وفق معطيات من كواليس قمة “سوتشي”، فإن قضية إدلب كانت في أولويات مباحثات الرئيسين، حيث تعمل موسكو مع أنقرة على إيجاد صيغة لإخراج آلاف المسلحين من هذه المدينة وتأمين حياة سلمية مدنية فيها بمشاركة سوريا.
العمل على إنجاز “مذكرة التفاهم الروسية التركية” كان مضنياً، واستمر أسابيع تخللتها جولات مكوكية لدبلوماسيين روس بين أنقرة ودمشق وطهران. وعندما وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتفاقاته مع نظيره التركي رجب طيب إردوغان في سوتشي بالمصيريّة، كان يعني ما يقوله، نظراً للجهود الحثيثة التي بذلتها موسكو للتوصل إلى الصيغة المثلى لهذه الوثيقة.
لم يكن سهلًا على الكرملين أن يجد صيغة توفيقية بين نقيضين، بين تركيا التي لا تزال تدعم آلاف المسلحين الذين شاركوا في الحرب على سوريا، وبين القيادة السورية التي لا تزال تعتبر أنقرة ألد أعدائها ومعتدياً يحتل جزءاً من أراضيها. لكن موسكو، رغم كل الانتقادات والضغوط والعراقيل والممانعات، نجحت في نهاية المطاف في إقناع دمشق قبل أنقرة بالقبول بالحل وبشروط توفيقية:
– بالنسبة لتركيا تم حفظ ماء وجه إردوغان أمام الرأي العام الداخلي وإرضاء العسكر/ وإبعاد الكرد عن الحدود وإنزال علم “روج آفا”، والتعهد بالمساعدة في حل قضية اللاجئين.
– بالنسبة لسوريا تم تسليم مناطق جديدة للجيش ونشر حرس الحدود السوري على بعض القواطع الحدودية مع تركيا، وتسيير دوريّات مشتركة مع الشرطة العسكرية الروسية على خط التماس مع المنطقة الآمنة وتسيير دوريات روسية تركية داخل هذه المنطقة لضمان السيادة السورية عليها لاحقاً.
– بالنسبة للكرد تم تأمين سلامتهم من خلال وقف عملية “نبع السلام”، ووعدهم بعمليّة سياسية بينهم وبين دمشق، على قاعدة انتمائهم للوطن السوري المشترك.
وبالتوازي مع العمل على إنجاز هذه الاتفاقات جهد الكرملين لأن يوقّع بين الأميركيين والأتراك، وقد فاقت نتائج هذا العمل كل التوقعات. بوتين قدم لإردوغان إغراءات لم يصمد الرئيس التركي في وجهها؛ مشروع السيل التركي، تشييد محطة أكويو الكهرذرية، وإنجاز صفقة إس – 400، وتقديم عرض بمقاتلات الجيل الخامس.
أما الصداقة مع بوتين الذي يوصف بالرجل الأقوى عالمياً، فتعتبر بحد ذاتها أكبر دعم سياسي للرئيس التركي. وهنا يجب أن لا ننسى وقوف بوتين إلى جانب إردوغان أثناء محاولة الانقلاب الغامضة على نظامه.
هذا كله وضع الوجود العسكري الأميركي في شمال سوريا وشرق الفرات موضع شك، بل موضع تهديد، ما أسهم في خروج الأميركيين من تلك المناطق تحقيقاً لأهداف روسيا التي كانت تقول على الدوام إن الوجود الأميركي في سوريا هو أساس البلاء.
الآن، وبعد إبعاد الأميركي عن المنطقة، فُتحت آفاق رحبة للتفاهم بين دمشق والكرد وانضواء الأخيرين تحت راية الوطن، ما يقوي مواقف الحكومة السورية في أي مفاوضات مستقبلية مع الأتراك حول أمن الحدود بين البلدين على قاعدة اتفاقية “أضنة”، كما تعتقد موسكو، وكما لا تعارض كل من أنقرة ودمشق.
ووفق معطيات من كواليس قمة “سوتشي”، فإن قضية إدلب كانت هي الأخرى في أولويات مباحثات الرئيسين، حيث تعمل موسكو مع أنقرة على إيجاد صيغة لإخراج آلاف المسلحين من هذه المدينة وتأمين حياة سلمية مدنية فيها بمشاركة مؤسسات الدولة السورية.
ولبسط سيادة الدولة على كامل التراب السوري يبقى لسوريا وروسيا أن تنهيا الوجود الأميركي في الجنوب، وهذا سيتطلب من القيادة الروسية أن تعمل أولًا مع الإسرائيليين والأردنيين، لأن الأميركيين أنفسهم يعترفون بأنهم متواجدون هناك بطلب من الكيان الإسرائيلي الذي يتذرع بتواجد ايران وفصائل المقاومة على الأراضي السورية، وهدف هذا التواجد يكمن أيضاً في السيطرة على طريق طهران بغداد دمشق، أي شريان “محور المقاومة”.
وكما فاجأت روسيا أصدقاءها وأوهمت أعداءها باتفاقات “سوتشي”، يمكن أن نتوقع شيئاً مماثلاً بشأن إدلب والتنف. يبقى أن نفهم أن الاستراتيجيات هي عبارة عن تراكم تكتيكات ولكل مرحلة تكتيكها. أما الحرب فهي معارك، ولتكسب الحرب ليس بالضرورة أن تكسب كل المعارك، المهم أن تضع التكتيكات التي تقودك إلى النصر الاستراتيجي. ولكن لكل حادث حديث.
المصدر : الميادين نت