حزب البعث.. نشأته وتطوره..دليل شامل ومفصل
حزب البعث السوري

‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌كانت الإرهاصات الحزبية الأولى وظهور حزب البعث في سورية خلال عهد الحكم العثماني. ففي عام 1883 م قامت حركة انفصالية بين نصارى مدينة بيروت، في كلية اليسوعيين التابعة لطائفة البروتستانت. وأعلنت معارضتها للإمبراطورية العثمانية، ووزعت منشورات سرية في بيروت ودمشق، تحرض الشعب على الثورة ضد العثمانيين. وموَّلت الحكومة الفرنسية هذه الحركة، لنشر نفوذها في المنطقة.

نشأة حزب البعث

بعد الثورة الفرنسية، وتحول فرنسا من الملكية إلى الجمهورية، بدأت فرنسا تصدر إلى الدول الأوربية الأخرى بعض المفاهيم الجديدة في اللغة السياسية، وأصبحت الأحزاب السياسية في أوروبا تنقسم إلى ثلاثة اتجاهات:

ـ أحزاب اليمين.

ـ أحزاب اليسار الاشتراكي.

ـ أحزاب الوسط.

وتأثر مفكرو سورية ومثقفوها، بتلك الأفكار السياسية ـ الجديدة ـ من دون ما تمييز حقيقي، بين المعنى الأيديولوجي لليمين، أو اليسار، أو الوسط. فقد كانت الأحزاب والجماعات السياسية، السالف ذكرها، سواء داخل سورية، أو خارجها، محاكاة شكلية فقط لأفكار ومبادئ، تلك الأحزاب الغربية.

ويرى بعض الدارسين، أن النضال الوطني السوري، قبيل فترة الاستقلال، كان يجمع بين ثلاثة مستويات، في آن واحد، هي:

1. المستوى الوطني

ضد الاستعمار الفرنسي، الذي كان يتمثل في قضية جلاء القوات الفرنسية عن الأراضي السورية، والحصول على الحكم الذاتي الوطني، وإلغاء نظام الانتداب الفرنسي.

2. المستوى القومي

كان النضال الوطني السوري، يعد مقدمة طبيعية للنضال القومي العربي. فغالبية البرامج الحزبية السورية، كانت تهدف إلى وحدة النضال العربي. وكان هناك ارتباط وثيق في تاريخ سورية المعاصر، بين المشكلة الفلسطينية، من ناحية، ومجريات الأحداث السياسية داخل سورية، من ناحية أخرى.

3. المستوى الاجتماعي

وهو النضال في خط السير نحو الأعمق، أي في اتجاه القواعد الشعبية. فالنضال الاجتماعي سمة جوهرية، في صميم التجانس الوطني، والوحدة القومية. وهو، أيضا، يستهدف وحدة الشعب، في فئاته المختلفة، وفي تكويناته الاجتماعية (العشيرة، الحى، الطائفة، القرية، المدينة).

ولم تتمكن كل الأحزاب السورية ـ خاصة حزب البعث ـ من استيعاب العناصر الثلاثة للنضال: (الوطني ـ القومي ـ الاجتماعي).

فالأحزاب، التي استجابت للنضال القومي وحده، كان مصدرها العنصرية واليمينية المتطرفة، كالحزب السوري القومي، والحزب الوطني.

حزب البعث السوري
حزب البعث السوري

أّما أحزاب اليسار، فلم تستطع أن تواجه مسؤولية الثورية الاجتماعية. على الرغم من هذه اليسارية، فقد بقيت الأحزاب القومية والاشتراكية، والشيوعية، تستمد قواها من المصادر نفسها، التي يعتمد عليها النضال الوطني تارة، والنضال القومي تارة أخرى، ولكنها ـ في كل الأحوال ـ كانت ذات خط يميني.

فالحزب الشيوعي لم ينشأ إلاّ على حساب قوى اليمين في سورية ! بل إنه لم يطرح أفكار الصراع الطبقي، أو الثورة الاجتماعية، كما هي منطلقات الفلسفة الماركسية، التي كان يتبناها هذا الحزب!.

أما حزب البعث، فقد كانت نشأته خلال السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، وما بعدها، وهي نشأة تجمع وطني، قومي، لا يختلف عن بقية الأحزاب السورية الأخرى.

النشأة الأولى لحزب البعث السوري:

يُعد زكي الأرسوزي هو المؤسس الأول لحزب البعث السوري. وهو من مواليد عام 1900م في لواء الأسكندرونة بجبال العلويين، واستقر مع عائلته في مدينة إنطاكية، التي كانت جزءاً من سورية، حيث أنهى الأرسوزى دراسته الابتدائية، والثانوية. كما تعلم ـ أيضاً ـ اللغة التركية، واللغة الفرنسية. وبعد ضم لواء الأسكندرونة إلى تركيا، غادر الأرسوزى مدينة إنطاكية في نهاية عام 1938م، حيث أقام في دمشق. وبدأ يمارس نشاطه السياسي، الناجم عن ثقافته الأوربية المتأثرة بأفكار الفيلسوف الألماني “نيتشه”، والفلاسفة الفرنسيين: “ديكارت” و “كانت “، و”برجسون”.

ونشط “الأرسوزى” في نشر أفكاره البعثية، بين زملائه “أساتذة الثانوي”، وطلابه بمدرسة (التجهيز الأولى)، التي سميت (جوده الهاشمي) فيما بعد. وكان يدعو إلى تأليف حزب قومي، ليحقق من خلاله أفكاره البعثية. وكانت مدرسة (التجهيز الأولى)، هي المدرسة الثانوية الوحيدة الرسمية آنذاك، وطلابها في مقدمة الطلاب، الذين كانوا يشاركون في النضال، ضد المحتل الفرنسي، وحكوماته المتعاونة مع الزعماء السوريين التقليديين، الذين كانوا يمثلون الكتلة الوطنية

وقد ابتعدوا بالتدريج عن قواعدهم الشعبية، نظير الاقتراب السياسي من الحاكم الأجنبي، استعداداً لوراثته في حكم سورية بعد الجلاء. وبناءً على ذلك، كان طلاب المرحلة الثانوية هم جنود البعث الأوائل، الذين حملوا لواء النضال ضد الاحتلال الفرنسي. وكانوا يمثلون ـ في ذلك الوقت ـ الطبقة المثقفة ذات الأصول الشعبية، أو الأقرب إلى الطبقة الوسطى. وبدأت هذه الطبقة تنمو بزيادة عدد المدارس الابتدائية والثانوية في المدن السورية، خاصة دمشق.

المؤسسون الأوائل لحركة “البعث” السوري

كان البعث السوري “حركة فكرية” في بادئ الأمر، تضم بجانب “زكي الأرسوزي”، كلاً من: جلال السيد “من دير الزور”، ووهيب الغانم “علوي من أسكندرون”، وجمال الأتاسي “من حمص”، وعلي حيدر “من اللاذقية”، وصدقي إسماعيل “من اللاذقية”، وعبدالحليم قدور “من منطقة قاره”، وسامي الجندي “من السّلمية”.

وكانت أفكار “الأرسوزي” تدور، حول بعث التاريخ العربي بحضارته، وتوحيد الأقطار العربية، وإنشاء دولة عصرية جديدة. وبدأ بأفكاره البعثية يؤلف “نواة البعث العربي”، واستطاع أن يطرح فكراً قوميا مثالياً، يتخطى حدود الطوائف المحلية، ويجمعها كلها في جبهة واحدة. فقد كان مفكراً ومثقفاً عربياً من طراز فريد، امتزجت دراسته للفلسفة في فرنسا، مع جذوره العربية، وعبقريته الفكرية، وشخصيته الجذابة، وحماسه القومي الملتهب، وعناده النضالي. فأصبح زعيما شعبيا في ذلك الوقت.

وكانت شخصية “الأرسوزى” المتفردة والمثالية، سبباً في إصابة الزعماء التقليديين بالذعر والقلق. وبدأوا في محاربته بأسلوبين:

الأول: فرض العزلة السياسية حوله، واضطهاده. وتعاون في تحقيق هذا الهدف، القيادات التقليدية للاتجاهات والأحزاب السياسية، مع قيادات الانتداب الفرنسي.

الثاني: الالتفاف حول فكر البعث، واستهلاك شخصية الأرسوزي واحتوائه. وقد باشر هذا الأسلوب كل من: “ميشيل عفلق، وصلاح البيطار”. ففي عام 1938 جرت محاولة لإنشاء “منظمة البعث” وكانت تتكون من: الأرسوزي ـ وميشيل عفلق ـ وصلاح البيطار ـ وميشيل قوزما ـ وشاكر العاصي.

وعرض ميشيل قوزما تمويل الحزب مادياً، ولكن اختلافات هؤلاء المؤسسين أدت إلى إخفاق منظمة البعث، من قبل أن تبدأ. وغادر الأرسوزي دمشق في عام 1939 إلى بغداد، ليمارس وظيفته “معلم ثانوي” في بغداد. ثم عاد إلى دمشق بعد أقل من عام، معلناً سخطه على نظام الحكم في العراق. وبعد عودته استؤنفت المناقشات، بينه وبين “ميشيل عفلق”، في شأن إنشاء حزب البعث. ولم يتفقا إذ كان كل منهما، يسعى إلى رئاسة الحزب.

وأخذ ميشيل عفلق يحاصر الأرسوزي، سواء من داخل حزب البعث ـ قبل إعلانه رسميا ـ أو من خارج الحزب، ثم بدأ يكون حلقات من أتباعه، أخذت تنمو وتتسع. وكان لعفلق، بحكم انتمائه إلى عائلة مسيحية تسكن حي “الميدان” في دمشق، علاقات قوية مع عائلات الجنوب (حوران، وجبل العرب)، وبعض الأسر الدرزية.

وعن هذا الطريق جُندت أعداد كثيرة من طلاب الدروز ومثقفيهم، في دمشق والسويداء مركز محافظة جبل العرب. وبذلك كانت العناصر الحزبية المكونة لنواة حزب البعث، تتكون من: المثقفين من الأساتذة والطلاب والموظفين ـ وشريحة من الطائفية السورية وهي: الجذور العلوية ثم الدرزية، فالإسماعيلية والمسيحية” على التوالي”. وكانت تلك التركيبة ـ غير المتجانسة ـ سببا في عدم وجود شعبية لحزب البعث في سورية، وذلك لوجود تناقضات فكرية وثقافية واجتماعية وطائفية، بين الرعيل الأول للحزب.

وفي عام 1941، بدأت فكرة قيام التنظيمات والحركات الحزبية في دمشق، وكلها تدعو لمبادئ القومية العربية، باستثناء الكتلة الوطنية، التي كان من أهدافها (سيادة البلاد مع تمسكها بالعقيدة الإسلامية). وتكوّن محور ثلاثي (ميشيل عفلق ـ صلاح البيطار ـ جلال السيد) لتشكيل “البعث”، مع إقصاء الأرسوزي عن قيادة التنظيم البعثي. وكان منهج البعث ـ في ذلك الوقت ـ معارضة الحكومات السورية، في أي عمل تقوم به، إن أخطأت أو أصابت على السواء. فقد كان الحزب، منذ أيامه الأولى، يلتزم بموقف المعارضة لكل شئ تقوم به الحكومات الوطنية المتعاقبة، حتى ولو كان لمصلحة الوطن والمواطنين. وبدأ الحزب في إعلان شعاراته وإطلاقها بين أتباعه. وكانت شعاراته الأولى هي:

“أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة”

*

والبعث حانت ثورته

الدهر دارت دورته

*

لبيك بعث العربِ

قد أسمعتنا دعوته

*

ومضى حزب البعث يعمل في الخفاء، دون إذن رسمي بالترخيص له حتى عام 1946، حين أصبح حقيقة واقعة، يمارس نشاطه السياسي بصورة علنية.

الإعلان الرسمي لحزب البعث

أعلن رسميا عن قيام حزب البعث، في 4 أبريل عام 1947 م، حيث عقد الحزب أول مؤتمر رسمي له ـ بعد الإعلان عن المولد الرسمي للحزب ـ من 4 إلى 6 أبريل في “مقهى الرشيد” بدمشق، برئاسة جلال السيد. وانتخب ميشيل عفلق عميدا لحركة البعث، وصلاح البيطار، وجلال السيد، ووهيب الغانم، أعضاء في اللجنة التنفيذية. وفي نهاية المؤتمر تم إقرار “دستور البعث”، الذي نصت المادة السادسة منه على الآتي:

(حزب البعث العربي، انقلابي، يؤمن بأن أهدافه الرئيسية في بعث القومية العربية، وبناء الاشتراكية، لا يمكن أن تتم إلاّ عن طريق الانقلاب، والنضال، وأن الاعتماد على التطور البطيء، والاكتفاء بالإصلاح الجزئي، يهددان هذه الأهداف بالإخفاق والضياع، لذلك يقرر:

النضال ضد الاستعمار الأجنبي، لتحرير الوطن العربي تحريرا مطلقاً كاملاً.
النضال لجمع شمل العرب كلهم، في دولة مستقلة واحدة.
الانقلاب على الواقع الفاسد، انقلابًا يشمل جميع مناحي الحياة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية).
ونصت المادة السابعة على أن:

(الوطن العربي هو هذه البقعة من الأرض، التي تسكنها الأمة العربية، التي تمتد بين جبال طوروس وجبال بشتكويه “جبال إيران”، وخليج البصرة، والبحر العربي، وجبال الحبشة، والصحراء الكبرى، والمحيط الأطلسى، والبحر الأبيض المتوسط).

ونصت المواد من 26 حتى 28 على:

(أن حزب البعث يؤمن بأن الثروة الاقتصادية في الوطن العربي، ملك للأمة العربية … وأن التوزيع الراهن للثروات في الوطن العربي غير عادل. لذلك، يعاد النظر في أمرها، وتوزع بين المواطنين توزيعاً عادلاً … المواطنون جميعا متساوون بالقيمة الإنسانية، ولذا فالحزب يمنع استثمار جهد الآخرين).

حزب البعث وعصر الانقلابات العسكرية

اتسمت فترة ما بعد الاستقلال، بظاهرة “عدم الاستقرار السياسي” منذ 17 أبريل عام 1947م حتى بداية حكم “حافظ الأسد”، في 14 مارس 1971م (ثلاثاً وعشرين سنة، وعشرة شهور، وسبعة وعشرين يوماً) إذ تعاقب على سورية، خلال تلك الفترة، تسعة عشر نظاما للحكم. وكان متوسط استقرار الحكم في تلك الفترة، يبلغ سنة واحدة وثلاثة أشهر!..

علاقة حزب البعث برموز الانقلابات العسكرية في تلك الفترة

البعث والانقلاب العسكري الأول (30 مارس 1949)

قاده “حسني الزعيم” قائد الجيش، وأطاح بالحكم الوطني، وبرئيس الجمهورية “شكري القوتلي”، ورئيس الوزراء “خالد العظم”.

وأصدر حزب البعث ـ في حينه ـ بياناً يعلن فيه:”… ليس ما حدث في سورية انقلاباً، فهو في الواقع خطوة نحو الانقلاب، وإننا نستبشر بهذا الحادث، ونعلق عليه الآمال، ولكن علينا أن نوسع أفقنا، وننظم صفوفنا، وأن ننظر دوما إلى الأمام، إلى العُلا. فالانقلاب، الذي يطمح إليه الشعب العربي، هو انقلاب شامل، الانقلاب الذي يجب أن نسعى إليه دائما، وأن نجعل من انقلابنا الحاضر وسيلة وخطوة نحوه، هو الانقلاب الذي يحقق للشعب العربي في جميع أقطاره الاشتراكية العربية والوحدة العربية”

وكانت قيادات حزب البعث (ممثلة في ميشيل عفلق)، تسدي النصح لحسني الزعيم، وتعلن تأييدها ومناصرتها له، إلى أن أعلن حل الأحزاب السياسية في سورية، ومن بينها ـ بالطبع ـ حزب البعث. فبدأ حزب البعث ـ ومعه بقية الأحزاب السورية ـ يهاجم حسني الزعيم. وفي 30 مايو عام 1949، أصدر حزب البعث بيانا شديداً حمل فيه على حسني الزعيم، متهماً إياه بالقيام بتصرفات غير مسؤولة، لا تليق بالحكم. فأصدر الزعيم أوامره إلى (العقيد إبراهيم الحسيني) مدير الشرطة العسكرية، باعتقال ميشيل عفلق وبعض أعضاء الحزب بسجن المزة العسكري. كما سلمّ (أنطون سعادة)، زعيم الحزب القومي السوري، إلى السلطات اللبنانية، حيث عقدت له محاكمة صورية في بيروت، وحُكم عليه بالإعدام.

وجدير بالذكر أن واقعة غريبة قد حدثت خلال تلك الفترة، من حكم حسني الزعيم، وهي:

انتُخب حسني الزعيم يوم السبت 25 يونيه عام 1949، لمنصب رئاسة الجمهورية. وكان هو المرشح الوحيد، إذ كان محظوراً على أي مواطن أن يتقدم بترشيح نفسه، لمنصب رئاسة الجمهورية. وكان اليوم التالي للانتخاب (الأحد 26 يونيه 1949)، معداً لاستقبال وفود المهنئين والمباركين، بانتخابه لرئاسة الجمهورية. وكان مفتي دمشق على وشك إعلان ثبوت رؤية هلال شهر رمضان المبارك، وأن أول أيام شهر رمضان هو الأحد 26 يونيه. ولكن حسني الزعيم أمر بتأجيل إعلان رؤية هلال شهر رمضان إلى اليوم التالي، لكي تتمكن الوفود من تقديم واجب التهنئة له، كما كان معداً ومرتباً من قبل. وتقرر أن يبدأ صوم رمضان اعتبارا من يوم الاثنين 27 يونيه، بدلاً من الأحد 26 يونيه!!…

رسالة ميشيل عفلق، إلى حسني الزعيم:

أثناء حبسه بسجن المزة العسكري، أرسل ميشيل عفلق إلى حسني الزعيم، رسالة شهيرة، أثارت جدلاً كبيراً لدى الساسة والمؤرخين، نصها:

“سيدي دولة الزعيم

إن هذه التجربة الأخيرة قد علمتني أشياء، ونبهتني إلى أخطاء كثيرة. لقد انتهيت إلى أننا بحكم العادة، بقينا نستعمل أسلوباً لم يعد يصلح في عهد الإنشاء والعمل الإيجابي .. والحق أننا في قلوبنا وعقولنا، أردنا هذا الانقلاب منذ الساعة الأولى، ولا نزال نعتبر أن واجبنا خدمته وتأييده، ولكن الأسلوب الذي اعتدناه طيلة سنين عديدة، من المعارضة للانتداب، والعهد السابق، هو الذي بقيت آثاره في كياننا وبعض تصرفاتنا، وهو الذي أبعد عنكم ـ يا دولة الزعيم ـ حقيقتنا، وأظهرنا بمظهر المعارض، لعهد وضعنا فيه كل آمالنا، وصممنا على خدمته بتفانٍ وإخلاص.

سيدي دولة الزعيم

إنني قانع كل القناعة، بأن هذا العهد، الذي ترعونه وتنشؤونه، يمثل أعظم الآمال وإمكانات التقدم لبلادنا، فإذا شئتم فسنكون في عداد الجنود البنائين، وإذا رغبتم في أن نلزم الحياد والصمت، فنحن مستعدون لذلك.

إن هذه المجموعة من الشباب، التي يضمها البعث العربي، قد عملت كثيراً في الماضي من دون قدوة من النزاهة والوطنية الصادقة، وإن ماضيها يشفع لها عندكم، يا سيدي، لكي تعذروا ما ظهر منها من تسرع برئ، وأن وراء هذا النزق نفوساً صافية، ومؤهلات ثمينة للخدمة العامة، ما أجدر عهدكم أن يفتح لها، مجال الفتح والإنتاج. أما أنا، يا سيدي الزعيم، فقد اخترت أن أنسحب نهائيا من كل عمل سياسي، بعد أن انتهيت بمناسبة سجني، إلى أخطاء أورثتني إياها سنون طويلة من النضال القومي، ضد الاستعمار والعهد السابق، وأعتقد بأن مهمتي قد انتهت، وأن أسلوبي لم يعد يصلح لعهد جديد، وأن بلادي لن تجد من عملي، أي نفع بعد اليوم.

سيدي دولة الزعيم ..

أنتم اليوم بمكان الأب لأبناء البلاد، ولا يمكن أن تحملوا حقداً لأبنائكم، ولقد كان لنا في التجربة تنبيه كاف ومفيد.

اتركوا لنا المجال، لكي نصحح خطأنا، ونقدم لكم البراهين، على وفائنا وولائنا”.

وقد أُفرج عن ميشيل عفلق، بعد أيام قليلة من تقديم تلك الرسالة. ولكنه جوبه بثورة عارمة، من بعض أعضاء الحزب، سيما الشباب. فقد عقد اجتماع في مدينة حمص، برئاسة صلاح البيطار، وأجمع الحاضرون على ضرورة محاكمة عفلق، وإزاحته من الأمانة العامة للحزب. ورُشح وهيب الغانم، أحد تلاميذ زكي الأرسوزي، لتولي أمانة الحزب، إلا أنه رفض قبول المنصب بناءً على ضغوط أنصار عفلق، بزعامة جلال السيد، أحد مؤسسي الحزب الأوائل. وكانت تلك أولى الصدمات، التي تلقاها شباب حزب البعث من أحد قيادات الحزب، إذ كان التساؤل العام، الذي ساد بينهم: كيف لا يستطيع عفلق معاناة السجن، وتحمل ما أصابه في سبيل عقيدة آمن بها، ويسعى إلى نشرها في صفوف المجتمع العربي؟ وكان هذا الموقف المتخاذل من عفلق، أول نكسة سياسية لأعضاء الحزب وأنصاره ومبادئه. وعلى إثر ذلك أعلن عفلق اعتزاله العمل السياسي، وهاجر إلى البرازيل، حيث عمل بالتجارة مع خاله شكري زيدان المقيم هناك، ريثما تهدأ الحملة عليه من مريديه، ومن رجال السياسة، وعامة الشعب السوري.

البعث، والانقلاب العسكري الثاني (14 أغسطس 1949م)

وقع الانقلاب العسكري الثاني صباح 14 أغسطس عام 1949، وقاده اللواء سامي الحناوي. وفور علم ميشيل عفلق بهذا الانقلاب، طار عائداً من البرازيل إلى سورية معلنا تأييده المطلق لهذا الانقلاب. وكانت أهم أهداف انقلاب 14 أغسطس 1949:

إقامة اتحاد بين سورية والعراق.
إحياء مشروع “الهلال الخصيب”.
وحظي انقلاب 14 أغسطس، بتأييد كبير من قيادات حزب البعث. وتولى ميشيل عفلق وزارة المعارف، في الحكومة السورية الجديدة (في أوائل شهر ديسمبر عام 1949م).

البعث، والانقلاب العسكري الثالث (19 ديسمبر عام 1949م)

وقع الانقلاب العسكري الثالث، بقيادة العقيد أديب الشيشكلي، وأُعلنت الأحكام العرفية. وأسرع حزب البعث بتأييد هذا الانقلاب، ولكن ما لبث الحزب أن بدأ في انتقاد أديب الشيشكلي، ومهاجمة تصرفاته وسياساته في البلاد.

البعث، والانقلاب العسكري الرابع (2 ديسمبر عام 1951م)

وهو أيضاً الانقلاب الثاني لأديب الشيشكلي! واستمر حزب البعث في مناهضة حكم الشيشكلي، على الرغم من سيطرته على البلاد، وتوليه رئاسة الجمهورية.

وفي عام 1952، اندمج حزب البعث مع الحزب العربي الاشتراكي، الذي كان يرأسه “أكرم الحوراني”، تحت اسم “حزب البعث العربي الاشتراكي”. وأصبح يسيطر عليه، ثلاثة من أقطاب السياسة في سورية، هم: ميشيل عفلق ـ وصلاح البيطارـ وأكرم الحوراني.

وتضامنت الأحزاب السورية ضد الشيشكلي، حيث عُقدت الاجتماعات السرية، ونظّمت مظاهرات الاستنكار والمعارضة، من أحزاب: الشعب ـ والوطني ـ والبعث ـ والشيوعي. وعقدوا عزمهم على إسقاط حكم الشيشكلي، على الرغم من تعارض أفكارهم ومبادئهم وبرامجهم الحزبية. وإزاء ذلك اعتقل الشيشكلي قيادات تلك الأحزاب، ومن بينهم ثلاثي حزب البعث عفلق ـ والحوراني ـ والبيطار.

وفي 24 سبتمبر عام 1953، أجريت الانتخابات البرلمانية، وحصل حزب البعث على 22 مقعداً من 142 مقعداً، “جملة عدد أعضاء المجلس النيابي”، أي بنسبة 15.5% من المقاعد، إذ تفوق على حزب البعث ممثلي حزب الشعب، والمستقلين (أكثر من 45%) من جملة المقاعد.

الانقلاب العسكري الخامس (25 فبراير عام 1954م)

أَعلنَ هذا الانقلاب، من إذاعة حلب، النقيب مصطفى حمدون، رئيس موقع حلب العسكري، (وهو من أنصار أكرم الحوراني!) حيث أعلن العصيان المسلح على حكم الشيشكلي بإيعاز من الحوراني، وأُفرج عن القيادات السورية السياسية، ومن بينهم ثلاثي حزب البعث عفلق، والحوراني، والبيطار.

وفي مارس 1954 جرى تشكيل وزارة جديدة، برئاسة صبري العسلي، تكونت من ائتلاف حزبي الشعب والوطني، ولم تضم أي ممثل لحزب البعث. ولذلك، لقيت تلك الوزارة معارضة شديدة من حزب البعث.

وفي تلك الأثناء، اتجهت أنظار غالبية السوريين إلى الإسكندرية، حيث يقيم شكري القوتلي، بطل الجلاء في نظرهم. وأُرسلت إليه آلاف البرقيات، من مختلف الأحزاب والهيئات السياسية (عدا حزب البعث)، تدعوه إلى العودة لوطنه ومعاودة تولي المسؤولية. كما سافر إليه في الإسكندرية أعداد كبيرة من السوريين، لحثه على العودة إلى سورية. وإزاء ذلك دبّر حزب البعث، بقيادة عفلق والحوراني، تظاهرات في سورية تندد بشكري القوتلي، وتصفه بأنه ” مندوب سام “، وأنه أداة في يد السياسة الأمريكية. وعلى الرغم من ذلك، عاد القوتلي إلى سورية، وتولى رئاسة الجمهورية في 6 سبتمبر 1955م.

البعث، والوحدة المصرية السورية

خلال شهر يناير 1958، استقبل جمال عبدالناصر وفداً سورياً، مكوناً من (22) ضابطا يمثلون القوات المسلحة السورية، وتناقشوا معه حول “حتمية الوحدة المصرية ـ السورية”، خاصة بالنسبة لسورية، التي كانت تعيش في ظروف مضطربة، نتيجة عدة عوامل داخلية وخارجية، من أهمها “الصراع الحزبي المرير، وضغوط حلف بغداد، والتهديدات العسكرية الإسرائيلية”. وقد قال لهم عبدالناصر: (ما هي صفتكم في الحديث عن هذا الأمر؟)، أنا أعرف أنكم تمسكون في أيديكم بزمام القوة الحقيقية في سورية، ولكني من ناحيتي، لا أقبل في مثل هذه الأمور، أن أتحدث إلاّ مع حكومة مسؤولة).

وفي اليوم التالي حضر ـ على الفور ـ صلاح البيطار (وزير خارجية سورية، وأحد قيادات حزب البعث)، معلناً موافقة الحكومة السورية، على إتمام الوحدة بين مصر وسورية. وعندما اشترط عبدالناصر لإتمام الوحدة ـ فيما اشترطه ـ أن يتوقف النشاط الحزبي في سورية، وافق صلاح البيطار على كل شروطه الأخرى، وبالنسبة لهذا الشرط، أعلن عن ضرورة رجوعه إلى قيادة حزب البعث، في هذا الشأن. وبالفعل، وافقت الأحزاب السورية كلها على شروط عبدالناصر، ومن بينها حزب البعث. وعلى الرغم من حماس قيادات حزب البعث للوحدة المصرية ـ السورية، وإسناد مناصب مهمة لهم في بداية الوحدة (أكرم الحوراني نائباً لرئيس الجمهورية ـ صلاح البيطار وزيراً للثقافة والإرشاد القومي) إلاّ أن هذا الوفاق، بين عبدالناصر وحزب البعث، لم يستمر طويلاً، إذ بدأ عبدالناصر يهاجم حزب البعث وعقيدته ومبادئه هجوماً عنيفاً، كما اشتد الحزب في التهكم على نظام الحكم، وعلى زعامة عبدالناصر. ووصل الخلاف ذروته عام 1959، عندما كان عبدالناصر في زيارة لدمشق، وقد أُعد له مهرجان خطابي كبير (رسمي وشعبي) في سينما الزهراء، حضره كبار رجال الدولة، وجمهور كبير من المواطنين، وألقى عبدالناصر خطاباً مهماً، تهجم فيه على موقف حزب البعث، وعلى تآمر قيادته على الوحدة. وقد نال هذا الهجوم استحسان جميع الحضور، وقوطع خطاب عبدالناصر بعاصفة من التصفيق الحاد، أكثر من مرة.

وكان ثاني هجوم يشنه عبدالناصر على البعثيين يوم 23 ديسمبر 1959 في بورسعيد، أثناء إلقاء خطابه بمناسبة “عيد النصر”، حيث ندد فيه بالحزبية والنشاط الحزبي، وقال: “أي شخص يعمل في الحزبية خارج الاتحاد القومي، إنما يعمل من أجل دولة أجنبية، أو يكون عميلاً لدولة أجنبية”. وفي اليوم التالي قدم الوزراء البعثيون استقالاتهم من الحكومة. وأعلن صلاح البيطار التصريح التالي: ” إن التعاون مع جمال عبدالناصر قد أصبح في حكم الخيانة، بعد أن ثبتت خيانته لمبادئ الوحدة العربية”.

وبعد انفصال 28 سبتمبر 1961، أصدر ميشيل عفلق بياناً من بيروت، يوم 4 أكتوبر، يؤيد فيه الانفصال، وأطلق حزب البعث على واقعة الانفصال، مُسمى “الانتفاضة”. وأقيم مؤتمر سياسي كبير في دمشق، شاركت فيه كل الأحزاب السياسية، ومن بينها حزب البعث، لتأييد “الانتفاضة السورية”. ومثّل الحزب في هذا المؤتمر صلاح البيطار. وفي ذلك الوقت انفصل أكرم الحوراني، بحزبه القديم “العربي الاشتراكي”، عن حزب البعث، وشارك أيضا في هذا المؤتمر.

البعث، وانقلاب 8 مارس 1963

كان دور البعث في الانقلابات السابقة، ينحصر في التحريض على الانقلاب، أو تأييده، أو القيام بدور الشريك التابع، في تنفيذ الانقلاب. ولكن في انقلاب مارس 1963، كان حزب البعث هو المخطط، والمنفذ للانقلاب. وأصبح هذا التاريخ عيداً قومياً لسورية، يُحتفل به كل عام، بجانب عيد الجلاء (17 أبريل).

وقد نفّذ هذا الانقلاب، اللواء زياد الحريري، وشُكّل “المجلس الوطني لقيادة الثورة”، برئاسة الفريق لؤي الأتاسي.

وفي 29 يونيه 1963، أصدر الفريق لؤي الأتاسي، بعد موافقة المجلس الثوري، مرسوماً تشريعياً بالرقم (89)، ينص على تشكيل منظمات “الحرس البعثي القومي”. وهي منظمات شعبية عسكرية، تتألف من المتطوعين السوريين والمتطوعات، ومن جنود وضباط الصف، وضباط الاحتياط غير المطلوبين للخدمة في القوات المسلحة، وأيضا من المتطوعين والمتطوعات، من الأقطار العربية. وكانت مهمة “الحرس البعثي”، حماية النظام، وحفظ الأمن، والتوجه القومي.

ويعد عام 1963، بداية ممارسة السلطة الفعلية لحزب البعث، سواء في سورية، أو في العراق؛ إذ تمكن حزب البعث من الوصول إلى السلطة، يوم 8 فبراير عام 1963 في العراق، وأيضاً في سورية يوم 8 مارس عام 1963. وكان حزب البعث يخطط، أيضا، لتولى زمام السلطة في الأردن، حيث جرت اتصالات سرية، بين قيادات حزب البعث في سورية، مع عدد من الضباط الأردنيين، للقيام بانقلاب عسكري بعثي في الأردن، تحدد له يوم 8 أبريل عام 1963. وكان الانقلاب يستهدف اغتيال الملك حسين. ولكن تشاء الأقدار أن إسرائيل، هي التي حالت دون إتمام هذا الانقلاب!، فقد أدلى “مورخاي هود”، قائد سلاح الطيران الإسرائيلي السابق، بتصريح في جريدة “يديعوت أحرنوت” الإسرائيلية قال فيه:

“لقد أنقذت الملك حسين من الموت في فترة التوتر بين سورية والأردن، فبينما كان يطير في سماء الأردن، أسقط سلاح الجو الإسرائيلي أربع طائرات ميج سورية، كانت تطارده”.

البعث واتفاق الوحدة الثلاثية

كانت شعارات البعث، في تلك الفترة، تندد بالانفصال السوري ـ المصري، وتطالب بالوحدة العربية، ولكن على أسس كونفدرالية، وليست وحدة شاملة، كما حدث في وحدة سورية ومصر. وعُقدت في القاهرة، خلال شهر مارس 1963، عدة اجتماعات تمهيدية، لإعلان الوحدة الثلاثية بين (مصر، وسورية، والعراق). وكان الوفد العراقي برئاسة علي صالح السعدي، ويشغل منصب نائب رئيس الوزراء، وأحد قيادات البعث العراقي. وكان الوفد السوري برئاسة ميشيل عفلق. وكان الهدف الرئيسي من تلك الاجتماعات، هو رغبة البعث (العراقي والسوري)، في إحراج عبدالناصر، عن طريق إصرارهما على التمسك بالوحدة الكونفدرالية، وبالقيادة الجماعية (للجمهورية العربية المتحدة)، باعتبار أنه سوف يرفض هذا الطلب، وأنه لن يتخلى عن موقع القيادة، الذي ينفرد به.

ولكن عبدالناصر فاجأهم بقبول مبدأ القيادة الجماعية، وألاّ تكون الوحدة اندماجية !، وتم توقيع اتفاق الوحدة الثلاثية في 17 أبريل عام 1963 م بالقاهرة. وفي اليوم التالي لإعلان الوحدة وقعت اضطرابات دموية شرسة في دمشق بين الناصريين من جانب، والبعثيين من جانب آخر، ذهب ضحيتها 170 قتيلاً، وتمكن الضباط البعثيون بقيادة اللواء أمين الحافظ، من السيطرة على الموقف، والقضاء على الفئات الناصرية، ومحاكمتهم عسكرياً وإعدامهم. وهكذا فشلت تلك الوحدة فور إعلانها.

وخلال تلك الفترة تحًول مشروع الوحدة الثلاثية، إلى حرب إعلامية بين الدول الثلاث، بين مصر وسورية، وبين سورية والعراق (بقيادة عبدالسلام عارف).

وتراشق كل جانب الاتهامات والانتقادات اللاذعة. ففي إحدى خطب عبدالناصر، خلال شهر أبريل عام ،1963 قال عن البعث: (إن الديمقراطية، التي يتحدث عنها حزب البعث، هي طبعاً ديمقراطية البعث في أن يقتل الناس ويضعهم في السجون، وفي أن يتآمر الحزب؛ لأن البعثيين أناس متآمرون وحكمهم مبنى على الإرهاب والدماء والقتل، الواحد يستغرب لما يشوف البلد كلها ضدهم،

طبعا همّ جماعة كدابين، ما هي الأهداف اللي قاعدين من أجلها، بيقولوا وحدة واشتراكية وحرية، وهم غدروا بالوحدة، وغدروا بالحرية، الحرية بقيت سجون ومعتقلات، والاشتراكية اللي بيتكلموا عليها اشتراكية مزيفة، إحنا دفعنا لحزب البعث أموال، أموال كثيرة، سبعين ألف جنيه، وأربعين ألف جنيه في فترات متقاربة، والمبلغ استلمه ميشيل عفلق، واليوم يتحالف حزب البعث مع الاستعمار ومع أعوان الاستعمار، اسمعوا جميع محطات الاستعمار، وأقرأوا جميع صحف الاستعمار، والصحف العميلة وشوفوا بتقول إيه على حزب البعث، بيسقفوا لحزب البعث، وسعداء جدا بحزب البعث، دي الريحة اللي إحنا شفناها النهارده، واللي تدعو إلى الشبهه، راديو لندن يدافع عن حزب البعث، الجرايد الناطقة باسم الاستعمار باللغة العربية وباللغات الأجنبية بتدافع عن حزب البعث.

إذن هل يستطيع البعث أن يسأل نفسه بعد هذا هل هو ماشى في الطريق الصحيح؟. لقد أصبح حزب البعث يعتمد على العناصر التي تعاونت مع الاستعمار ليضع البلاد داخل مناطق النفوذ الاستعمارية. حينما يكون حزب البعث خارج الحكم فهي الحرية البرلمانية، أما إذا كان في الحكم، فإن الحرية هي حرية الحزب الواحد، وهو حزب البعث).

وأضاف عبدالناصر في مناسبة أخرى: (شعار الحرية لحزب البعث أن تكون المغانم للبعثيين، وتكون الفرص للبعثيين، وتكون المساواة للبعثيين، أما باقي الشعب فيحرم من المساواة ويحرم من حقه في الحياة، ويحرم من حقه في العيش، ويحرم من حقه في العمل. هذا هو شعار الحرية بالنسبة لهؤلاء الساسة، الذين احترفوا سرقة الشعارات، واحترفوا سرقة المبادئ، والذين آمنوا أن سبيلهم إلى تحقيق أهدافهم وتسلطهم، هو السبيل اللا أخلاقي، الذين يسيرون في طريق الاستعمار، ليحققوا أهداف الاستعمار، إذن حزب البعث اللي طول عمره كذاب، لما يطلع بيان من القيادة القومية بيكون هذا البيان كذاب. حزب البعثيين يتبع سياسة انتهازية، ويحاول يلعب بقضايا المصير، ولكن الشعب العربي كشفهم، والشعب العربي عارف أساليبهم، وعارف أساليب الغدر والطعن في الظهر، وعارف حقدهم).

وفي المقابل وجه ميشيل عفلق عدة اتهامات لعبدالناصر، منها: (إن السياسة التي اتبعتها البيروقراطية الإقليمية العقائدية، التي تحكم القاهرة، كانت مع الأسف الشديد نسخة من السياسة التي كانت في القاهرة قبل عام 1952م. أي سياسة إقليمية توسعية، قصيرة النظر، تعمل لإضعاف الأقطار العربية، لتبقى هي المتفوقة والمسيطرة، فلا تقوم ثورة إلا إذا عملت لهذه الأجهزة).

كما رددت إذاعة وصحف دمشق اتهامات حزب البعث لعبدالناصر، التي تصفه بالديكتاتور العربي، وبأنه يحاول إقامة إمبراطورية عربية ناصرية، تحقيقاً لمجده الشخصي، وأنه يريد وحدة عربية تحت زعامته وسيطرته …

التطور السياسي والفكري لحزب البعث

تحتفل سورية ـ خلال شهري مارس وأبريل ـ كل عام، بأربعة أعياد تاريخية، هي:

ـ ذكرى استقلال سورية (17 أبريل 1946م).

ـ ذكرى تأسيس حزب البعث (4 أبريل 1947م).

ـ ذكرى ثورة مارس (الانقلاب العسكري البعثي في 8 مارس 1963م).

ـ ذكرى الثورة التصحيحية لحزب البعث (14 مارس 1971، وهو تاريخ تولى حافظ الأسد مهام رئاسة الدولة، وحزب البعث).

ويمكن إزاء ذلك، تقسيم تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي، إلى مرحلتين أساسيتين:

المرحلة الأولى

وتبدأ منذ تاريخ إنشاء الحزب ـ رسمياً ـ في 4 أبريل 1947م. وتتسم تلك المرحلة بسمتين أساسيتين:

السمة الأولى: أن قيادات الحزب كانت من المدنيين (ميشيل عفلق، وصلاح البيطار، وأكرم الحوراني).

السمة الثانية: أن الحزب كان في موقف المعارضة.

المرحلة الثانية

تبدأ من تاريخ تولى حزب البعث زمام السلطة في سورية، بانقلاب 8 مارس 1963م الذي يطلق عليه حزب البعث، مُسمى (ثورة مارس 1963م).

وتتسم تلك المرحلة ـ أيضاً ـ بسمتين أساسيتين:

السمة الأولى: أن قيادات الحزب أصبحت من العسكريين (أمين الحافظ، ثم صلاح جديد، ثم حافظ الأسد).

السمة الثانية: أن الحزب أصبح في موقع الحكم والمسؤولية.

وقد انعكست هاتان السمتان (بإيجابياتهما وسلبياتهما)، على المناخ السياسي السوري، إذ سادت ظاهرة “عدم الاستقرار السياسي” في سورية، خلال المرحلة الأولى، التي كان فيها حزب البعث في موقع المعارضة من الحكم، ويقوده مدنيون، بينما سادت ظاهرة “الاستقرار السياسي في الحكم” في المرحلة الثانية عندما أصبح حزب البعث هو الحزب الحاكم في سورية، ويقوده العسكريون.

المرحلة الأولى: (الحرس القديم ل حزب البعث)

تبدأ تلك المرحلة من عام 1947 (تاريخ تأسيس الحزب)، حتى عام 1963 (الانقلاب العسكري البعثي). وقد ملك زمام الحزب، وأدار دفته السياسية، خلال تلك الفترة، خمسة من القيادات الفكرية والسياسية في سورية، وهم:

1. زكي الأرسوزي

يعد الأرسوزي هو المؤسس الفعلي لعقيدة “البعث” الفكرية والعملية معاً ؛ فهو الذي وضع الفكر المثالي لحزب البعث، وفي الوقت نفسه، قاد النضال الوطني ضد الاستعمار، وذلك عندما اقتطعت فرنسا “لواء إسكندرون” من سورية، وأعطته لتركيا قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية. ولواء إسكندرون هو مسقط رأس زكي الأرسوزي، فاستطاع بوطنيته الجارفة، وفكره الثاقب، أن يتحول إلى زعيم شعبي في منطقة إسكندرون، ثم في سورية عندما انتقل إلى دمشق عام 1934، ومعه مجموعة من الطلاب من إسكندرون. وبدأ يطرح أيديولوجية مثالية للمثقفين، الباحثين عن عقيدة للعمل السياسي. وقد أطاح بمراكز القيادات السياسية التقليدية في ذلك الوقت، التي خضعت لمساومات المستعمر الفرنسي، وانحازت ـ تقريباً ـ إلى صفه، بعد أن أغراها بالمراكز السياسية والاقتصادية. وكانت أدواته السياسية والفكرية، أقرب إلى المثالية منها إلى الواقعية. فقد كان يتسم بالوضوح والصراحة والمباشرة، والاستقامة الفكرية والسياسية، ولا يقبل المناورات أو المداهنة، أو المساومة. فكانت تلك هي التي أدت إلى انتهاء دوره القيادي في حزب البعث، من قبل أن يعلن رسمياً عن إنشاء هذا الحزب، وسيطرة كل من ميشيل عفلق وصلاح البيطار على مسار الحزب ومقدراته. وفي عامي 1945، 1946 بدأ عفلق والبيطار في إصدار منشورات، تحمل اسم حزب البعث، دون علم الأرسوزي، ولمّا وصله أحد تلك المنشورات، علق على ذلك قائلاً: “لقد بدأت دسائس الاستعمار، ليقطع علينا الطريق إلى الشعب، بحركة تحمل اسمنا فيه.

2. ميشيل عفلق

ولد عام 1910 م في دمشق، في زقاق الموصلي الرقم (9)، في حي الميدان. ووالده يوسف أفلق، يهودي الديانة، موطنه الأصلي منطقة “الأفلاق”، التي تقع بين مدينتي بوخارست وبلغراد. وقد نزح من تلك المنطقة إلى دمشق أواخر العقد التاسع عشر الميلادي. وأقام في منطقة حوران، جنوب مدينة دمشق، حيث عمل بتجارة بيع الحبوب، خاصة “القمح الحوراني”، الذي كان يصدّره إلى إيطاليا، لاستخدامه في صناعة المكرونة. ثم تحول من اليهودية إلى المسيحية، وفضّل الإقامة في حي معظم سكانه من المسلمين “السنة”، وهو (حي الميدان)، الذي كان يعد من الأحياء الدمشقية العريقة. كما غّير اسمه من يوسف أفلق، إلى يوسف عفلق، ذلك أن اسم “يوسف” من الأسماء الشائعة الاستخدام لدى اليهود والمسيحيين والمسلمين على السواء، ولكن اسم “أفلق” من الأسماء الغريبة على اللغة العربية، فاختار لنفسه اسماً عربياً قريباً من أفلق، فاختار كلمة “عفلق”، ويبدو أنه في ذلك الوقت لم يدرك مدلولها العربي السيئ! .. وتزوج من أسرة مسيحية كبيرة (أسرة زيدان)، وأنجب ثلاثة ذكور (فؤاد، وميشيل، ووصفي). وجدير بالذكر أن اسم (ميشيل) هو الشائع بين اليهود، أما النصارى من العرب فيسمون (ميخائيل) المحرف عن (ميكائيل)، ويندر أن يسموا (ميشيل) المحرف عن (ميكال).

وبعد أن نال (ميشيل عفلق) الشهادة الثانوية، من المدرسة الأرثوذكسية بدمشق، سافر إلى باريس بعد حصوله على منحه دراسية. وأتم دراسة التاريخ واللغة العربية في جامعة “السوربون” بباريس. وتأثر بالموجة الشيوعية الفرنسية، وانضم لصفوف الحزب الشيوعي الفرنسي. وبعد أن أنهى دراسته في السوربون، عاد إلى دمشق عام 1933 م، وعين مدرسا للتاريخ في مدرسة دمشق الثانوية. ولكن تلك العودة لم تكن مباشرة من باريس إلى دمشق، إذ غاب لمدة من الزمن قبل عودته إلى دمشق، لم يعرف المؤرخون أين قضاها!. وكان يبث أفكاره اليسارية بين طلابه وأصدقائه، ويحدد لهم لقاءات أسبوعية في منزله “أيام الجمعة”. وتلقف أفكار ومبادئ زكي الأرسوزي المثالية، وحولها إلى شعارات براقة جذبت إليه الطلاب. ومن غرائب الأقدار أنه كان يدرس مادة التاريخ الإسلامي، لطلبة مدرسة دمشق الثانوية. فكان يخلط بين أفكار الأرسوزي البعثية، ومبادئ الدين الإسلامي، وكان يتكلم عن البعث الإسلامي في بداية عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبين البعث العربي الجديد في عهده، حتى أطلق عليه طلابه اسم ” محمد ميشيل”. وبدأ رجال الدين الإسلامي في سورية يتنبهون لأفكاره، ويهاجمونه بعنف، وفي مقدمتهم الشيخ على الطنطاوي. فقد كان عفلق يروّج بين طلابه لكتاب “الإسلام”، للمستشرق الفرنسي”هنري ماسيه”). وهذا الكتاب من الكتب الهزيلة والمغرضة، التي كتبت عن الإسلام. ويتضمن كثيراً من المغالطات والافتراءات على الإسلام، وعلى سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، إذ يتضمن في صفحة (24) ـ على سبيل المثال ـ العبارة التالية: “.. والرجل المطرود من قبيلته على إثر خطأ أو جرم يجد نفسه في وضعية يائسة، وهذه كانت حالة محمد في فترة ما ” !!.

وفي تلك الفترة، انضم “البيطار” إلى عفلق، في الترويج لتلك الأفكار اليسارية والبعثية. وتعددت شكاوى الطلاب وأسرهم منهما، فصدرت الأوامر من وزير المعارف، الدكتور عبدالرحمن الكيالي، بمنعهما من مزاولة أي أنشطة ثقافية، أو سياسية، بالمدرسة. فقدم عفلق والبيطار استقالتيهما من المدرسة الثانوية. واتخذا مقهى ” الطاحونة الحمراء ” مقرا لهما، ولندواتهما الفكرية والسياسية. وتحول المقهى إلى منتدى سياسي، لأتباع عفلق والبيطار. وفي الفترة من 1934 حتى 1947م، رشحّ عفلق نفسه للانتخابات النيابية، ولكنه أخفق في المرتين اللتين رشح نفسه فيهما (عامي 1943، 1947م).

وفي أول مؤتمر رسمي لحزب البعث في مقهى الرشيد، من 4 إلى 6 أبريل عام 1947، حضره مائتا عضو من حزب البعث، انتُخب ميشيل عفلق أمينا للحزب. وتكونت اللجنة التنفيذية للحزب من “صلاح البيطار، وجلال السيد، ووهيب الغانم”. ووضح منذ البداية انقسام أعضاء المؤتمر إلى فريقين، معتدل ويساري. ومن بين القضايا، التي ناقشها هذا المؤتمر: موقف حزب البعث من الدين (وهو ما كان يطلق عليه عفلق “الرجعية الدينية”) ـ مفهوم الوحدة السياسية الخارجية في العالم العربي ـ فكرة الحرية الفردية – قضية تحرير المرأة ـ مفهوم الاشتراكية العربية. وبدأ عفلق في الاتصال بضباط القوات المسلحة، الذين يشغلون مواقع استراتيجية، للانضمام إلى حزب البعث. وعلى إثر ذلك اعتقل في 20 سبتمبر عام 1948 م، وأفرج عنه بعد انقلاب 30 مارس 1949 م، ثم اعتقل مرة أخرى عام 1949. وأفرج عنه بعد انقلاب أغسطس 1949. وتولى منصب وزارة المعارف في حكومة انقلاب 1949، وكانت فرصة لعفلق ـ من خلال هذا المنصب الخطير ـ في دعم حزب البعث، وذلك عن طريق إسناد الوظائف المهمة في وزارة المعارف لأنصار حزب البعث وأعوانه. وقد اضطرب التعليم في عهده، إلى درجة أنه كان يسند تدريس مادة الدين الإسلامي إلى مدرسين مسيحيين، وهو ما حدث ـ على سبيل المثال ـ في إحدى مدارس محافظة السويداء المتوسطة، إذ كان يُدرّسْ مادة الدين الإسلامي مدرس مسيحي، يدعى “إلياس بطحيسن”.

عقب انتهاء المرحلة السياسية الأولى لحزب البعث السوري، وتحول القيادة البعثية من المدنيّة إلى العسكرية، وتولي القادة البعثيون العسكريون زمام الحزب، طُرِدَ ميشيل عفلق من سورية عام 1966. فوصل إلى لبنان، وأخذ يمارس نشاطه السياسي من بيروت. وبدأ في تجميع بعض القيادات البعثية معه، ومنهم: أمين الحافظ، وشبلى العيسمى، وإلياس فرح، وحمود الشوفي. وبدأ عفلق يستثمر الخلافات الفلسطينية ـ اللبنانية، وفي الوقت نفسه، أخذ يتقرب إلى البعث العراقي وإلى صَدّام حسين. وكان يحرض على الثورة في العالم العربي، خاصة في الخليج العربي، ويدعو إلى تطبيق الاشتراكية بالقوة ـ كما كُتب في جريدة (الأحرار) اللبنانية ـ خاصة في عام 1970. ثم استقر به المقام في العراق، اعتبارا من هذا التاريخ، حيث أسهم في تطوير حزب البعث العراقي، مع مجموعة من القيادات البعثية السورية، من بينهم أمين الحافظ، وشبلي العيسمى، ومصطفى حمدون، وعبدالفتاح الزلط. وتوطدت العلاقة بين ميشيل عفلق، والرئيس العراقي أحمد حسن البكر، ثم وقعت بينهما خصومة شديدة، بسبب إيداع عفلق خمسين مليون دينار عراقي، باسمه في أحد بنوك سويسرا، كانت مسلمة إليه من أحمد حسن البكر لإيداعها باسم حزب البعث. ولكن صَدّام حسين نائب الرئيس ـ في ذلك الوقت ـ أصلح بينهما!. وبدأ عفلق يتقرب من صَدّام حسين كثيراً، إلى أن أصبح من المقربين إليه. وأصبح عفلق في بداية الثمانينيات، هو المُنظِّر لحزب البعث، والموجه الفكري له. وكان من أشهر المؤيدين والمحرضين لصَدّام حسين، على إعلان الحرب على إيران في 22 سبتمبر1980. وتولى عفلق منصب أمين عام حزب البعث العراقي عام 1985. وقد توفي في باريس في 23 يونيه 1989، عن عمر يناهز التاسعة والسبعين.

3. صلاح البيطار

وُلد صلاح البيطار عام 1912 م في دمشق، من أسرة سورية عريقة، ذات جذور تاريخية وإسلامية. فجد الأسرة هو “الشيخ سليم البيطار” والذي كان يلقب بـ “الفرضي”. وقد أنجب أربعة ذكور هم: الشيخ خير (والد صلاح)، والشيخ محمد وكان يشغل منصب أمين الفتوى بدمشق، والشيخ عبدالغني، وكان فقيهاً حتى أطلق عليه “الشافعي الصغير”، والرابع: الشيخ عبدالرازق وكان أيضا فقيها، وهو مؤلف كتاب (حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر الهجري). وكان للشيخ خير البيطار خمسة أولاد هم: صلاح، وحمدون، وسعيد، وفهمي، وخليل. إلاّ أن صلاح البيطار عندما درس في فرنسا، انجرف إلى الفكر اليساري، متأثرا بصديقه الحميم ميشيل عفلق، مما أدى إلى استياء أسرته المتدينة بسبب أفكاره الجديدة اليسارية. ولهذا السبب كان لا يحصل على أصوات عائلته الانتخابية، في الانتخابات النيابية، التي فشل فيها غير مرة.

وفي عام 1933 عاد صلاح البيطار إلى دمشق، بعد تخرجه في جامعة السوربون، وعين مدرسا لعلم الفلك والفيزياء، مع صديقه عفلق، بمدرسة دمشق الثانوية. وبعد طرده من المدرسة الثانوية هو وزميله عفلق، اصدرا معاً مجلة “الطليعة”. واشترك معهما في تحريرها الدكتور كامل عياد، وصلاح الدين المحايرى، ويوسف إبراهيم يزبك، ورشوان عيسى، ورئيف خوري، والأخيران عضوان في المكتب السياسي للحزب الشيوعي، الذي مارس نشاطه السري في سورية ولبنان. وفي شهر مارس عام 1948، أصدر البيطار منشوراً يهاجم فيه رئيس الجمهورية شكري القوتلي، ويحرض فيه الناس على عدم تجديد انتخابه لرئاسة الجمهورية. فاعتُقل لهذا السبب، وأفرج عنه بعد انقلاب مارس 1949. ثم اعتقل مرة أخرى في نوفمبر عام 1953، في ظل حكم (أديب الشيشكلي)، مع رفاقه في حزب البعث (عفلق، والحوراني)، ثم أفرج عنهم بعد استقالة الشيشكلي في 25 فبراير عام 1954م. وفي ظل حكم شكري القوتلي ـ قبل الوحدة مع مصر ـ شغل البيطار منصب وزير الخارجية، في وزارة (صبري العسلي ـ يونيه 1956م). وكان البيطار أحد أعضاء الوفد السوري، برئاسة القوتلي، في مباحثات الوحدة المصرية ـ السورية، التي جرت بالقاهرة، في شهر فبراير 1958. وبعد إعلان الوحدة، عينه جمال عبدالناصر وزيراً للدولة للشؤون الخارجية، في وزارة “الجمهورية العربية المتحدة”، في 6 مارس 1958م. وفي 7 أكتوبر 1958، أعاد عبدالناصر تشكيل حكومة الجمهورية العربية المتحدة، حيث عين صلاح البيطار وزيرا للثقافة والإرشاد القومي، في (الحكومة المركزية). ثم تقدم صلاح البيطار باستقالته من منصبه الوزاري، في سبتمبر 1959 عقب بدء الخلافات السورية ـ المصرية، التي كانت مقدمة لانفصال الوحدة في سبتمبر 1961م. وفي 2 أكتوبر 1961 شارك صلاح البيطار ” ممثلا عن حزب البعث”، القيادات السورية، في إصدار بيان يؤيد الانفصال السوري، عن الجمهورية العربية المتحدة. وبعد انقلاب 8 مارس 1963، الذي دبره وخططه حزب البعث، تولى صلاح البيطار منصب رئيس الحكومة السورية، في 30 نوفمبر 1963، مع احتفاظه بمنصب وزير الخارجية. وفي ظل الصراعات السياسية داخل حزب البعث، عقد حزب البعث مؤتمره القومي القطري السابع، خلال الفترة من (14 إلى 17 فبراير 1964) برئاسة ميشيل عفلق. وجرى انتخاب القيادة القطرية الجديدة (وأغلبها من العسكريين) المكونة من: (أمين الحافظ ـ ومحمد عمران ـ وصلاح جديد ـ ونور الدين الأتاسي). كما اتخذ المؤتمر قرارا بفصل كل من: صلاح البيطار، وأكرم الحوراني، ومجموعة أخرى من القيادات البعثية المدنية، وذلك لانحرافهم عن مبادئ الحزب. وعقب انقلاب 23 فبراير عام 1966، رحل صلاح البيطار عن سورية، وأعلن اعتزاله للحياة السياسية.

4. جلال السيد

من مواليد “دير الزور” على نهر الفرات، وهي المنطقة المتاخمة للحدود السورية العراقية. ويقترب فكره وخُلقه من فكر زكي الأرسوزي وخلقه. وكان على خلاف دائم مع كل من ثلاثي حزب البعث (عفلق، والبيطار، والحوراني). وكان الخلاف بينهم ينحصر في الآتي:

أ. رفضه القاطع والمستمر، لمبدأ تدخل الجيش في السياسة. وكان يعارض محاولات الحوراني وعفلق، تجنيد ضباط الجيش في حزب البعث، حتى لو كان هذا التدخل يؤدى إلى وصول البعث إلى السلطة، وفق رؤية عفلق والحوراني.

ب. تأييده لفكرة الوحدة العراقية السورية.

ج. كان يرى أن “العنصر” و “الدم” العربيين، لم يعودا نقيين إلاّ في القبلية العربية. ولهذا كان ينتقد كل سياسة في حزب البعث، من شأنها “تفكيك” القبلية العربية. ولذلك نص في دستور حزب البعث، عند بدء تكوينه، على الإشادة بثورة (الشريف حسين بن علي) عام 1916 م في الحجاز. ولهذا، أيضاً، كان علم البعث، منذ أيامه الأولى، يحمل العلم العربي نفسه. وكان يؤيده في تلك الأفكار، الدكتور مدحت البيطار، أحد مؤسسي حزب البعث الأوائل.

د. كان يرى في دول العالم الإسلامي، بالنسبة للعرب، “قوى احتياطية”، ومصدر نفوذ كبير ينبغي استثماره. وناصب العداء لكل اتجاه تقدمي يساري، أو ليبرالي، أو غير ديني، ولأن هذا الاتجاه من شأنه، القضاء على المشاعر الودية تجاه العرب، من قبل المسلمين.

هـ. رفضه القاطع لاندماج حزب البعث، مع الحزب العربي الاشتراكي، بزعامة الحوراني، عام 1952. ولمّا لم يجد صدى لأفكاره داخل الحزب، وسيطر ثالوث الحزب (عفلق، والبيطار، والحوراني) على مقاليد الأمور بالحزب، قدّم استقالةً مكتوبة من الحزب، يوم 21 أغسطس عام 1955م لميشيل عفلق، جاء فيها:

(ظهرت بوادر خلاف بيني وبينكم، في وجهات النظر فيما يتعلق بالقضايا القومية والاجتماعية والخلقية. ولمّا لم أستطع تصحيح الخطأ، وفقاً لآرائي ومعتقداتي، فإني لم أجد بُداً من الانسحاب من الحزب، الذي ضحيت بكل شئ في سبيل صنعه ورعايته. فلمّا شب الحزب وترعرع، تبين لي أنه أتى على غير الصورة التي رسمتها، وعلى غير المثال الذي مثلته في خاطري. إن إنساناً متجاوباً مع حاجات أمته مرهف الحس، يستطيع أن يتصور ما يعتلج في نفسي من حرق الآلام لهذا الانسحاب، ولكن القدر لا يغالب).

ولكنه لم يعتزل السياسة، ومارس نشاطه السياسي مستقلاً عن الأحزاب السياسية، متعاوناً معها بقدر توافق مواقفها، مع آرائه ومعتقداته.

وانتخب عضواً بالمجلس النيابي أكثر من مرة. وفي ديسمبر عام 1961 رشح نفسه رئيساً لمجلس النواب السوري، أمام مأمون الكزبري، الذي استطاع أن يحصل على (114) صوتاً من مجموع أصوات المجلس النيابي (170) بينما حصل جلال السيد على (47) صوتاً فقط.

5.أكرم الحوراني

من مواليد عام 1912 م، من مدينة “حماه”، واسمه (حسن أكرم الحوراني). انُتخب لعضوية المجلس النيابي السوري مرات كثيرة، بدأت عام 1943م. أنهى دراستة الثانوية في مدينة حماه، ثم حصل على شهادة الحقوق من جامعة دمشق، في سن الرابعة والعشرين. وبدأ ممارسة العمل السياسي مبكراً، بأسلوب العنف والاغتيالات، إذ قرر هو وجماعته اغتيال صبحي بركات رئيس المجلس النيابي عام 1932، وأجريت قُرعة بينه وبين زميله عبدالباسط البنى لتنفيذ عملية الاغتيال. فوقعت القُرعة على البني، الذي أخفق في المحاولة. إذ أطلق عليه صبحي بركات رصاص مسدسه الخاص، فأرداه قتيلاً.

طاف أكرم الحوراني بأكثر من حزب سياسي، منذ اشتغاله بالسياسة. فانتسب ـ في بادئ الأمر ـ إلى “الحزب القومي السوري”، الذي كان يتزعمه أنطون سعادة، وأسس له فرعا في مدينة حماة عام 1936م. وعندما أسس عثمان الحوراني (عم أكرم)، “حزب الشباب”، انسحب أكرم من الحزب القومي، وانتسب لحزب الشباب. وبعد وفاة عمه انتقلت رئاسة الحزب إلى أكرم، الذي عدل الاسم إلى (الحزب العربي الاشتراكي).

المناصب السياسية، التي تولاها أكرم الحوراني:

عين وزيرا للزراعة في حكومة الانقلاب الثاني، الذي قاده اللواء سامي الحناوي في 14 أغسطس عام 1949م، في حين عين عفلق وزيرا للمعارف، في الوزارة ذاتها.

عين وزيراً للدفاع في عهد الانقلاب الثالث (الذي قاده العقيد أديب الشيشكلي في 19 ديسمبر عام 1949م) وذلك في عهد رئاسة هاشم الأتاسي، وكان رئيس الحكومة في ذلك الوقت خالد العظم.
عقب إعلان الوحدة بين مصر وسورية، في 22 فبراير عام 1958، عينه جمال عبدالناصر نائبا لرئيس الجمهورية (من بين أربعة نواب: اثنين من مصر “عبداللطيف البغدادي، وعبدالحكيم عامر”، واثنين من سورية: “الحوراني، وصبري العسلي”).

بتاريخ 7 أكتوبر عام 1958م، أعاد عبدالناصر تشكيل حكومة الجمهورية العربية المتحدة، وأعيد تعيين الحوراني نائبا لرئيس الجمهورية، وأضاف إليه منصب وزير العدل في الحكومة المركزية (وأصبح نواب رئيس الجمهورية ثلاثة فقط في هذا التشكيل، بعد استبعاد صبري العسلي). واستقال الحوراني من منصبيه في 24 سبتمبر عام 1959، ضمن الاستقالات الجماعية، التي قدمها الوزراء السوريون في ذلك الوقت، في شكل مظاهرة احتجاج ضد سياسة عبدالناصر، الذي انفرد بالحكم، ولم يتح لأي منهم الدور السياسي الذي كان يقوم به قبل الوحدة، أو الذي كان يطمح فيه بعد الوحدة.

واعتقل الحوراني مرتين: الأولى، عقب محاولة الاغتيال الفاشلة، التي قام بها العقيد عدنان المالكى، والمقدم عبدالله قنوت ضد أديب الشيشكلي، الذي اتهم حزب البعث بتدبير تلك المحاولة. واعُتقل عدد كبير من القيادات البعثية، من بينهم الحوراني والبيطار. وكان الاعتقال الثاني للحوراني في شهر نوفمبر 1953، في عهد الشيشكلي أيضاً، عندما تصاعد الرفض الشعبي لحكمه. وحرض حزب البعث على قيام المظاهرات الشعبية والطلابية ضده. وعقدت عدة اجتماعات سرية، ضمت قيادات أحزاب: (الشعب، والوطني، والبعث والشيوعي) وذلك على الرغم من تعارض أفكارهم ومبادئهم وبواعثهم. وأبرموا فيما بينهم ميثاقا من أجل التعاون للتخلص من حكم الشيشكلي، على أن تنطلق الشرارة الأولى للثورة الشعبية من جبل الدروز. وعندما اكتشف الشيشكلي أمرهم، أصدر أوامره باعتقال عدد كبير من تلك القيادات، كان من بينهم الحوراني، وعفلق، والبيطار.

النهاية السياسية لأكرم الحوراني

بدأ نجم الحوراني يأفل منذ انقلاب 8 مارس عام 1963، الذي يُعد بداية حكم حزب البعث في سورية. فقد شاءت الأقدار أن تكون نهايته السياسية من داخل الحزب، الذي كان يوجهه ويدير دفة أموره، إلى وقت قريب. ففي شهر أبريل 1963 م أصدر المجلس الوطني السوري، برئاسة الفريق لؤي الأتاسي عدة قرارات مهمة، من بينها فرض العزل السياسي على رجال الحكم السابق. وفي 24 أبريل صدر قرار بتشكيل محاكم الأمن القومي لمحاكمتهم، ووجهت إليهم الاتهامات التالية:

ـ اغتصاب السلطة.

ـ النيل من هيبة الدولة.

ـ الشعور القومي، وتعكير الصفاء بين عناصر الأمة.

ـ إساءة استعمال السلطة. وكان من بين المتهمين أكرم الحوراني.

* وخلال المؤتمر القومي القطري السابع لحزب البعث، الذي عقد في الفترة من 14 إلى 17 فبراير عام 1964م برئاسة ميشيل عفلق، تم إحلال القيادة الجديدة (الحرس الجديد)، بدلاً من القيادة السابقة الحرس القديم. وقد انتخبت القيادة القطرية الجديدة لحزب البعث من: أمين الحافظ، ومحمد عمران، وصلاح جديد، ونور الدين التاسي. وأصدرت قراراً بفصل رموز الحرس القديم من الحزب، ومن بينهم الحوراني والبيطار، بسبب “انحرافهم عن مبادئ الحزب”.

الأبعاد الشخصية، والمواقف السياسية للحوراني:

قام بدور المحرض لكل انقلاب عسكري وقع في سورية، بدءاً من الانقلاب الأول (مارس 1949)، حتى حركة الانفصال (سبتمبر 1961).

عارض مشروع الهلال الخصيب، والوحدة السورية العراقية، ولم يتحمس في بادئ الأمر للوحدة المصرية السورية. ورفض الاشتراك في الوفد السوري الرسمي في مفاوضات الوحدة، الذي تكون من: (شكري القوتلي، وصبري العسلي، وخالد العظم، وصلاح البيطار، ونور الدين الأتاسي، وحامد الخواجه، وفاخر الكيالي، ومأمون الكزبري، وأسعد هارون، وخليل الكلاس، وصالح عقيل، وعفيف البرزي، وعبدالرحمن العظم). وقد لاحظ عبدالناصر ذلك، ولعله تقبل اقتراب الحوراني منه وتودده إليه، بعدما أصبحت الوحدة وشيكة الوقوع. وأسند إليه منصباً رفيعاً من الناحية الشكلية، إلاّ أنه كان شرفيا من الناحية الموضوعية. ولمّا استشعر الحوراني بذكائه وخبرته السياسية، أن الانفصال أصبح وشيكا، دبر مظاهرة الاستقالة الجماعية من الحكومة المركزية، طمعاً في استمرار موقعه السياسي، فيما بعد الانفصال.

عندما أراد الانضمام لحزب البعث، وعارضه بشدة ميشيل عفلق، أوعز الحوراني للعقيد أديب الشيشكلي، الحاكم الفعلي لسوريه في ذلك الوقت، بالضغط على قيادات حزب البعث، لدمج الحزب مع الحزب العربي الاشتراكي، الذي كان يرأسه الحوراني. وبالفعل استجابت قيادات حزب البعث، لهذا الضغط العسكري على مضض. ودُمج الحزبان تحت مُسمى جديد هو “حزب البعث العربي الاشتراكي”، عام 1952.

وعندما أصرت قيادات حزب البعث، على عدم تغيير دستور الحزب، الصادر عام 1947، رضخ الحوراني لذلك. وكان الدمج اسميا فقط، اقترن فيه مُسمى البعث بالاشتراكي. وتكونت اللجنة التنفيذية لحزب البعث العربي الاشتراكي من: ميشيل عفلق “أميناً عاماً”، وكل من: البيطار، والحوراني، وجلال السيد، ووهيب الغانم، “أعضاء”.

كان يسعى دائماً لعسكرة حزب البعث، إذ عَمِل في كل وقت، على اجتذاب العناصر العسكرية إلى صفوف الحزب. لذا كان يطلق عليه “الجنرال المرتدي ثياباً مدنية”، وكان يدفع الطلاب للانتساب للكليات العسكرية، خاصة الطلاب الراسبين في المدارس الثانوية والجامعات، ويرغبهم بأن مدة الدراسة سنتان فقط، ولا تحتاج هذه الكليات إلى مجهود كبير في الدراسة.

أثمرت تلك السياسة، عن زيادة نفوذه السياسي خلال حقبة الخمسينات. فقد عُيّن وزيراً للزراعة في عهد الانقلاب الثاني، الذي كان هو المحرض الأساسي له. وفي عهد الانقلاب الثالث، الذي كان، أيضاً، هو المحرض الأساسي له، عينه الشيشكلي، في بادئ الأمر، مسؤولاً إعلامياً، ثم وزيراً للدفاع.

وبعد خروجه من التشكيل الوزاري الجديد، عاد وانقلب على حكم الشيشكلي. وبدأ في تنظيم المظاهرات، وتدبير المؤامرات، حتى اعتقله الشيشكلي!. وعمد الشيشكلي إلى وضع سياسة جديدة، للقبول بالكليات العسكرية، لا تسمح لأبناء الريف، أو الراسبين في الثانوية والكليات المختلفة، أو الموالين لحزب البعث، من الانتساب للكليات العسكرية.

وأن يقتصر القبول على أبناء المدن، ومن العائلات الكبيرة، ليكون مستوى الجيش لائقا. وقد لاقت تلك السياسة ترحيباً كبيراً، من قِبل السياسيين الوطنيين، إلاّ أنه بعد الإطاحة بحكم الشيشكلي، عاد الوضع إلى ما كان عليه، بتوجيه من الحوراني وعفلق.

الخلاف بين حزب البعث السوري الجديد والبعث القديم

وجهة نظر الحرس الجديد، في رموز الحرس القديم لحزب البعث

كانت مقررات المؤتمر القومي التاسع لحزب البعث، في سبتمبر 1966، تنص على: (إن الاستعمار المخطط الذكي، الذي يقيّم الأمور، ويضع لها الحلول العملية، أدرك بثاقب نظره، ومن خلال تجاربه الطويلة مع الشعوب، التي خاضت معارك التحرر والخلاص، أن حركة ثورية أصيلة، تعبر عن تطلعات جماهيرها، وتعبر عن مصلحة طبقاتها الواسعة الكادحة فيها، لا يمكن أن ينال منها تآمر خارجي، أو معركة مباشرة، أو تصدى مباشر، لأن مثل هذا التصدي والنزال، سيُكسبها ويدعمها، ويقوي عودها، ويجعلها تحرز الانتصار تلو الانتصار، وذلك لأن الثورات لا تشتد وتصلب، إلا‍ّ من خلال المعاناة والمعارك النضالية، والمجابهة. وعلى هذا يلجأ الاستعمار وزبانيته، إلى التفتيش عن مقتل مضمون النتائج …

فحركة التفاف بارعة، وعملية مناورة خفية مستورة تحت أسماء وأغلفة، وواجهات خداعة براقة، يمكن أن تحقق للاستعمار، مآربه، وللرجعية مقاصدها، بشكل أضمن، وخسارة أقل، وتتحقق تلك الحركة البارعة من جانب الاستعمار بأساليب متعددة. فتارة يعمد إلى تدريب عناصر خاصة، لفترات طويلة، ويلبسها من الأردية، ويحيطها بهالات، ويسلط عليها من الأضواء، ما يجعلها تظهر وكأنها تعيش في قلب هذا الشعب، وتكافح في سبيل قضاياه، وتدافع عن مصيره، إلى أن يحين وقت استثمارها، وعندها تتحرك بالاتجاه، الذي يرسمه لها الاستعمار، لتحقق الأغراض المنشودة. فإذا فشلت وانفضحت، لجأت إلى حاميها وسيدها، لتبدأ العمل على نحو جديد، وطريقة أخرى مُعلنة، بعد أن فشلت الطريقة الأولى المغلّفة المستترة.

ذلك هو حال المتآمرين، من زمرة “عفلق”، و”الرزاز”، و “البيطار”، و “حاطوم”، و”خالد الحكيم”، .. أمّا “عفلق”، وتاريخه الحافل بالمخازي والتآمر على هذا الحزب، والدور المرسوم له في حزب هذه المنظمة، وإبقائها ضمن الإطار المحدد والمرسوم لها، فأمره معروف لكل حزبي قديم، عاش أحداث هذا الحزب، واطلع على تاريخه).

* وفي موضع آخر، صدر بيان من القيادة القطرية لحزب البعث، عقب انقلاب نوفمبر عام 1970، وصف قيادات الحرس القديم، بما يلي:

(إن حزبنا، الذي جسّد بمنطلقاته واستراتيجيته، طموح جماهيرنا العربية الكادحة، كان يُبتلى بعقليات قيادية مناورة وعاجزة عن التطور، وتمثل كل رواسب الواقع المتخلف، الذي تعيشه أمتنا، مما يجعلها عامل كبح دائم، لنضالات قواعده وجماهيره، الأمر الذي كان يخلق هوة كبيرة، بين ما يصبو إليه مناضلو هذا الحزب وجماهير الشعب، وبين ما يسمح بتحقيقه قصور وتسلط تلك العقليات القيادية المتعاقبة والمناورة، مما سبب التناقض والشلل والانقسام، في صفوف حركتنا الثورية الأصيلة.

وفي كل مرة تصدت فيها قواعد الحزب، لتلك العقلية القيادية، كان ينقسم الحزب على نفسه، بفعل ما تمتلك تلك العقلية من قدرة على ممارسة الديمانموجية والتزييف، والتستر وراء شعارات لا تؤمن بها، وكانت كل تلك الانقسامات بعيدة عن أن تكون انقسامات، لها أسس ومنطلقات وأساليب عمل متميزة، بحيث يتحقق فرز علمى صحيح للشوائب، التي قد تعلق بجسم أية حركة ثورية نامية ومتطورة، بل كان الانقسام يشطر الحزب إلى مجموعات، فيها الغث والسمين. وهكذا كانت الكوارث تتوالى على الحزب بفعل هذه العقلية المتخلفة، ثم كانت حركة شباط (فبراير) عام 1966، التي أضافت صفحة جديدة مشرقة، إلى صفحات نضال قواعد الحزب ضد التخلف، ووصاية العقلية القيادية اليمينية، وكانت في منطلقاتها توضيحا رائعا للنهج الثوري، الذي هو مسار حزبنا منذ فجر ميلاده).

وجهة نظر الحرس الجديد في النظام الحزبي البعثي خلال المرحلة الأولى (السابقة على ثورة مارس 1963):
ترى القيادة البعثية الجديدة، أن نشأة وتطور حزب البعث ـ من وجهة نظرها ـ ينقسم إلى:

1. ظروف نشأة الحزب

تزامنت مع نشوء الحزب، عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية، هي:

انقسام الأمة العربية إلى دويلات.
التخلف الاجتماعي والثقافي والاقتصادي.
الاستعمار واغتصاب الشعوب وسلب ثرواتها.
تشتت الفكر القومي والشخصية العربية.
بزوغ الوعي السياسي، والقومي، وتعاظم دور البورجوازية العربية.
2. الأزمة الفكرية لحزب البعث

غموض مفاهيم شعارات الحزب: (الوحدة، والحرية، والاشتراكية).

وعناصر هذا الغموض تشمل:

أ. نادى مؤسسو الحزب بالوحدة والحرية والاشتراكية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو:

ما الوحدة، التي كانت تدور في أذهان قادة الحزب آنذاك.

ما الحرية، التي كانت تدور في أذهان قادة الحزب آنذاك.

ما الاشتراكية، التي كانت تدور في أذهان قادة الحزب آنذاك.

إن عدم وضع نظرية كاملة للحزب، عند بداية نضاله، ترك الحزب مفتوحاً للانفعال، الذي لا يحدد مداه، ولا تضبطه النظرية. لقد جاء دستور الحزب، الذي أقره المؤتمر التأسيسي الأول للحزب نفسه، في السابع من نيسان (أبريل) عام 1947، متأثرا بالطرح الوحدوي الكلاسيكي، الذي طرحه بعض المفكرين القوميين، أثناء الثورة العربية الكبرى عام 1916. ومتأثرا بالتفكير الليبرالي، ومنطبعا بطابع الديمقراطية الغربية.

ب. اعتمد الدستور الثوري، على الأسلوب الانقلابي في النضال الشعبي، إلاّ أنه لم يشر صراحة إلى القوى الشعبية، التي ستكون أداة النضال، بمعنى أنه لم يتعرض لموضوع الصراع الطبقي، الذي يعتبر “ألف باء” التفكير الاشتراكي العلمي، والعلامة الفارقة للنظرية الثورية، عن النظرية الإصلاحية.

ج. عدم التعرض لموضوعية الصراع الطبقي، ودور التناقضات الاجتماعية الجدلية، في تفسير الأحداث وتطويرها.

د. عدم اعتماده أسلوب التحليل العلمي للظواهر الحياتية، وإيجاد الحلول المنطقية لها مما ساق الفكر الحزبي في متاهات الغيبية والمثالية، وحجب عنه الحقائق العلمية.

3. الأزمة التنظيمية لحزب البعث

ترى القيادة البعثية الجديدة، في تقرير المؤتمر القومي التاسع، أن الأزمة التنظيمية للحزب تتمثل فيما يلي:

أ. عدم وضوح النظرية في التنظيم، وغياب المهمات الأساسية للتنظيمات، إذ إن الحزب بقى منذ نشأته عام 1947، حتى عام 1954، بلا نظام. ويُستشهد على ذلك، ببعض عبارات وتصريحات لرموز الحرس القديم، في هذا الصدد، منها:

مقولة لميشيل عفلق: “إن حزبنا رسالة لا سياسة”.
مقولة أخرى لعفلق: “إن المأساة التي يعيشها حزبنا في السنوات الأخيرة، هي ذاتها المأساة الشخصية التي أعيشها أنا”.
مقولة لصلاح البيطار: “حزبنا، يمكن أن نسميه دعوة، أكثر من أن نسميه حزباً. دعوة قائمة على التوحيد القومي، وعلى محاربة كل ما يعرقله”.

ب. تحول تاريخ الحزب ـ في تلك الفترة ـ إلى تاريخ هؤلاء الأشخاص، فانسجام الحزب يعنى انسجامهم، وانشقاقه يعنى اختلافهم وانقسامهم. فقد أضحت إقامة هيكل تنظيمي للحزب، أمراً في غاية الصعوبة والتعقيد، وعملاً موجهاً ضد بعض الأشخاص.

ج. التناقض بين البنية الاجتماعية للحزب، وبين شعاراته:

كانت أداة الحزب الأولى، مجموعة من الرفاق انسلخوا عن واقع بنيتهم الاجتماعية، بقدر متفاوت، ليلتزموا خط الحزب الرافض لواقع تلك البنية وتطلعاتها. ولكن كل واحد من هذه المجموعة، كان يحمل كثيراً من الرواسب والمفاهيم في منبته الاجتماعي. ولذلك تسربت هذه الرواسب والمفاهيم في العلاقات والمهمات، إلى التنظيم الحزبي. فبدا في بعض ملامحه متناقضا مع شعاراته … لقد كانت أزمة ثورية التنظيم في الحزب، جزءاً حقيقيا من أزمته العامة، في صراعه مع العقلية اليمينية.

هذه العقلية، التي حاولت جهدها حجب هذه الحقيقة ؛ وذلك لأنها تخشى أن يحوّل الحزب تنظيمه إلى حزب طبقي، يتناقض بشكل حقيقي مع تطلعاته البورجوازية، وإزاء ذلك سوف تتحول إلى عدوة للحزب، شاءت أو لم تشأ، وسوف ينتزع الحزب قضيته من بين أيديها، التي عبثت بها، وهذا ما حدث بالضبط.

د. الوصاية على الحزب

من أخطر أسباب الأزمة التنظيمية في حزب البعث، هو سيادة منطق الوصاية، في ذهن القادة التاريخيين لهذا المنطق، في سلوك التنظيم مرحلة طويلة من حياة الحزب. إن النظرة الغيبية أملت عليهم، النظر إلى أهداف الحزب وشعاراته، وكأنها من إبداعهم الشخصي. وليس خافيا على الرفاق مزالق تلك النظرة، التي تسئ حتى للأهداف نفسها. فشعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، قد أملاها واقع النضال العربي، في احتكاكه مع معطيات العصر الحديث منذ مطلع هذا القرن، وحتى الحرب العالمية الثانية.

ولم تكن اختراعا لمفكرين أو فلاسفة، يمكن لغيرهم أن يأتوا بغيرها كمضمون تقدمي للقومية العربية … وقد وصل الأمر بهم، إلى حد النظر إلى الحزب كملكيات خاصة لهم، فحزبنا ككائن اجتماعي خاضع في نشوئه وتطوره لعملية نمو طبيعى، يتسارع بالمعارك، التي يخوضها، وبالتحديات التي يواجهها، ولم يعد ممكنا للحزب، الذي ألهب حماس الجماهير بطرحه لشعاراتها، أن يقف عند الحدود، التي جمد عندها القادة، لأنه بذلك ينحرف حتى عن مبرر وجوده، كحزب مؤهل للبقاء في مواقع القدرة على قيادة الجماهير.

فأمام النمو المتصل لقواعد الحزب، وأمام الآفاق القومية الواسعة التي انفتحت أمامه، كان القادة التاريخيون يعمدون إلى قهر الحزب، ليكون مفّصلاً على تكوينهم. ويدأبون، من خلال الارتباطات المدمرة، ليوقفوا الحزب في المواقع، التي تمكنهم من استمرار قياداتهم، ويستخدمون الولاءات الشخصية لتمزيق وحدة الحزب. إن القادة التاريخيين للحزب، لا يعترفون بفكر ليس من نتاجهم، كما أنهم لا يعترفون ببطولة أو إنجاز، إلاّ إذا كان من إبداعهم.

والخطر يكون محدداً، لو أنهم كانوا ينتجون ويبدعون، ولكن الخطر الذي تعرض له حزبنا، هو جمود قادته الأوائل، عند حدود قاتلة بالنسبة لمتطلبات المرحلة الحاضرة، والمراحل المقبلة. والسبب الرئيسي للصراع المتأزم، هو إصرارهم على إبقاء التنظيم، عند حدود إرادتهم ومفاهيمهم الخاصة، والحيلولة بينه وبين أن يكون المؤسسة الثورية المتفاعلة، مؤسسة الديمقراطية.

هـ. التناقض بين شكل التنظيم القومي، ومضمونه العملي

إن الوجود القومي للحزب حقيقة أساسية، تنطلق من نظريته الثورية المتكاملة، في الإيمان بوحدة الوطن العربي. ولذلك، فإن أي منطلق قُطْري، أو انعزالي، هو منطلق غريب عن منطلق الثورية في التنظيم، ولا بد أن يفقد هذا التنظيم ثوريته دفعة واحدة، ذلك لأن حزبنا بتنظيمه القومي قد تحدى كل الرواسب القطرية والإقليمية، التي عششت في نفوس العرب، نتيجة الظروف التاريخية الطويلة، التي مرت على الوطن العربي.

ولكن إلى أي حد نجح حزب البعث في مجال هذا التنظيم؟.

(1) اتسمت المرحلة الأولى للحزب ـ عندما كانت التشكيلات الحزبية صغيرة في عددها، بسيطة في تنظيمها ـ بالتعلق الشديد بثقافة الحزب، والحماس القومي الصوفي، والتطلع لقطر سورية؛ لأنه مكان قوته. وبجانب هذا الانغماس في فكرة الحزب، كان هناك شبه انقطاع بين المنظمات الناشئة، والوضع الإقليمي الذي نشأت فيه، وإن هي شاركت في السياسة المحلية، كانت مشاركتها، غالباً، من قبيل تسجيل المواقف والمناوشة، أو تكون ـ في بعض الأحيان ـ مقصورة لاحتلال مكان بين الأحزاب التقليدية.

(2) بعد أن توسعت تشكيلات الحزب، وازدادت فعاليتها الحزبية في أقطارها، زاد وزنها السياسي، وأصبحت ذات تأثير فعال في السياسة المحلية؛ ففي العراق أسهم الحزب في انتفاضة 1953، وفي حوادث 1956، عندما قاوم حلف بغداد، وانضم إلى الجبهة الوطنية مع الأحزاب الأخرى. وفي الأردن دخل حزبنا محيط السياسة العملية، عندما قاوم جر الأردن لحلف بغداد، وخاض معركة تطهير الجيش.

إن الذي حدث في هذه المرحلة من نضال الحزب، هو تشابك نشاطه بالسياسة العملية للأقطار، التي كان يعمل ضمنها. وكانت نتيجة هذا التشابك مزدوجة، حيث أثر حزبنا في الواقع الإقليمي بعض الشيء، وطعّمه بالنظرة القومية. إلاّ أنه في مقابل ذلك، لم ينجح في أن يتأثر بذلك الواقع. فازداد اهتمام منظمات الحزب بالقضايا القطرية. وكان ذلك في غياب التوجيه المركزي، الذي لم يكن موجودا ليحد من هذا الاتجاه، ويُرجع الحزب لوحدته، ويطرح منه رواسب الواقع الفاسد، التي تسربت إليه، حتى إن القيادة القومية نفسها، لم تسلم من هذا الداء.

فقد جذبها واقع سورية، فانغمست فيه، وأصبحت في معظم نشاطها متجهة نحوه. وسمحت لنفسها بأن تمتد سلطة التنظيمات القطرية، إلى خارج أقطارها جغرافيا ؛ لتشمل كل من يحملون هوية ذلك القطر، حتى ولو كانوا يقطنون خارجه، كفرقة اللاجئين الأردنيين في دمشق، وكشعبة العراقيين في دمشق.

(3) لقد انعكس ذلك على النظام الداخلي للحزب، فبدلا من أن يكون لدى الحزب نظام داخلي واحد معمم، في ضوء دراسة شاملة دقيقة للأوضاع المتبادلة في الأقطار، بحيث يكون مرنا يستوعب التباين في الظروف، ويحقق الوحدة التنظيمية، في الوقت نفسه، بدلا من ذلك أخذت منظمات الحزب، تتكيف هي للأوضاع المحلية، وتسير بالنظام الداخلي شطر ذلك التكييف. وقد انفتح باب الاجتهاد، في تفسير النظام الداخلي على مصراعيه، بل وأصبح تجاوزه أمراً شائعاً ومعروفاً، تمارسه أغلب التشكيلات الحزبية.

(4) إن هذا التباين في التنظيم، قد غذى نفسه وولدّ قوة تدفع لمزيد من الإقليمية، وأوجد بداية لتيارات واجتهادات متباينة، بعضها عفوي، وآخر مصمم، منها بروز التأكيد على التكتيك بمعناه التقليدي الانتهازي، القائم على التآمر والتكتل والتوسل بشتى الوسائل، لتحقيق النجاح، وظهرت بوادر اتجاهات متباينة ترشح من الظروف المحلية، وتؤكد القطرية. إن غياب التنظيم العلمي للحزب، وغياب القيادة المركزية، والتوجيه المركزي، قد ساعد على قيام مثل هذه الأفكار الغريبة عن الحزب، التي علينا أن ندينها جميعاً، ونؤكد إصرارنا على وحدة الحزب العضوية، تنظيمياً وفكرياً ونضالياً، لأن الاتجاه القطري في الحزب:

يطعن فكرة الحزب الأساسية، بل ويزيل مبرر وجوده.
يشجع على ظهور الانتهازية، ويفسح المجال أمام بروز الأفراد، وانغماسهم في السياسات القطرية، ووقوعهم في أحابيلها.

يساعد على التغلب على التفرد، لضرب منظماته القطرية وإنهائها واحدة بعد الأخرى، ما لم تكن تعمل ضمن إطار قومي متماسك ومتناسق، وتخضع لتخطيط قومي شامل ومتكامل.

لقد كان تاريخ المؤتمرات القومية ملحمة حقيقية، بين عقلية اليمين الحزبي ـ العفلقية البيطارية ـ وبين قواعد الحزب المتطلعة، نحو حزب ثوري متطور، إلاّ أننا يكفى أن نشير بشكل عريض، إلى أن معركة المؤتمرات القومية، كانت معركة بين القيادة والقاعدة، إذ كلما حققت القاعدة نصراً تنظيمياً، أو فكرياً، على عقلية القيادة المتخلفة، بادرت القيادة، أو أمينها العام “عفلق”، إلى تجميد هذا الانتصار، ثم دعوة مؤتمر آخر، تحاول استجراره إلى مقررات تنسف المقررات، التي لم تناسبها من المؤتمر السابق.

فعندما أدانت قواعد الحزب، عملية حل التنظيم في القطر السوري عام 1958، سارع الأمين العام بنفسه إلى دعوة المؤتمر القومي الثالث عام 1959، وبغياب قطري العراق (حضر مندوبان فقط) وسوريه، ليوافق على حل الحزب في الجمهورية العربية المتحدة (واتخذ إلى جانب ذلك قرارات إيجابية كبيرة)، بينما جاء المؤتمر القومي الرابع عام 1960، لينتصر لإرادة القواعد في إدانة صريحة.

وكذلك، عندما اصطدم الأمين العام مع معظم القواعد الحزبية في القطر السوري، حول إعادة تنظيم الحزب ـ وليس حول الوحدة ـ دعا إلى المؤتمر القومي الخامس عام 1962، ليجعل من الخلاف التنظيمي معه، خلافاً حول الوحدة، بل حول فكرة الوحدة، وليتهم كثيرا من الرفاق والمناضلين بصلتهم بعقلية أكرم الحوراني، التي هم أول من أدانها في الحزب.

وقد كان المؤتمر القومي السابع، الذي استغل الأمين العام إصرار القواعد الحزبية على ضرورة انعقاده، ليحوله إلى حملة تشكيك بمقررات المؤتمر السادس، ما لبثت أن تحولت إلى هجوم صاعق على المنطلقات النظرية، التي أقرها هذا المؤتمر. وقد استخدم ميشيل عفلق ـ هذه المرة ـ سلاحاً جديدا في المعركة، نظرا لضراوتها وشدتها، استخدم (منيف الرزاز)، الذي تظاهر بخلافه مع عفلق، لينفّذ بأمانة وحرفية “العفلقية في الحزب”، ولكن المؤتمر القومي الثامن، خذل الطرفين عندما رفض التقرير العقائدي، الذي قدمه الرزاز للمؤتمر.

4. أزمة الحزب في التطبيق (أسلوب تنفيذ الأهداف)

يرى تقرير حزب البعث، في مؤتمره التاسع، أنّ أزمة التطبيق في الحزب ناشئة من:

أ. تجاهل القوة الكامنة في الجماهير الكادحة

إذ لم يكن من أساليب العمل الحزبي، التركيز على تزكية الصراع الطبقي في المجتمع، والتوجه إلى العمال والفلاحين، ليكونوا أداة الحزب في التطبيق، عبر النضال اليومي للتنظيم الحزبي.

ب. تجاهل طبيعة المعركة الحتمية، مع أعداء النظرية

إن الأسلوب، الذي اعتمده الحزب في أول نشأته، كأساس في نضاله لتحقيق أهدافه، يتناقض وتحقيق هذه الأهداف، لأنه سلاح لصالح الوحدة والحرية والاشتراكية في هذه المعركة، وكذلك فإن أسلوب الثورة الشعبية عن إستراتيجية الحزب، حتى الآن، يؤكد لنا ضعف الأساليب المطروحة الموهومة لتحقيق الوحدة العربية، في ظل التجزئة والاستعمار والتخلف، وفي مواجهة القوى الرجعية والصهيونية والإمبريالية.

* ويضيف ـ التقرير نفسه ـ عن موضوع (مظاهر أزمة الحزب)، ما يلي: إن الأساليب الفكرية والتنظيمية، لأزمة الحزب، أبرزت ـ عبر نضاله ـ ظواهر متنوعة، تبعا للسبب الذي ولّدها، وهي:

1. التشتت الفكري عند الحزبيين

فإذا سألت عدداً من الرفاق، حتى من تنظيم واحد، عن قضية أساسية مطروحة على الصعيد الفكرى، ألقيت مجموعة من الأجوبة غير متجانسة، لا في المنطق، ولا في الاستنتاج، ولا في التحليل. وأحيانا يصل الأمر إلى درجة التناقض، في فهم القضية الواحدة، وفي تفسير النص الواحد. وكل ذلك بسبب عدم اغتناء فكر الحزب، بنظرية واضحة بالدرجة الأولى، وبسبب عدم تعميم المتوفر من منطلقات الحزب، تعميماً فعلياً على جميع الرفاق، لغياب المركزية في التوجيه، مما يؤدى إلى فهم أفكار الحزب وموقفه، من خلال الثقافة الذاتية.

2. بروز الآراء الفردية، والانشقاقات غير الموضوعية

إن هذا التشتت الفكري، أدى بدوره إلى بروز الآراء الفردية التي بدأ كل منها يستقطب ـ حسب الاجتهاد والأهواء، وغالبا حسب المصلحة الشخصية ـ مجموعات من الرفاق تدعي كل منها، على تناقضها، أن رأيها هو المنسجم مع فكر الحزب ؛ لأن فكر الحزب كان يتسع لها جميعاً، وكان كل منها يجد له سندا يبرره، حتى إذا دخلت هذه المجموعات عند موقف حاسم، في صراع بينها، من جهة، أو بين إحداهما والحزب، من جهة ثانية، تصلبت كل منها عند تبريراتها غير المستندة إلى أي أساس علمي. وكان يحدث الانشقاق، الذي كان ينتهي بقياداته إلى منزلقات العمالة والتزلف، لتعّوض فشلها.

وكانت اليمينية المسيطرة على الحزب، تدفع كثيراً من الرفاق القواعد، إلى سلوك سبيل الانشقاق غير الموضوعي. وبعد فترة تقف عناصرها عند حواجز اليأس والضياع، إلاّ أن المؤتمر القومي السادس، وضع الحزب أمام منطلقات نظرية جديدة، كأسس أيديولوجية مستقبلة للحزب.

مما جعل الصراع داخل الحزب، يأخذ طابعاً فكرياً نظرياً، أدى ـ من ثم ـ إلى خروج بعض المنشقين، لعدم إيمانهم بقدرة الحزب على تحقيق هذه المنطلقات. وكانت حركة 23 شباط (فبراير) تتويجا لانتصار إرادة الحزب، ضد العقلية اليمينية، وانتصارا لمقررات المؤتمر القومي السادس.

3. ضعف المبادرة، والتخلف عن تفسير الأحداث، والتناقض في المواقف

على الرغم من قيادة حزبنا، لنضال الجماهير العربية، في بعض الأقطار العربية، إلاّ أن تخلف الحزب عن وضع إستراتيجية للنضال القومي، أدى إلى انحسار دوره القيادي للجماهير العربية، في أكثر الأقطار الأخرى، وبدا منفعلا بالأحداث يتأثر بها، وأضعف مبادرته إلى قيادة هذه الجماهير، وبدا في بعض الأحيان، وكأنه يلهث وراء الأحداث.

وكذلك، فإن ظهور تحولات جديدة، وأحداث متعددة طرحت نفسها في الوطن العربي، بعد نشوء الحزب بفترة طويلة (تجربة عبدالناصر، ومشكلة الأقليات في الوطن العربي) وبقاؤها من دون تفسير، أو تحليل، ومن دون حلول وتقييم، وما يجرنا ذلك إليه من التردد في اتخاذ المواقف “مؤتمرات القمة”، والتراجع عن المواقع “عدم استلام الحكم عام 1954″، والانطلاق من الانفعال الآني في اتخاذ المواقف التاريخية، (توقيع عريضة الانفصال واستمرار العنف ضد الشيوعيين في العراق)، والقفز المفاجئ من موقف إلى نقيضه، تجاه القضية الواحدة (الاشتراك في حكم الانفصال، ثم الاستقالة وتوقيع عريضة الانفصال ثم توزيع بيان في اليوم التالي ضده).

حزب البعث
حزب البعث

4. الحلول الوسطية والتوفيقية، في كثير من الأحيان

إن اشتراك الحزب في الحكم، في ظل الملكية في الأردن عام ـ 1957 ـ وإرسال الحزب في العراق البرقية المشهورة، إلى كل من الجزائر والمغرب أثناء حوادث الحدود عام 1963، ومباركته اتفاقية جدة والسكوت عنها، كل هذه المواقف، وما يرجى من ورائها بنتائج إيجابية، ما هو إلاّ كزرع الغرسة في النار وانتظار الثمار، وما كنا لنشهد مثل هذه المظاهر التوفيقية البالية، لو أن العمق الفكري في الحزب بلغ مستوى المصارحة العلمية، وتصور النتائج، في مثل هذه المواقف.

والأخطر من ذلك، أن تبنى هذه المواقف الوسطية التوفيقية جعل العقلية اليمينية في الحزب قادرة على التشكيك بجدية التحويل الاشتراكي، والتشكيك بالتأميم، واختلاق الأعذار للبورجوازية، ومحاولة مهادنتها، والتنازل لها عن بعض المواقع، كلما اشتدت حشرجتها وهي تحتضر.

مظاهر الأزمة في التنظيم

1. ضعف العلاقات الموضوعية، في الحزب

بسبب عدم وضوح النظرية في التنظيم، وغياب المهمات اليومية، التي تلف الجهاز الحزبي، وتحدد علاقاته ببقية الأجهزة، والعلاقات الموضوعية لأفراده فيما بينهم، وبسبب سلوكية القيادة العليا، التي تنطلق من توكيد سلطاتها عن طريق الاتصالات الجانبية، لفقرها الفكري، منطلقه في ذلك، لتغطية هذا الفقر بإحلال الولاء الشخصي، محل الولاء للحزب. بسبب كل ذلك تحول التنظيم إلى خلايا، تتمركز وسط كل منها ظاهرة “الفردية المرضية”، التي تستقطب عددا من الموالين والمعجبين والكسالى، الذين يتبادلون الحماية والتبرير.

إذن كانت الولاءات الشخصية، لا العلاقات الموضوعية، هي مقياس الولاء للحزب والارتباط به. ونظراً لتنوع المناخ الاجتماعي، الذي تبرز فيه هذه الظاهرة، تتسلل للحزب العلاقات الإقليمية والطائفية والعائلية البرجوازية. ولذا فإن في الحزب أناساً لا يرون حرجا في تبرير أعمال “بطلهم”، ولو كانت موجهة ضد مبادئ الحزب ونظامه، ويجارونه في محاولة إنقاذ كبريائه، ولو بتهديم الحزب والقضاء على ثورته.

2. ضعف المركزية والديموقراطية

إن ضعف المركزية في العمل، وضعف الديموقراطية في التنظيم، أديا إلى ظهور ونمو ظاهرة القطرية، على حساب وحدة التنظيم القومي (ظاهرة الانقطاع عن الاتصال بالقيادة). وكان، أيضاً، من مظاهر ضعف المركزية في الحزب، افتعال صراعات فيما بين المنظمات الحزبية، وتجاوز المؤسسات الحزبية، وتجاهل إرادة القواعد الحزبية (عدم السماح بانعقاد المؤتمر القطري السوري، والهرب من المؤتمر القومي، وحل القيادة القطرية السورية).

3. استبدال مركزية القيادة، بسلطة الفرد ونفوذه

إن الشعور بتضخيم الشخصية، والإصرار على فهم الحزب بأنه مرتسم وظل لشخصية القائد المؤسس (عفلق)، الذي عبر عنه بصراحة في كلمته في اجتماع القيادة القومية، حيث يقول: (إن مأساة الحزب تتمثل بالمأساة الشخصية التي أعيشها).

ذلك الشعور، وذلك الإصرار، قد جعلا من الطبيعي للقادة التاريخيين، أن يفهموا القرار الحزبي على أنه رأيهم الشخصي، حتى يمكن القول إن هذا القرار يتمتع بالشروط الضرورية، للحياة والنفاذ.

إن القائد المؤسس، الذي انقطع عن حضور الاجتماعات الحزبية ستة أشهر، استطاع أن يجر القيادة كمؤسسة إليه، كبديل للحزب، يملك مشروعية تجاوز المؤسسات الحزبية؛ لأن الحزب قد أضحى تكوينا مزيفا في نظره، لأنه قد تجاوز في نموه الحدود المرسومة، التي تبغي الوصاية في مواقع القدرة على القيادة.

وما يقال عن الحزب، يقال عن حكم الحزب في أعلى مستوياته.

وهناك عدة ظواهر أساسية، لا ضرورة للتفصيل فيها، لوضوحها ووجود الدلائل العديدة عليها، ونكتفي بتعدادها.

4. ضعف الارتباط الحزبي، ونمو الاتصالات الجانبية.

5. انعدام المصارحة الحزبية، وفقدان الثقة بين القيادات والقواعد.

6. التجاوزات المتكررة للنظام الداخلي، وعدم تطبيقه في أحيان كثيرة.

7. استبدال التنظيم الحزبي، بتجميع المؤيدين الشخصيين.

8. انعدام المحاسبة الجذرية، وانعدام الجرأة في محاسبة المنحرفين.

مظاهر الأزمة في الأسلوب

1. نمو المناورة، و”التكتكة” بين الحزبيين

هذا المظهر، الذي تسلل إلى الحزبيين في القواعد، كان من طبيعة العمل في القيادات العليا في الحزب، وبين أفراد هذه القيادات. كل يناور الآخر، ويستقطب عدداً ضد الآخر، فإذا أكثرية القيادة موزعة الولاءات، بين عدة أشخاص.

وهذا المظهر يعطل أية فعالية ويؤدى إلى انعدام الربط والضبط الحزبيين.

إن نمو أسلوب المناورة، كان نتيجة عدم إيمان القيادة بالحزب، كمؤسسة متكاملة متماسكة. وأصبح هذا الأسلوب بديلا للكفاءة الحزبية، والسلوك النضالي. وانتقل هذا الأسلوب إلى عدد من الرفاق في القواعد، بحيث يوزع ولاؤها بين أشخاص القيادة. مما عطل العمل الحزبي، وزّيف إرادة القواعد، في تطلعها نحو منظمة ثورية، تسودها علاقات النضال والموضوعية.

2. مهادنة الفئات المعادية

إن دعوات التروي والتعقل، التي كانت ترمى إلى تأخير عملية التحويل الاشتراكي، وإلى الإبقاء على البرجوازية محتفظة ببعض نقاط القوة، ما هي إلاّ مظهر من مظاهر التمييع لطبيعة المعركة، وللأسلوب، الذي يجب أن نخوضها به. كذلك، ما كان يدور في مؤتمرات القمة، من مخططات مع الرجعية العربية لتحرير فلسطين.

وهناك مظهران آخران أساسيان، نشاهدهما في العمل الحزبي، ونلمس أثرهما في تحويل المؤسسة الحزبية، إلى خلية عقيمة، وهما:

أ. عدم الجرأة في الإفصاح عن المواقف.

ب. طرح الآراء خارج المؤسسة الحزبية، والعمل على تكوين قناعات مخالفة لرأى الحزب.

إن تعاظم أزمة الحزب، التي ذُكرت سابقاً، بين قواعده المناضلة، وقيادته اليمينية المتحجرة، أخذ اتجاهاً حاسماً بعد المؤتمر القومي السادس، وبعد تطور الثورة في القطر العربي السوري، مما جعل التعايش أمراً لا يحتمل، خاصة بعد أن عمدت هذه العقلية المتحجرة إلى تعطيل نظام الحزب الداخلي، وضرب مؤسساته، وتجاوزها واتهامها بالتزييف. وراحت تستعدى الرجعية والبرجوازية على الحزب، وتستغل تناقضات المجتمع وأمراضه، من عشائرية وعائلية وطائفية، لضرب الحزب وثورته، وإدانة أسلوبه النضالي، لبناء الاشتراكية. وكان لا بد من عمل، فتحركت قواعد الحزب المدنية والعسكرية، في 23 شباط (فبراير)، لتنهى هذه العقلية، وسيطرتها على الحزب، إلى الأبد.

ومن هنا، فإن حركة 23 شباط (فبراير) تكتسب أهمية خاصة، من حيث إنها أتاحت للحزب، قدرة التحرك لبناء نفسه، وتخطى الجوانب السلبية، التي رافقت نشوءه. وعلى القيادة القومية المقبلة، أن تطور هذه الانطلاقة، لإغناء تجربة الحزب، وتطوير منطلقاته النظرية إلى إستراتيجية كاملة للنضال القومي، من المنطلقات التالية:

1. تعميق الصراع الطبقي.

2. حرب التحرير الشعبية.

3. تبني الديمقراطية المركزية في الحزب.