"حكاية العقاب السعودي: من المفاوضات الساخنة إلى السيطرة الجوية"
المقدمة
في سبعينيات القرن العشرين، كانت منطقة الشرق الأوسط تمر بفترة حرجة من تاريخها الحديث، حيث تصاعدت النزاعات الإقليمية وتشابكت المصالح الدولية، بعد مرور خمس سنوات على حرب أكتوبر 1973، أصبح التفوق الجوي الإسرائيلي حقيقة لا يمكن تجاهلها، وسط هذا الواقع، أدركت المملكة العربية السعودية أن أمنها الجوي لن يُبنى إلا بعقاب حقيقي… طائرة تقرع عنان السماء، تفوق أي تهديد، وتضمن حماية أراضيها وحقول النفط الاستراتيجية، الرياض لم تكن تبحث عن مجرد طائرة مقاتلة، بل عن سلاح ردع قادر على فرض التوازن الاستراتيجي وحماية أجواء المملكة الشاسعة ، وأصبح الخيار الاستراتيجي هو التوجه نحو المقاتلة الأمريكية F-15، رمز التفوق الجوي في ذلك العصر، بقدراتها العالية في السرعة، المدى، والتسليح، ورادارها المتطور القادر على كشف الأهداف لمسافات بعيدة ، لكن السعودية أرادت أكثر من مجرد نسخة قياسية… أرادت أفضل ما لدى الولايات المتحدة.
في ذلك الوقت، كانت إسرائيل قد حصلت على النسخة الأولى F-15A/B، بينما تفاوضت السعودية على النسخة الأحدث F-15C/D التي تمتاز بتحسينات في الرادار، قدرة حمل الوقود، أنظمة الحرب الإلكترونية، وحمولة الصواريخ.
هذا الفارق أثار غضب اللوبي الإسرائيلي، إذ كانت الرياض ستحصل على نسخة أكثر تطورًا من تلك التي بحوزة تل أبيب، في وقت كان فيه التفوق الجوي الإسرائيلي يُعتبر "خطًا أحمر" في السياسة الأمريكية.
خلفية المفاوضات وطلب المملكة لطائرات F-15
في أواخر عام 1975، قبل مرور أكثر من عام على بدء العمل الرسمي ببرنامج طلب طائرات F-15، شهدت العلاقة العسكرية بين واشنطن والرياض لحظة فارقة عبر زيارة قيادات أمريكية رفيعة المستوى للمملكة. زارها آنذاك نائب وزير الدفاع ويليام كليمنتس، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال جورج براون، ووزير الخارجية هنري كيسنجر، في خطوة جسّدت عمق الشراكة الاستراتيجية. خلال هذه الزيارة، قدّم فريق خاص من وزارة الدفاع الأمريكية إيجازًا شاملاً إلى قيادة القوات الجوية الملكية السعودية حول قدرات الطائرات المقاتلة المتقدمة، بما في ذلك النموذجين F-14 وF-15 وF-16، إلى جانب عرض تمهيدي حول مفهوم F/A-18.
الطلب السعودي على F-15 لم يكن قرارًا عابرًا، بل جاء نتيجة تقييم معمق للوضع الإقليمي والدولي بعد حرب أكتوبر 1973، حين أصبح التفوق الجوي الإسرائيلي واقعًا لا يمكن تجاهله. كانت المقاتلات المتوفرة لدى المملكة آنذاك من طراز F-5 و Lightning البريطانية غير كافية لمواجهة أي تهديد جوي محتمل. احتاجت المملكة إلى طائرات ذات قدرة عالية على المناورة، مدى طويل، نظم رادارية متقدمة، وأنظمة تسليح حديثة تضمن حماية أجواء المملكة بالكامل.
الهدف لم يكن هجوميًا، بل دفاعيًا بحتًا، لحماية خطوط النفط الحيوية والمرافق الاستراتيجية من أي اعتداء، سواء كان قريبًا أو بعيدًا. ووفقًا لمذكرات الأمير بندر بن سلطان، فقد بدأت السعودية بطلب 100 طائرة، لكن المفاوضات الطويلة والمكثفة انتهت بالاتفاق على 62 طائرة، وهو الرقم الذي توصل إليه الطرفان بعد مداولات دقيقة لتخفيف حدة الاعتراضات الإسرائيلية وضمان تمرير الصفقة.
النسخة السعودية من F-15 كانت الأحدث عالميًا حينها، ما منح المملكة تفوقًا نوعيًا على النسخة الإسرائيلية F-15A/B، بفضل رادار AN/APG-63 المتطور، مدى أطول، أنظمة حرب إلكترونية محسنة، قدرة أكبر على حمل الأسلحة، ومناورة أفضل، وهو ما شكّل عنصر قوة حاسم في استراتيجية الدفاع الجوي السعودي.
❖ المسار إلى الطلب الرسمي: من أفكار عبور الغيوم إلى توقيع الورق (1974–1977)
• 1974: فريق من البنتاغون يمسح احتياجات الدفاع السعودي ويطرح بدائل عدّة؛ النتيجة: تفوّق خيار مقاتلة ثقيلة متقدمة.
• أكتوبر 1976–مايو 1977: وُجهت للسعوديين تأكيدات أمريكية متكررة بإتاحة “المقاتلة المتقدمة من اختيارهم” شريطة موافقة الكونغرس.
• 15 مايو 1977: الطلب السعودي الرسمي لشراء 60 مقاتلة F-15 يصل عبر القنوات الدبلوماسية.
الحرب السياسية والإعلامية: إسرائيل والكونغرس في مواجهة السعودية
منذ منتصف عام 1977، بدأت إسرائيل حملة منظمة ضد الصفقة على مختلف المستويات السياسية والإعلامية. كان وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، موشيه ديان، يعتبر الصفقة تهديدًا مباشرًا لتفوق إسرائيل الجوي، فسافر إلى واشنطن في يوليو 1977 للقاء كبار المسؤولين الأمريكيين وأعضاء الكونغرس، في محاولة للضغط على الإدارة الأمريكية لإيقاف الصفقة أو على الأقل تقييد قدرات الطائرات المباعة للسعودية. وفي مقطع فيديو نادر تم توثيقه ، يظهر ديان وهو يحذر الأمريكيين صراحة من أن بيع طائرات F-15 للسعودية قد يهدد الأمن الإسرائيلي ويغير ميزان القوة في الشرق الأوسط، مؤكدًا أن منح السعودية هذه الطائرات الحديثة قد يؤدي إلى سباق تسلح جديد وزيادة التوترات الإقليمية.
ترافقت تصريحات ديان مع نشاط مكثف للـ AIPAC واللوبي الإسرائيلي داخل الكونغرس، حيث تم تنظيم جلسات استماع واجتماعات مغلقة لإقناع النواب بأن الصفقة تشكل تهديدًا استراتيجيًا، ليس فقط لإسرائيل، بل أيضًا للمصالح الأمريكية في المنطقة. ومع استمرار الضغوط، ظهر موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن في 20 فبراير 1978 بشكل أكثر حدة. ففي مقال نشرته صحيفة The Washington Post بعنوان "Begin Bares Fear Egypt May Get Saudi Jets"، أعرب بيغن عن مخاوفه الصريحة، مشيرًا إلى أن بيع طائرات F-15 للسعودية يشكل "خطرًا جسيمًا" على إسرائيل، محذرًا من أن حصول مصر على الطائرات السعودية التي قد يغير ميزان القوة في المنطقة لصالح الدول العربية.
على الرغم من هذه الحملة المعارضة، نجح الوفد السعودي بقيادة الملك فهد والأمير سلطان والأمير بندر بن سلطان في مواجهة هذه الضغوط، مقدمًا حججًا واضحة حول الطبيعة الدفاعية للصفقة وأهمية تعزيز شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة لضمان الاستقرار الإقليمي، مثبتًا أن القوة الحقيقية لا تتعلق فقط بالأسلحة، بل بكفاءة القيادة وقدرتها على المناورة الدبلوماسية والسياسية.
❖ الحرب السياسية والإعلامية الإسرائيلية
1. اللوبي في واشنطن
إسرائيل أطلقت العنان للوبي المؤيد لها في الكونغرس الأمريكي، المعروف بـ AIPAC، والذي بدأ حملة ضغط مكثفة على أعضاء الكونغرس، مدعومًا بتقارير استخباراتية وإحاطات مغلقة تدعي أن بيع هذه الطائرات للسعودية قد يخل بالتوازن العسكري في الشرق الأوسط.
2. التخويف من تهديد النفط
في الإعلام الأمريكي، ظهرت عناوين مثيرة:
"النفط مقابل الطائرات"
"هل سنسلح من قد يهدد إسرائيل؟"
تم تصوير الصفقة على أنها "مكافأة" للسعودية على الحظر النفطي 1973، وهو ما أثار مشاعر الغضب لدى بعض صناع القرار الأمريكيين.
3. اللعب على وتر الأمن القومي
إسرائيل روّجت لفكرة أن المدى التشغيلي للمقاتلة F-15C يمكن أن يمكّن السعودية من الوصول إلى العمق الإسرائيلي في حال اندلاع حرب، وحذرت من أن أي تغير سياسي في المملكة قد يحول هذه الطائرات ضد حليفتها أمريكا.
4. حشد الرأي العام الأمريكي
أنتجت مجموعات الضغط المؤيدة لإسرائيل مقالات وتقارير في صحف كبرى مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز، ورسومًا كاريكاتورية تصور الطائرة F-15 وهي تحلق فوق حقول النفط السعودية متجهة نحو إسرائيل، في رسالة واضحة لتأجيج القلق الشعبي.
❖ المواجهة الحاسمة في الكونغرس
في مواجهة هذا الحصار السياسي، اتجهت المملكة إلى الدبلوماسية المباشرة، حيث أرسلت وفودًا رسمية رفيعة المستوى إلى واشنطن، بقيادة ولي العهد فهد، والأمير سلطان بن عبد العزيز، والأمير بندر بن سلطان. هذه الوفود لم تكتفِ بتقديم الطلب الرسمي، بل خاضت مفاوضات وجهاً لوجه مع أعضاء الكونغرس الأمريكي، مشفوعة بعروض دقيقة حول أهمية الصفقة للدفاع عن المملكة ومنشآتها الحيوية، وضرورة اعتبار السعودية شريكًا استراتيجيًا في استقرار أسواق النفط ومواجهة النفوذ السوفيتي في المنطقة. طوال الاجتماعات، كانت الوفود السعودية تستخدم مزيجًا من المنطق العسكري، والحجج الاقتصادية، والضمانات السياسية، لإقناع أعضاء الكونغرس الذين كانوا مترددين أو معارضين. مع مرور الوقت، بدأ التأثير يظهر بوضوح، حيث تحولت أصوات المعارضين إلى داعمة بعد الاطلاع على الحقائق والضمانات السعودية، الأمر الذي مهد الطريق لموافقة الإدارة الأمريكية على الصفقة في ربيع عام 1978.
❖ البيت الأبيض يدخل المعركة
الرئيس الأمريكي آنذاك جيمي كارتر وجد نفسه في موقف حساس: من جهة، إسرائيل حليف استراتيجي قوي، ومن جهة أخرى، السعودية شريك نفطي وسياسي مهم في مواجهة الاتحاد السوفييتي.
لكن كارتر أدرك أن الصفقة تخدم المصلحة الأمريكية الكبرى، فوقف مع إتمامها، مع تقديم تطمينات لإسرائيل عبر تقييد بعض قدرات الطائرات المصدرة للسعودية.
الموقف السعودي: صلابة وهدوء استراتيجي
منذ اللحظة التي بدأت فيها المفاوضات على صفقة F-15، كان واضحًا أن المملكة العربية السعودية تدخل معركة سياسية ودبلوماسية معقدة لا تقل صعوبة عن أي معركة عسكرية. فقد تزامنت الصفقة مع فترة شديدة الحساسية في الشرق الأوسط أواخر السبعينيات، بعد حرب أكتوبر 1973، حيث تزايد النفوذ الإسرائيلي في واشنطن عبر اللوبي السياسي، خاصة "اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة" (AIPAC)، التي كانت تملك تأثيرًا واسعًا على أعضاء الكونغرس والرأي العام الأمريكي.
بالنسبة لإسرائيل، أي زيادة نوعية في قدرات الدفاع الجوي العربي كانت تُعتبر تهديدًا مباشرًا لتفوقها العسكري المطلق في المنطقة. لذلك شنّت حملة مكثفة داخل الكونغرس ووسائل الإعلام الأمريكية للتشكيك في الصفقة، بحجة أن تزويد السعودية بطائرات F-15 سيقلب ميزان القوى ويشكل خطرًا على أمن إسرائيل. وصلت الحملة إلى حد الضغط على الإدارة الأمريكية لفرض قيود صارمة على المقاتلات السعودية، مثل تحديد المدى ومنع تزويدها بخزانات وقود إضافية أو أسلحة بعيدة المدى.
لكن الموقف السعودي كان ثابتًا ومبنيًا على عدة محاور:
• الشرعية الدفاعية للصفقة
أكدت المملكة مرارًا أن الصفقة دفاعية بحتة، وأن الهدف الأساسي منها هو حماية أجواء المملكة ومنشآتها الحيوية، وعلى رأسها حقول النفط في المنطقة الشرقية، التي كانت تشكل عصب الاقتصاد العالمي وليس السعودي فقط.
• التحرك الدبلوماسي المباشر مع البيت الأبيض
استثمرت الرياض علاقاتها الوثيقة بالإدارة الأمريكية، خاصة في عهد الرئيس جيمي كارتر، عبر قنوات دبلوماسية رفيعة المستوى. كان للأمير بندر بن سلطان، الذي شغل منصب ضابط ارتباط في واشنطن ثم لاحقًا سفير المملكة، دور محوري في شرح الموقف السعودي للجان الكونغرس ولصناع القرار، مع التأكيد على أن السعودية شريك استراتيجي للولايات المتحدة في مواجهة التهديدات السوفييتية.
• التوازن في الخطاب
اعتمدت المملكة خطابًا متزنًا بعيدًا عن التصعيد الإعلامي، مع التأكيد على احترام مخاوف الحلفاء الغربيين، وفي الوقت نفسه رفض أي تدخل في حقها السيادي بشراء السلاح اللازم للدفاع عن أراضيها.
• الربط بالمصالح الأمريكية
ذكّرت الرياض واشنطن بأن أمن السعودية هو جزء من أمن إمدادات الطاقة العالمية، وأن حماية الحقول النفطية والممرات البحرية في الخليج العربي يصب في مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو.
• المناورة السياسية
عندما تصاعدت المعارضة داخل الكونغرس، أبدت السعودية مرونة في تقليص عدد الطائرات المطلوبة من 100 إلى 62 طائرة، وهو ما اعتُبر تنازلًا تكتيكيًا ساهم في تمرير الصفقة، دون الإخلال بالقدرة القتالية المطلوبة.

لحظة إعلان الرئيس الأمريكي عن الصفقة وبرنامج Peace Sun
في مارس 1978، وبعد شهور من المفاوضات الشاقة والضغط السياسي المتواصل، أعلن الرئيس الأمريكي جيمي كارتر الموافقة الرسمية على بيع 62 طائرة من طراز F-15C/D إلى المملكة العربية السعودية. هذا الإعلان لم يكن مجرد توقيع صفقة تسليح، بل كان لحظة فارقة تؤكد أن الرياض نجحت في تحقيق انتصار دبلوماسي وعسكري أمام ضغوط قوية من إسرائيل وممثليها داخل الكونغرس الأمريكي.
أطلق على هذا الاتفاق اسم "Peace Sun" اسم يعكس الانطلاقة الجديدة لحقبة من التوازن الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والسعودية في المنطقة. وكانت هذه الصيغة الأولى من برنامج تسليح مع المملكة، وهو ما ترجمه مصطلح "Peace Sun" إلى حقيقة ملموسة، إذ أعطى المشاريع التحضيرية والتسليحية اسمًا يرمز للسلام والقوة مديرًا نحو إعادة تعريف التحالفات الأمنية ، بلغت قيمة الصفقة نحو 2.5 مليار دولار، ما يجعلها واحدة من أكبر الصفقات العسكرية الأمريكية في تلك المرحلة
تعرضت الصفقة في بعض مراحلها لتأجيلات بشأن دفعات إضافية، لكن تسليم الدفعة الأولى في 1982 ضمن إطار برنامج Peace Sun أكَّد أن الاتفاق لم يكن مجرد إعلان سياسي بل انتقل إلى التنفيذ ومتابعة العملياتية. هذا الحدث شكّل بداية لمرحلة من التفوق الجوي السعودي المدعوم بالتكنولوجيا الأمريكية، وهو ما يعكس الرؤية الاستراتيجية السعودية في بناء قوة دفاعية نوعية بجناح دبلوماسي.
ردود الفعل الدولية والإعلامية على الصفقة
عقب الإعلان الرسمي، انقسمت ردود الفعل الدولية والإعلامية بشكل واضح. الصحف الأمريكية الكبرى مثل The Washington Post وThe New York Times وTime Magazine تابعت الخبر بشكل مكثف، وأبرزت الانقسام بين من اعتبروا الصفقة خطوة استراتيجية لتعزيز الأمن الإقليمي ومنع سباق تسلح محتمل، وبين من رأوا فيها مخاطرة قد تزعزع الاستقرار في المنطقة.
دوليًا، أبدت بعض الدول العربية غير الحليفة للسعودية مواقف متباينة، إذ رأى البعض أن الصفقة تعكس قوة المملكة وتعزز موقعها الإقليمي، بينما أعرب آخرون عن القلق من تصاعد التوترات مع إسرائيل. إسرائيل بدورها أكدت معارضتها الصريحة، معتبرة أن الصفقة تهدد تفوقها العسكري في المنطقة. القوى الغربية الكبرى، مثل بريطانيا وفرنسا، تابعت الصفقة باهتمام شديد، ليس فقط لأسباب دبلوماسية، بل أيضًا لمراقبة التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط. هذه الصفقة أكدت على أن السعودية أصبحت لاعبًا مؤثرًا قادرًا على التأثير في موازين القوة الإقليمية، وأن امتلاك أحدث الأسلحة لا يتعلق بالقوة العسكرية فحسب، بل بالقدرة على المناورة الدبلوماسية والاستراتيجية.
وصول مقاتلات F-15 والدخول المبكر في المواجهة الجوية
مقاتلة F-15C اثناء رحلة التسليم للسعودية
وصلت الدفعة الأولى من مقاتلات F-15C/D إلى المملكة العربية السعودية في أوائل عام 1982، بعد مرور سنوات من المفاوضات والاختبارات والتدريب المكثف للطيارين والفنيين السعوديين. كانت هذه الطائرات مجهزة بأحدث الأنظمة الرادارية والأسلحة ، ما منح القوات الجوية الملكية السعودية القدرة على تحقيق التفوق الجوي النوعي بشكل فوري.
لم تمر فترة طويلة على وصول الطائرات حتى خاضت أول مواجهة قتالية حقيقية، فقد وقع الاشتباك الجوي الأول بين مقاتلات F-15 السعودية والطائرات الإيرانية في 5 يونيو 1984، بالقرب من جزيرة عربي في الخليج العربي، خلال فترة حرب الناقلات بين إيران والعراق. في ذلك اليوم، قامت طائرتان من طراز F-4 فانتوم التابعة للقوات الجوية الإيرانية بالاقتراب من الأجواء السعودية بهدف مهاجمة ناقلات النفط، وتم رصدهما من قبل طائرة AWACS أمريكية، التي قامت بتوجيه مقاتلتين سعوديتين من طراز F-15 لاعتراضهما.
تمكنت المقاتلات السعودية من إسقاط طائرة إيرانية واحدة، بينما عادت الطائرة الثانية إلى جزيرة كيش الإيرانية بعد تعرضها لأضرار بالغة. وقد كانت هذه الواقعة بمثابة اختبار حقيقي لقدرة الطيارين السعوديين على التعامل مع الطائرات الحديثة، وأظهرت كفاءتهم العالية في استخدام أنظمة الرادار والأسلحة المتقدمة، مما يعكس مستوى التدريب والتأهيل الذي حصلوا عليه، ويؤكد أن العقاب الصحرائي أصبح قوة ردع حقيقية في المنطقة.
التوسعات اللاحقة لبرنامج Peace Sun
بعد تنفيذ المراحل الأولى من برنامج Peace Sun بنجاح، واستلام المملكة العربية السعودية لدفعاتها الأولى من مقاتلات F-15C/D في أوائل الثمانينيات، وُجدت الحاجة إلى تعزيز الأسطول الجوي وتطوير قدراته لمواكبة المتغيرات الإقليمية والتطورات التكنولوجية في سلاح الجو الأمريكي.
في عام 1987، وقّعت السعودية اتفاقية ضمن المرحلة السادسة من البرنامج (Peace Sun VI) تضمنت الحصول على 12 مقاتلة F-15C/D جديدة مزوّدة بأحدث أنظمة الملاحة والاستهداف المتوفرة آنذاك، بالإضافة إلى تحسينات في منظومة الحرب الإلكترونية. كان الهدف من هذه الدفعة تعزيز قدرات الدفاع الجوي بعيدة المدى للمملكة، وزيادة القدرة على التعامل مع التهديدات الإقليمية المتصاعدة، خصوصًا مع استمرار الحرب العراقية–الإيرانية وتزايد القلق من توسع النفوذ الإيراني في الخليج.
وفي عام 1990، ومع اقتراب أحداث غزو العراق للكويت وما تبعها من حرب تحرير الكويت، طلبت السعودية دفعة أخرى شملت 24 مقاتلة F-15C/D لتعزيز جاهزيتها القتالية. جاءت هذه الطائرات لتزيد العدد الكلي للطائرات العاملة ضمن أسطول F-15، كما حملت تحسينات إضافية في الرادار ونظم التسليح، مما سمح بتوسيع القدرة على الاشتباك الجوي على مسافات أبعد، إضافة إلى تكامل أفضل مع طائرات الإنذار المبكر والتحكم (AWACS) التي كانت المملكة قد بدأت بتشغيلها في نفس الفترة.
الجدول الزمني لدفعات F-15 ضمن برنامج Peace Sun حتى 1990:
السنة | المرحلة (Peace Sun) | عدد الطائرات | الطراز | ملاحظات تقنية |
---|---|---|---|---|
1978 | Peace Sun I–II | 62 | F-15C/D | الصفقة الأساسية الأولى، تسليم بدأ مطلع الثمانينيات. |
1987 | Peace Sun VI | 12 | F-15C/D | دفعة مزودة بأنظمة ملاحية وحرب إلكترونية مطورة. |
1990 | — | 24 | F-15C/D | دفعة لرفع الجاهزية قبل حرب الخليج، مع تحسينات في الرادار والتسليح. |
مع استمرار برنامج Peace Sun عبر مراحله المختلفة، توسّع أسطول طائرات F-15C/D لدى القوات الجوية الملكية السعودية ليغطي عدة أسراب عملياتية موزعة على قواعد جوية استراتيجية. وقد شملت الأسراب الرئيسة المشغّلة للطائرة:
السرب | القاعدة الجوية |
---|---|
2 | قاعدة الملك فيصل الجوية (تبوك) |
5 | قاعدة الملك فهد الجوية (الطائف) |
13 | قاعدة الملك عبد العزيز الجوية (الظهران) |
34 | قاعدة الملك فهد الجوية (الطائف) |
42 | قاعدة الملك عبدالعزيز الجوية (الظهران) |
الخاتمة
قصة صفقة F-15C/D السعودية ليست مجرد عملية شراء سلاح، بل هي ملحمة سياسية ودبلوماسية وعسكرية متكاملة. أثبتت المملكة قدرتها على مواجهة الضغوط السياسية والإعلامية، والتغلب على المعارضة الإسرائيلية واللوبيات داخل الكونغرس الأمريكي، مع ضمان الحصول على النسخة الأحدث والأكثر تطورًا من الطائرات. كما جسدت الصفقة براعة القيادة السعودية في الجمع بين الرؤية السياسية والاستراتيجية، والخبرة العسكرية، والدبلوماسية الذكية، لتحقيق نصر تاريخي أعاد رسم موازين القوة الجوية في المنطقة، ورفع مستوى الردع الوطني إلى آفاق غير مسبوقة.
- النهاية -