أطلقت مصر خلال الأشهر الماضية مبادرات وخططاً طموحة لإعادة إعمار قطاع غزة، في محاولة لتعزيز دورها الإقليمي والتأكيد على دعمها للقضية الفلسطينية. غير أن هذه المبادرات، رغم ما تحمله من طموح سياسي وهندسي، اصطدمت بعقبة أساسية: غياب المساهمة المالية المصرية المباشرة، والاعتماد شبه الكامل على التمويل الخليجي والدولي، ما أثار تساؤلات حول جدية المبادرة وفاعليتها، وأدى عملياً إلى تعثرها.
تفاصيل المبادرة المصرية
تضمنت الخطة المصرية إعادة إعمار شاملة للقطاع، تشمل بناء مئات آلاف الوحدات السكنية، مطار، ميناء، ومشاريع بنية تحتية ضخمة، بتكلفة تقديرية تصل إلى 53 مليار دولار، موزعة على عدة مراحل تمتد لسنوات.
ركزت المبادرة على ضرورة بقاء الفلسطينيين في أرضهم ورفض التهجير، مع إشراك المجتمع الدولي والدول العربية في التمويل والتنفيذ.
سعت مصر عبر مؤتمرات دولية إلى حشد الدعم المالي، مع التشديد على أن التنفيذ الفعلي يتوقف على مساهمات الدول الخليجية والأوروبية.
إشكالية غياب المساهمة المصرية المباشرة
رغم أن المبادرة حملت اسم "صندوق إعمار غزة المصري"، إلا أن الجانب المصري لم يعلن عن تخصيص موازنة وطنية واضحة أو ضخ أموال سيادية كبداية لتحفيز بقية المانحين.
اعتمدت القاهرة على فكرة أن دورها هو "التخطيط والتنظيم والإشراف"، بينما التمويل الفعلي يأتي من الخليج وأوروبا، وهو ما لم يلقَ تجاوباً كافياً من الدول المستهدفة بالتمويل.
في الدبلوماسية الدولية، من يطرح المبادرة ويطلب من الآخرين الإسهام، عليه غالباً أن يبدأ بنفسه ليكسب المصداقية ويحفز الشركاء على المشاركة. غياب هذا المبدأ أضعف المبادرة المصرية، وجعلها تبدو وكأنها محاولة لنيل "الريادة السياسية" دون تحمل أعباء حقيقية على الأرض.
لماذا فشلت المبادرة في حشد التمويل الخليجي؟
الدول الخليجية، وعلى رأسها السعودية والإمارات وقطر، أبدت تحفظاً على تمويل خطة لم تضع مصر فيها "الجلد على الشاة"، أي لم تلتزم بمساهمة مالية معتبرة من ميزانيتها الوطنية.
هناك إدراك خليجي بأن المبادرات الناجحة تبدأ بمساهمة جدية من صاحب المبادرة، ثم يُطلب الدعم الإضافي من الشركاء، وليس العكس.
كما أن بعض الدول الخليجية رأت أن الخطة المصرية تحمل أهدافاً سياسية تتعلق بإدارة غزة مستقبلاً أكثر من كونها خطة إنسانية بحتة، ما زاد من تحفظها على التمويل دون ضمانات واضحة حول الإدارة والرقابة.
الدروس المستفادة
المبادرات الإقليمية الكبرى، خاصة في قضايا بحجم إعادة إعمار غزة، تتطلب أن يبادر صاحب المبادرة أولاً بمساهمة فعلية، ليثبت جديته ويشجع الآخرين على المشاركة.
الاعتماد على دور الوسيط أو المنسق فقط دون تحمل أعباء مالية يضعف مصداقية المبادرة ويجعلها عرضة للفشل أو التجاهل.
على مصر، إذا أرادت أن تلعب دور القائد في ملف إعمار غزة، أن تكون أول من يضع الأموال في الصندوق، ولو بمبلغ رمزي، ثم تطلب من الآخرين أن يحذوا حذوها.
خاتمة
المبادرة المصرية لإعادة إعمار غزة، رغم أهميتها السياسية والإنسانية، وقعت في خطأ استراتيجي حين اعتمدت على الآخرين في التمويل دون أن تبدأ بنفسها. فكانت النتيجة تعثراً في جمع الأموال، وتراجعاً في الزخم السياسي للمبادرة. من يريد أن يقود، عليه أن يبادر بالفعل لا بالشعار فقط. الدرس واضح: الريادة في الأزمات لا تُشترى بالخطابات، بل تُكسب بالفعل والمساهمة الحقيقية.