الوديعة 1969: معركة كسر أنياب الشيوعية على حدود المملكة
المقدمة
اتسمت العلاقات السعودية اليمنية عبر العقود بتاريخ طويل من المد والجزر، والتقارب حيناً والتوتر حيناً آخر، إلى أن جاءت اللحظة التي غيّرت مسار التاريخ. كانت حرب الوديعة واحدة من أبرز وأهم المواجهات العسكرية التي خاضتها المملكة العربية السعودية، لتسجّل فيها نصراً حاسماً على قوات جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في السادس من ديسمبر عام 1969م، أي قبل أكثر من نصف قرن.
لكن حرب الوديعة لم تكن مجرد نزاع حدودي تقليدي، بل كانت موقعة فاصلة بين الحق والباطل، بين الشرعية والاستقرار الذي مثّلته المملكة، وبين الفوضى والشيوعية التي تبنّاها اليمن الجنوبي كأداة طيّعة في يد الاتحاد السوفيتي. كان الكرملين يتطلّع آنذاك إلى بسط هيمنته على شبه الجزيرة العربية والسيطرة على ممراتها البحرية وموقعها الجغرافي الاستراتيجي، وكانت المملكة هي الجدار المنيع الذي وقف في وجه هذا الطموح الأحمر.
منذ اللحظة الأولى لانفجار الصراع، اتضح أن الأمر يتجاوز حدود بلدة صغيرة على أطراف الربع الخالي، فالمواجهة كانت جزءاً من معركة كبرى في إطار الحرب الباردة: صراع بين المعسكر الشرقي بقيادة موسكو، والمعسكر الغربي الذي رأى في المملكة صمام الأمان وحصن الجزيرة العربية المنيع في مواجهة التمدد الشيوعي.
وهكذا تحوّلت الوديعة إلى ميدان ملحمي، كتب فيه الجنود السعوديون بدمائهم وتضحياتهم فصلاً خالداً في سجل المجد.
الخلفية التاريخية
منذ منتصف القرن العشرين، شكّل الوجود البريطاني في عدن حجر الزاوية في التوازن السياسي والعسكري بالمنطقة، ومع انسحاب بريطانيا في نوفمبر 1967، ظهر كيان جديد هو جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (اليمن الجنوبي)، الذي سرعان ما تبنى التوجه الشيوعي تحت رعاية ودعم مباشر من الاتحاد السوفيتي، ليصبح قاعدة نفوذ شرقية على حدود المملكة العربية السعودية.
أن من الأسباب التي دفعت حكومة اليمن الجنوبي إلى مهاجمة السعودية، الخلافات الداخلية والتدهور الاقتصادي الذي حلَّ باليمن في فترة ستينيات القرن الماضي؛ الأمر الذي أدى إلى حدوث اضطرابات وعصيان مدني ومطالبات بإصلاحات اقتصادية في البلاد.
وبعد أن وجدت الحكومة اليمنية نفسها عاجزة عن حل المشاكل الداخلية المختلفة، استغلت حالة الصراع الخارجي مع السعودية والناشئ منذ الانقلاب على الملكيين أو ما يُعرف بثورة 26 سبتمبر اليمنية عام 1962، لتفتعل أزمة خارجية تخفف الضغوط الشعبية في الداخل، وقامت بعض الدوريات العسكرية لليمن الجنوبي باستفزازات ومناوشات وتجاوزات حدودية.
الهجوم على مركز الوديعة ومحاولة احتلال شرورة
مع بزوغ فجر السادس من ديسمبر عام 1969م، بدأت القوات اليمنية الجنوبية المدعومة بالسلاح والخطط السوفيتية هجومها المباغت على الأراضي السعودية. كان الهدف الأول هو مركز الوديعة الحدودي، تلك البلدة الصغيرة التي تحولت فجأة إلى قلب معركة كبرى. اندفعت وحدات من اللواء الثلاثين اليمني، مسنودة بمليشيات شعبية وأسلحة ثقيلة، لتسيطر على المركز بعد معارك قصيرة مع حامية صغيرة من حرس الحدود. وسرعان ما رفع المعتدون أعلامهم على المباني الإدارية في محاولة لإعلان انتصار سريع يرفع معنوياتهم المهزوزة.
لكن أطماعهم لم تتوقف عند الوديعة وحدها، فقد اندفعت القوات الغازية نحو الشمال في محاولة للزحف على مدينة شرورة، البوابة الاستراتيجية التي لو سقطت لفتحت الطريق أمام تهديد العمق السعودي. وبثقة غرورٍ مدعوم من موسكو، راهن قادة اليمن الجنوبي على أن المملكة لن تستطيع الرد السريع، وأن الأمر سينتهي بتثبيت واقع جديد على الأرض يفرضونه بقوة السلاح.
إلا أن تقديراتهم كانت خاطئة تماماً؛ فما حسبوه نصراً سهلاً لم يكن سوى بداية النهاية. فما هي إلا ساعات حتى بدأت القيادة السعودية بتعبئة قواتها، وإصدار الأوامر بتطهير الوديعة، ورد المعتدين على أعقابهم بقوة لم يتوقعوها. وهنا بدأت المعركة الكبرى التي ستكتب بحروف من ذهب في تاريخ المملكة.
صقور السماء وأبطال الأرض الوديعة تتحول إلى ملحمة
سلام ياجيشٍ على الحدّان
أفعالهم ما هي بمنسيّة
يوم الوديعة كلّمت نجران
محتلّها قوة يمانية
يوم اطلع فيصل على ما كان
وأرسل على القوات برقية
غلطان يا اللي بأرضنا طمعان
ما تدري أن الدار محمية
بهذه الأبيات الشعرية التي صدحت في تلك الأيام، يتجلّى الشعور الوطني الجارف الذي رافق معركة الوديعة. لم تكن المواجهة مجرد حدث عسكري، بل ملحمة وطنية سطّرها الجنود السعوديون بدمائهم وشجاعتهم في وجه أطماع السوفيت ووكلائهم.
❖ الحرب الجوية والاشتباك الجوي
في سماء المعركة، كانت المقاتلات السعودية من طراز Lightning F.53 التابعة للسرب السادس تحلّق بجسارة، ترسم بعزمها صفحة جديدة في تاريخ القوات القوات الجوية الملكية السعودية وتحت قيادة اللواء محمد السبيله – رحمه الله – الذي تولى إدارة العملية الجوية، نُفذت الطلعات بجرأة ودقة، لتبدأ فصول المواجهة الحاسمة.
حاولت مقاتلات العدو من نوع MIG-17 و MIG-21 التسلل لفرض التفوق الجوي، لكن الصقور السعوديين تصدّوا لها بكل بسالة. وفي لحظات حاسمة من الاشتباك، تمكن الطيارون السعوديون من إسقاط طائرتين MIG-17 باستخدام صواريخ Firestreak / Red Top في مشهد سطّر ملاحم من الشرف والبطولة.
مقاتلات MIG-17 اليمنية
ولم يقتصر التفوق الجوي السعودي على الاشتباك المباشر فحسب، بل قدّمت القوات الجوية دعماً نارياً مركزاً للقوات البرية، إذ استهدفت مقاتلاتها مراكز قيادة العدو ومعداته الثقيلة وخطوط إمداده، لتزرع الفوضى والانهيار في صفوف القوات اليمنية الجنوبية المدعومة من السوفيت. هذا الدعم الجوي الحاسم مكّن القوات البرية والحرس الوطني من التقدم السريع، وجعل محاولات العدو في التماسك مجرّد سراب.
وفي مشهد آخر من البطولة، حاولت مقاتلة MIG-17 يائسة التسلل لمهاجمة مواقع سعودية، لكن نيران مدفعية الدفاع الجوي السعودي بقيادة الرائد عبدالله بن خشعان العمري أسقطتها بدقة مدهشة. وأُسر قائدها، الطيار السوري الأصل نوفل الهندي، بعد أن أُصيب بجراح، ليقع في قبضة القوات السعودية، قبل أن يتم تسليمه لاحقاً إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عام 1970.
❖ الحسم البري لمعركة الوديعة
انطلقت العملية البرية في تمام الساعة 09:45 صباحًا (رمضان 1389هـ / 1969م) على محوريْن متزامنين، بقيادة مجموعات وألوية سعودية مشكّلة وممنهجة:
❖ القيادة العامة للهجوم البري:
قادها الفريق سعيد العمري للجيش العربي السعودي، بينما قاد قوات الحرس الوطني اللواء منسي البقمي — رحمهما الله.
❖ المحور الغربي:
سار على هذا المحور كتيبة من الحرس الوطني مع فصيل بندقية م/د (106) وبعض الفصائل الأخرى، بهدف تطهير واستعادة قرن الوديعة وطرد القوات المهاجمة منه.
❖ المحور الشرقي:
تقدّمت عليه تشكيلات تتكون من س2 ك1 ل8 + س1 ك1 ل10 + فصيل بندقية م/د 106 إلى جانب مجموعة من خويا الإمارة والمجاهدين السعوديين وحرس الحدود والقوات البرية، تسلّكت وادي أم السلم وغربه لمواجهة القوات اليمنية الجنوبية مباشرة.
على مستوى الاشتباك المباشر، تكفّل اللواء 11 السعودي بقيادة العميد طراد الحارثي بمواجهة اللواء الثلاثون اليمني المسنود بلواء مليشيا شعبية المتمركز في مركز الوديعة. خاض الطرفان قتالاً ضارياً ومُرتفع الإيقاع؛ وفي أثناء المعارك نجحت القوات السعودية في كسر هجوم مضاد حاولته عناصر العدو من أم السلم حيث انقسمت قواتهم إلى قسم يشاغل القوات السعودية وقسم حاول الالتفاف شرقيًا، إلا أن الالتفاف فشل تحت ضغط النيران السعودية والتقدم المنسق.
خلال اشتداد القتال، أُصيب تماسك القيادة العدائية بكسرٍ شديد بعد سقوط قائد القوات اليمنية الجنوبية اللواء علي عوض الشلال قتيلاً أثناء الاشتباك البري، وكان لذلك أثر بالغ في انهيار معنويات العدو وتفكك صفوفه. استغلت القوات السعودية النجاح وبدأت مطاردة منظمة أعادت عزيمة المعارك لصالحها، حتى تراجعت كتائب العدو وانهارت بؤر مقاومتها.
بحلول 24 رمضان 1389هـ تم طرد آخر عناصر القوات الجنوبية خارج الحدود السعودية، وفي 25 رمضان 1389هـ صدر أمر من الملك فيصل بوقف القتال، فتوقفت القوات السعودية عند الحدود بعد تحقيق الهدف: تحرير واستعادة مركز الوديعة وتأمين المنطقة.
الخسائر
رغم شراسة القتال، فقد خرجت المملكة من معركة الوديعة وهي رافعة الرأس، بعد أن سطّر جنودها أروع صور التضحية والفداء. فقد استشهد 39 بطلاً من رجال القوات السعودية، فيما وقع 26 جندياً في الأسر خلال المعركة، إضافة إلى خسارة طائرة واحدة كان يقودها الأمير الطيار محمد بن سعد بن عبدالعزيز وعدداً من المصفحات والعربات هذه الخسائر لم تكن سوى ثمن مجيد للنصر المؤزر الذي تحقق.
أما على الجانب الآخر، فقد كانت خسائر القوات اليمنية الجنوبية المدعومة من السوفيت فادحة ومدوية. فقد تكبّد العدو قتلى وأسرى بالعشرات، ودُمّرت معظم أسلحته ومعداته، واستولى الجيش السعودي على ما تبقى منها. وكان أبرز هذه الخسائر مقتل قائد قواتهم اللواء علي عوض الشلال أثناء الاشتباك البري مع القوات السعودية، وهو ما شكّل ضربة قاصمة لصفوفهم.
وفي سماء المعركة، خسر العدو طائرتين من طراز MIG-17 و MIG-21 بعد أن أسقطتهما المقاتلات السعودية من طراز Lightning F.53 التابعة للسرب المكلف بالقتال، بينما أسقطت طائرة MIG-17 بواسطة نيران الدفاع الجوي السعودي والمفارقة أن تلك الطائرة كانت يقودها الطيار السوري الأصل نوفل الهندي، الذي أُصيب بجراح خطيرة عند سقوط طائرته، ليقع في الأسر لدى السعوديين، ويُسلَّم لاحقاً إلى الصليب الأحمر الدولي عام 1970.
لقد كانت هذه الخسائر المتوالية بمثابة إعلان هزيمة مدوية للقوات اليمنية الجنوبية وحلفائها السوفيت، وانتصاراً باهراً للمملكة التي أثبتت أن حدودها عصيّة على أي غزو.
الأمير الطيار محمد بن سعد بن عبدالعزيز يقف بجانب مصفحة Ferret التي تم اغتنامها
الأمير خالد السديري وبيده مفاتيح «المصفحات» التي تم اغتنامها
من النار إلى السلام درس الوديعة للأجيال
لقد شكلت معركة الوديعة عام 1969 فصلًا فارقًا في تاريخ المملكة العربية السعودية، إذ أثبتت خلالها القوات المسلحة بمختلف أفرعها قدرة عالية على حماية الأرض والسماء، والتصدي لأي عدوان مهما كانت قوته.
ومع ذلك، يجب التذكير أن الحرب لم تكن بين شعوب، بل كانت نتيجة تصادم أيديولوجيات متعارضة، حيث استغل الفكر الشيوعي آنذاك الصراعات السياسية لتوسيع نفوذه في المنطقة، فتصاعدت التوترات بين بلدين شقيقين، السعودية واليمن الجنوبي. ورغم هذا، بقيت الروابط الأخوية بين الشعبين قوية، وما حصل كان نتيجة الأوضاع السياسية والعسكرية في تلك المرحلة التاريخية، وليس صراعًا بين مواطنين.
انتصار السعودية في الوديعة كان ردًا مشروعًا للدفاع عن الحدود وحماية الأمن الوطني، وأظهر مدى التنسيق بين القوات البرية والجوية والدفاع الجوي، وما تحقق من بطولات فردية وجماعية شكلت صفحة خالدة في سجل تاريخ المملكة العسكري.
وبينما نذكر ملحمة الوديعة، نتذكر أيضًا أن المصالحة والتقارب بين الشعوب هي الطريق الأمثل لتجاوز الأزمات، وأن السلام هو الهدف الأسمى بعد كل صراع، حفاظًا على الأخوة والروابط التاريخية بين الأشقاء.
- انتهى -