ المتواجدة في الدوريات الجوية على طرق الاقتراب المنتظرة للطائرات الأرجنتينية ـ بصد تلك الطائرات، وقد أسفرت الاشتباكات بين طائرات الجانبين في ذلك اليوم عن فقد الأرجنتين لطائرتي "ميراج" (أُسقطت إحداهما بواسطة طائرة "سي هارير"، والأخرى بواسطة الدفاع الجوي الأرجنتيني قرب "ستانلي")، بالإضافة إلى إصابة قاذفة من طراز "كنبرا" بواسطة إحدى مقاتلات "سي هارير"، في الوقت الذي لم يفقد فيه البريطانيون أية طائرات.
أمّا بالنسبة إلى السفن، فعلى أثر انتهاء الهجوم الجوي على مجموعة النيران، استأنفت سفنها أعمال القصف المدفعي المخطط الذي استمر لمدة ساعتين، انضمت بعده السفن الثلاث إلى مجموعة الحاملات، في الوقت الذي انطلقت فيه مجموعة القتال الرئيسية نحو الشمال الشرقي لاتخاذ أوضاعها للعملية التالية حيث كان سيجري إبرار قوة من القوات الخاصة بالطائرات العمودية ليلاً في عدة أماكن على ساحل جزيرة "فوكلاند" الشرقية بين "ستانلي" ومضيق "فوكلاند". وقد تمَّت عملية الإبرار بنجاح، وعادت الطائرات العمودية إلى الحاملة "هيرمس" قبل منتصف الليل. وما أن هبطت الطائرات العمودية حتى تحركت جميع السفن في اتجاه الجنوب الشرقي لاتخاذ أوضاعها مرة أخرى شرق الجزر استعداداً لأعمال قتال اليوم التالي.
ثالثاً: إغراق الطراد "جنرال بلجرانو"، 2 مايو، (أُنظر شكل إغراق بلجرانو وشيفلد)
على أثر نجاح الغزو الأرجنتيني لجزر "فوكلاند" وتعيين حاكم جديد لها، عاد الأسطول ـ الذي لعب الدور الرئيسي في تنفيذ وتأمين العملية- إلى قواعده في الأرجنتين، إلاّ أنه سرعان ما أبحر عائداً إلى منطقة الجزر لمواجهة قوة الواجب البريطانية التي كانت تقترب وقتئذ من تلك المنطقة، وكانت قيادة الأسطول الأرجنتيني المبحر معقودة لرير أدميرال "ألارا" على متن حاملة الطائرات "25 مايو"، والتي كانت تمثل التهديد الرئيسي الأول للسفن البريطانية المقتربة.
وبينما اتجهت مجموعة الحاملة "25 مايو" إلى شمال الجزر، فإن الطرّاد "الجنرال بلجرانو" ومعه مدمرتا الحراسة اتجه إلى غربها للعمل كمجموعة حماية متقدمة من أي أعمال هجومية بريطانية ضد قاعدتي "ريو جراندي" الجوية و"يوشوايا البحرية"، وفي التاسع والعشرين من أبريل ـ قبل وصول قوة الواجب إلى منطقة الحظر ـ كانت وحدات الأسطول الأرجنتيني قد اتخذت أوضاعها شمال وغرب جزر "فوكلاند".
وفي أول مايو رصدت إحدى طائرات الاستطلاع البحري الأرجنتينية مجموعة القتال الرئيسية لقوة الواجب على مسافة 300 ميل (482 كم) جنوب شرق مجموعة الحاملة "25 مايو"، فبدأت الأخيرة تحركها للاقتراب من السفن البريطانية، في الوقت الذي كان يجري فيه تسليح طائرات "سكاي هوك" على مَتْن تلك الحاملة لتوجيه ضربة جوية لمجموعة الحاملات البريطانية، التي كانت قيادتها تحاول جاهدةً معرفة مكان الحاملة الأرجنتينية، غير أن الغواصات البريطانية الثلاث في المنطقة لم ترصد تلك الحاملة أو تحركها في اتجاه مجموعة الحاملات البريطانية، على الرغم من أنَّ الغواصتين "سبلندد" و"سبارتان" كانتا تبحثان في طرق الاقتراب إلى السفن البريطانية من ناحية الشمال الغربي، بينما كانت "كونكرر" في طريقها إلى غرب جزر "فوكلاند" بعد أن تلقت الأمر يوم 28 أبريل بمغادرة مياه "جورجيا الجنوبية" إلى منطقة عملها الجديدة ـ خارج منطقة الحظر الكلي ـ بين جزر "فوكلاند" والسواحل الجنوبية للأرجنتين.
وبعد منتصف ليلة 1/2 مايو، التقط أحد طياري المقاتلات "سي هارير" على شاشة رادار طائرته النبضات المرتدة من حاملة الطائرات الأرجنتينية ومدمرتي حراستها. وسرعان ما دُقعت دوريات مقاتلات "سي هارير"، إلى الاتجاه المهدد. وعلى الجانب الآخر، تأجلت الضربة الجوية الأرجنتينية، التي كان من المزمع شنِّها قبل الفجر مباشرة، نتيجة لهبوب رياح خفيفة، أعاقت إقلاع الطائرات "سكاي هوك" بحمولتها من الوقود اللازم للوصول إلى موقع السفن البريطانية، التي باتت على مسافة 180 ميلاً من مجموعة حاملة الطائرات 25 مايو، التي اضطر القائد الأرجنتيني إلى سحبها من المنطقة، انتظاراً لفرصة أخرى أفضل[2].
وفي الوقت الذي كانت تجري فيه الأحداث السابقة، كان الطرَّاد "جنرال بلجرانو" يمخر مياه جنوب الأطلسي ذهاباً وإياباً بين "تييرا دل فيوجو" (جنوب الأرجنتين) وغرب جزر "فوكلاند"، مع الحرص على عدم دخول منطقة الحظر البريطاني حول الجزر.
وعلى الجانب الآخر، كانت الغوَّاصة البريطانية "كونكرر" قد رصدت ذلك الطرَّاد جنوب غرب جزر "فوكلاند" أثناء عملها في المنطقة في اليوم السابق (1 مايو)، وظلت تتابعه كظلِّه وتُبلَّغ موقعه أولاً بأول إلى مركز قيادة القوات البحرية في "نورث وود" ومركز قيادة أسطول قوة الواجب في الحاملة "هيرمس"، إلاّ أن الأخير كان غيرَ مستعدٍ آنذاك للالتفات إلى التهديدات الأرجنتينية خارج منطقة الحظر، في الوقت الذي كان فيه كل اهتمامه مركزاً للضغط على الحامية الأرجنتينية في "فوكلاند" بمزيد من القصف الجوي وإبرار مزيد من جماعات الاستطلاع خلف خطوط تلك القوات، إلاّ أن الضباب الذي غطَّى المنطقة ومنع الطائرات من تنفيذ مهام القصف المخططة في ذلك اليوم، واختفاء مجموعة الحاملة "25 مايو" خارج نطاق وسائل الرصد البريطانية، حَوَّل اهتمام قائد أسطول قوة الواجب نحو مجموعة الطرَّاد "جنرال بلجرانو" التي تمثل التهديد الرئيسي لقوة الواجب.
وبالنسبة إلى كلٍّ من الأدميرال "فيلد هاوس" ورير أدميرال "وودوارد"، كان تحرك مجموعة الحاملة "25 مايو" شمال سفن قوة الواجب، ومجموعة الطراد "جنرال بلجرانو" جنوبها بمثابة حركة كماشة حول تلك القوة، ومن ثمَّ أحس القائدان ـ خلال تشاورهما عَبْر وسائل المواصلات المؤمنة ـ أن سفن قوة الواجب في خطر متزايد، ولما كانت قواعد الاشتباك الصادرة من القيادة البريطانية لا تبيح الاشتباك مع السفن الأرجنتينية خارج منطقة الحظر الكلي، فقد طلب قائد أسطول قوة الواجب من الأدميرال "فيلد هاوس" التصديق للغواصة "كونكرر" بالهجوم على الطراد الأرجنتيني خارج منطقة الحظر، ونظراً إلى أن الهجوم على الطراد سيؤدي إلى خسائر كبيرة في الأرواح قد تثير الرأي العام العالمي، فقد رأى الأدميرال "فيلد هاوس" ضرورة الحصول على تصديق مجلس الحرب على العملية قبل تنفيذها، ومن ثَمَّ قام سير "تيرانس لوين" رئيس أركان الدفاع بعرض الأمر على المجلس خلال اجتماعه في ذلك اليوم (ظهر الثاني من مايو).
ولمّا كان هدف الإستراتيجية البريطانية خلال هذه المرحلة هو هزيمة القوات الأرجنتينية في البحر والجو قبل بدء عمليات الإبرار الرئيسية، فلم يأخذ الأمر كثيراً من المناقشة في اجتماع مجلس الحرب، قبل أن يتخذ المجلس واحداً من أخطر قراراته في هذه الحرب بالموافقة على الهجوم على السفن الأرجنتينية خارج منطقة الحظر الكلي إذا كانت تشكل خطراً على قوة الواجب البريطانية، فقد كان هذا القرار يعني مزيداً من تصعيد القتال بين الجانبين، فلم يكن قرار المجلس يستهدف الطرَّاد الأرجنتيني وحده، بل كانت مجموعة الحاملة "25 مايو" معرَّضة أيضاً للهجوم عليها إذا تمَّ رصدها مرة أخرى، كما أدى هذا القرار إلى أن تكوٍن بريطانيا هي المتسببة في حدوث أول خسارة كبيرة في الأرواح خلال هذه الحرب بإغراقها ذلك الطرَّاد.
وفي الوقت الذي كانت تجري فيه الاتصالات السابقة للحصول على تصديق وزارة الحرب بشأن الهجوم على الطراد الأرجنتيني، غيِّرت مجموعة ذلك الطراد اتجاه إبحارها نحو الغرب مبتعدة عن سفن قوة الواجب قبل أن تصل إلى حدود منطقة الحظر الكلي، وعلى الرغم من أخطار قيادة أسطول قوة الواجب وقيادة القوات البحرية البريطانية بالتغيير الجديد في اتجاه مجموعة الطراد، فقد تلقى قائدُ الغواصة "كونكرر" الأمرَ بالهجوم على الطرَّاد قبل أن يبتعد وتضيع الفرصة، على الرغم من وجوده خارج منطقة الحظر، وسرعان ما اتخذت الغواصة وضع الهجوم، وأطلقت على الطراد ثلاثة طوربيدات طراز 8 في الساعة 1857 بتوقيت جرينتش (1357 بتوقيت فوكلاند)، أصاب اثنان منها الهدف، ممَّا أدى إلى إغراق الطراد، وبعد أربعين دقيقة كان قد اختفى تماماً من على سطح الماء.
وقد أدى ذلك الهجوم إلى فقد 368 فرداً من طاقم الطرَّاد الذي كان يناهز الألف فردٍ، أمّا الباقون فقد نجحوا في مغادرة السفينة الغارقة قبل أن تغوص تماماً في أعماق المحيط.
وبعد ست دقائق من الهجوم على "جنرال بلجرانو" بدأت مدمرتا الحراسة أعمال البحث عن الغواصة البريطانية وإلقاء قنابل الأعماق في المنطقة المتواجدة فيها، إلاَّ أنَّ قائد الأخيرة حاول تفادي تلك القنابل بالغوص إلى أعماق أكبر ومغادرة المنطقة نحو الشرق. أمّا الناجون من الطراد الغارق فقد قضوا في الماء نحو أربعٍ وعشرين ساعة تعيسة في بحر عالٍ ورياح شديدة قبل أن يتم إنقاذهم.
وبقدر ما أدَّى إغراق الطراد "جنرال بلجرانو" إلى تدعيم الموقف العسكري البريطاني جنوب الأطلسي، فقد أدى إلى اهتزاز الموقف السياسي لحكومة السيدة "تاتشر" داخل وخارج بريطانيا، بعد أن تناقلت وكالات الأنباء خبر الغوَّاصة النووية الحديثة التي أغرقت طراداً قديماً خارج منطقة الحظر الكلي، وأن ثلث أفراد طاقمه قد لقوا حتفهم نتيجة الحادث.
أمّا على الصعيد العسكري فقد أدَّى إغراق ذلك الطراد إلى تحجيم عمل البحرية الأرجنتينية ودفعها غرباً نحو سواحل الوطن الأم، ولما كانت حاملة الطائرات "25 مايو" قد انسحبت هي الأخرى من قبل لِمَا أصابها من عُطل، فقد وقع عبء مواجهة أسطول قوة الواجب في منطقة العمليات على عاتق بعض أسراب القتال الأرجنتينية التي يسمح مدى عملها من قواعدها في جنوب الوطن بالوصول إلى منطقة العمليات حول جزر "فوكلاند".
وعلى ذلك، اتسم اليوم التالي بهدوء نسبيّ في ذلك المسرح، بعد انسحاب الوحدات البحرية الأرجنتينية غرباً، وخاصة بعد أن قرَّر قائد أسطول قوة الواجب الحد من أعمال القصف البحري للقوات الأرجنتينية في الجزر، حتى لا يقلل من زهوة إغراق الطراد بفقد إحدى وحداته البحرية، ولم يعكر ذلك الهدوء سوى هجوم الطائرات العمودية "لينكس" على إحدى سفن الدورية الصغيرة وأحد لنشات القطر الأرجنتينية فأصابت الأولى وأغرقت الثاني، ففي وقت متأخر من ليلة 2/3 مايو بينما كانت سفينة الدورية الصغيرة "ألفريز سوبيل Alferez Sobel" تقوم بالبحث عن أحد أطقم الطائرات، التي فقدتها الأرجنتين مساء الأول من مايو، اكتشفت موقعها إحدى الطائرات العمودية "سي كنج" من السرب 826 أثناء قيامها بإحدى دوريات البحث عن الغواصات، كما اكتشفت في الوقت نفسه إحدى لنشات القطر داخل منطقة الحظر، وعلى أثر إبلاغ طائرة عمودية البحث عن الهدفين، أقلعت الطائرتان العموديتان "لينكس" من المدمرتين " جلاسكو" و" كوفنتري" مسلحتين بصواريخ جو/ سطح موجهة بالرادار من طراز "سي سكوا Sea Skua" وقامتا بالهجوم على السفينتين فأغرقت إحداهما لنش القطر على مسافة تسعين ميلاً داخل منطقة الحظر بينما أصابت الثانية سفينة الدورية إصابةً بالغةً.
وباستثناء تدمير طائرتين أرجنتينيتين إحداهما من طراز "اير ماكي" بسبب سوء الأحوال الجوية أثناء طلعة محلية في مطار ستانلي، وأخرى من طراز "سكاي فان" بواسطة نيران القصف البحري، فقد مضى نهار الثالث من مايو من دون أحداث تُذكر، وخلال الليل قامت إحدى قاذفات "فولكان" من جزيرة أسنشن بثاني طلعات القصف الجوي للعملية "بلاك بك" فوق مطار "ستانلي" إلاّ أن القنابل سقطت على بعد نحو خمسين متراً من النهاية الغربية للمدرج، ولم تَحْدُث أيةُ خسائر.






[1] بلاك بك واحد Black Buk One هو الاسم الرمزي لعملية قصف مطار ستانلي بقاذفات فولكان التي اقترحتها قيادة القوات الجوية على مجلس الحرب، فقد أوضحت تلك القيادة للمجلس أنه يمكن استخدام قاذفات فولكان - التي تقرِّر إخراجها من الخدمة في ذلك العام- لقصف مطار ستانلي لحرمان القيادة الأرجنتينية من استخدامه بواسطة مقاتلاتها النفاثة. وقد وافق المجلس على استخدام هذه الطائرات ضد مطار ستانلي عند وصول قوة الواجب إلى محلاتها في منطقة الحظر الكلي لزيادة الضغط على الأرجنتين بعد فشل جهود الوساطة الأمريكية، ولإقناع القيادة الأرجنتينية بجدية التحرك العسكري البريطاني لاستعادة الجزر.


[2] اضطرت القيادة الأرجنتينية إلى سحب الحاملة 25 مايو من منقطة العمليات على أثر عطل فني أصاب محركاتها ومنعها المشاركة في القتال طوال الحرب.
 
رد: حرب جزر فوكلامد بين بريطانيا والارجنتين عام 1982

المبحث السادس
معركة سان كارلوس، جوس جرين
أولاً: معركة "سان كارلوس"
1.تأمين الإبرار على شواطئ "سان كارلوس"، ليلة 21 مايو(أُنظر شكل الإبرار البريطاني بسان كارلوس)
قبل ثمانية أيام من الإبرار البريطاني على شواطئ "سان كارلوس" دفعت القيادة الأرجنتينية في "فوكلاند" بقوة صغيرة من الفوج الخامس والعشرين لاتخاذ موقع لها في "رأس فاننج Fanning Head "، ودعمتها بمدفعين مضادين للدبابات عيار 106 مم ومدفعي مورتار عيار 81 مم، للسيطرة على "مياه سان كارلوس".وما لبثت أنَّ وصلت إلى المنطقة قوةٌ أكبرُ من الفوج الثاني عشر لدعم القوة السابقة، واتخذ الجميع من مستعمرة "بورت سان كارلوس" ـ الواقعة على مسافة ستة أميال (9.7 كم) قاعدة لهم، وبدأت تلك القوة تتناوب احتلال موقع "رأس فاننج" بثلث قوتها (نحو 20 فرداً)، مع بقاء باقي القوة في المستعمرة.
ولمَّا كان الموقع الأرجنتيني السابق يُهدّد سفنَ المجموعة البرمائية عند اقترابها من "مياه سان كارلوس"، فقد كان على القوات البريطانية الاستيلاء على ذلك الموقع وتأمينه قبل اقتراب السفن من تلك المياه. وعلى ذلك أعدَّت قيادة اللواء الثالث خطة للاستيلاء مبكراً على ذلك الموقع قبل أن تصل السفن إلى المنطقة المهدَّدة، وخُصِّص لتنفيذ هذه العملية المدمرة "انتريم" وطائرتان عموديتان مجهزتان ببواعث حرارية وأجهزة الرؤية الليلية، إحداهما من طراز "وسكس 3" المجهَّزة بالرادار، والأخرى من طراز "وسكس 5"، بالإضافة إلى نحو فصيلة (35 فرداً) من القوات الخاصة ـ مجهزين بأجهزة الرؤية الليلية ومكبِّر صوت ـ يصاحبهم مُترجِم يُجيد الأسبانية.
ونظراً إلى وجود الموقع الأرجنتيني على سفح مرتفعات "رأس فاننج" المطلة على "مياه سان كارلوس"، فقد تحددت منطقة إبرار فصيلة القوات الخاصَّة على الجانب الآخر المتَّصل بالبر، بعيداً عن سمع وبصر القوة الأرجنتينية في ذلك الموقع.
وبدأ تنفيذ تلك العملية ليلاً، قبل وصول سفن المجموعة البرمائية إلى "مياه سان كارلوس" بعدة ساعات، فما أن وصلت المدمرة "انتريم" إلى مسافة أربعين ميلاً (64 كم) من تلك المياه، حتى أقلعت الطائرة العمودية "وسكس 3" حاملة جماعة الإرشاد، وأبرَّتها في المنطقة المحدَّدة، وعادت إلى قاعدتها على مَتْن المدمرة "انتريم" تاركة جماعة الإرشاد في المنطقة لاستطلاعها وإرشاد القوة الرئيسية عند وصولها.
وبعد نحو ثلاث ساعات ـ في الوقت الذي كانت فيه المجموعة البرمائية تقترب من "رأس فاننج"ـ أقلعت الطائرتان العموديتان "وسكس 3" و"وسكس 5" حاملتين باقي فصيلة القوات الخاصة، وأبرَّتها في المنطقة المحددة تحت ستر نيران المدمرة "انتريم"، وفور إنزالها بدأت المجموعة الضاربة للفصيلة البريطانية تتخذ مواقعها على الأرض المرتفعة التي تسيطر على الموقع الأرجنتيني غربها، بينما وضع المترجم مكبَّر الصوت على مسافة مائة متر على جانبها الأيمن.
وما أن أتمَّت الفصيلة اتخاذ مواقعها خلال الظلام حتى اكتشفت ـ بأجهزة الرؤية الليلية ـ تحركَ القوة الأرجنتينية إلى موقع تبادلي آخر على مسافة نحو مائتي متر من موقعها الأصلي الذي انصبَّت عليه نيران المدمرة "انتريم"، فوجَّه المترجم نحوها مكبر الصوت وخاطبها من خلاله معلناً أنه يمثل القوة البريطانية التي يرغب قائدها في تجنب إراقة الدماء، وأكدَّ لهم أن تلك القوة تُحيط بهم، إلا أن الأخيرة لم تتلق رداً على نداء مترجمها، في الوقت الذي لمحت فيه القوة الأرجنتينية تتجه نحوها، ففتحت القوة البريطانية نيرانها على الأرجنتينيين المقتربين، إلاَّ أن الأخيرين لم يردوا على النيران المنهمرة عليهم، فأمر قائد القوة البريطانية جنوده بوقف إطلاق النار.
وما أن بزغ أول ضوء 21 مايو حتى حاول الأرجنتينيون احتلال الأرض المرتفعة وهم يطلقون النَّار على القوة البريطانية التي ردَّت بالمثل، ونجحت في اصطياد العديد منهم، ونادى عليهم المترجم مرة أخرى يطالبهم بالتسليم، فما لبثوا أن لوَّحوا بثلاثة أعلام بيضاء معلنين استسلامهم، وبانتهاء هذه العملية كان الأرجنتينيون قد تكبدوا عشرة قتلى وثلاثة جرحى، فضلاً عن ستة من الأسرى.
وفي الوقت الذي كانت تجري فيه العملية السابقة، كانت هناك قوات بريطانية أخرى لا تزال تنفِّذ خطة الخداع ـ التي سبقت الإشارة إليها ـ لتشتيت جهود الأرجنتينيين وتضليلهم عن مكان وتوقيت الإبرار البحري الرئيسي أطول فترة ممكنة، فبينما كانت المدمرة "جلامورجان" في الشرق تقوم بقصف المواقع الأرجنتينية شمال "ستانلي"، كانت مجموعة أخرى من القوات الخاصة تقوم بإغارة خداعية في منطقة "دارون" و"جوس جرين" تساندهم المدمرة "أردنت" بنيرانها.
2.الإبرار في "سان كارلوس"، 21 مايو
أدَّت أعمال القتال السابقة إلى تأمين عملية الإبرار، ففي الوقت الذي كانت تجري فيه أعمال الخداع البريطانية وتأمين "رأس فاننج"، كان هناك ستة عشر زورقَ إبرارٍ تتحرك بهدوء أسفل الرأس الأخير حاملة أولى موجات الإبرار من كتيبة المظليين الثانية والكتيبة الأربعين كوماندوز، وفي الساعة 340 صباح 21 مايو (بتوقيت فوكلاند) بدأت أولى قوات هذه الموجة تضع أقدامها على شواطئ "سان كارلوس" متأخرة عن موعدها سبعين دقيقة، إلا أنه كان لا زال لديها ثلاث ساعات ونصف من الظلام لدعم وتأمين مواقعها على الشاطئ، وكانت الفرقاطة "بلايموث" هي الوحيدة التي رافقت زوارق الإبرار السابقة لتقديم المعاونة بالنيران لها إذا أدَّت الحاجة لذلك، إلا أن الإبرار تمَّ في هدوء دون حاجة لنيرانها.
وفور الإبرار على شاطئ "سان كارلوس" لم تقابل كتيبة المظليين الثانية أي مقاومة على الشاطئ، فتحركت بسرعة نحو هدفها، وبدأت في تسلق المرتفعات الجنوبية نحو جبل "وسكس" لمواجهة التهديد الأرجنتيني المحتمل من "جوس جرين"، وبعد سبع دقائق من إبرار الكتيبة الثانية، تمَّ إبرار الكتيبة الأربعين كوماندوز، التي تقدمت شرقاً واتخذت مواقعها الدفاعية على جبال "فرد" شرق "سان كارلوس".وبدأ أفراد كتيبتي الموجة الأولى في حفر مواقعهم على الميول العكسية المواجهة لطرق اقتراب القوات الأرجنتينية إلى منطقة "سان كارلوس"، كما أقاموا نقاط ملاحظة على قمم هذه المرتفعات.
وفور إنزال قوات الموجة الأولى عادت زوارق الإبرار إلى السفن المحملة بالقوات ـ التي كانت ترسو في "مضيق فوكلاند" غرب "رأس فاننج" ـ لنقل وإبرار الموجة الثانية التي كانت تتكون من الكتيبة الخامسة والأربعين كوماندوز، وكتيبة المظليين الثالثة ـ اللتين تأخرتا عن موعد إبرارهما ـ الأولى على شاطئ خليج "أجاكس" (غرب سان كارلوس)، والثانية على شاطئ "بورت سان كارلوس"، وكان إبرار القوات السابقة في هذين الموقعين يسمح بتوسيع منطقة رأس الشاطئ حول الشواطئ الشمالية والجنوبية "لمياه سان كارلوس".
وبعد أن بزغ ضوء النهار بدأت المرحلة الثانية للإبرار البريطاني، حيث بدأت طائرات عمودية السرب 846 من طراز "سي كنج" في رفع المدافع عيار 105 مليمترات وصواريخ "رابير" محلاتها المحددَّة في رأس الشاطئ، وهو ما مثَّل بداية أعمال النقل الجوي المكثفة بالطائرات العمودية التي جرت بعد ذلك، والتي تطلبتها قلة الطرق في جزيرة "فوكلاند الشرقية"، وقبل أن ينتهي ذلك اليوم كانت طائرات عمودية "سي كنج" قد نقلت 407 أطنان من المدافع والاحتياجات، بالإضافة إلى 425 فرداً من السفن الراسية أمام "رأس فاننج" إلى منطقة رأس الشاطئ، بينما قامت الطائرات العمودية الصغيرة من طراز "جازيل" و"سكوت" التابعة للواء الثالث بأعمال الاستطلاع وتوجيه نيران المدفعية، فضلاً عن تأمين طائرات النقل العمودية.
وتكبَّد البريطانيون أول خسائرهم خلال ذلك اليوم بعد أن بدأت أعمال النقل بالطائرات العمودية، فقد تحطَّمت طائرتان عموديتان من طراز "جازيل" وأصيبت أخرى نتيجة لقصور تبادل المعلومات بين الوحدات البرية في رأس الشاطئ وأسراب الطائرات العمودية، التي تعاونها، فبينما كانت إحدى الطائرات العمودية "جازيل" تطير على ارتفاع منخفض شرق مستعمرة "بورت سان كارلوس" ـ في منطقة كان قائدها يظن أنه قد تمَّ تطهيرها بواسطة كتيبة المظليين الثالثة ـ أصابتها نيران القوة الأرجنتينية المنسحبة من تلك المستعمرة وتحطَّمت في المياه المواجهة للمستعمرة.
ولم تمض خمس عشرة دقيقة على تحطم تلك الطائرة العمودية، حتى لحقت بها طائرة عمودية أخرى من الطراز نفسه بنيران الأرجنتينيين، فبينما كانت الطائرة العمودية الأخيرة تقوم بالاستطلاع في منطقة عملها جنوب منطقة الإبرار سمع قائدها طلباً لاستطلاع منطقة "بورت سان كارلوس" ظن أنه موجه إليه، فاتَّجه إلى المنطقة المشار إليها لتقديم المعاونة المطلوبة، إلا أنه سرعان ما أصيبت الطائرة العمودية وتحطمت على أحد التلال المواجهة للمستعمرة.وقبل أن تصل هذه المعلومات إلى قيادة اللواء الثالث كانت هناك طائرة عمودية أخرى تطير في المنطقة نفسها، فأصيبت بعشر طلقات، إلاّ أن قائدها نجح في العودة بها إلى قاعدتها.
وقد أدَّى فقد طائرتين عموديتين من طراز "جازيل" وإصابة أخرى في أول استخدام بريطاني للطائرات العمودية الخفيفة في الحرب إلى اتخاذ قرار متعجل باستبعاد استخدام هذه الطائرات العمودية في مهام توجيه نيران المدفعية والاستطلاع طوال الحرب، واقتصرت مهامها على أعمال المواصلات وإخلاء الجرحى ونقل الأحمال الخفيفة في المناطق المؤمَّنة، ومن ناحية أخرى كثَّفت كتيبة المظليين الثالثة جهودها لتطهير المنطقة المهدَّدة من الأرجنتينيين، إلا أن هؤلاء انسحبوا في اتجاه الشمال الشرقي نحو مستعمرة "دوجلاس"، حيث نقلتهم الطائرات العمودية إلى "ستانلي".
وفور تلقي الكومودور "كلاب" أنباء تأمين رأس الشاطئ الرئيسي، تحركت مجموعة السفن البرمائية (اثنتا عشرة سفينة محملة بالأفراد والأسلحة والإمدادات) من مكان رسوها أمام "رأس فاننج" إلى "مياه سان كارلوس"، ورسى كل من تلك السفن في المكان المحدَّد لها، فبينما رست السفن الكبيرة في المياه العميقة، تقدَّمت سفن الإبرار الصغيرة والعبَّارة "ايروبك فيري" إلى مراسيها في نهاية الطرف الجنوبي "لمياه سان كارلوس".
وقد اختيرت تلك المراسي بعناية لتوفير أفضل حماية طبيعية من الهجوم الجوي، إلا أنه ـ بعد رسو السفن البرمائية ـ لم يعد في "مياه سان كارلوس" مكان آخر لرسو سفن الحماية، ومن ثمَّ كان على الأخيرة البقاء في "مضيق فوكلاند" على مسافة تسمح لها باستخدام أسلحة الدفاع الجوي بكفاءة، مع تخصيص واحدة منها للرسو في مدخل "مياه سان كارلوس" لغلقها في وجه الطائرات الأرجنتينية المقتربة من الغرب.
وخلال بقية اليوم جرت عملية الإنزال والتفريغ بأقصى معدلاتها، واستُخدم في ذلك كافة زوارق الإبرار والطائرات العمودية القادرة على نقل الأفراد والاحتياجات إلى الشاطئ، ممَّا سمح بتكوين نواة لقاعدة إدارية في "خليج أجاكس"، قام بالجهد الرئيسي لبنائها فوج الكوماندوز الإداري، كما سمح باستكمال أعمال الدعم والتأمين على طول خط المرتفعات المحيطة برأس الشاطئ من دون مقاومة من الجانب الأرجنتيني، الأمر الذي يمكن إرجاعه في مجمله إلى نجاح خطة الخداع البريطانية في تحويل أنظار القيادة الأرجنتينية في الجزر عن منطقة "سان كارلوس" حتى اللحظة الأخيرة.
وعلى التوازي مع أعمال الإبرار وبناء رأس الشاطئ بواسطة مجموعة السفن البرمائية واللواء الثالث، دفع الأدميرال "وودوارد" بمجموعة القتال الرئيسية إلى مسافة 130 ميلاً من منطقة الإبرار وأقل من مائة ميل، من "ستانلي" لتوفير الحماية والمعاونة الجوية للقوات البريطانية في منطقة رأس الشاطئ، ومع أول ضوء يوم 21 مايو، بدأت طائرات "سي هارير" أعمال الدورية الجوية على طرق الاقتراب المنتظرة للطائرات الأرجنتينية، بينما أقلعت أولى تشكيلات المقاتلات القاذفة من طراز "هارير GR3" لقصف منطقة انتشار الطائرات العمودية الأرجنتينية غرب "ستانلي".
فقد اكتشفت إحدى جماعات القوات الخاصة ـ القائمة بالاستطلاع خلف الخطوط الأرجنتينية في منطقة "ستانلي" ـ أن الطائرات العمودية الأرجنتينية الموجودة في تلك المنطقة غالباً ما تتواجد ليلاً في منطقة انتشار على مسافة عشرة أميال غرب "ستانلي" أسفل جبل "كنت" لوقايتها من القصف البحري وإغارات الكوماندوز البريطانية، ومن ثم خُصصت طائرتا "هارير GR3" لتدمير الطائرات العمودية الأرجنتينية في منطقة الانتشار السابقة، مع أول ضوء يوم 21 مايو، وأسفر الهجوم، على تلك الطائرات العمودية، عن تدمير طائرة عمودية من طراز "شينوك" واثنتين أخريين من طراز "بوما"، بينما تمكنت من الإفلات طائرة عمودية من طراز "هيو" كانت تستعد للإقلاع عندما بدأ الهجوم، أمّا الطائرتان البريطانيتان فقد أصيبت إحداهما بثلاث طلقات من الدفاع الجوي بالمنطقة، إلا أنها تمكنت من العودة إلى الحاملة "هيرمس".
ولم يكن حظ تشكيل "الهارير" الثاني ـ الذي أقلع بعد ساعة من التشكيل الأول لتقديم المعاونة الجوية في منطقة الإبرار ـ مثل سابقه، فقد اضطر قائد التشكيل للعودة لعطل فني، فكُلف قائد الطائرة الثانية باستطلاع منطقة "بورت هاورد" على الشاطئ الغربي "لمضيق فوكلاند"، إلا أن طائرته أصيبت بصاروخ "بلو بايب" أثناء قيامه بالاستطلاع على ارتفاع منخفض، واضطر الطيار للقفز بالمظلة ووقع في الأسر.
وفي الوقت الذي كانت تجري فيه أعمال القتال الجوية السابقة، أقلعت من جزيرة "أسنشن" طائرة "نمرود" من السرب 206 في أولى ساعات الصباح لاستطلاع جنوب الأطلسي ومراقبة الأسطول الأرجنتيني في تلك المنطقة ضاربة رقماً قياسياً جديداً في الطيران لأبعد مدى في تلك الطلعة التي قطعت فيها مسافة 8433 ميلاُ (13636كم2)
وبنهاية اليوم الأول للعملية "ستون" كان قد تمَّ تأمين رأس الشاطئ ضد التهديدات البرية الأرجنتينية، إلا أنه كان أقل تأميناً ضد الهجمات الجوية.
وعلى الجانب الأرجنتيني جاء رد فعل قيادة الجنرال "منديز" في "ستانلي" بطيئاً، فعلى الرغم من التقارير التي تلقتها تلك القيادة عن التحركات البحرية البريطانية إلى منطقة "سان كارلوس"، وحتى عندما تلقت أول بلاغ من قائد القوة الأرجنتينية التي كانت في مستعمرة "بورت سان كارلوس" عن دخول سفن الإبرار البريطانية "مياه سان كارلوس"، لم تصدق ما جاء في ذلك البلاغ ـ على ضوء الدراسة التي سبق إعدادها والتي استخلصت استحالة الإبرار في تلك المنطقة ـ إلا أن القيادة البحرية في الجزيرة رأت ضرورة التأكد من تلك المعلومات، فأرسلت إحدى طائراتها من طراز "أير ماكي" المتمركزة في مطار "ستانلي" بقيادة الملازم "كريبا".
وسرعان ما وجد ذلك الطيار نفسه أمام مجموعة سفن التأمين والمساندة خارج "مياه سان كارلوس"، فهاجم الفرقاطة "أرجنوت" بالمدافع والصواريخ، فجُرح ثلاثة أفراد من طاقمها بجروح خطيرة وأصاب الفرقاطة بإصابات بسيطة، ولم يسمح ظهوره المفاجئ على ارتفاع منخفض قريباً من الفرقاطة البريطانية باستخدام صواريخها من طراز "سي كات" فاشتبكت معه بمدافعها المضادة للطائرات، إلا أن الطيار الأرجنتيني عاد بطائرته سالماً إلى مطار "ستانلي".
ولم يمض وقت طويل على عودة الملازم "كريبا" بطائرته إلى "ستانلي" حتى بدأت طائرات "بوكارا" المروحية في الظهور في منطقة "سان كارلوس" بعد ساعتين من بزوغ أول ضوء ذلك اليوم، وبدأت في الهجوم على السفن البريطانية بالرشاشات، إلا أنه تمَّ صدها جميعاً بواسطة نيران المدافع المضادة للطائرات في تلك السفن، في الوقت الذي تمكنت فيه إحدى جماعات القوات الخاصة في منطقة "جوس جرين" من إسقاط إحدى تلك الطائرات أثناء مرورها فوقها بواسطة صاروخ ستنجر محمول على الكتف.
ولم تكن الطائرات الأرجنتينية من طرازي "أير ماكي" و"بوكارا" ـ المتمركزة في مطارات "فوكلاند" ـ تمثل تهديداً حقيقياً للسفن البريطانية في منطقة "سان كارلوس"، فقد كان ذلك التهديد يتمثل في طائرات القتال المتمركزة في المطارات الجنوبية للأرجنتين ـ وخاصة طائرات "سوبر اتندار" المسلحة بصواريخ "إكسوست" ـ والتي كان على مجموعة سفن الحماية والمساندة مواجهتها بكل ما تعانيه من قصور في منظومة الدفاع الجوي، فضلاً عن التأثير السلبي للمرتفعات المحيطة بمضيق "فوكلاند" على الكشف الراداري للسفن البريطانية في المنطقة[1].
وفي حوالي العاشرة والنصف صباح ذلك اليوم بدأت سفن القتال البريطانية في مضيق "فوكلاند" تواجه ذلك التهديد عندما أخذت طائرات القتال الأرجنتينية ـ القادمة من الغرب ـ تتدفق على المنطقة في سلسلة من الهجمات الجوية العنيفة لمدة خمس ساعات، وشارك في هذه الموجات الهجومية طائرات "سكاي هوك" من المجموعتين الرابعة والخامسة، وسرب طيران البحرية الثالث، بالإضافة إلى طائرات "داجر" من المجموعة السادسة وطائرات "ميراج" من المجموعة الثامنة، واستهدفت هذه الموجات مجموعة سفن الحماية والمساندة السبع في مضيق "فوكلاند" والتي كانت تتكون من ثلاث مدمرات (انتريم، برليانت، بروودسورد)، وأربع فرقاطات (أردنت، أرجنوت، بلايموث، يارموث).
وخلال موجات الهجوم الجوي السابقة ـ التي مثَّلت أولى مراحل الهجوم في ذلك اليوم ـ فَقَدَ الأرجنتينيون أربع طائرات، أسقطت "بروودسورد" منها طائرة "ميراج" جنوب مدخل "مياه سان كارلوس"، كما أسقطت إحدى دوريات المقاتلات البريطانية طائرة "بوكارا"، وقبل نهاية هذه المرحلة أسقطت دورية أخرى من مقاتلات "سي هارير" طائرتي "سكاي هوك" كانتا تهاجمان الفرقاطة "أردنت" بعد مطاردة طويلة عبر جزيرة "فوكلاند الغربية".
وخلال الهجمات الجوية السابقة حاول الطيارون الأرجنتينيون التغلب على صواريخ الدفاع الجوي للسفن البريطانية بالاقتراب منها بسرعات عالية وعلى ارتفاع منخفض جداً، مما كان يؤدي في كثير من الأحيان إلى عدم انفجار قنابلهم زنة ألف رطل، وقد تعرَّضت كلٌ من المدمرتين "انتريم" و"بروودسورد" والفرقاطتين "أردنت" و"أرجنوت" للهجوم عليها بالقنابل والمدافع، وكانت المدمرة "بروودسورد" هي الوحيدة التي تعرضت للهجوم بمدافع الطائرات فقط، ونتيجة لتلك الهجمات أُصيبت السفن الثلاث الأخيرة إصابات شديدة، بينما أُصيبت المدمرة "انتريم" بأضرار بالغة نتيجة لإصابتها بقنبلة اخترقت مؤخرتها.
ويبدو أن مخابرات القيادة الأرجنتينية في "بوينس أيرس" لم تعلم في البداية بوجود قوة رئيسية من سفن الإبرار في مراسي "سان كارلوس"، فلم تتعرض تلك السفن لأي تهديدات حقيقية خلال المرحلة الأولى للهجوم، وهو أمر حاولت القيادة الأرجنتينية تصحيحه عندما بدأت المرحلة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم، إلا أن المرة الوحيدة التي نجحت فيها طائرات القتال الأرجنتينية في اختراق دفاعات سفن القتال البريطانية والوصول إلى "مياه سان كارلوس"، لم يكن الحظ فيها حليفها، فلم تُصب أيٌّ من سفن الإبرار في تلك المياه.
وخلال المرحلة الثانية التي استمرت نحو ساعة تقريباً، استخدم فيها الطيارون المهاجمون تكتيكات أفضل مع تركيز الجهود أثناء الهجوم، كما عدَّلت سفن القتال البريطانية في مضيق "فوكلاند" أوضاعها لتحقيق أداء أفضل لمنظومة الدفاع الجوي بتلك السفن، والتي دُعمت بزيادة أعداد الطائرات في دوريات المقاتلات، ممَّا زاد من فعالية الدفاع الجوي البريطاني نسبياً في المنطقة وأدَّى إلى إسقاط ست طائرات أخرى بواسطة دوريات المقاتلات.
وعندما بدأت أولى موجات الهجوم خلال المرحلة الثانية، تلقت الفرقاطة "أرجنوت"، التي كانت تسد طريق الاقتراب إلى "مياه سان كارلوس"، صدمة الهجوم الأولى، فبينما كان طاقم الفرقاطة لا يزال يزيل أثار هجمات المرحلة السابقة، اقتربت ست طائرات "سكاي هوك" من الغرب عَبْر جزيرة "فوكلاند الغربية"، وفوجئ طاقم "أرجنوت" بظهور تلك الطائرات فوق مرتفعات الضفة الغربية لمضيق "فوكلاند".وعندما بدأت هذه الطائرات هجومها على المدمرة، نجحت دفاعات الأخيرة في إسقاط إحدى تلك الطائرات، غير أن السفينة أُصيبت بقنبلتين انفجرت إحداهما في المخزن الأمامي لصواريخ "سي كات"، وأدَّت إلى انفجار بعض الصواريخ وذخائر مدفعية الدفاع الجوي، بينما أصابت الثانية غرفة الغلايات دون أن تنفجر، إلا أنها أدَّت إلى توقف القوى المحركة بالفرقاطة، وجرها داخل "مياه سان كارلوس" تمهيداً لعودتها مبكراً إلى إنجلترا.
وفي الوقت الذي هُوجمت فيه الفرقاطة "أرجنوت" كانت المدمرة "برليانت" تتعرض أيضاً للهجوم، غير أن إصابتها كانت أقلَّ من سابقتها لعدم تعرضها للهجوم بالقنابل، إلا أن طلقات مدافع الطائرات اخترقت جدرانها الرقيقة وأدَّى انفجارها إلى قطع الكابلات المتصلة بمنظومة صواريخ "سي وولف" وأجهزة الكمبيوتر الأخرى، كما تعطَّل جهاز السونار وجُرح بعض الأفراد في غرفة العمليات.
ولم يكن حظ الفرقاطة "أردنت" أفضل من سابقتها، فعلى الرغم من إفلاتها من موجة الهجوم السابقة، إلا أن حظها الحسن لم يستمر طويلاً، فبعد قيامها بتقديم المعاونة بالنيران لجماعة القوات الخاصة في منطقة "جوس جرين" تلقت الفرقاطة الأمر بالانضمام إلى مجموعة سفن القتال خارج "مياه سان كارلوس"، فاتخذت مكانها على بعد ميل واحد من الفرقاطة "يارموث" في نهاية الطرف الجنوبي لمواقع سفن القتال الأخرى في مضيق "فوكلاند"، وقد وضعها ذلك الموقع في طريق طائرات القتال الأرجنتينية التي بدأت تقترب من اتجاه الجنوب الغربي.
وسرعان ما تعرضت الفرقاطة لثلاث هجمات منفصلة من طائرات "داجر" و"سكاي هوك"، وقد أمسكت بها الطائرات الأولى في وقت أصيب فيه نظام صواريخ "سي كات" بالسفينة بعُطل لم يُعرف سببه، ولم يكن لديها وسيلة أخرى للدفاع عن نفسها سوى مدافعها عيار 20 مم، إلاّ أن ذلك لم يكن كافياً بطبيعة الحال، فقد كان الطيارون الأرجنتينيون يقومون بالهجوم بشكل أفضل ممَّا كان عليه الحال خلال مرحلة الهجوم الأولى صباح ذلك اليوم، فأصيبت الفرقاطة بقنبلتين انفجرت إحداهما داخل حظيرة الطائرات العمودية وأدت إلى تدمير الطائرة العمودية وقاذف الصواريخ الذي كان فوق الحظيرة، فضلاً عن انفجار أحد الطوربيدات ومقتل أربعة من طاقم الفرقاطة.أما القنبلة الثانية فقد استقرت في غرفة المحركات المساعدة دون أن تنفجر.
وعلى أثر الهجوم السابق تلقت الفرقاطة الأمر بالتوجه شمالاً للاحتماء بين سفن القتال الأخرى، غير أنها سرعان ما تعَّرضت للهجوم مرتين أخريين بطائرات "سكاي هوك"، وأصيبت مؤخرتها إصابات بالغة، وبلغ عدد القنابل التي أصابتها سبع قنابل انفجرت كلُّها، وأدَّت إلى اشتعال النيران فيها ومقتل اثنين وعشرين من طاقمها، وعندما وجد قائدها أن الفرقاطة مهدَّدة بالغرق مرة واحدة، أمر طاقمها باخلائها، وما لبثت أن عجلت الانفجارات والنيران بغرقها جنوب غرب مدخل "مياه سان كارلوس" بنحو سبعة أميال ونصف الميل.
وبنهاية اليوم الأول للعملية "سَتُون" كان قد تمَّ إنزال ثلاثة آلاف فرد وألف طن من الأسلحة والمعدات ومواد الإمداد بأمان على شواطئ "سان كارلوس" دون تدخل حقيقي ضد عملية الإبرار، نظراً إلى تركيز الهجمات الجوية الأرجنتينية ضد مجموعة سفن الحماية والدعم في مضيق "فوكلاند"، والتي دفعت وحدها ثمن هذه الحماية، فقد أسفرت الهجمات الجوية الأرجنتينية خلال ذلك اليوم عن إغراق الفرقاطة "اردنت"، ووضع كل من المدمرة "انتريم" والفرقاطة "أرجنوت" خارج الخدمة وفي داخل كل منهما قنبلة معرَّضة للانفجار، فضلاً عن إصابة المدمرتين "برليانت" و"بروودسورد" إصابات شديدة، ومقتل ثلاثةٍ ضباطٍ وأربعةٍ وعشرين من الرتب الأخرى، بالإضافة إلى أسر أحد الطيارين.
وإلى جانب الخسائر البحرية السابقة، فقد اللواء الثالث طائرتين عموديتين من طراز "جازيل" بطياريهما، كما فقد السرب الأول إحدى طائراته من طراز "هارير GR3"، وكلها بنيران القوات البرية الأرجنتينية.
وعلى الجانب الآخر قامت القوات الجوية وطيران البحرية الأرجنتينية خلال ذلك اليوم بنحو ستين طلعة هجومية من القواعد الجنوبية في الوطن الأم، فضلاً عن بعض الطلعات المحدودة بواسطة الوحدات الجوية المتمركزة في مطارات "فوكلاند".وخلال هذه الطلعات فَقَدَ الأرجنتينيون اثنتي عشرة طائرة بواسطة المقاتلات وعناصر الدفاع في منطقة الإبرار.
وعلى الأرض تم تدمير ثلاث طائرات عمودية أرجنتينية بواسطة "الهارير GR3"، وإصابة بعض طائرات "بوكارا" بواسطة نيران الفرقاطة "أردنت".أما الخسائر البشرية الأرجنتينية فتمثلت في مقتل خمسة من طياري القتال وعشرة أفراد من القوات البرية، وأسر ستة آخرين[2].
وعلى الصعيد البري قامت القيادة الأرجنتينية في "فوكلاند" ببعض المحاولات الفاشلة لدعم قواتها في "جوس جرين" لتمكينها من إحباط الإبرار البريطاني أو عرقلته على الأقل.فعلى ضوء المعلومات الناقصة التي تلقاها الجنرال "منديز"، كان تقديره الأوَّلي أن البريطانيين أنزلوا كتيبتين على شاطئ "سان كارلوس"، وهو ما اعتبره إبرار ثانوي لجذب اهتمامه نحو تلك المنطقة، بينما يتم الإبرار الرئيسي بالقرب من "ستانلي" فيما بعد، ومن ثم ظل متمسكاً بالتجميع الرئيسي لقواته في منطقة "ستانلي".
وكانت أولى محاولات القيادة الأرجنتينية لدعم قواتها في "جوس جرين" هي دفع مدفعين عيار 105 مليمتراً إلى تلك القوات على متن إحدى سفن خفر السواحل ليلاً، غير أن بعض طائرات "الهارير" من السرب 800 اكتشفت السفينة البطيئة صباح اليوم التالي قبل وصولها إلى هدفها وهاجمتها بمدافعها وأصابتها إصابات بالغة لم تسمح لها باستكمال مهمتها، فتم إفراغ حمولتها ونقلها بالطائرات العمودية إلى "جوس جرين" التي دُعمت بمدفعين إضافيين جرى نقلهما جواً في وقت لاحق، ووصلت هذه المدافع إلى هدفها في الوقت المناسب لتشترك في القتال ضد كتيبة المظلات الثانية خلال معركة "جوس جرين".
وفي الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية مستمرة في بناء رأس الشاطئ، كان الجنرال "جالتييري" يضغط على "منديز" ليفعل شيئاً حيال ذلك، إلا أن الأخير أوضح له أنه لا يستطيع دفع قواته إلى "سان كارلوس" لقلة وسائل النقل المتاحة لديه، فضلاً عن أن الخطة الدفاعية ـ التي صدقت عليها القيادة الأرجنتينية في "بيونس أيرس" ـ بُنيت على أساس تركيز الجهود في منطقة "بورت ستانلي".
وطلب الجنرال "منديز" من القيادة الأرجنتينية العامة دفع لواء قرطبة (فوج مدعم)[3] جواً من قاعدته في الوطن إلى مطار "جوس جرين"، غير أن الجنرال "جالتييري"، رفض هذا الطلب خوفاً من اعتراض المقاتلات البريطانية لطائرات النقل، وعرض بدلاً من ذلك دفع قوات اللواء على دفعات صغيرة تسمح لطائرات النقل بالتسلل ليلاً إلى مطار "ستانلي"، ثم تقوم الطائرات العمودية بنقلها بعد ذلك إلى "جوس جرين"، إلاّ أن الجنرال "منديز" وجد أن عملية النقل الجوي إلى "ستانلي" بالشكل المقترح ستستغرق عشرة أيام، فضلاً عن أن ما تبقى لديه من طائرات عمودية لن يسمح بنقل قوات اللواء إلى "جوس جرين" في وقت مناسب، ومن ثمَّ استُبعدت تلك الفكرة.
3.احتلال وتأمين رأس الشاطئ، 22-27 مايو (أُنظر شكل احتلال رأس الشاطئ)
إزاء عجز الأرجنتينيين عن القيام بعمل بريّ فعَّال لإيقاف بناء وتدعيم رأس الشاطئ البريطاني في منطقة "سان كارلوس"، لم يكن أمامهم سوى شن سلسلة من الهجمات الجوية على القوات البريطانية في تلك المنطقة، استمرت ستة أيام (من 22 إلى 27 مايو)، نفَّذوا فيها اثنتي عشرة غارة مستقلة، شارك فيها نحو مائة وثلاثين طائرة.
وخلال هذه الفترة تخلى الأرجنتينيون عن تكتيكاتهم الجوية السابقة التي أصابتهم بخسائر جسيمة في أُولى أيام الإبرار، ولجأوا إلى أسلوب جديد هو اقتراب طائراتهم في أقسام منفصلة كل طائرتين على ارتفاع منخفض جداً، مع استغلال الجزر والهيئات الطبيعية لستر اقترابها من أهدافها وعدم كشفها مبكراً برادارات السفن البريطانية، كما كثر استخدامهم لطائرات الإمداد بالوقود جواً، ممَّا سمح بزيادة فترة بقاء طائراتهم في الجو ومكَّن الطياريين الأرجنتينيين من تفادي المقاتلات البريطانية والاقتراب من منطقة رأس الشاطئ من اتجاهات أقل تعرضاً للنيران المعادية، ودَعَّم أعمال قتالهم محطات الرادار الأرجنتينية في "فوكلاند" ـ التي تَحَسَّن أداؤها خلال هذه الفترة ـ فكانت ترصد محلات دوريات المقاتلات البريطانية وتبلّغها للطائرات المقتربة، بينما كانت طائرات النقل النفاثة تقوم باستنزاف مجهود المقاتلات البريطانية وجذبها بعيداً عن منطقة "سان كارلوس" بالاقتراب من الجزر على ارتفاع عالٍ، وعندما توجه إليها المقاتلات البريطانية كانت تستدير عائدة بسرعة عالية بعيداً عن تلك المقاتلات.
وخلال تلك الفترة تركَّزت الهجمات الجوية الأرجنتينية على السفن البريطانية في مياه ومراسي "سان كارلوس"، إلا أن نيران الأسلحة المضادة للطائرات بالمنطقة لم تمكنها إلا من إصابة ثلاث سفن (سفينتي الإبرار "سير جلاهاد" و"سير لانسلوت"، والفرقاطة "أنتلوبي").وأُصيبت كل من الأوليين بقنبلة لم تنفجر في الرابع والعشرين من مايو، بينما أصيبت الثالثة قبل ذلك بيوم واحد ـ بعد وصولها إلى المنطقة بأربع ساعات ـ بقنبلة من إحدى طائرات "سكاي هوك" اخترقت جانبها الأيمن واستقرت فوق غرفة المحركات دون أن تنفجر، وفي اليوم التالي تعرضت الفرقاطة "أنتلوبي" لهجوم جديد من طائرة "سكاي هوك" أخرى وضعت قنبلة ثانية لم تنفجر في جانبها الأيسر، غير أنها أدَّت إلى مقتل أحد أفراد الطاقم وجرح اثنين آخرين، وعندما جرت محاولة تأمين هذه القنبلة انفجرت وأدَّت إلى اشتعال النيران في الفرقاطة وتفجير مخزن صواريخ "سي كات"، ممَّا تسبَّب في شَطْر الفرقاطة وغرقها بعد أن تمَّ إخلاء طاقمها الذي قُتل وجرح منه عددٌ كبيرُ من الأفراد.
وإزاء الهجمات الجوية الأرجنتينية منذ اليوم الأول للإبرار، اضطر الأدميرال "وودوارد" إلى دفع حاملتي طائراته نحو خمسين ميلاً، في اتجاه منطقة "سان كارلوس" في بعض الأيام، كما دفع المدمرتين "كوفنتري" و"بروودسورد" إلى شمال جزيرة "ببل" لعمل كمين صواريخ في طريق اقتراب الطائرات الأرجنتينية القادمة من الوطن الأم، ولما كانت الفرصة لم تُتح لاشتباك المدمرتين بصواريخهما حتى مساء الرابع والعشرين من مايو، فقد تساءل قائداهما عمَّا إذا كان من الأنسب العودة والانضمام إلى مجموعة القتال الرئيسية، إلا أن الأدميرال "وودوارد" رأى استمرار بقائهما في المنطقة يوماً آخر، فقد قَدَّر احتمال تكثيف الأرجنتينيين هجماتهم الجوية في اليوم التالي (25 مايو) الذي يوافق العيد الوطني للأرجنتين.
وكان القائد البريطاني مُحقاً في تقديره، فقد خطَّط الأرجنتينيون لتوجيه ضربة قاسية للأسطول البريطاني شمال جزر فوكلاند، وكان أبرزُ أهدافِهم في ذلك اليومِ هما مُدمرتا الكمين أمام جزيرة "ببل" وإحدى حاملتي الطائرات وسط مجموعة القتال الرئيسية شمال جزيرة "فوكلاند الشرقية"، وإن كان الطيران الأرجنتيني افتتح أعمال قتاله في ذلك اليوم بسلسلة من الهجمات الجوية في منطقة الإبرار، ثُم جاء الدور على المدمرة "كوفنتري" بعد ظُهر اليوم نفسه، فأصابتها طائرتا "سكاي هوك" بقنبلتين مدمرتين زنة كل منهما ألف رطل، اخترقت الأولى جانبها الأيسر وانفجرت داخلها، وأطاح انفجار الثانية بغرفة عمليات المدمرة وقتل عشرة أفراد من طاقمها في غرفة المحركات الأمامية، وسرعان ما بدأت المدمرة تميل بشدة على جانبها الأيمن، فأسرع طاقمها بمغادرتها قبل غرقها، وبعد نحو ساعة من الهجوم عليها انقلبت السفينة وغاصت في الْيَمِّ.
ولم يمض وقتٌ طويلٌ على غرق المدمرة السابقة حتى أقلعت طائرتا "سوبر اتندار" من قاعدة "ريو جاليجوس" وبكل منهما صاروخ "إكسوست" مستهدفة أحد الأهداف البريطانية الثمينة المتمثلة في حاملتي الطائرات "هيرمس" و"انفنسبل"، وبعد إعادة تزويدهما بالوقود جواً، اتجهت الطائرتان إلى نقطة شمال جُزر "فوكلاند" بنحو مائة وعشرة أميال (177,9 كم)، ثم استدارتا ناحية الجنوب، وسرعان ما اكتشف الطياران على شاشتي الرادار مجموعة القتال الرئيسية على مسافة سبعين ميلاً (113 كم) شمال الطرف الشمالي الشرقي لجزيرة "فوكلاند الشرقية".
وفي نحو الساعة 1630، وعلى مسافة 30 ميلا (48.5 كم) شمال موقعها في النطاق الخارجي لمجموعة القتال الرئيسية اكتشفت الفرقاطة "أمبوساد" الطائرتين المقتربتين على شاشة رادارها طراز 992، وأنذرت باقي الأسطول في الحال، فأطلقت معظم سفن القتال قذائف الرقائق المعدنية “Shaff” للتشويش على رادارات العدو المقترب والصواريخ التي يحملها، إلاَّ أنَّ سفينة الحاويات الكبيرة "أتلانتك كونفيور" التي كانت على نحو ميلين (3كم) يمين الفرقاطة "أمبوساد" لم تكن مزودةً بمثل تلك الوسائل الدفاعية، فما أن أطلق الطياران الأرجنتينيان صاروخيهما في اتجاه سفن القتال حتى انحرف أحدهما نحو "أتلانتك كونفيور"، بينما ضلَّ الآخر اتجاهه.
وسرعان ما اندلعت النيران في السفينة الضخمة على أثر الانفجار الذي أطاح بجزء من هيكلها الأيسر، وعندما فقدت السيطرة على النيران غادرها طاقمها بعد أن فقد اثني عشر رجلاً، وما لبثت النيران المشتعلة أن أتت على آلاف الأطنان من مواد الإمداد بالإضافة إلى ثلاث طائرات عمودية "شينوك" وست أخريات من طراز "وسكس"، الأمر الذي تسبَّب في مشكلة إدارية لقيادة اللواء الثالث، وخاصةً في مجال النقل الجوي، فقد كان مخططاً إبحارُ السفينة المحترقة إلى "سان كارلوس" في تلك الليلة.
وبَعْدمَا يقربُ من يومين تراجعت فيهما الهجمات الجوية الأرجنتينية، نشطت تلك الهجمات مرة أخرى مساء السابع والعشرين من مايو لأول مرة ضد القوات البرية البريطانية في رأس الشاطئ، فقصف تشكيل "سكاي هوك" مركز قيادة اللواء الثالث بقنابل مزودة بمظلات فرملية إلا أنها سقطت بالقرب منه فقتلت جنديين وجرحت أربعةً آخرين، وقصف تشكيل أرجنتيني آخر القوات البريطانية في خليج "أجاكس" ـ على الضفة المقابلة "لسان كارلوس" ـ بأربع قنابل مماثلة، قتلت إحداهما أربعةَ جنودٍ وجرحت عشرين آخرين (مات أحدهم فيما بعد)، وكانت معظم الخسائر من أفراد الكتيبة 45 كوماندوز، غير أن الوحدة الطبية ـ التي لم تميز نفسها بعلامة الصليب الأحمر لوجودها وسط قوات أخرى ـ نجت بأعجوبة، لعدم انفجار القنابل الثلاث التي سقطت عليها مباشرةً، وعلى أثر هذا الهجوم تحطمت إحدى طائرات "سكاي هوك" بواسطة نيران الدفاعات المضادة للطائرات في "سان كارلوس"، إلاّ أن طيارها قفز بالمظلة.
وعلى الجانب الآخر كان نجاح المقاتلات البريطانية في إحباط الهجمات الجوية الأرجنتينية محدوداً، فمن الغارات الجوية الأرجنتينية الاثنتي عشرة التي تمَّ شنُّها في هذه الفترة، لم تصد تلك المقاتلات إلا ثلاثاً منها.
وفي الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية عاكفةً على دعم وتأمين أوضاعها في رأس الشاطئ استعداداً للخطوة التالية كانت طائرات الاستطلاع البحري من طراز "نمرود" المتمركزة في جزيرة "أسنشن" تقوم بدوريات مكثفة ولفترات طويلة لاستطلاع المسرح البحري جنوب الأطلسي ومتابعة التحركات الأرجنتينية فيه، بينما كانت طائرات "نبتون" و"بوينج 707" الأرجنتينية تتابع التحركات البحرية البريطانية في المسرح عن بعد خوفاً من اعتراضها بواسطة مقاتلات "الهارير" البريطانية المتمركزة على مَتْن حاملتي الطائرات، وفي الخامس والعشرين من مايو تمركزت بعض طائرات "الفانتوم" التابعة للسرب التاسع والعشرين بجزيرة "أسنشن" للدفاع الجوي عن القوات البريطانية في الجزيرة والمياه المحيطة بها.
ومع تزايد حِدَّة القتال خلال هذه الفترة بدأت القوات الجوية الأرجنتينية تُعاني من العجز في ذخائرها الحيوية وصعوبة تدبيرها من الخارج نتيجة للحظر الأوروبي والأمريكي المفروض عليها، وعندما حاولت الالتفاف حول قرار الحظر باستيراد احتياجاتها من الذخائر عن طريق إحدى دول أمريكا اللاتينية التي أبدت استعداداً لمساعدتها، ظل ذلك الحظرُ عَقَبةُ كؤوداً أمام تلك الجهود، مثُلَما حدث عندما احتجزت الولايات المتحدة الأمريكية إحدى طائرات الشحن من طراز "بوينج 707" تابعة للإكوادور ـ كانت تحمل شحنة من القنابل المصنَّعة في إسرائيل ـ عندما هبطت للتزوُّد بالوقود في مطار "كيندي" بنيويورك وهي في طريقها إلى الأرجنتين، وعندما عرضت "بيرو" مساعدات عسكرية على الأخيرة، احتجزت السلطات الفرنسية إحدى سفنها التي كانت تحمل على مَتْنِها ثمانية صواريخ "إكسوست"، ثم سمحت لها بمغادرة ميناء "الهافر" يوم 20 مايو بعد مصادرة حمولتها من تلك الصواريخ.
وعلى عكس الأرجنتين لم تكن القوات البريطانية تعاني عجزاً في ذخائرها أو معداتها، فقد كانت مصانعها فضلاً عن المصانع الأمريكية تُلبِّي احتياجاتها مع إجراء التعديلات اللازمة عليها طبقاً لنتائج الاستخدام الميدانيّ لها، كما سمح لها حجمُ أسطولها الكبير وتنوّع وحداته باستيعاض معظم خسائرها في سفن القتال، بينما كانت القيادة الأرجنتينية عاجزة عن استيعاض خسائرها البحرية أو الجوية.
وخلال هذه الفترة (22-27 مايو) خسر الأرجنتينيون إحدى عشرة طائرة منها خمسٌ بواسطة المقاتلات وأسلحة الدفاع الجوي البريطانية في منطقة "سان كارلوس"، والباقي بواسطة نيران الأرجنتنيين أنفسِهم في الجزُر، وفي مقابل هذه الخسائر تكَّبِد الأسطول البريطاني خسائر جسيمة ـ نتيجة للهَجمَاتِ الجوية الأرجنتينية تمثَّلت فيما يلي:
أ. إغراق المدمرة "كوفنتري".
ب. إغراق الفرقاطة "أنتلوبي".
ج. إغراق سفينة الحاويات "أتلانتك كونفيور"
أمّا الخسائُر الجويةُ البريطانيةُ في تلك الفترة فتمثلت فيما يلي:
أ. تدمير طائرة "سي هارير" (حادث).
ب. تدمير ثلاث طائرات عمودية "شينوك".
ج. تدمير ست طائرات عمودية "وسكس".
وعلى الرغم من الخسائر البريطانية السابقة، وفَقْد آلاف الأطنان من مواد الإمداد مع غرق السفينة "أتلانتك كونفيور" فإن القوات البريطانية نجحت في تثبيت أقدامها في رأس الشاطئ ودعم أوضاعها وتأمينها، وبنهاية هذه الفترة كان هناك نحو خمسة آلاف فردٍ وأكثر من عشرةِ آلاف طنٍ من مواد الإمداد في رأس الشاطئ، ينتظرون وصول اللواء الخامس للتحرُّك نحو الأهداف المخطَّطة التالية.



[4] عدم قدرة القوة الجوية على متن حاملتي الطائرات هيرمس وانفسبل على تحقيق السيطرة الجوية في منطقة فوكلاند، كما كان مأمولاً، إضافة إلى غرق الطائرات العمودية، التي كان يعتمد عليها قائد اللواء الثالث في نقل قواته.


[1] في غياب نظام الإنذار المحمول جواً (AEWS) ورادارات الرؤية السفلى (Look Down Radar) في مقاتلات الهارير ووجود حاملتي الطائرات هيرمس وأنفنسيل بعيداً عن منطقة الإبرار لتجنب الهجوم عليهما بصورايخ إكسوست، اعتمد نظام الإنذار الجوي في منطقة الإبرار على رادارات سفن الحماية والمساندة الراسية في مضيق فوكلاند، إلا أن الجبال المحيطة بذلك المضيق كانت تحد من قدرة تلك الرادارات على اكتشاف الطائرات الأرجنتينية في الوقت المناسب، كما أن الأعداد المحدودة من مقاتلات الهارير لم تكن تسمح بالتواجد في الدوريات الجوية طوال الوقت، وحتى عندما تتواجد تلك المقاتلات في الجو لم يكن مركز السيطرة على المدمرة انتريم قادراً على توجيهها على الطائرات المقتربة نتيجة لإعاقة الجبال المحيطة للكشف الراداري، وكان كل ما يستطيع هذا المركز هو إبلاغ المقاتلات البريطانية عن الهجمات الجوية الأرجنتينية ومكان هذه الهجمات وتوقيت مغادرة الطائرات الأرجنتينية لمنطقة الهجوم.


[2] تشير بعض المصادر الغربية إلى أن الأرجنتين فقدت في ذلك اليوم ثلاث عشرة طائرة قتال (طائرة ميراج، 5 طائرات سكاي هوك، 5 طائرات داجر، وطائرتين بوكارا، أسقطت المقتلات البريطانية منها تسع طائرات (5 طائرات بواسطة السرب 800، 4 طائرات بواسطة السرب 801)، بينما أسقطت سفن القتال ثلاث طائرات، كما أسقطت أحدى جماعات القوات الخاصة طائرة واحدة.


[3] كان هذا اللواء يمثل الاحتياطي الإستراتيجي الأرجنتيني بالنسبة إلى فوكلاند.

http://defense-arab.com/vb/showthread.php?p=190933#_ftnref4
 
رد: حرب جزر فوكلامد بين بريطانيا والارجنتين عام 1982

المبحث السابع .


معركة "بورت ستانلي" 27مايو- 14 يونيه 1982

أولاً: التقدم نحو الهدف المرحلي الأول، 27 مايو ـ 4يونيه (أُنظر شكل احتلال رأس الشاطئ)
بعد سقوط "جوس جرين" رُكزت كل الجهود البريطانية فيمنطقة العمليات للاستيلاء على "بورت ستانلي"، ليس فقط لأنها عاصمة جزر "فوكلاند"،بل أيضاً لأنه يتمركز حولها التجميع الرئيسي للقوات الأرجنتينية في تلك الجزر، وتقع "بورت ستانلي" على رأس شبه جزيرة مثلَّثة الشكل في نهاية الطرف الشرقي لجزيرة "فوكلاند الشرقية" على الجانب المضاد لذلك الذي يقع عليه راس الشاطئ البريطاني فيمنطقة "سان كارلوس".
وتنتشر بطول قاعدة شبه الجزيرة ـ التي تمتدلمسافة خمسة أميال (8.1 كم) بين "تيلانلت Teal Inlte" شرم تيل) في الشمالو"بلف كوف" في الجنوب ـ سلسلة من الجبال تتمثل في جبال "استانسيا" في الشمال و"كنت" في الوسط و"تشالنجر" في الجنوب، كما تقع بين رأس شبه الجزيرة وقاعدتها سلسلتانأخريان من الجبال، أولاها جبلا "توسيسترز Two Sisters" الأختين) وجبل "هارييت" جنوبهما، وعلى مسافة ثلاثةأميال (4.8 كم) شرق السلسلة السابقة،وتقع السلسلة الثانية التي تتكون من جبل "لونجدون Longdon" في الشمال و"تمبل دون Tumbledown" في الوسط وجبل "وليم" في الجنوب، كما يطلعلى "بورت ستانلي" من الشمال الغربي تلال "ويرلس ريدج Wireless Ridge"، ومن الجنوب الغربي "تل سابر Sapper Hill".
وقد وقع الاختيار على السلاسل الجبليةالسابقة لتكون هي الأهداف المرحلية المتعاقبة التي كان على وحدات اللواء الثالثبلوغها خلال رحلة زحفها إلى "بورت ستانلي"، وكان الهدف المرحلي الأول لتلك الوحداتهو الاستيلاء على سلسلة جبال "استانسيا ـ كنت ـ تشالنجر"، وهي قاعدة المثلث التيتبعد عن رأس الشاطئ بنحو 40 ميلاً (64.7 كم).
وكانت المشكلة التي واجهت قيادة اللواءالثالث ـ بعد فَقْد معظم الطائرات العمودية، التي كانت على مَتْن السفينة "أتلانتككونفيور" ـ هي كيفية نقل وحدات اللواء إلى أهدافها المحدَّدة، حيث كان على كتيبةالمظليين الثالثة الاستيلاء على جبل "استانسيا"، بينما تستولي كتيبتا الكوماندوز 45و42 على جبلي "كنت" و"تشالنجر" على الترتيب، ولم تكن وسائل النقل البرية المتاحةتصلح بديلاً عن الطائرات العمودية المفقودة، فقد كان المتيسر منها محدوداً وقاصراًعلى عددٍ قليلٍ من ناقلات الجند طراز “BV-202”، وثماني مركبات "سكيمتار" بالإضافة إلى عدد قليل من دبابات الاستطلاعالخفيفة من طراز "سكوربيون". ومن ثمَّ كان البديل الوحيد المتاح هو تحرك وحداتاللواء الثالث سيراً على الأقدام نحو أهدافها المحدَّدة.
وفي اليوم نفسه، الذي انطلقت فيه كتيبةالمظليين الثانية نحو "جوس جرين" (27 مايو) غادرت الكتيبة 45 كوماندوز وكتيبةالمظليين الثالثة رأس الشاطئ متوجهتين إلى هدفهما الابتدائي (مستعمرة "تيل إنلت") وبعد أن قطعت الكتيبة الأولى خمسة عشر ميلاً (24.3 كم) عَبْر أراضٍ شديدة الوعورةقضى أفرادها ليلتهم الأولى خارج رأس الشاطئ في التلال في طقس غاية في البرودة، ثمواصلت الكتيبة سَيْرها في الصباح محاولةً الوصول إلى مستعمرة "دوجلاس" قبل حلولالظلام، وعندما وصلت الكتيبة إلى تلك المستعمرة مساء 28 مايو علمت أن القوةالأرجنتينية الصغيرة التي كانت بالمستعمرة قد غادرتها في اليوم السابق. وبعد راحةطويلة كان أفراد الكتيبة المُنْهَكَة في حاجةٍ إليها، استأنفت الكتيبة سيرها نحومستعمرة "تيل إنلت"، التي وصلت إليها قبلها كتيبة المظليين الثالثة، وغادرتها معآخر ضوء يوم 30 مايو لتتوجَّه إلى جبل "استانسيا" الذي وصلته وقامت بتأمينه مساءاليوم التالي، أما الكتيبة 45 كوماندوز فقد تأخر وصولها إلى جبل "كنت" حتى يوم 4يونيه.
وفي الوقت الذي كانت تجري فيه التحركاتالسابقة أبلغت إحدى جماعات القوات الخاصة ـ التي كانت تقوم بأعمال الاستطلاع في جبل "كنت" منذ أوائل مايو ـ أنه لا يحتل قمة ذلك الجبل سوى قوة أرجنتينية صغيرة، فقرَّرقائد اللواء الثالث دفع بعض قوات الكتيبة 42 كوماندوز للاستيلاء على ذلك الجبلوتأمينه قبل أن يتنبه الأرجنتينيون إلى أهميته وتعزيز الدفاع عنه، وفي مساء 31 مايوقامت بعض الطائرات العمودية المحدودة، التي أتيحت لقائد اللواء الثالث، بإبرارعناصر مركز القيادة للكتيبة 42 كوماندوز وإحدى سرايا هذه الكتيبة في أرض الهبوطأسفل جبل "كنت" والتي كانت تحتلها بعض الاحتياطيات الأرجنتينية قبل دفعها لتعزيزالدفاع عن "جوس جرين" يوم 28 مايو.
وبينما كانت عناصر قيادة الكتيبة تقوم بفتحمركز قيادتها المتقدم على بعد بضعة مئات من الأمتار من أرض الهبوط، انطلقت سريةالكوماندوز تصعد الجبل لشنِّ هجومها على القوة الأرجنتينية التي تحتل قمته، غير أنهلفرط دهشتها وارتياحها وجدت المواقع الأرجنتينية خالية.
وخلال تلك الليلة نُقل إلى أرض الهبوطالمشار إليها بالطائرات العمودية جماعة مورتار (هاون) وثلاثة مدافع هاوتزر عيار 105مليمترات من البطارية السابعة الخفيفة ومعها ثلاثمائة من قذائفها، وفي صباح الأولمن يونيه دُعمت القوات البريطانية في جبل "كنت" بجماعة صواريخ "بلوبب" للدفاع ضدَّالهجوم الجوي المعادي.
وفي اليوم نفسه، دفع قائد اللواء الثالثباقي الكتيبة 42 كوماندوز بالطائرات العمودية على دفعات للاستيلاء على جبل "تشالنجر" الذي ظهر أنه غيرُ محتل أيضاً، وبعد زحف طويل وصلت الكتيبة 45 كوماندوزإلى الميول الخلفية لجبل "كنت" يوم 4 يونيه. وبوصول تلك الكتيبة واتخاذها أوضاعهافي سفح ذلك الجبل أصبحت ثلاثاً من كتائب اللواء الثالث تسيطر على خط المرتفعاتالممتد من جبل "استانسيا" إلى جبل "تشالنجر"، والتي تمثل قاعدة المثلث التي تقع "بورت ستانلي" على قمته ـ محققة بذلك الهدف المرحلي الأول للواء ـ بينما كانتالكتيبة 40 كوماندوز تحتل رأس الشاطئ في منطقة "سان كارلوس" وكتيبة المظليينالثانية تحتل "جوس جرين".
ثانياً: وصول اللواء الخامس المشاة وانتقاله إلى "فيتزوري"، 30 مايو ـ 8 يونيه ((أُنظر شكل احتلال رأس الشاطئ)
في الوقت الذي كانت فيه قوات اللواء الثالثتتقدم لتحقيق هدفها المرحلي الأول وصل اللواء الخامس المشاة بقيادة البريجادير "توني ويلسون" إلى مياه "سان كارلوس". وعلى عكس اللواء الثالث كوماندوز كان اللواءالخامس يفتقر إلى وحدات المعاونة بالنيران والشؤون الإدارية اللازمة لمثل هذهالعمليات، ولم يحظ اللواء منذ تشكيله قبل خمسة أشهر إلا بقليل من التدريب على مستوىاللواء.
وزاد موقفَ اللواءِ الخامسِ سوءاً سحبُكتيبتين من صُلب تنظيمه هما كتيبتا المظليين الثانية والثالثة ـ اللتان ضُمتا علىاللواء الثالث كوماندوز في بداية الأزمة ـ وضم كتيبتين أخريين أُخليتا من واجباتهماالعامة (الحراسة والمراسم) بدلاً منهما هما كتيبتا "ولش جاردز" و"سكوتس جاردز"،اللتان تمَّ تدريبهما للعمل كمشاة ميكانيكية تقاتل من المركبات المدرعة، وكانتكتيبة "الجوركا" المتبقية هي الكتيبة الوحيدة المدربة على القتال المترجل، ولمتقلق نقاط الضعف السابقة وزير الدفاع البريطاني عند ضمّ هذا اللواء إلى قوة الواجب،لأنه عُدَّ في البداية مجرد احتياطي للواء الثالث.
وفي الثلاثين من مايو وصل مع اللواء الخامسالميجور جنرال (اللواء) "جيرمي مور" ـ الذي عُيِّن لقيادة كل القوات البرية للحملةـ ومعه هيئة قيادته المكونة من ثمانين فرداً، وفور وصوله فتح مركز قيادته على مَتْنالسفينة "فيرلس" وأصبح ممكناً تحرك قيادة اللواء الثالث إلى الأمام، كما كان مخططاًدون القلق على الحاجة إلى إبقاء الاتصال مع قيادة الحملة في "نورث وود" عَبْرالأقمار الصناعية التي أصبحت الآن مسئولية الجنرال "مور". وعندما بدأ الأخير يمارسمهامه كان أمامه خياران للتقدم نحو "بورت ستانلي"، الأول هو تطوير الهجوم باللواءالخامس وحده للاستيلاء على العاصمة مع إبقاء اللواء الثالث احتياطي، والثاني هوتطوير الهجوم على محورين باللواءين معاً.
وقد أَيَّد البريجادير "ولسن" قائد اللواءالخامس الخيار الثاني لأنه يسمح للواء الأخير بالهجوم على المحور الجنوبي منطلقاًمن "بلاف كوف"، بينما يقوم اللواء الثالث بالهجوم على المحور الشمالي انطلاقاً منأوضاعه على خط المرتفعات (جبل استانسيا ـ كنت ـ تشالنجر)، غير أن العقبة الأساسيةالتي واجهت الجنرال "مور" هي قلة عدد الطائرات العمودية اللازمة لنقل اللواء الخامسإلى المنطقة الابتدائية للهجوم، خاصة وأن مجهود الطائرات العمودية المتيسرة آنذاككان مخصصاً بالكامل لنقل الإمدادات إلى اللواء الثالث وتزويده باحتياجاته منالمدافع والذخائر تمهيداً للهجوم النهائي على "بورت ستانلي".
وفي الوقت الذي كان فيه الجنرال "مور" وهيئة قيادته يبحثون احتياجات كل من الخيارين السابقين كان على قائد اللواء الخامسدفع كتيبة "الجوركا" إلى "جوس جرين" لتحلَّ محل كتيبة المظليين الثانية حتى يمكنللأخيرة أن تعود تحت قيادة اللواء الخامس، غير أن قائد الكتيبة الثانية ـ الذي أحسناستخدام خطوط المواصلات الهاتفية المدنية ـ اكتشف إن مستعمرة "فيتزوري" الواقعة علىساحل "بلف كوف" قد أُخليت تماماً من القوات الأرجنتينية، فقام قائد اللواء الخامسبتخصيص الطائرة العمودية "الشينوك" الوحيدة التي نجت من الحريق على مَتْن السفينة "أتلانتك كونفيور" ـ لنقل إحدى سرايا كتيبة المظليين الثانية إلى منطقة مرتفعة تشرفعلى "بلف كوف"، ثم أتبعها بسرية أخرى من الكتيبة نفسها، وبوضعه نصف قوات الكتيبةالثانية وحدها في هذا الموقع المعرض للهجمات الأرجنتينية، فإنه ضغط لصالح قبولالجنرال "مور" للخيار الثاني، وهو تطوير الهجوم على المحور الشمالي والجنوبيباللواءين معاً، وأصبحت المشكلة الآن هي كيف يتم نقل اللواء الخامس إلى المنطقةالابتدائية للهجوم على المحور الجنوبي. فدُفعت في البداية كتيبة "ولش جاردز" سيراًعلى الأقدام، كما حدث مع الكتيبتين 45 كوماندوز والثالثة مظليين على المحورالشمالي، إلا أنه سرعان ما اكتشفت قيادة اللواء الخامس أن الكتيبة المدربة علىالتحركات الميكانيكية غير مؤهلة للتحركات الطويلة المترجلة عَبْر الأراضي الوعرة،فتمَّ سحبُها داخل نطاق منطقة "سان كارلوس".
وإزاء عدم قدرة قوات اللواء الخامس علىالتحرك المترجل، وقصور إمكانات الطائرات العمودية المتاحة عن نقل كل وحدات ذلكاللواء إلى مناطق حشدها قُرب مستعمرة "فيتزوري" لم يكن أمام الجنرال "مور" سوىالقبول بإبرار وحدات اللواء الخامس بحراً قرب منطقة تجمعها على الرغم من مخاطر هذهالعملية في ظل التهديد الجوي الأرجنتيني والأحوال الجومائية السيئة.
وكان القرار في البداية هو نقل وحداتاللواء الخامس بسفينتي الاقتحام "فيرلس" و"انتربيد". وفي طقس سيئ تم تحميل كتيبة "سكوتس جاردز" في الخامس من يونيه على مَتْن السفينة الأخيرة، وبعد سبع ساعات فيطقس عاصف وصلت فيه سرعة الرياح إلى سبعين عقدة (126 كم في الساعة) وصلت السفينة إلىشاطئ "بلف كوف"، وفي اليوم التالي جَرَت محاولة لنقل كتيبة "ولش جاردز" بواسطةالسفينة "فيرلس" إلا أن تلك المحاولة انتهت بالفشل بسبب الطقس العاصف، وخوفاً علىسفن الاقتحام المحدودة رأت قيادة الحملة في "نورث وود" استبعاد هاتين السفينتين منعملية النقل واستبدالها بسفن الإبرار الإداري، وفي السابع من يونيه حُمِّلت كتيبة "ولش جاردز" على مَتْن السفينتين "سير جالاهاد" و"سير تريسترام" اللتين وصلتا ـ بعدرحلة ليلية ـ إلى مياه "بلف كوف" صباح اليوم التالي.
ونظراً إلى عدم كفاية تدريب أفراد هذهالكتيبة على عمليات الإبرار البحري وإعطاء الأسبقية لإنزال عناصر الدفاع الجوي، كانمعظم أفرادها لا يزالون على متن السفينتين بعد مرور خمس ساعات على وصولهما، وفيالساعة الواحدة وخمسين دقيقة بعد ظهر ذلك اليوم تعرَّضت هاتان السفينتان لهجوم جويّبواسطة أربع طائرات "سكاي هوك" وطائرتين من طراز "داجر" أسفر عن إصابة السفينتينبأضرار جسيمة ـ أدَّت إلى غرق "سير جلاهاد" فيما بعد ـ ومقتل تسعة وخمسين فرداًوإصابة ستة وأربعين آخرين من كتيبة "ولش جاردز"، بالإضافة إلى إصابة ثمانية عشربحاراً من طاقمي السفينتين، وكانت هذه الخسائر هي أعلى معدَّل في خسائر الأرواحمُنيت به القوات البريطانية منذ بداية الحملة، إلا أنه يمكن القول إن تلك الخسائرلم تؤثر كثيراً على أعمال القتال في هذا الاتجاه، لأنه سرعان ما تم استبدالالسريتين اللتين فقدتا كفاءتهما القتالية ـ نتيجة للهجوم الجوي ـ بسريتين منالكتيبة 40 كوماندوز، وبعد إعادة تنظيم أوضاع القوات أصبح اللواء الخامس مستعداًللهجوم النهائي على "بورت ستانلي".
ثالثاً: استعادة "بورت ستانلي"، 11 ـ 14 يونيه (أنظر خريطة خط المرتفعات الثاني) و(خريطة سقوط ستانلي) و(خريطة معركة ويرلس ريدج)
منذ إبرار وحدات اللواء الثالث في "سانكارلوس" كان البريطانيون يخطِّطون دائماً لعمليات سريعة، مستهدفين تحقيق النصرالنهائي في منتصف شهر يونيه، وعلى ذلك كان على الوحدات البرية مواجهة مشاكل الطقسالذي ازداد سوءاً بدخول فصل الشتاء، وصعوبة بقاء السفن عند خط القصف المدفعيللمعاونة، بالإضافة إلى ضغوط القيادة السياسية والمشاكل الإدارية المختلفة.
ومن ثمَّ كان هناك تخوفٌ من صعوبة تحقيقالمهمة النهائية وهي الاستيلاء على "بورت ستانلي"، خاصةً بعد تلقي الجنرال "مور" التقارير الأخيرة للاستخبارات ودوريات القوات الخاصة (التي تقوم بالاستطلاع خلفالخطوط الأرجنتينية)، فقد أشارت تلك التقارير إلى وجود أكثر من ثمانية آلاف جنديٍّأرجنتيني في حامية "بورت ستانلي" مزودين بمدافع عديمة الارتداد ومدافع ماكينةثقيلة، بالإضافة إلى ثلاثين مدفعاً عيار 105 مليمترات وأربعة مدافع هاوتزر عيار 155مليمتراً، كما أفادت التقارير المشار إليها أن القوات الأرجنتينية قد زَرَعت حقولألغام كثيرة على سفوح المرتفعات المحيطة بالعاصمة، ووضعت خطة للدفاع عنها بقواتمزوَّدة بأجهزة الرؤية الليلية، كما أقامت مواقع دفاعية جيّدة التحصين استغرقبناؤها ستة أسابيع.
وحيال هذا الموقف قدمت قيادة الجنرال "مور" له فكرتين لشنِّ الهجوم على "بورت ستانلي"، الفكرة الأولى تقوم على تثبيت القواتالأرجنتينية في القطاع الشمالي للجبهة وشنِّ الهجوم الرئيسي على المحور الجنوبي،والفكرة الثانية تقوم على الهجوم على طول الجبهة باللواءين بالتتالي، اللواء الثالثفاللواء الخامس. وقد اختار الجنرال "مور" الفكرة الثانية لأنه وجد أن الهجومالمتتالي بقوة اللواءين الثالث والخامس سوف يحافظ على قوة الدفع أثناء الهجوم منناحية ويحرم القوات الأرجنتينية من تعديل أوضاعها وإعادة تجميع قواتها من ناحيةأخرى.
ومن ثمَّ، أصدر الجنرال "مور" أوامره إلىقائد اللواء الثالث بالاستيلاء على الخط الثاني للأهداف المرحلية، وهو الخط الممتدمن جبل "لونجدون" إلى جبلي "توسيسترز" وجبل "هاريت"، وفور الاستيلاء على هذا الخطوتأمينه تقوم كتيبة المظليين الثانية بشن هجوم مساعد للاستيلاء على تلال "ويرلسريدج"، وبتحقيق اللواء الثالث لمهامه السابقة يندفع اللواء الخامس بكتائبه الثلاث" (سكوتس جاردز" و"ولش جاردز"، و"الجوركاز") من خلال اللواء الثالث لمتابعة الهجوموالاستيلاء على جبلي "تمبل دون" و"وليم"، ثم التقدم للاستيلاء على تل "سابر" واقتحام "بورت ستانلي" بالتعاون مع كتيبة المظليين الثانية.
وطبقاً لخطة اللواء الثالث ـ التي صدقعليها الجنرال "مور" في التاسع من يونيه ـ كان على كتيبة المظليين الثالثة التقدمللاستيلاء على جبل "لونجدون" ثمَّ استغلال النجاح للتقدم نحو مرتفعات "ويرلس ريدج" إذا كان ذلك ممكناً، أمَّا الكتيبة 45 كوماندوز فكان عليها الاستيلاء على جبلي "توسيسترز" ثُمَّ استغلال النجاح للتقدم نحو جبل "تمبل دون" أو جبل "وليم"، بينماكان على الكتيبة 42 كوماندوز الاستيلاء على جبل "هاريت"، مع بقاء الكتيبة 40كوماندوز كاحتياطي للواء الثالث، وعلى ذلك دُعمت كل من الكتائب الثلاث السابقةببطارية مدفعية عيار 105 مليمترات من اللواء 29 مدفعية، بالإضافة إلى نيران مدفعيةإحدى المدمرات أو الفرقاطات.
ولأن آخر ضوء ينتهي في نحو الساعة 1600وبدء ظهور القمر في الساعة 2000 تقريباً فقد تحددَّت سعت س لكتائب اللواء الثالثكما يلي:

كتيبة المظليين الثالثة


الساعة 2001.


الكتيبة 42 كوماندوز


الساعة 2030.


الكتيبة 45 كوماندوز


الساعة 2100.​


وكانت التوقيتات السابقة توفر لكل منالكتائب الثلاث القائمة بالهجوم ما بين أربع وخمس ساعات من الظلام للاقتراب منأهدافها سيراً على الإقدام، ونحو تسع ساعات من القتال في ضوء القمر لتحقيقمهامها.
وفي التوقيتات المحددَّة، بدأ هجوم الكتائبالثلاث السابقة على أهدافها ليلة 11/12 يونيه، وقد تمكنت الكتيبة 45 كوماندوز منتحقيق مهمتها سريعاً، كما تمكنت الكتيبة 42 كوماندوز من الاستيلاء على جبل "هارييت" بعد الالتفاف حول المواقع الأرجنتينية في ذلك الجبل والهجوم عليها من الخلف، أماكتيبة المظليين الثانية فقد تعثر هجومها في البداية على المواقع الأرجنتينية في جبل"لونجدون" بعد أن فقدت عنصر المفاجأة نتيجة لتورط أولى سراياها في حقل ألغام نبَّهتانفجاراتُه المدافعين، كما وجدت الكتيبة البريطانية نفسها في مواجهة فوج كامل منالقوات الأرجنتينية وليس مجرد سرية كما كان متوقعاً طبقاً للمعلومات التي بُنيتعليها خطة الهجوم.
ومن ثمَّ ارتدت أولى السرايا المهاجمة بعد تورطها في حقل الألغام وانهمار نيران المدافعين عليها، غير أن باقي قوات الكتيبةاستمرت في الهجوم الذي مضى بمعدلات بطيئة نتيجة لغزارة نيران القوات المدافعة التيكانت تنطلق من مدافع الماكينة الثقيلة والمدافع عديمة الارتداد، وعند الفجر بدأتدفة القتال تتحول لصالح البريطانيين بعد أن زادت كثافة النيران المعاونة لها منوحدات المدفعية والوحدات البحرية المساندة، التي نجحت في إسكات نيران المدافعين،وبصباح 12 يونيه كانت الكتيبة البريطانية قد نجحت في تطهير المواقع الأرجنتينيةوالسيطرة على جبل "لونجدون".
وأسفر هجوم الكتائب الثلاث عن تكبّدها 28قتيلاً منها 23 فرداً من الكتيبة الثالثة وحدها، بالإضافة إلى 68 جريحاً كان نصيبالكتيبة الثالثة منهم 47 فرداً.
وبعد تحقيق كتائب اللواء الثالث لأهدافهابالاستيلاء على خط المرتفعات المحدَّد لها (جبل "لونجدون"، و"توسيسترز"، وجبل "هارييت") حان دور اللواء الخامس ليتقدم عَبْر قوات اللواء الثالث للاستيلاء على خطالمرتفعات التالية (جبل "تمبل دون" و"وليم" وتل "سابر") ثم الانقضاض على "بورتستانلي". وطبقاً للخطة كان على اللواء الخامس أن يبدأ هجومه على المرتفعات السابقةليلة 12/13 يونيه، إلا أن حاجة كتائب اللواء إلى استطلاع أهدافها، وحاجة الطائراتالعمودية إلى الوقت اللازم لنقل قذائف المدفعية الضرورية لاستيعاض المستهلك منهاخلال الليلة السابقة ـ والتي وصلت معدلاتها 480-500 قذيفة لكل مدفع ـ أجَّلت توقيتبدء الهجوم إلى الليلة التالية، وخلال فترة الانتظار نشطت أعمال الاستطلاع بواسطةقادة وحدات اللواء الخامس، كما نشط البريطانيون لنقل الذخائر والإمدادات اللازمةلهجومهم الحاسم والأخير.
وبينما كانت تجرى التحضيرات السابقة استمرت السفن البريطانية في قَصْف القوات الأرجنتينية المرتدة والمواقع الدفاعية الباقيةحول العاصمة، وخلال عمليات القصف يوم 12 يونيه أصيبت المدمرة "جلامورجان" بصاروخ "إكسوست MM-38" من موقع أرضي على الشاطئنتج عنه تدمير مؤخرة سطح المدمرة وإحدى الطائرات العمودية "ويسكس" وحظيرتهاالصغيرة، بالإضافة إلى تدمير قاذف صواريخ "سي كات" ومقتل وإصابة 26 فرداً من طاقمالمدمرة.
وفي ليلة 13/14 يونيه استأنف البريطانيونتقدَّمهم فهاجمت كتيبة المظليين الثانية تلال "ويرلس ريدج" في شمال الجبهة، بينماهاجمت كتيبة "سكوتس جاردز" جبل "تمبل دون" في الوسط، أمَّا كتيبة "الجوركاز" فكانعليها الهجوم على جبل "وليم". وقد بدأ الهجوم أولاً في وسط الجبهة على جبل "تمبلدون" الذي يبلغ ارتفاعه نحو 250 م ويمتد لمسافة 2500 م، فقد كان هذا الجبلالذي يسيطر على مساحةٍ شاسعةٍ من الأراضي المنخفضة هو حجر الزاوية في الدفاعاتالمتبقية حول "ستانلي".
وبالنسبة إلى القوات الأرجنتينية، كان جبلا"تمبل دون" و"وليم" بمثابة قطاع دفاعي واحد ضمن النطاق الدفاعي للكتيبة الخامسةمشاة أسطول الذي يشمل أيضاً "تل سابر".
وقد اتخذت تلك الكتيبة أوضاعها على النحوالتالي:
1. السرية “N” تحتل قمة جبل "تمبل دون" وسفحه الجنوبي المواجه لجبل "وليم" بثلاث فصائل، بينما تحتل الفصيلة الرابعة من تلك السرية الجبل الأخير.
2. السرية “M” تحتل تل "سابر" جنوب غرب "ستانلي".
3. السرية “O” (وهي عبارة عن فصيلة مدعمة تمثل احتياطي الكتيبة الخامسة) تتخذ مواقعها على طريق "فيتزوري/ ستانلي".
4. قيادة الكتيبة الخامسة تتخذ محلاتها على مسافة 2500 م غرب جبل "تمبل دون"، في منتصف المسافة تقريباً بين ذلك الجبل ومدينة ستانلي.
أمّا نهاية الطريق الغربي لجبل "تمبل دون" فقد تمَّ احتلالها بواسطة السرية “B” منالفوج السادس المشاة ووحدة مهندسي مشاة الأسطول، بالإضافة إلى أفراد الفوج الرابعوالسادس والثاني عشر الذين انسحبوا من جبلي "هارييت" و"توسيسترز".
وقد تلخصت فكرة الهجوم على جبل "تمبل دون" في قيام قوة فرعية من كتيبة "سكوتس جاردز" مشكلة من فصيلة الاستطلاع، وبعض عناصرالدعم الأخرى بهجوم مخادع على المواقع الأرجنتينية جنوب جبل "وليم" بعد تمهيدنيراني قوي يُقْنع الأرجنتينيين أن ذلك بداية الهجوم البريطاني الرئيسي، ويجذباهتمام قيادة الكتيبة الخامسة نحو الجنوب، في الوقت الذي تتقدم فيه القوة الرئيسيةللكتيبة للهجوم على جبل "تمبل دون" من ناحية الشمال.
وبانتهاء التمهيد النيراني بدأت قوة الهجومالمخادع محاولتها لاختراق الدفاعات الأرجنتينية جنوب جبل "وليم" إلا أنها جُوبهتبمقاومة شديدة من القوات المدافعة أجبرتها على الارتداد بعد أن كبدَّتها قتيلينوسبعة جرحى من جنودها، وتعطل إحدى دباباتها التي اصطدمت بحقل ألغام، وأثناءانسحابها تحت نيران الهاونات الأرجنتينية تورطت تلك القوة في حقل ألغام آخر أضافجريحين آخرين إلى خسائرها. وقَدَّر البريطانيون فيما بعد أنهم قتلوا خلال ذلكالهجوم الفاشل نحو عشرة أفراد، إلا أن الخسائر الأرجنتينية الحقيقية لم تزد عن قتيلواحد، كما لم يدفعوا أي احتياطيات إلى القطاع الذي تعرض للهجوم.
وفي اتجاه الهجوم الرئيسي كانت خطة كتيبة "سكوتس جاردز" تقضي بالاستيلاء على مرتفعات "تمبل دون" المستطيلة الشكل على ثلاثمراحل تقوم بكل منها إحدى سرايا البنادق، وقد سارت المرحلة الأولى بنجاح، حيثتقدِّمت السرية الوسطى بهدوء واستولت على ثلث الجبل دون مقاومة، كما تقدمت سريةالميسرة بنجاح في البداية، إلا أنه بعد نصف ساعة من عبورها خط الدفع تسمرت فصيلتاالمقدمة في محلاتهما وعجزتا عن التقدم نتيجة للنيران الكثيفة التي انهمرت عليهما منأسلحة المدافعين.
وإزاء انفصال ضابط إدارة نيران المدفعيةالمعاونة عن القائد لم تتمكن تلك المدفعية من إسكات مصادر النيران الأرجنتينية، ومنثم لم تتمكن فصيلتا المقدمة من التحرك قبل مُضيِّ ساعتين، نجحت فيهما الفصيلةالثالثة في احتلال موقع يطل على خلجان نيران الأسلحة التي ثبَّتت فصيلتي المقدمة،ممَّا سمح لها بمعاونة هاتين الفصيلتين بنيران صواريخها عيار 66 و85 مم،وسرعان ما انضمت إليها باقي السرية التي أعادت تنظيمها في ذلك الموقع.
أمّا سرية الميمنة فقد انطلقت من خلالمواقع السرية السابقة، إلا أن المدفعية المعاونة واجهت بعض المصاعب مرة أخرى، أجبرتتلك السرية على الاعتماد على مصادر نيرانها العضوية فقط. وبعد 11.25 ساعة من عبورخط الدفع تمكنت كتيبة "سكوتس جاردز" من الاستيلاء على جبل "تمبل دون" وتأمينه بعدمقاومة شرسة من القوات الأرجنتينية المدافعة أخرت دفع كتيبة "الجوركاز" للاستيلاءعلى جبل "وليم" وأجبرت قيادة اللواء الخامس على تأجيل ذلك الهجوم إلى اليومالتالي.
وفي صباح يوم 14 يونيه كانت كتيبة "الجوكاز" تستعد لشن هجومها على جبل "وليم"، وأثناء تقدمها فقدت اثنين من جنودهاعندما أصبحت في مدى نيران المدفعية الأرجنتينية، غَيْر أنها عندما وصلت إلى هدفهالم تلق سوى مقاومة ضعيفة انسحبت بعدها القوات الأرجنتينية شرقاً، فقام جنود "الجوركاز" باحتلال الجبل وتأمينه.
وفي الوقت الذي كانت تجري فيه معركة "تمبلدون" كانت هناك معركة أخرى تجري في الشمال للاستيلاء على تلال "ويرلس ريدج"، فقدكان من الأهمية أن يتمَّ الهجوم على هذه التلال بالتنسيق مع الهجوم على جبل "تمبلدون" الذي يواجه الأخيرة، وقد سمح تأجيل هجوم اللواء الخامس لقائد كتيبة المظليينالثانية (الجديد) ليوتينانت كولونيل (المقدم) "شلندر" باستطلاع أرض الأهداف التيسيتم الهجوم عليها وتلقين قادة سراياه.
وتقع مرتفعات "ويرلس ريدج" شرق جبل "لونجدون" وشمال الوادي الذي يتدفق فيه نهير " مودي بروك"، وهي تتكون من سلسلتينمتوازيتين من المرتفعات تمتد من الغرب إلى الشرق، إلا أن أبرزها هو المرتفع الجنوبيـ الذي يتوسط المسافة بين ثكنات "مودي بروك" وجبل "لونجدون" ـ والذي لا يزيدارتفاعه عن مائة متر.
وتُعد مواقع "ويرلس ريدج" جزء من القطاعالكبير الذي يدافع عنه الفوج السابع المشاة الذي فَقَدَ جزءاً من قواته على سفوحجبل "لونجدون". ويحتل سلسلة المرتفعات الشمالية فصيلتان من السرية الأولى وفصيلة منالسرية الثالثة لذلك الفوج وتواجه جميع مواقعها اتجاه الشمال، وعلى الرغم من أنسلسلة المرتفعات الجنوبية أكثر ملاءمة من الناحية الدفاعية، فقد عدَّهاالأرجنتينيون مجرد مواقع خلفية تم احتلالها ببعض الأسلحة الثقيلة وقوة من الأفرادلا تشكل في مجموعها قوة سرية مشاة، كما كان هناك سرية من الفوج الثالث تحتل مواقعهاجنوب "ويرلس ريدج" على امتداد الطريق غرب ثكنات "مودي بروك".
ونظراً إلى معاناة الكتيبة الثانية وتزايدخسائرها خلال هجومها السابق على جوس جرين" ـ نتيجة لقصور المعاونة بنيران المدفعيةـ فقد طلب قائدها مساندة قوية بالمدفعية خلال الهجوم على "ويرلس ريدج"، ومن ثمخُصِّص لمعاونته بطاريتا مدفعية عيار 105 مم بالإضافة إلى كتيبة مورتار (هاون) اللواء الثالث ونيران مساندة من فرقاطتين من اتجاه البحر.
وقد تلخصت خطة الكتيبة الثانية مظليين فيالهجوم على المرتفعات المحتلة بالقوات الأرجنتينية على أربع مراحل كما يلي:
المرحلة الأولى، ويتمُّ فيها هجوم السريةالرابعة على الهيئة التي أُطلق عليها اسم "رَف دايموند" شرق جبل "لونجدون".
المرحلة الثانية، ويتم فيها هجوم السريتينالأولى والثانية على الهيئة المسماة "أبَلْ بَاي" شرق "رف دايموند".
المرحلة الثالثة، ويتم فيها هجوم السريةالرابعة على الهيئة المسماة "بلو بيري بَاي" من اتجاه الغرب.
المرحلة الرابعة، ويتم فيها هجوم السريةالثالثة على هيئة "الكونتور 100"
وفي الثالث عشر من يونيه تعرَّضت المواقعالأرجنتينية في "ويرلس ريدج" لقصف مدفعي كثيف من البر والبحر فضلاً عن القصف الجويمن طائرات "الهارير" تمهيداً لهجوم الكتيبة الثانية، غير أنَّ القصف توقَّف أثناءتسجيل نيران المدفعية نتيجة لهجوم أربع طائرات "سكاي هوك" على مركز قيادة اللواءالثالث وإحدى بطاريات المدفعية المعاونة للكتيبة، كما هاجمت تلك الطائرات بعضالطائرات العمودية، التي كانت في طريقها لنقل فصيلتي المورتار (الهاون) ومدافعالماكينة إلى مواقع متقدمة، وقبل آخر ضوء ذلك اليوم أُخطر قائد الكتيبة الثانيةبوجود حقل ألغام أمام كل من هيئتي "أبل باي" و"بلو بيري باي".
وفي الساعة 2145 ليلة 13/14 يونيه عَبَرتالسرية الرابعة خط الدفع للاشتباك وتقدَّمت في اتجاه "رف دايمود" غير أنها سرعان مااكتشفت انسحاب الأرجنتينيين منها تاركين خلفهم بعض القتلى الذين أُصيبوا بنيرانالمدفعية البريطانية، كما وجَدَت السريتان الأولى والثانية أن القوات الأرجنتينيةقد انسحبت من "أبل باي" أيضاً، ومن ثمَّ قرَّر قائد الكتيبة الإسراع بتنفيذ المرحلةالرابعة قبل الثالثة فدفع السرية الثالثة للاستيلاء على هيئة "الكونتور 100" التيوُجدت خاليةً هي الأخرى.
وعندما بدأت السرية الرابعة هجومها على تبة "بلو بيري باي" فإنها نجحت في الاستيلاء على جزء من المواقع الأرجنتينية في تلكالتبة دون صعوبة غير أنها جُوبهت بمقاومة عنيفة من القوات الأرجنتينية في باقيالمواقع، ومن ثم طلب قائد السرية مساندته بنيران المدفعية للتغلب على المقاومةالأرجنتينية في ذلك التل، وما أن بدأت نيران المدفعية تنهمر على المواقعالأرجنتينية حتى أخذ المدافعون عنها في الانسحاب[1]
وفي أول ضوء يوم 14 يونيه شنَّالأرجنتينيون هجوماً مضاداً محدوداً ببعض قوات كتيبة المظليين الأولى، غير أنَّالبريطانيين نجحوا في صدِّه بفضل كثافة نيران المدفعية المساندة لهم، وبفشل ذلكالهجوم المضاد تمكن البريطانيون من السيطرة على مرتفعات "ويرلس ريدج" بأكملهاوأجبروا الأرجنتينيين على الانسحاب إلى "ستانلي".
وقد أدَّى فشل الهجوم المضاد إلى وقوعالقيادة الأرجنتينية في مأْزق شديدٍ، فقد بُنيت الخطة الدفاعية لتلك القيادةوانتشار قواتها على أساس شن البريطانيين هجومهم الرئيسي من اتجاه الجنوب، إلا أنذلك الهجوم جاءهم من الغرب والشمال الغربي على غير ما يتوقعون، ومن ثمَّ لم يَكنهناك أي مواقع دفاعية مجهزة أو موانع طبيعية بين "ويرلس ريدج" و"ستانلي"، ممَّا جعلالطريقَ مفتوحاً أمام كتيبة المظليين الثانية للتقدم إلى العاصمة.
ولمواجهة هذا الخطر أمرَ البريجادير "جوفر" قائد القوات الأرجنتينية المدافعة عن العاصمة الميجور "برازيي" قائد قوة الهجومالمضاد الفاشل بحشد ما تبقى من سريته وغلق الطريقَ بين "مودي بروك" و"ستانلي"،فحَشَد "برازيي" ما تبقى من جنوده أمام مواقع مدفعية الفوج الرابع خفيف الحركة التيكانت تعاون القوات الأرجنتينية في معركة "ويرلس ريدج"، والتي كُلفت الآن بمعاونةقوات الميجور "برازيي" في عرقلة تقدم القوات البريطانية نحو "ستانلي".
وفي الوقت الذي كانت فيه كتيبة المظليينالثانية تُعيد تنظيمها تمهيداً للتقدم نحو "ستانلي" كانت بعضُ القوات البريطانيةالخاصة وبعض مشاة البحرية قد انطلقت من شمال "تل كورتلي" للقيام بالإغارة على بعضالمواقع الأرجنتينية المحصُورة بين "ويرلس ريدج" والساحل الشمالي "لستانلي هارير" شرق "مودي بروك"، غير أنَّ البطاريةَ الثانية من الفوج 101 مدفعية مضادة للطائراتالتي كانت تحتل "تل كورتلي" نجحت في إحباط الإغارة البريطانية وأجبرت قواتها علىالارتداد، إلا أن سقوط "ويرلس ريدج" في أيدي البريطانيين عجَّل بانهيار الجبهةالأرجنتينية.
فمع تطويق البريطانيين للدفاعاتالأرجنتينية غرب "ستانلي" بدأت أعدادٌ كبيرةٌ من القوات الأرجنتينية ـ التي هجرتمواقعها في جبلي "تمبل دون" و"وليم" و"مودي بروك" ـ تتدفق على الطريق متوجهة إلى "ستانلي"، ففتحت عليها القوات البريطانية في "ويرلس ريدج" كافة مصادر النيران بما في ذلك نيران المدفعية وطائرات عمودية سكوت، وأصبح واضحاً للبريجادير "جوفري" أن أيدفاعات في هذه الأرض المفتوحة لن تصمد كثيراً أمام نيران البريطانيين، فأذن لرجالالميجور "برازيي" والمدفعية التي تعاونه بالانسحاب إلى الطرف الغربي لمدينة "ستانلي"، ومن ثمَّ لم يتبق من الجبهة الأرجنتينية غرب العاصمة سوى موقعٍ واحدٍيتمثل في "تل سابر"، الذي بدأت كتيبة "ولش جاردز" الهجوم عليه صباح ذلك اليوم، 14يونيه.
ففي الوقت الذي دُفعت فيه الكتيبة 45 كوماندوز للتقدم على الطريق المتجه إلى "تل سابر" بأسرع ما يمكن، كان على الطائراتالعمودية المتيسرة تنقل الموجة الأولى من كتيبة "ولش جاردز" أقرب ما يكون من ذلكالتل، إلا أنها بدلاً من أن تقوم بإنزال تلك الموجة خارجَ مدى نيران القوة المدافعةفإنها أنزلتها أسفل التل مباشرة ممَّا عرَّض الطائرات العمودية ورجال تلك الموجةلنيران المدافعين التي أصابت إحدى تلك الطائرات العمودية وهو ما دفع قوات تلكالموجة إلى الردِّ على النيران بالمثل وطلب مساندة المدفعية، غير أنه سرعان ما توقفإطلاق النار من الجانبين في نحو الساعة 1315 بعد أن توصلت القيادتان البريطانيةوالأرجنتينية في الجزيرة إلى اتفاق لوقف القتال.
رابعاً: أعمال القتال الجوية للجانبين خلال معركة "بورتستانلي"
في الوقت الذي كانت تجري فيه أعمال القتالالبرية السابقة للاستيلاء على السلاسل الجبلية المحيطة "بستانلي" والإطباق علىعاصمة جزر "فوكلاند"، استمرَّت أعمال القتال الجوية للجانبين وإنْ قلَّت كثافةالطلعات الجوية عمَّا كانت عليه خلال المراحل السابقة للحملة. فبينما كانت قواتاللواء الثالث تتقدم نحو أهدافها الابتدائية شنَّت طائرات "الهارير" البريطانيةسلسلة من الغارات الجوية على المطارات الأرجنتينية في جزر "فوكلاند" ـ منها ثلاثُغاراتٍ على مطار "بورت ستانلي"، وغارتان على أرض الهبوط في جزيرة "ببل" ـ لشلوتدمير القوة الجوية الأرجنتينية في جُزر فوكلاند، والتي كانت تتكون آنذاك من نحوأربعين طائرة وطائرة عمودية (23 طائرة "بوكارا"، 6 "طائرات "أير ماكي"، وطائرتي "سكاي فإن"، و3 طائرات عمودية "شينوك"، بالإضافة إلى بعض الطائرات العمودية الأخرىمن طرازات مختلفة)، وقد أدَّت تلك الغاراتُ إلى تدمير وإصابة أعداد كبيرة منالطائرات والطائرات العمودية السابقة، ممَّا جعل ما تبقى منها غير قادرٍ على تقديمأيِّ جهدٍ جويٍّ يُذكر.
وفي الوقت الذي نشطت فيه طائرات "الهارير" البريطانية في تقديم المعاونة الجوية للقوات البرية، تقلَّصت الهجمات الجويةالأرجنتينية من قواعد الوطن الأم، وباتت تتُّم على فترات متباعدة، وفي الثلاثين منمايو قامت طائرتا "سوبر اتندار" يرافقهما أربع طائرات "سكاي هوك" بشنِّ هجومٍمنسَّق على الوحدات البحرية البريطانية في منطقة "سان كارلوس"، حيث أطلقت طائرتا "سوبر اتندار" صواريخهما في البداية على ما تصورتا أنه حاملة طائرات، ثم أكملتطائرات "سكاي هوك" المهمة باستخدام القنابل.
وقد أصَّرت القوات الجوية الأرجنتينية على أنها أصابت إحدى الحاملتين البريطانيتين، بينما أنكر البريطانيون أي إصابةبالصواريخ، بل على العكس أعلنوا أنهم أسقطوا طائرتين أرجنتينيتين بواسطة صواريخ "سيدارت"، كما حالفهم الحظ في تدمير أحد صواريخ "إكسوست" بواسطة قذيفة مدفع عيار 4.5بوصة انطلقت من الفرقاطة "أفنجر"، ومن ناحية أخرى أعلنت بعض المصادر أن الهجومالأرجنتيني السابق تمَّ على حُطام سفينة الحاويات "أتلانتك كونفيور" التي سبقالهجوم عليها قبل خمسة أيام.
وفي اليوم الأول من يونيه حاولالأرجنتينيون استطلاع محلاَّت انتشار الأسطول البريطاني شمال جزيرة "فوكلاندالشرقية" باستخدام طائرة "سي 130"، غير أن البريطانيين اكتشفوا الطائرة وتمَّإسقاطُها بواسطة إحدى مقاتلات "سي هارير" قبل أن تقوم بمهمتها.
وخلال الأسبوع الأول من يونيه حَدَّت الأحوال الجوية السيئة من أعمال القتال الجوية للجانبين، واقتصر النشاط الجويالأرجنتيني خلال ذلك الأسبوع على بعض طلعات القصف الليلي بواسطة قاذفات "كانبرا" على منطقة سان كارلوس وبعض طلعات الاستطلاع بواسطة طائرات "ليرجت" التي نجحت صواريخ "سي دارت" من إسقاط إحداها فوق جزيرة "ببل" في السابع من يونيه.
وعلى أثر اكتشاف الأرجنتينيين محاولة إنزالقوات اللواء الخامس بحراً في مياه "بلاف كوف"، قرَّرت القيادة الأرجنتينية توجيهسلسلة من الضربات الجوية للسفن البريطانية وقوات هذا اللواء فَوْر تحسَّن الطقس،ومن ثمَّ كان على المجموعة الخامسة توجيه الضربة الأولى للسفن البريطانية بواسطةثماني طائرات "سكاي هوك" تساندها ست طائرات "داجر" من المجموعة السادسة وأربعطائرات "ميراج" من المجموعة الثامنة للإغارة على منطقة "سان كارلوس" لاشغال طائرات "الهارير" المتواجدة في أرض الهبوط التي تمَّ إنشاؤها بالمنطقة لإعادة ملء تلكالطائرات، غَيْر أنَّ مشاكل الإمداد بالوقود جواً خفضت قوة طائرات "سكاي هوك" فيتلك الضربة إلى خمس طائرات وُجهت جميعها نحو مياه "بلف كوف" ظُهر الثامن من يونيهبعد أن خفت حِدَّة العاصفة وتحسَّنت الرؤية نسبياً، وقد أسفر ذلك الهجوم عن خسائرجسيمة في كتيبة "ولش جاردز" وإصابة سفينتي الإبرار بأضرار شديدة.
أمّا بالنسبة إلى أعداد طائرات " داجر" و"ميراج" التي خُصصت للمساندة فبقيت كما هي، حيث نجحت الأخيرة في اشغال المقاتلاتالبريطانية، بينما قامت طائرات "داجر" بشن هجوم ناجح بالقنابل على الفرقاطة "بلايموث" أدَّى إلى إصابتها بأضرار جسيمة أخرجتها من المعركة.
وفي الساعة 1645 من اليوم نفسه، وجهالأرجنتينيون ضربتهم الجوية الثانية، بقوة أربع طائرات "سكاي هوك" من المجموعةالخامسة وأربع طائرات أخرى من المجموعة الرابعة تحت حماية طائرات "الميراج". وما أنبدأت طائرات المجموعة الخامسة بالهجوم على السفن البريطانية بين "جوس جرين" و"فيتزوري حتى انقضَّت عليها مقاتلات "سي هارير" التي كانت تقوم بأعمال الدوريةالجوية وأسقطت منها ثلاث طائرات، بينما عادت طائرات المجموعة الرابعة دون أنتَحْدُث خسائر تُذكر، أمَّا مقاتلات "الميراج" فقد عادت هي الأخرى دون أنتشتبك.
وعلى الجانب البريطاني أخذت طائرات "الهارير" في مهاجمة مواقع القوات البريَّة الأرجنتينية غربَ "بورت ستانلي" وخاصةًحول جبل "كنت"، في الوقت الذي استمرَّت فيه مقاتلات "سي هارير" في أعمال الدورياتالجوية لحماية القوات البريطانية ضد أعمال قتال القوات الجوية الأرجنتينية، وقدأسفر النشاط الأخير عن فقد البريطانيين لإحدى طائرات "سي هارير" في حادث يوم 29مايو وطائرة أخرى بواسطة صواريخ الدفاع الجوي الأرجنتيني في منطقة "ستانلي" يوم 1يونيه، إلاَّ أنَّ قائدَ الطائرةِ الأخيرةِ نجحَ في القفز بالمظلة في مياه المحيطالأطلسي، حيث تم انتشاله بإحدى الطائرات العمودية "سي كنج" من السرب 820.
وفي اليوم نفسه، انطلقت إحدى طائرات "فولكان" ـ ساندتها خمس عشرة طلعة طائرة "صهريج" من طراز "فكتور" أقلعت جميعُها منجزيرة "أسنشن" ـ للهجوم على رادار "سكاي جارد" بالقرب من "ستانلي"، مستخدمة صواريخ "شرايك"، غير أنَ ذلك الهجومَ لم يُسفر إلا عن أضرار بسيطة، وبعد يومين قامت إحدىطائرات "الفولكان" بهجومٍ مماثلٍ على الرادارٍ المُقَام على تل "سابر"، ولكن العُطلالذي حدث في نظام إعادة الملء بالوقود جواً بتلك الطائرةِ أجبر قائدَها على الهبوطاضطرارياً في مطار "ريو دي جانيرو" بالبرازيل، حيث تمَّ احتجازها حتى العاشر منيونيه حين سمحت السلطات البرازيلية للطائرة بالإقلاع بعد أن جردَّتها من صواريخ "سايد ويندر" التي كان تحملها تحت جناحيها.
وفي الخامس من يونيه أقام البريطانيون في رأس الشاطئ مدرَّج ميداني من الشرائح المعدنية طوله 300 متر لاستخدامه كنقطة إعادةملء بالوقود لطائرات "سي هارير" المكَّلفة بأعمال الدوريات الجوية، وكمطار متقدملانتظار طائرات "الهارير" في درجة استعدادٍ عاليةٍ ولتلبية مطالب الاسناد الجويالقريب للقوات البرية.
وبعد أسبوع قامت إحدى قاذفات "الفولكان" منجزيرة "أسنشن" بآخر هجماتها على مطار ستانلي بالقنابل المتفجرة فوق السطح، وفينهاية ذلك اليوم شنَّت إحدى الطائرات العمودية "وسكس" من السرب 845 هجوماًبالصواريخ على قاعة الاجتماعات الكبرى بالعاصمة (Town Hall)، التي كان يُعتقد أن مؤتمراً كبيراً كان منعقداً فيها،غير أن الصواريخ أخطأت هدفها وأصابت مركز الشرطة المجاور.
وفي اليوم التالي (13 يونيه) ردَّت القوات الأرجنتينية بهجوم مفاجئ على مركز قيادة اللواء الثالث قرب جبل "كنت"، وشارك في هذاالهجوم إحدى عشرة طائرة "سكاي هوك"، غير أن المصادر البريطانية أشارت إلى أن ذلكالهجوم أخطأ أهدافه، وأن معظم تلك الطائرات قد أصيبت بنيران القوات البريطانية علىالرغم من عودتها جميعاً إلى قواعدها.
كما شنّت القوات الجوية الأرجنتينية في الساعة 2255 مساء اليوم نفسه، آخر غاراتها على القوات البريطانية في منطقة جبل "كنت" من ارتفاعٍ عالٍ، غيرَ أن رادارات المدمرتين "كارديف" و"اكسترا" رصدتا تلكالطائرات وأطلقتا عليها صواريخ "سي دارت"، أصاب إحداها إحدى طائراتي "الكانبرا"،غَيْر أنَّ قائدها نجح في مغادرتها بواسطة الكرسي القاذف، ووقع أسيراً في أيديالقوات البريطانية أمَّا الملاحُ فقد لقي مصير طائرته التي غرقت فورَ اصطدامهابمياه المحيط.
خامساً: استسلام القوات الأرجنتينية
منذ الساعة التاسعة من صباح 14 يونيه حاولت قيادة الجنرال "مور" الاتصالبالجنرال "منديز" في ستانلي عَبْر محطة الإذاعة المدنية، إلا أن الأخيرَ لم يستجبلتلك المحاولات قبل الاتصال بالجنرال "جالتيري" عَبْر الهاتف اللاسلكي المؤمَّن.ولم يصدق الرئيس الأرجنتيني أن الموقف أصبح ميئوساً منه وطالب "منديز" بالهجوم وليسالتراجع، غير أن الأخير تمسَّك برأيه من أن الموقف لا يسمح بأية عمليات هجومية، وناشد الرئيس الأرجنتيني إعلان قبوله لقرار مجلس الأمن رقم 502 الذي يطالبالأرجنتين بسحب قواتها طواعيةً من جُزر "فوكلاند" حتى لا يضطر إلى الاستسلامالمُهين، إلا أنَّ الرئيس الأرجنتيني أصَّر على موقفه، ممَّا دفع الجنرال "منديز" إلى التصَّرف على مسؤوليته، فطلب من بعض ضباطه الاتصال بالبريطانيين لإبلاغهم رغبتهفي بحث شروط وقف القتال.
وبعد بضع ساعات وصلت طائرة الجنرال "مور" العمودية إلى "ستانلي" في الوقتالذي وَصلَت فيه القوات البريطانية إلى الطرف الغربي للعاصمة، إلا أنَّها تلقتالأمر بالتوقف على أثر الاتفاق على وقف إطلاق النار، وبعد بضع ساعات من التفاوضتمَّ التوصَّل إلى صيغة مقبولة من الطرفين لإنهاء القتال، وما أن تمَّ توقيع وثيقةاستسلام القوات الأرجنتينية في الساعة 2100 مساء 14 يونيه حتى أُلغي الهجوم الذيكان مقرَّر أن يشنَّه اللواء الثالث على "ستانلي"، ودخلت قواته العاصمة من دون قتال،كما أرسل الجنرال "مور" إلى لندن البرقية التالية:
استسلَمَ لي الميجور جنرال "منديز" وكل القوات المسلحة الأرجنتينية بجزيرةفوكلاند الشرقية والغربية بكامل معداتهم، وجاري وضع الترتيبات لتجميع الأفرادتمهيداً لإعادتهم إلى الأرجنتين وتجميع أسلحتهم ومعداتهم وتأمين ذخائرهم، إنَّ جزر فوكلاند عادت مرة أخرى تحت سيطرة الحكومة التي يتطلع إليها سكانها، فليحفظ الله الملكة.

ميجور جنرال "جيرمي مور





[1]بلغ مجموع ما أطلق من قذائف المدفعية للمعاونة الكتيبة الثانية خلال معركة ويرلس ريدج ستة آلاف قذيفة.​
 
التعديل الأخير:
رد: حرب جزر فوكلامد بين بريطانيا والارجنتين عام 1982

المبحث الثامن

حصاد الحرب ودروسها المستفادة

أولاً: حصاد الحرب

عندما توقف القتال في جزر "فوكلاند" واستسلمت القوات الأرجنتينية في الرابع عشر من مايو، كانت كل من المملكة المتحدة والأرجنتين قد دفعت ثمناً باهظاً لحرب لم تسع إليها أي منهما، فجرها كبرياء الأولى وعناد الثانية، فخلال أربعة وسبعين يوماً تكبدت المملكة المتحدة أكثر من 1.6 بليون جنيه إسترليني تساوي قيمة الاعتمادات المالية التي أنفقتها الحكومة البريطانية وأثمان الأسلحة والعتاد والسفن والطائرات التي خسرتها المملكة المتحدة في تلك الحرب[1]، أما الأرجنتين فقد زاد عبء الحرب عليها بنسبة 15.6% عمَّا تكبدته الأولى.
وعلى صعيد الخسائر البشرية، بلغت خسائر المملكة المتحدة 1112 فرداً من الرتب المختلفة بين قتيلٍ وأسيرٍ وجريحٍ، بينما زادت خسائر الأرجنتين عن خصمها أضعافاً مضاعفة، حيث بلغت تلك الخسائر 13112 فرداً بين قتيلٍ وأسيرٍ وجريحٍ. (أُنظر جدول إجمالي الخسائر المباشرة للجانبين 2 أبريل ـ 14 يونيه 1982)
أما بالنسبة إلى خسائر الأسلحة والعتاد فكانت أبرز خسائر المملكة المتحدة هي تدمير وإغراق سبع عشرة سفينة حربية وتجارية، فضلاً عن أربعين طائرة وطائرة عمودية عسكرية، بينما بلغت خسائر الأرجنتين من هذه الأصناف ثماني سفن ومائة واثنتين طائرة وطائرة عمودية، و(أُنظر جدول خسائر الطائرات البريطانية 1 مايو ـ 14 يونيه 1982)، و(جدول خسائر الطائرات الأرجنتينية 2 مايو ـ 14 يونيه 1982)، و(جدول خسائر وإصابات السفن البريطانية 1 مايو ـ 14 يونيه 1982)، و(جدول خسائر وإصابات السفن الأرجنتينية 1 مايو ـ 14 يونيه 1982)
وبالنسبة للمجهود الجوي الذي نفذه الطرفان طوال الحرب، والتي بلغت أكثر من 3630 طلعة طائرة بالنسبة إلى طائرات القتال والتأمين، وأكثر من 10380 طلعة طائرة عمودية على الجانب البريطاني، ولم توضح الإحصائيات الأرجنتينية المعلنة أكثر من 495 طلعة طائرة قتال استغرقت 2032 ساعة طيران و446 طلعة بحث واستطلاع، بالإضافة إلى عدد من طلعات النقل (لم تحدد) استغرقت 9672 ساعة طيران (أُنظر جدول المجهود الجوي لعمليات الجانبين طوال الحرب)
وعلى صعيد النقل الجوي والبحري البريطاني، فتوضح البيانات الرسمية لوزارة الدفاع البريطانية أن طائرات النقل الحربي من طرازي "سي 130" و"في سي 10" قد نفَّذت 1700 طلعة طائرة طوال الحرب، نقلت فيها 5600 فردٍ، و7500 طنٍ من الاحتياجات من قواعد النقل الجوي بالمملكة المتحدة إلى جزيرة "أسنشن"، أما بالنسبة إلى النقل البحري فتشير نفس البيانات إلى أن خمسين سفينة نقل عسكرية ومدنية قد نقلت 9000 فردٍ، و100000 طنٍ من العتاد والاحتياجات، بالإضافة إلى 95 طائرة وطائرة عمودية من المملكة المتحدة وجزيرة "أسنشن" إلى جنوب الأطلسي (أنظر جدول إحصائيات النقل الجوي والبحري البريطاني طوال الحرب)
ثانياً: الدروس الإستراتيجية
1. أهمية التحالفات السياسية والعسكرية (أنظر جدول تسلسل سير الأعمال السياسية والعسكرية لحرب "فوكلاند" 17 مارس - 20 يونيه 1982)
أكدَّت حرب "فوكلاند" الدرس القديم الذي يتعلق بالدور المؤثر الذي تلعبه التحالفات السياسية والعسكرية لأحد أطراف الصراع ـ وخاصة إذا كان هذا الطرف من الدول الكبرى ـ على مجريات الصراع ونتائجه لصالح ذلك الطرف على حساب الطرف الآخر الذي لا يتمتع بمثل تلك التحالفات، فقد كان لعضوية المملكة المتحدة الفاعلة في كل من حلف "الناتو" و"السوق الأوروبية المشتركة" أثره الكبير في مساندة كل من دول الحلف والسوق للموقف السياسي البريطاني في الأمم المتحدة عندما تفجرت أزمة "فوكلاند"، كما دعمت دول السوق الموقف العسكري البريطاني بإصدارها ـ مبكراً ـ قرار الحظر على مشتريات الأرجنتين من الأسلحة والعتاد والذخائر من تلك الدول، وكان لذلك القرار آثاره السلبية على القدرات العسكرية للأرجنتين، وخاصة بالنسبة إلى قواتها الجوية والبحرية.
أما الولايات المتحدة فكان دعمها العسكري للمملكة المتحدة مباشراً وكثيفاً، فعلى ضوء الدراسة التي أجرتها قيادة القوات البحرية الأمريكية للموقف العسكري البريطاني عندما تصاعدت أزمة "فوكلاند"، وجدت تلك القيادة أن قدرة المملكة المتحدة على الدعم الإداري لقوة الواجب هشَّة وضعيفة، ممَّا قد يؤدي إلى خسارتها الحرب، ومن ثمَّ بدأت الولايات المتحدة في تقديم مساعدات عسكرية ضخمة ابتداءً من شهر أبريل 1982، قبل أن يقرر مجلس الأمن القومي الأمريكي في الأول من مايو دعم المملكة المتحدة عسكرياً.
وعلى ذلك أقامت الولايات المتحدة غرفة عمليات مركزية في "البنتاجون" لبحث وإرسال احتياجات الدعم العسكري من الأسلحة والعتاد والوقود إلى المملكة المتحدة على مدار الساعة، كما وفَّرت تلك الحليفة إمكانات كبيرة لتحلية الماء والإعاشة في جزيرة "أسنشن" ـ التي كان لها فيها قاعدة عسكرية قبل أن يقوم البريطانيون بحشد قواتهم فيها ـ ودفعت بمخزون كبير من الاحتياجات الإدارية إلى تلك الجزيرة لدعم أسطول قوة الواجب.
وتوضح القائمة التالية أبرز أصناف الدعم العسكري التي قدمتها الولايات المتحدة لبريطانيا خلال الحرب.
أ. الأسلحة:
200 صاروخ "سايد وندر AIM-9L" جو/ جو.
أنظمة صواريخ "ستنجر" مضادة للطائرات.
مدافع "فولكان" للدفاع الجوي.
صواريخ "شرايك" مضادة لرادرات الدفاع الجوي.
صواريخ "هاربون" مضادة للسفن.
ب. الذخائر:
عبوات مشاعل لأنظمة M-130.
قذائف إنارة عيار 60 مليمتراً لمدافع المورتار (الهاون)
ذخائر عيار 40 مليمتراً شديدة الانفجار.
ذخائر متنوعة أخرى.
ج. العتاد:
محركات طائرات عمودية "شينوك CH-47".
4700 طن أرضية مطارات.
18 حاوية للإسقاط الجوي.
350 صمام أكزوست للطوربيدات.
مهمات اكتشاف الغواصات.
أطباق أقمار صناعية وأنظمة اتصالات مؤمنة عبر تلك الأقمار.
أجهزة رؤية ليلية.
د. الوقود
12.5 مليون جالون وقود لطائرات "فولكان" و"فكتور" و"نمرود"، و"سي 130".
وقد أثبتت الحرب حيوية الدعم السابق لأعمال القتال البريطانية، وخاصة صواريخ "سايدوندر M9L" التي مكنت طائرات "الهارير" البريطانية من التفوق على المقاتلات الأرجنتينية في القتال الجوي.
ولم يكن الدعم السابق هو كل ما قدمته الولايات المتحدة لدعم الموقف العسكري البريطاني، فقد وضعت الأخيرة تسهيلاتها الإلكترونية في جنوب "شيلي" في متناول البريطانيين، وفي وقت متأخر من الحرب حركت الولايات المتحدة قمراً صناعيا أمريكياً ليغطي جزر "فوكلاند"، وزودت المخابرات البريطانية بما يبثه ذلك القمر من معلومات عن تطور أوضاع القوات الأرجنتينية في الجزر، كما زودت القيادة البريطانية بالتقنية الخاصة بفك رموز الشفرة الأرجنتينية لاستخدامها بواسطة مراكز المخابرات والاستطلاع، كما وضعت الولايات المتحدة خطة طوارئ لدعم الأسطول البريطاني بإحدى سفن الاقتحام البرمائي إذا ما فُقدت إحدى السفينتين البريطانيتين.
أمّا الأرجنتين فلم تحظ بمثل الدعم الأوروبي أو الأمريكي للمملكة المتحدة، بل إن التوتر المستمر بينها وبين إحدى جاراتها (شيلي) أجبرها على إبقاء العديد من قواتها جيدة التدريب على الحدود مع جارتها، في الوقت الذي حد فيه الحظر الأوروبي على تصدير الأسلحة والعتاد والذخائر إلى الأرجنتين من قدراتها العسكرية وخاصة بالنسبة إلى بعض الأسلحة والذخائر الحيوية اللازمة لقواتها الجوية والبحرية، فعلى سبيل المثال كان كل ما تسلمته الأرجنتين من صواريخ "إكسوست" لطائرات "سوبر اتندار" لا يزيد عن خمسة صواريخ واعتذرت فرنسا عن تزويدها بباقي الصفقة المتعاقدة عليها من هذه الصواريخ في ظل قرار الحظر، وكانت هذه الصواريخ كفيلة بتغيير الموقف العسكري في مسرح العمليات لو توفرت للأرجنتين أعداد كافية منها لتكرار الهجمات الجوية لإغراق إحدى حاملتي الطائرات البريطانية، غير أن الأعداد المحدودة من هذه الصواريخ وطائرات "سوبر اتندار" أجبرت القيادة الأرجنتينية على استخدامها بحذر مرتين، أغرقت في المرة الأولى المدمرة "شيفلد"، كما أغرقت في الثانية سفينة الحاويات "أتلانتك كونفيور" بما عليها من طائرات عمودية ومخزونات إدارية.
2. استمرار الاحتكام إلى الحروب التقليدية على الرغم من امتلاك الأسلحة النووية
أكّدت حرب "فوكلاند" أنه على الرغم من التطور الكبير في مجال الأسلحة النووية، فلا زالت الدول المختلفة ـ حتى التي تمتلك مثل تلك الأسلحة ـ تلجأ إلى الحروب التقليدية عند الاحتكام إلى السلاح لحسم منازعاتها مع الدول الأخرى، وهو درس قديم برز خلال الحرب الكورية وأكدته حروب الدول الكبرى فيما تلاها من حروب، مثل "العدوان الثلاثي على مصر" و"حرب فيتنام" و"حرب أفغانستان"، وأخيراً "حرب فوكلاند"، وقد أكدت كل الحروب السابقة، أنه على الرغم من تزايد الترسانات النووية لدى العديد من دول العالم، فإن دور الأسلحة الأخيرة لازال محصوراً في إطار استراتيجية الردع وتحقيق التوازن الاستراتيجي بين الدول النووية بعضها وبعض.
3. أهمية توفير المعلومات الموقوتة والقراءة الصحيحة لها بالنسبة إلى القرار السياسي الصحيح
أكّدت حرب "فوكلاند" أحد الدروس القديمة التي اُستخلصت من حروب الماضي، فقد أوضحت "لجنة فرانكس" التي شُكلت بعد حرب "فوكلاند" لتقصي حقائق هذه الحرب في تقريرها، أن قرارات الحكومة البريطانية لمعالجة تلك الأزمة قبل اندلاع الحرب بُنيت على التقديرات الخاطئة لوزارة الخارجية من ناحية وتقييم الاستخبارات البريطانية الخاطئ لموقف الأرجنتين السياسي والعسكري والأحداث السابقة للغزو من ناحية أخرى، كما كان هناك قصور فادح في المعلومات التي توفرت عن القيادة الأرجنتينية الجديدة وقواتها المسلحة وأوضاع تلك القوات، حيث أوضح تقرير تلك اللجنة (الفقرة 264) أنه "... على الرغم من أن الحكومة البريطانية لم تتلق أي إنذار مبكر بالغزو، فقد كان يجب أن يكون لديها معلومات أكثر شمولاً وأهمية عن التحركات العسكرية للأرجنتين، وحقيقة الأمر أنه لم يكن هناك أية تغطية لهذه التحركات، ولم يتوفر ثمة دليل لدى الحكومة من صور الأقمار الصناعية بهذا الخصوص...) (أنظر ملحق مستخرج من تقرير "لجنة فرانس"، لتقصي الحقائق حول حرب "فوكلاند")
وفي الفقرة رقم (313) أكد ذلك التقرير أنه "نتيجة لعدم توفر إمكانات التغطية للتحركات العسكرية داخل الأرجنتين فلم تتوفر أية معلومات استخبارات مسبقة عن بنية القوة البحرية الأرجنتينية وتجميعها، وهي القوة التي قامت بالغزو"، كما لم تكن هناك أية معلومات استخبارات من المصادر الأمريكية أو غيرها تشير إلى أن القوة التي نُشرت في عرض البحر قبل الغزو كانت تستهدف شيئاً آخر غير المناورات البحرية العادية.
كما أكد نفس التقرير (الفقرة 294) أنه "على الرغم من إدراك المسئولين في وزارة الخارجية والكومنولث في بداية عام 1982 بأن الموقف يتجه نحو المواجهة، فقد رسخ في اعتقادهم أن الأرجنتين لن تتجه الى الحرب قبل أن تفشل المفاوضات، وأنه سيكون هناك سلسلة من الإجراءات السياسية والاقتصادية المتصاعدة قبل اللجوء إلى الحرب، وأكدت تقديرات وزارة الخارجية وأجهزة المخابرات البريطانية أنه "لن يحدث أي إجراء، ناهيك عن غزو الجزر، قبل النصف الثاني من العام".
وفي الفقرة رقم (302) من تقرير اللجنة المشار إليها أوضحت تلك اللجنة "أن المسئولين في وزارة الخارجية والكومنولث لم يقدروا بدرجة كافية ـ في ذلك الوقت ـ إمكانية تغير موقف الأرجنتين أثناء محادثات شهر فبراير أو في أعقابها، ولم يولوا اهتماماً كافياً للعناصر الجديدة في الحكومة الأرجنتينية، والتي كانت مصدراً للتهديد".
أمّا بالنسبة إلى خطأ تقييم الموقف الأرجنتيني واستخلاص الاستنتاجات الصحيحة منه، فقد أوضحت الفقرة (316) من تقرير "لجنة فرانكس" خطأ تقييم هيئة الاستخبارات البريطانية المشتركة للشواهد والدلائل التي كانت تشير إلى تغير موقف القيادة السياسية الأرجنتينية واتجاهها إلى تصعيد الموقف نحو المواجهة.
وقد أوضحت "لجنة فرانكس" في سياق تقريرها أن ما شاب معالجة الحكومة البريطانية للأزمة التي أدَّت إلى الحرب يعود بالدرجة الأولى إلى نقص المعلومات التي توفرت عن القيادة الأرجنتينية وقواتها المسلحة من ناحية وخطأ تقييم الأحداث والمعلومات الخاصة بالأرجنتين من ناحية أخرى. وقد أوضحت الدراسات البريطانية بعد الحرب أنه ما كان ينبغي أن تفاجأ المملكة المتحدة بالغزو الأرجنتيني، فقد كان لديها من الإمكانات والوسائل ما يمنع الأرجنتين من تحقيق المفاجأة، خاصة وأن الأجهزة البريطانية كان يمكنها اختراق الاتصالات الدبلوماسية والعسكرية الأرجنتينية بالإضافة إلى استخلاص الاستنتاجات الصحيحة من الدلائل والشواهد والتصريحات المعلنة.
ومن هنا تبرز أهمية تكريس الدولة لإمكاناتها المتاحة لجمع المعلومات اللازمة عن العدو وتنسيق الأجهزة القائمة بذلك على الصعيدين السياسي والعسكري، والتقييم الصحيح لهذه المعلومات واستخلاص الاستنتاجات السليمة اللازمة لاتخاذ القرارات السياسية والعسكرية الصحيحة، وهو ما أوصت به "لجنة فرانكس" في تقريرها.
4. تزايد أهمية الأقمار الصناعية في مجالات الاتصالات والاستطلاع والقيادة والسيطرة
اعتمدت القيادة البريطانية خلال حملتها لاستعادة جزر "فوكلاند" على المعلومات التي وفرتها الأقمار الصناعية الأمريكية، وقد استمرت أعمال الاستطلاع لمسرح الحرب بالأقمار الصناعية طوال الحرب، سواء من جانب الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي، وقد قامت الأولى بتغيير مدار أحد أقمارها الخاصة بالاستطلاع بالصور لتوفر للمملكة المتحدة أفضل تغطية لمسرح العمليات، ولم تكن أقمار الاستطلاع السوفيتية أقل نشاطاً في هذا الشأن، فقط غطَّت تلك الأقمار كل مسرح العمليات جنوب الأطلسي، فضلاً عن المملكة المتحدة.
وقد زودت الولايات المتحدة بريطانيا بنسخ من الصور التي أخذتها أقمارها، والعديد من المعلومات التي رصدتها أقمار الاستطلاع الإلكتروني، أما الأرجنتينيون فقد نفوا بشدة حصولهم على أي دعم من الاتحاد السوفيتي في هذا المجال، وان كانت هناك دلائل تشير إلى حصولهم على بعض المعلومات من الاتحاد السوفيتي.
وفي مجال القيادة والسيطرة، كانت قيادة الحملة في "نورث وود" وقيادة أسطول قوة الواجب ـ سواء في جزيرة "أسنشن" في البداية أو في جنوب الأطلسي فيما بعد ـ تعتمد اعتماداً كاملاً على تسهيلات المواصلات المؤمنة التي وفرتها لها الأقمار الصناعية الأمريكية، كما كان للقيادتين السابقتين حرية الاتصال بالأقمار العسكرية وأنظمة الاتصالات الأمريكية المؤمنة، وهو أمر لم يكن متاحاً لسيطرة القيادة البرية للحملة على وحداتها أثناء تقدمها عَبْر الأراضي الوعرة لجزيرة "فوكلاند الشرقية"، مما أدى إلى انقطاع الاتصالات بين تلك القيادة ووحداتها بواسطة الأجهزة اللاسلكية العادية في تلك الأراضي، وكانت مبادرات قادة الوحدات هي التي كانت تنقذ الموقف دائماً عند انقطاع هذه الاتصالات.
وكان يمكن للبريطانيين أن يتعرضوا لمشاكل كثيرة لو لم يحصلوا على تسهيلات الاتصال عبر الأقمار الصناعية الأمريكية، فقد كانت سفنهم تفتقر لنظم القيادة والسيطرة والاتصالات المؤمَّنة في العمليات المشتركة على مثل تلك المسافات التي جرت عليها تلك العمليات خلال الحرب.
5. الأهمية القصوى للتأمين الإداري خاصة في مسارح العمليات البعيدة
تزداد أهمية التأمين الإداري في مسارح العمليات البعيدة حيث تطول خطوط المواصلات وتزداد درجة تعرضها لأعمال قتال العدو البحرية والجوية، وقد كانت حرب "فوكلاند" مجالاً خصباً لإبراز هذا الدرس، فقد واجه الطرفان مشاكل جمة في مجالات التأمين الإداري عبر خطوط مواصلاتهما الطويلة، وخاصة بالنسبة إلى استعواض الخسائر، كما حدث بعد غرق السفينة "أتلانتك كونفيور" بما عليها من طائرات عمودية وقطع غيار، حيث أدى فقد هذه السفينة إلى مشاكل جمة في النقل الجوي التكتيكي للقوات البريطانية، واختناقات عديدة في مجال صيانة أسلحتها ومعداتها وطائراتها.
وقد أسفرت تلك الحرب عن عدة دروس في مجال التأمين الإداري كان أبرزها:
أ. أهمية مساهمة المصادر المدنية في تأمين احتياجات القوات المسلحة في الحرب والأزمات
وكان هذا الدرس أبرز ما يكون في مجال النقل البحري، حيث وفرَّت عملية تعبئة واستئجار خمس وخمسين سفينة مدنية بريطانية طاقة نقل ضخمة بلغت 675038 طن على النحو التالي:
عبارات لنقل القوات وعتادها 13 سفينة حمولتها 215339 طناً
سفن إمداد 4 سفن حمولتها 315615 طناً
سفن معاونة 15 سفينة حمولتها 49912 طناً
ناقلات بترول 23 ناقلة حمولتها 374172 طناً
وقد سمحت حمولات هذه السفن بنقل مائة ألف طن من الاحتياجات والأسلحة والعتاد، وتسعة آلاف فرد، بالإضافة إلى خمس وتسعين طائرة وطائرة عمودية.
ب. تزايد معدلات الاستهلاك العالية في الأسلحة والذخائر والمعدات أكثر مما كان متوقعاً
مما دفع القيادة البريطانية إلى تلبية احتياجات حملتها على حساب مخزون حلف "الناتو"، الأمر الذي يحتم زيادة المرتبات ومخزونات الاحتياطي من تلك الأصناف لتوفير القدرة على الاستمرار في القتال، كما يتطلب وجود جهاز إداري مرن قادر على تلبية احتياجات القوات المسلحة، سواء في مسارح العمليات القريبة أو البعيدة.
ج. أهمية التزود بالوقود جواً لزيادة مدى عمل الطائرات المختلفة
فعلى الجانب البريطاني سمح تجهيز أغلب الطائرات بمعدات التزود بالوقود جواً لطائرات النقل والقاذفات والاستطلاع القيام بمهامها عبر آلاف الأميال من قواعدها في المملكة المتحدة أو جزيرة "أسنشن"، كما سمح لطائرات "الهارير" بالطيران من دون توقف من الجزيرة الأخيرة حتى منطقة انتشار الحاملات في جنوب الأطلسي، أما على الجانب الأرجنتيني، فقد أدَّى عدم تجهيز طائرات القتال بمعدات التزود بالوقود جواً (عدا طائرات سوبر اتندار) إلى قصر فترة بقاء الطائرات فوق أهدافها والاقتصار على هجمة واحدة لكل طائرة مع تجنب القتال الجوي، الأمر الذي قلَّل من قدرة الطائرات الأرجنتينية على العمل وَحَّد من قدرتها على المناورة لتجنب الدفاعات البريطانية.
د. أهمية توزيع احتياجات التأمين الإداري في عدة سفن، وعدم تركيز صنف واحد من الأسلحة أو الذخائر أو الاحتياجات في سفينة واحدة عند استخدام النقل البحري لتجنب المشاكل الإدارية مثل التي حدثت عند غرق السفينة "أتلانتك كونفيور".
هـ. أبرزت التحركات البرية البريطانية قيمة الآليات القادرة على السير في كافة الأراضي، كما أبرزت الحرب أهمية الطائرات العمودية كأحد وسائل النقل والإبرار، وفاعليتها في أعمال القتال ضد السفن المعادية.
ثالثاً: الدروس العملياتية العامة
أكدت "حرب فوكلاند" العديد من الدروس العملياتية في الحروب السابقة، فقد أبرزت تلك الحرب أهمية التخطيط الجيد والدقيق على المستويات المختلفة، وأن يتسم ذلك التخطيط بالمرونة والقدرة على مواجهة المتغيرات وإمكانية استخدام البدائل في المواقف الطارئة التي يفرضها القتال، وخاصة في مسارح العمليات البعيدة، كما أكدت تلك الحرب أن التخطيط الجيد للعمليات وأعمال القتال، وإصرار القوات على تنفيذ مهامها كفيل بالتغلب على عدو متفوق عددياً، كما يؤدي إلى تقليل الخسائر المادية والبشرية، وهو ما ظهر واضحاً في معركة "جوس جرين" التي تغلبت فيها كتيبة المظليين الثانية على القوات الأرجنتينية المدافعة والتي كانت تتفوق عليها سواء من الناحية العددية أو مصادر النيران أو التجهيز الهندسي، الأمر الذي انعكس على الخسائر البشرية للجانبين، فبينما لم تزد خسائر القوات البريطانية عن سبعة عشر قتيلاً وخمسة وثلاثين جريحاً، فإن خسائر القوات الأرجنتينية بلغت نحو خمسين قتيلاً وأكثر من ألف أسير.
كما أكدت حرب "فوكلاند" الأهمية القصوى لتحقيق السيطرة الجوية وخاصة مسارح العمليات البعيدة، حيث يصعب سرعة التدخل لدعم الوحدات المقاتلة أو استيعاض الخسائر، وقد دفع أسطول قوة الواجب ثمناً باهظاً نتيجة لعجز طائراته المحدودة العدد عن تحقيق السيطرة الجوية في مسرح العمليات، رغم نجاحه في تحقيق السيطرة البحرية وإجباره الأسطول الأرجنتيني على التزام سواحله في الوطن الأم بعد إغراق الطراد "جنرال بلجرانو" في الثاني من مايو.
كما أكدت تلك الحرب على أهمية التعاون الوثيق، سواء بين أفرع القوات المسلحة أو بين وحدات هذه الأفرع المشتركة في العملية، وكانت الحملة البريطانية لاستعادة جزر "فوكلاند" مثالاً جيداً لإبراز ذلك الدرس، والتأكيد على أن التعاون على المستويات الإستراتيجية والعملياتية والتكتيكية أحد الأسس الرئيسية التي لا غنى عنها لتحقيق الأهداف الإستراتيجية للحرب، وخاصة في مسارح العمليات البعيدة، فقد كان لتعاون القوات البريطانية الثلاث (البرية والبحرية والجوية) خلال مراحل الحرب المختلفة أثره الكبير في نجاح الحملة البريطانية لاستعادة جزر "فوكلاند"، وهو أمر افتقدته القوات الأرجنتينية التي وقع على عاتق قواتها الجوية العبء الرئيسي في تلك الحرب بعد انسحاب قواتها البحرية إلى سواحل الأرجنتين في أعقاب غرق الطراد "جنرال بلجرانو"
رابعاً: دروس الحرب البرية
1. المشاة
لقد غلبت أعمال قتال المشاة على المعارك البرية، ولم يستفد الأرجنتينيون كثيراً من مدرعاتهم، كما كان البريطانيون مقيدين في استعمال مدرعاتهم ودباباتهم الخفيفة بطبيعة الأرض، وكان عليهم الاعتماد بدرجة كبيرة على المسيرات الطويلة وقتال المشاة القريب.
وقد أبرزت حملة "فوكلاند" أهمية العمليات الليلية وأعمال قتال الدوريات والإغارات الجريئة، كما أبرز القتال قيمة تفوق أسلحة المشاة وعتادها وهو ما ظهر واضحاً في "جوس جرين" وجبل "لونجدون"، عندما سمحت أسلحة المشاة المتفوقة للقوات الأرجنتينية المدافعة بإيقاف تقدم القوات البريطانية المهاجمة، ولم ينقذ القوات الأخيرة من عدة مواقف حرجة خلال المعارك البرية سوى الإسناد النيراني بالمدفعية والمعاونة الجوية، وقد أكدت تلك المعارك استمرار سيطرة البنادق الآلية الحديثة والرشاشات المتوسطة والثقيلة على معارك المشاة وخاصة في المناطق الجبلية التي لا تستطيع المدرعات من اقتحامها.
كما أظهرت المعارك البرية بشكل واضح أهمية المواقع الدفاعية العميقة المجهزة هندسياً، ومواقع الرماية وحقول الألغام المحمية، وخطط النيران المدروسة سلفاً، والتي يمكن تغطيتها مباشرة بمدافع "المورتار" والرشاشات الثقيلة، وخاصة عند القتال في المناطق الجبلية حيث تقل فرص المدرعات للقيام بعمليات الاختراق والتطويق.
وكان على القوات البريطانية المهاجمة أن تمطر المواقع الدفاعية الأرجنتينية بوابل من قذائف المدفعية البحرية ومدفعية الميدان وقنابل الطائرات قبل التقدم لاقتحام تلك المواقع الدفاعية الحصينة كما كان عليها أن تخوض قتالاً شرساً مع القوات الأرجنتينية في تلك المواقع قبل أن تتمكن من الاستيلاء عليها، ووفقاً لما جاء في بعض التقارير البريطانية الرسمية، فإن وحدات المشاة ما كانت تستطيع تحقيق مهامها خلال تلك الحملة لولا الإسناد النيراني الكثيف من المدفعية والطائرات.
وقد أمكن للبريطانيين الاستفادة من نيران المدفعية البحرية الكلاسيكية والتي تعود للحرب العالمية الثانية لأن القوات الأرجنتينية كانت تفتقر إلى الأسلحة المناسبة للرد عليها، وكان يمكن للوضع أن يتغير لو كان لدى الأرجنتين في جزر "فوكلاند" أعداد كبيرة من المدفعية المجهزة بالرادار أو الصواريخ أرض/ سطح للدفاع الساحلي.
وقد أكدت حرب "فوكلاند" ضرورة الاهتمام بالتدريب الجيد ورفع اللياقة البدنية لقوات المشاة، وتدريبها على السير على الأقدام لمسافات طويلة دون الاعتماد على وسائل النقل الميكانيكية لمواجهة المواقف الطارئة، وقد برز هذا الدرس جيداً بعد غرق السفينة "أتلانتك كونفيور" بما عليها من طائرات عمودية، ممَّا اضطر الكتيبة 45 كوماندوز وكتيبة المظليين الثالثة للسير على الأقدام نحو خمسين ميلاً (81 كم) في أراضٍ وعرة وطقس قارص البرودة بسبب الافتقار إلى وسائل النقل الميكانيكية البديلة.
2. المدرعات
أثرت طبيعة الأرض الوعرة لجزر "فوكلاند" في استخدام المدرعات في تلك الحرب، وعلى الرغم من أن البريطانيين كانوا قادرين على استخدام مركباتهم المدرعة ودباباتهم الخفيفة للمساعدة في الانتقال من "سان كارلوس" إلى "بورت ستانلي" فقد كان يعوزهم الأعداد الكافية من تلك المركبات، وهو ما يعني أنه كان عليهم أن يعتمدوا كثيراً على أعمال النقل بالطائرات العمودية أو السير على الأقدام بكامل عدتهم.
وقد أدى عدم وجود أرض مناسبة للمدرعات إلى خلق بعض المشاكل لوحدات الجيش البريطاني التي تدربت على القتال من ناقلات الجند المدرعة أكثر مما تدربت على أعمال قتال المشاة المترجلة، مثلما حدث لكتيبة "ولش جاردز" التي وجدت نفسها غير قادرة على التحرك سيراً على الأقدام مسافات طويلة مثل وحدات اللواء الثالث التي تحركت على المحور الشمالي.
ولم تغب المدرعات تماماً عن القتال في حرب "فوكلاند"، فعلى الرغم من عزوف الأرجنتينيين عن استخدام دباباتهم الإثنتي عشرة من طراز "بانهارد 90" في معارك المدرعات، فقد اعتمد البريطانيون في معركة "بورت ستانلي" على الاستخدام واسع النطاق للمشاة المترجلة المدعومة بالمدرعات الخفيفة، وقد أحسن البريطانيون استخدام دباباتهم الخفيفة في المراحل الأخيرة من القتال.
3. المدفعيـة
استخدم الجانبان في "حرب فوكلاند" تشكيلة من أنظمة المدفعية والصواريخ أرض/ أرض كان أكبر أعيرتها البرية هو الهاوتزر 155 مم، كما استخدم البريطانيون مدافع السفن من عيار 4.5 بوصة في الإسناد النيراني لأعمال قتال قواتهم البرية بالإضافة إلى مدفعيتهم وقواذفهم من عيار 105 مم.
وقد أكدت تلك الحرب أهمية الإسناد النيراني بالمدفعية لنجاح أعمال قتال المشاة وخاصة في العمليات الهجومية، بل إنه يمكن القول أن المشاة البريطانية ما كانت تستطيع تحقيق مهامها لولا ذلك الإسناد الذي بلغ 500 قذيفة في اليوم للمدفع الواحد، وقد أطلقت المدفعية البريطانية نحو ثمانية آلاف قذيفة في أعمال الإسناد النيراني للوحدات البريطانية.
وقد مكَّن ضعف القصف الأرجنتيني المضاد البريطانيين من استخدام مدفعيتهم بأمان، كما مَكَّن استخدام الأراضي المرتفعة وحاسبات المدى بالليزر البريطانيين من الرماية المباشرة على الأهداف المنظورة بدقة كبيرة.
وقد نجح البريطانيون في استخدام الطائرات العمودية للمناورة بوحدات المدفعية ونقل ذخائرها، على الرغم من الأعداد المحدودة من طائرات النقل العموديةالتي تبَّقت لديهم بعد غرق "أتلانتك كونفيور" على عكس الأرجنتينيين الذين كانت تحركاتهم بطيئة.
4. الألغام
اُستخدمت الألغام والموانع الصناعية بشكل واسع خلال "حرب فوكلاند" ويقدر الأرجنتينيون مجموع الألغام التي قاموا ببثها بنحو 27500 لغم منها ما لا يقل عن أربعة آلاف لغم ضد الدبابات، غير أن تلك الحرب أكدت مرة أخرى الدرس القديم وهو أن حقول الألغام تفقد قيمتها مهما كان عددها وكثافتها ما لم يتم تغطيتها بالنيران التي تمنع فتح الثغرات فيها، وهو ما فشل فيه الأرجنتينيون على الرغم من كثافة حقول ألغامهم وتعدد أنواع الألغام فيها.
وقد مثلت حقول الألغام الأرجنتينية تقنيات مختلفة تراوحت بين القديم والحديث. ولم تكن الألغام قديمة الطراز تمثل تحدياً لكاشفات الألغام البريطانية، إلا أن الألغام الحديثة مثلت مشكلة كبيرة لتلك الكاشفات التي عجزت عن تحديد محلاتها، مما اضطر البريطانيون إلى إقامة أسوار من الأسلاك حول العديد من تلك الحقول بعد أن اضطروا إلى إيقاف جهودهم المضنية لإزالتها بعد الحرب.
وقد ثبت أن الألغام الإيطالية من طراز "4 إس بي 33 4 SB 33" والألغام الأسبانية من طراز "بي 4 بي B 4 B" والألغام الأرجنتينية من طراز "إف كي 1 FK 1" المضادة للأفراد يصعب اكتشافها، خاصة وأن الكثير منها يجري بثها بدون حلقة الكشف التي تمكن الأرجنتينيين من إزالة ألغامهم، وعلى الرغم من إنفاق البريطانيين سبعة ملايين جنيهاً إسترلينياً في الأبحاث والجهود المتواصلة طوال أربع سنوات بعد الحرب، إلا أنهم لم يتوصلوا إلى طريقة لاكتشاف تلك الألغام، مما سيلقي على وحدات المهندسين العسكريين عبئاً ثقيلاً في حروب المستقبل لإزالة مثل هذه الألغام.
5. أنظمة الرؤية الليلية
أدّت أجهزة الرؤية الليلية دوراً كبيراً في القتال الليلي الذي جرى على نطاق واسع خلال العمليات البرية، وقد اختار البريطانيون القتال الليلي للحد من خسائرهم والاستفادة من ستر الظلام في التغلب على الدفاعات الأرجنتينية الحصينة في المناطق الجبلية، إلا أنه يمكن القول أن أداء أجهزة الرؤية الليلية البريطانية كان سيئاً، حيث كانت تصاب بعمى مؤقت عند وقوع أي انفجار مضيء أو ظهور أي وميض ضوء، وقد أقر البريطانيون بقصور أجهزة الرؤية الليلية البريطانية التي استخدموها خلال الحرب، وأن الأجهزة التي أمدتهم بها الولايات المتحدة كانت أكثر تطوراً وساعدتهم على إدارة أعمال قتالية ليلية ناجحة على الرغم من قلة عددها، الأمر الذي يحتم ضرورة تزويد القوات البرية بأجهزة الرؤية الليلية الحديثة في أي حرب مستقبلية بعد أن أصبح القتال الليلي هو الأساس وليس الاستثناء عند الهجوم على المواقع الدفاعية المحصنة، وخاصة في غياب السيطرة الجوية.




[2] قدرتها البيانات الرسمية لوزارة الدفاع البريطانية بنحو 20 طائرة.


[1] قدرت بعض المصادر البريطانية تلك التكلفة بنحو بليونين من الجنيهات الإسترلينية.

http://defense-arab.com/vb/showthread.php?p=190937&posted=1#_ftnref2
 
عودة
أعلى