يؤكد منظرو المدرسة الواقعية الكلاسيكية والواقعية الجديدة على أنَّ امتلاك القوة عامل حاسم ينبغي أن تحرص عليه كل الدول، فالدول لديها هدف أساسي يتمثل في الحفاظ على بقائها، ولا يكون لها ذلك إلا من خلال قدرتها على الدفاع عن نفسها، وتعد مسألة امتلاك القوة مهمة؛ لكونها قادرة على تحقيق أهداف عدة منها:
1- تحقيق الاكتفاء الأمني
منذ تأسيسها اعتمدت دول الخليج على الدور الخارجي في تأمين وجودها، فهي من جانب محط أنظار مختلف القوى الطامعة بنفطها، ومن جانب آخر تعاني من هشاشة داخلية، إما بسبب طبيعة الأنظمة السياسية، أو بسبب العوامل الديمغرافية، حيث يوجد عدد قليل من السكان في بعض دول الخليج مقارنة بأعداد العمالة الخارجية.
يحيط بدول الخليج مجموعة من المشاريع المتنافسة التي تمثل لها خطرًا وجوديًا، ففي السابق كان يعد نظام صدام حسين خطرًا حقيقيًا خصوصًا بعد احتلال العراق للكويت، وهي الخطوة التي بررت بناء قواعد عسكرية أمريكية دائمة على الأراضي الخليجية، خصوصًا بعد إعلان “مبدأ كارتر
كما يمثل مشروع الكيان الإسرائيلي خطرًا حقيقيًا على المنطقة العربية ككل؛ إضافة للمشروع الإيراني الذي برز بعد الثورة الإيرانية في 1979 والتي انتهجت مبدأ تصدير الثورة، الأمر الذي اعتبرته دول الخليج مصدرًا حقيقيًا لتهديد وجودها، ومنذ ذلك الوقت وحتى نهاية 2020، انتهجت الولايات المتحدة نفس السياسة تجاه حماية حلفائها في المنطقة؛ لكن ونظرًا لظهور متغيرات جديدة على الساحة الدولية، تغيرت أولويات وسياسات الولايات المتحدة تجاه المنطقة.
فمن جهة اعتبر الصعود الاقتصادي الصيني على مستوى عالمي مؤشر تهديد للهيمنة والدور الأمريكي على المستوى العالمي، خصوصًا وأن نوايا الصين بدأت تتكشف منذ 2017 بعد بنائها لأول قاعدة عسكرية في جيبوتي إذ إن مشروعها الطموح الذي دشنته في 2013 “مشروع الحزام والطريق” يتطلب دورًا أمنيًا ودبلوماسيًا وعسكريًا يؤمن قدرتها على المضي والاستمرار في هذا المشروع.
2- جني الفوائد الاقتصادية
تعد الصناعات العسكرية والدفاعية إحدى أهم الروافد التي تعمل على تطور الجيوش، بعدم تبعيتها للخارج في مجال التقنية والسلاح والمعدات، كما أنها تشكل إحدى الدعائم الأساسية للحفاظ على استقرار الدول أمنيًا واقتصاديًا. فمن جانب تعد الصناعات العسكرية -خصوصًا الصناعة التكنولوجية- رافدًا اقتصاديًا مهمًا للدول، من حيث تحقيق الاكتفاء الذاتي، وبالتالي التقليل من فواتير الإنفاق الخارجي للحصول على هذه الأسلحة، ومن جهة أخرى الإسهام في تنمية اقتصاد الدول من خلال هذه الصناعات الثقيلة، إذ إن تمكن الدول من تصنيع أسلحة نوعية وفاعلة يفتح لها أسواق الدول الأخرى، على غرار الصناعات العسكرية التركية في مجال الطائرات المسيرة.
وفي حال تمكنت دول الخليج من النهوض بقطاع الصناعة العسكرية ستتمكن من تحقيق هذا الهدف، وبالتالي تقليل فواتير صفقات السلاح التي تستنزف ميزانياتها، كما أنها قد تتمكن في المستقبل من التحول إلى مورد قوي في حال طورت قطاع الإنتاج. وبشكل عام تعد دول مجلس التعاون الخليجي الست مجتمعة، ثالث أكبر منفق في العالم على مجال الدفاع، بميزانية مشتركة تزيد على 100 مليار دولار أمريكي سنويًا. لذا ينبغي أن يتم تحويل هذه القوة الشرائية الكبيرة إلى قوة صناعية. إذ لا يزال الإنتاج الدفاعي المحلي يمثل نسبة ضئيلة من الناتج المحلي الإجمالي، على الرغم من الجهود القوية للتوطين منذ الثمانينات. ومن هنا تأتي الحاجة لضرورة تبني مقاربة جديدة لا تقتصر على ربط صفقات السلاح بتدريب مهنيين وطنيين لصيانتها أو توطين جوانب معينة من الصناعة، بل ينبغي أن تستفيد من تجارب بعض الدول في المنطقة، من أجل بناء وتشييد صناعتها الوطنية وليس مجرد توطين بعض الصناعات الدفاعية القادمة من الخارج
3- تعزيز الاستقرار الاقتصادي وخطط التنمية الاقتصادية
من المتوقع أن تواجه دول الخليج قاطبة سيناريو نفاد النفط في العقود القادمة، وهو ما سيشكل تحديًا حقيقيًا ينبغي الاستعداد له من وقت مبكر، فعلى الرغم من الفوائد الجمة التي تحققت بظهور النفط، فإنه أسهم في تشكل بنية متكاملة من الاقتصاد الريعي، الذي لا ينتج بشكل حقيقي وإنما يستهلك مردودات النفط. وفي حال اختفى النفط سينهدم هذا النمط الاقتصادي برمته وسيخلق مشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية. وحتى يتم تجنب مواجهة مثل هذا السيناريو تحاول الدول تبني خطط استراتيجية، تسهم في تحقيق التنويع الاقتصادي وخلق فرص عمل متنوعة تسهم في إنتاج حقيقي في مختلف القطاعات. ويتجلى هذا التوجه في الخطط العشرية التي أطلقتها بعض دول الخليج من أجل دعم خطط التنويع الاقتصادي، ويأتي الاهتمام بقطاع الصناعات الدفاعية والعسكرية في هذا الجانب، إذ يعد الاستثمار في الجانب الدفاعي وربطه بالتقنيات الحديثة مجال استثمار نوعي
4- مواكبة التحديات الإقليمية والدولية والتنويع في التحالفات
تشهد منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، والمنطقة العربية بشكل خاص حالة صدام واشتباك بين المصالح على المستويين الدولي والإقليمي، وهو ما يزيد من حالة الفوضى والضبابية فيها، حيث تحاول مختلف القوى أن تستفيد من حالة الفوضى القائمة؛ من أجل الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، أو من أجل مد نفوذها،. ودول الخليج تقع في قلب هذه المعادلات، ففي حين تزيد حالة التوجس والضبابية من السياسة الأمريكية المتقلبة في المنطقة، ربما تتمكن دول الخليج ولأول مرة من أخذ زمام الأمور لعدة أسباب؛ أبرزها غياب القوى الإقليمية العربية التقليدية، فالعراق لا يزال يعاني من تبعات الغزو الأمريكي له من جهة، وارتهان أمره للقوى الشيعية المرتبطة بالمصالح الإيرانية من جهة أخرى. وسوريا من خلال النفوذ الروسي والإيراني لا يمكن لها أن تلعب أي دور خارج مصلحة إيران في المنطقة، ومصر فقدت قدرتها على التأثير بسبب النزاعات والظروف الداخلية، ومن هنا يمكن أن يعد غياب الفواعل العربية الإقليمية، وانسحاب الدور الأمريكي فرصة وتحد في آن واحد، ويأتي اهتمام دول الخليج بالصناعات العسكرية كضرورة؛ من أجل تقوية موقفها لتضطلع بدور إقليمي خارج عن إطار استراتيجيات الدفاع، وقادر على التأثير في القضايا المرتبطة بالمنطقة، دون الارتهان لأدوار الفواعل الخارجية وتقلباتها السياسية.
وقد شهدت منطقة الشرق الأوسط اضطرابات عديدة خلال العقد الأخير، منها ما ارتبط بنمو المظالم الاجتماعية والسياسية، والعجز الاقتصادي والأمني في مختلف مجتمعات الدول العربية، وهو ما أسفر عن ظهور احتجاجات شعبية أسهمت في إسقاط أنظمة سياسية، كما انخرط بعضها في أتون الحروب الأهلية، ونظرًا لأهمية هذه المنطقة بالنسبة لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية تبنت مقاربات متباينة حيال تلك الاحتجاجات؛ لكنها ساهمت في دعم بعض الدول المنخرطة في مشاهد الصراع في دول الربيع العربي، الأمر الذي أسهم في تفاقم الوضع الأمني في هذه الدول من جهة، وأسهم في خلق انشقاقات داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، بسبب الانتهاكات الإنسانية التي ترتبت على هذا الدعم، والمتمثل بتزويد بعض هذه الدول بأسلحة نوعية استخدمت في الحروب القائمة في بعض الدول العربية
غير أن السياسة الخارجية الأمريكية تغيرت بشكل كبير تجاه الشرق الأوسط؛ نظرًا للتغيرات الدولية الأخيرة، والمتمثلة في صعود الصين على الساحة العالمية، والتحديات غير العسكرية مثل جائحة كورونا والتغيّر المناخي، واستقلال أمريكا المتزايد في مجال الطاقة، والتطورات التكنولوجية السريعة، بالإضافة إلى رغبتها في التخفف من مسؤولياتها العسكرية في الحروب التي فتحتها في الشرق الأوسط، ولم تفض إلى النتائج التي توقعتها كل هذه العوامل أدت إلى تبني الولايات المتحدة الأمريكية سياسة مختلفة حيال دول الخليج، وأبرز تجليات هذه السياسية:
– مطالبة دول الخليج بتسديد ثمن التحالف مع الولايات المتحدة، حيث صرح الرئيس الأمريكي السابق “ترامب” في ديسمبر/ كانون الأول 2017 بخصوص استراتيجيته للأمن القومي، بأن على الدول الثرية أن تسدد للولايات المتحدة الأمريكية تكلفة الدفاع عنها، في إشارة أيضًا إلى دول الخليج التي وجد في بعضها قواعد أمريكية منذ فترة الغزو العراقي للكويت
– تنامي الانتقادات الأمريكية تجاه الانتهاكات الإنسانية والتحديات السياسية، وبات إصلاحها معيار أساسي من أجل الحفاظ على العلاقات الثنائية، ومن أجل الاستمرار بتقديم الدعم الآمن وبيع الأسلحة النوعية.
– ارتفاع تكلفة الحرب في اليمن إنسانيًا واقتصاديًا وأمنيًا، رسخت الأصوات الناقدة لبعض دول الخليج المنخرطة في الصراع اليمني، الأمر الذي أدى إلى مراجعة الاستراتيجيات الأمنية بين الولايات المتحدة وبعض دول الخليج، كما أدى إلى الغاء بعض صفقات الأسلحة الضخمة، حيث أطلقت وزارة الخارجية الأمريكية في مطلع 2021 قرارًا يقضي بمراجعة القرارات الأخيرة التي اتخذت خلال فترة حكم ترامب، وكانت أول نتيجة لتلك المراجعات تعليق واشنطن مبيعات الأسلحة الجارية، حتى إعادة التدقيق فيها للتأكد من أنها تحقق أهدافها الاستراتيجية، ومن بين هذه الصفقات التي تم تجميدها، ذخيرة دقيقة للسعودية ومقاتلات من طراز إف-35 كانت ستورد للإمارات العربية المتحدة.
أسهم إلغاء هذه الصفقات بدق ناقوس الخطر لدول الخليج، والتي كثفت جهودها في تمتين صناعاتها الدفاعية والسعي لتنويع شراكاتها، من خلال إقامة معارض الصناعات الدفاعية للتعرف على الأسلحة النوعية، ولاستعراض قدراتها التصنيعية العسكرية، ولعقد صفقات مع مختلف شركات الصناعة الدفاعية المشاركة، لكن وحتى تؤتي هذه الجهود ثمارها، ينبغي أن يتم إيجاد حلول فاعلة للتحديات التي تواجه دول الخليج في هذا المجال.