لا بد من التمحيص | لفضيلة الشيخ محمد صالح المنجد

المستقبل العربي

صقور الدفاع
إنضم
3 أكتوبر 2011
المشاركات
3,641
التفاعل
5,610 15 0
النبذة : إن الله سبحانه وتعالى يعين عبده المؤمن إذا ابتلاه، ويخفف أثر البلاء عليه بحسب إخلاصه والإيمان الذي في قلبه، فيتحمل المؤمن من الأذى في وقت الابتلاء بمعونة الله التي تنزل عليه، ما لا يتحمله في غير وقت الابتلاء، وما لا يتحمله غير المؤمن أصلاً، ولذلك يُنزل المعونة على قدر المؤونة، وينزل المعونة على قدر الشدة والابتلاء.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
آيات في حكمة البلاء:

فقد اقتضت حكمة الله تعالى في خلقه، وعدله في حكمه أن يبتلي عباده ليتبين الصالح من الفاسد، والمؤمن من الكافر، والخبيث من الطيب، والكاذب الدعي من الصادق الوفي.

وقال الله تعالى في آل عمران: مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءسورة آل عمران:179، يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، التمييز: هو التفريق بين الشيئين، قال ابن عباس رضي الله عنه: مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِمن الكفر حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِيميِّز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وعن مجاهد بسند صحيح: "ميز بينهم يوم أحد المنافق من المؤمن"، وقال القرطبي: مَّا كَانَ اللّهُليذركم يا معشر الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِمن اختلاط المؤمن بالمنافق حتى يميز بينكم بالمحنة والتكليف؛ فتعرف المنافق الخبيث، والمؤمن الطيب، وقد ميز يوم أحد بين الفريقين.

وقوله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِأي: يا معشر المؤمنين ما كان الله ليعيَّن لكم المنافقين حتى تعرفوهم ءيعني بالأسمإ، ولكن يظهر ذلك لكم بالتكليف والمحنة، وقد ظهر ذلك في يوم أحد، فإن المنافقين تخلفوا وأظهروا الشماتة، فما كنتم تعرفون هذا الغيب قبل هذا، فالآن قد أطلع الله محمداً عليه السلام وصحبه على ذلك.

وقال ابن كثير رحمه الله: قال تعالى: مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِسورة آل عمران:179أي: لابد أن يعقد شيئاً من المحنة يظهر فيه وليه، ويفضح به عدوة، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر، يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين، فذكر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم، وثباتهم وطاعاتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهتك به ستار المنافقين؛ فظهر مخالفتهم، ونكولهم عن الجهاد، وخيانتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

وقال قتادة في الآية: ميز بينهم بالجهاد والهجرة، ثم قال تعالى: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ سورة آل عمران:179أي: أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميز لكم المؤمن من المنافق، لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة لذلك.

وفي موضع آخر من هذه السورة العظيمة قال تعالى: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَسورة آل عمران:140ء141.

إذن ءأيها الإخوةء لابد من التمييز ليميز الله الخبيث من الطيب، ولابد من التمحيص، قال تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَسورة آل عمران:141.

قال ابن كثير رحمه الله: أي إن كنتم قد أصابتكم جراح وقتل، وقتل منكم طائفة، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح، وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِسورة آل عمران:140أي: نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة ءيعني في النهايةء لما لنا في ذلك من الحكمة، ولهذا قال: وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ، وهو تعالى يعلمهم من قبل، لكن ليظهر علمه في الواقع، قال ابن عباس: لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء، وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءسورة آل عمران:140يعني: يقتلون في سبيله، ويبذلون مهجهم في مرضاته، فما معنى يمحِّص؟ قال المفسرون أقوالاً ومن ذلك: يختبر، ثانياً: يطهر من الذنوب.

فالاختبار إذن سنة الله تعالى في عباده، لابد من ابتلاء، لابد من امتحان، لابد من تمحيص، لابد من تمييز، تلك هي سنة الله في خلقه، وهذه عادة الله الجارية فيهم، دائماً سبحانه وتعالى يفعل ذلك، يريد هذا عز وجل، يريده سبحانه وتعالى.

وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْسورة آل عمران:141قال ابن جرير: "وليختبر الله الذين صدقوا الله ورسوله، فيبتليهم بإدالة المشركين منهم حتى يتبين المؤمن منهم المخلص الصحيح الإيمان من المنافق".

وفي موضع ثالث من السورة نفسها قال تعالى: ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌأخرى قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْتقولون: لو ما خرجنا في أحد ما قتلنا، لو كان الله مقدراً على أحدكم الموت في موضع معين لأوجد سبباً سبحانه وتعالى يدفع هذا الرجل إلى الخروج من بيته إلى المكان المكتوب المقدر عليه أن يموت فيه ليموت فيه، قال تعالى بعدها: وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِسورة آل عمران:154، قال ابن كثير: "أي يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر المؤمن من المنافق"، وقال القرطبي: وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ"أي: فرض الله عليكم القتال والحرب، ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم، وليمحص عنكم سيئاتكم إن تبتم وأخلصتم".
من صور التمحيص والتمييز:

وقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز عدة نماذج من هذا التمحيص وهذا التمييز، فمن ذلك قصة ابتلائه تعالى لبني إسرائيل لما طلبوا القتال، فلم يهيئ لهم ذلك حتى ابتلاهم ليتميز الصادق منهم من الكاذب، ثم حصل النصر بمن نجح في هذا الابتلاء والتمحيص؛ لأنهم أصبحوا أهلاً للنصر، وهذه قاعدة عظيمة، وهي: أن الله سبحانه يبتلي المؤمنين ليميزهم، حتى إذا تميز الصف، وتخلص المؤمن من المنافق نصر الله عباده المؤمنين، وخذل المنافقين؛ لأنهم ليسوا أهلاً لأن يشاركوا المؤمنين بهجة النصر وحلاوته، والفرح بنعمة الله عليهم، ولهذا طلبوا من المؤمنين ءفي عهد النبي عليه الصلاة والسلامء أن يذهبوا معهم إذا انطلقوا لمغانم ليأخذوها، فرفض النبي عليه الصلاة والسلام.
وفي قصة طالوت قال عز وجل: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَسورة البقرة:249، فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِيعني: شخص بهم ورحل بهم من البلد، قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍيعني: مختبركم بنهر ليعلم كيف طاعتكم له، قال بعض المفسرين: هو نهر بين الأردن وفلسطين عذب الماء فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْسورة البقرة:249، فلما أتوا على النهر، وقد نالهم عطش والنهر في غاية العذوبة رخص الله للمطيعين في الغرفة، ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع، وأخبرهم سبحانه وتعالى على لسان طالوت أن من شرب من النهر فليس من طالوت، ليس من أهل ولايته وطاعته، ليس من المؤمنين، وأما من اقتصر على الغرفة هذه ألتي هي ضرورية له عند ذلكء، فهو من أولياء طالوت ومن المؤمنين، فشرب القوم على قدر يقينهم، قال قتادة: "أما الكفار فجعلوا يشربون فلا يروون، وأما المؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بيده فتجزيه وترويه"، فلما جاوز هذا النهر هو والذين آمنوا معه، قيل: كان عددهم كعدد أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، لم يجاوز النهر إلا مؤمن، ولما برزوا، وصاروا في صعيد مكشوف من الأرض لجالوت وجنوده توجهوا إلى الله بالدعاء: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًاأي: أنزل علينا صبراً، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَاسورة البقرة:250أي: قوِّ قلوبنا على الجهاد لتثبت الأقدام فلا تنهزم.
الحكمة من البلاء:

لماذا وقع هذا الابتلاء؟ ليميز الله الخبيث من الطيب، ليمحص سبحانه وتعالى، هذه سنته التي لابد أن تحدث في الواقع، لابد من التمييز، لا يمكن أن الله يترك الناس على ما هم عليه، لا يريد الله الخلط، الله يريد التمييز، فيُجري الله من الأحداث ما يسبب فرزاً في الواقع، فإن قال قائل: هذه المصيبة التي حصلت في أحد، أو في غيرها من معارك المسلمين، ما هي الحكمة من وراء تقدير الله لانتصار الكفار على المسلمين، لماذا يحدث ذلك في عدد من الأحيان؟ فالجواب: كما قال العلماء:

أولاً: إن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى أقل مما يصيب الكفار والواقع شاهد بذلك، فإذا تأملت ولو في الكوارث الطبيعية ما يقع في الكفار فإنك ستجده أكثر مما يقع في المسلمين.

ثانياً: أن ما يصيب المؤمنين في سبيل الله، يرافقه الرضا منهم والاحتساب، وهذا يخفف عليهم ثقل البلاء ومؤونته، وأما الكفار فلا رضا عندهم، ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، ولذلك قال الله: إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ، لكن الفرق قال تعالى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَسورة النساء:104، فاشتركوا في الألم، وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله.

ثالثاً: إن الله سبحانه وتعالى يعين عبده المؤمن إذا ابتلاه، ويخفف أثر البلاء عليه بحسب إخلاصه والإيمان الذي في قلبه، فيتحمل المؤمن من الأذى في وقت الابتلاء بمعونة الله التي تنزل عليه، ما لا يتحمله في غير وقت الابتلاء، وما لا يتحمله غير المؤمن أصلاً، ولذلك يُنزل المعونة على قدر المؤونة، وينزل المعونة على قدر الشدة والابتلاء.

رابعاً: إن المحبة كلما تمكنت من القلب، ورسخت فيه كان تحمل المحب للأذى في سبيل رضا المحبوب أكبر، بل إنه يصل إلى درجة أنه يستحلي الابتلاء إذا عرف أنه من المحبوب، يستحليه، وتنقلب مرارته عذوبة.

خامساً: أن ابتلاء الله للمؤمنين كالدواء؛ يستخرج به ما في نفوسهم من الأمراض التي لو بقيت لأهلكتهم مثل العجب وغيره من أنواع الأمراض النفسية القلبية، فيداويهم عز وجل بالابتلاء لتزداد حسناتهم، وترتفع درجاتهم؛ ولذلك كان أمر المؤمن كله له خير.

سادساً: إن ما يصيب المؤمن من ضيق الدار، وتسلط الأعداء، وغلبتهم أحياناً، وأذاهم للمؤمنين، هو أمر لابد منه كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم، ولو صار العالم لا شر فيه، ولا ألم، ولا إيذاء لكان عالماً غير هذا العالم، ولما صار هناك فرق بينه وبين الجنة، ولفاتت حكمة مزج الخير بالشر، واللذة بالألم، والنفع بالضر.

سابعاً: أن الله عز وجل يستخرج من قلوب أوليائه عندما يتسلط الأعداء من الانكسار بين يديه، والافتقار إليه، وإظهار الحاجة لربهم، وسؤالهم النصر إياه ما لا يحدث لو كانوا دائماً منصورين على طول الخط، ولذلك اقتضت حكمته عز وجل أن يجعلهم غالبين تارة ومغلوبين أخرى، ولو كانوا دائماً منصورين قاهرين لدخل فيهم من ليس منهم إطلاقاً، ولكان فيهم من الأشر والبطر، وغير ذلك من الأدواء والأمراض ما لا يجعلهم أهلاً أصلاً لأن يكونوا من أهل النصر والتمكين، فهو عز وجل خلق الموت والحياة وقال: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةًسورة الأنبياء:35، وقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَسورة محمد:31، وقال: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَسورة العنكبوت:2، وهكذا.

فقد اقتضت حكمة الله عز وجل هذا التمييز ليبين الكاذب من الصادق، والدخيل من الأصيل، ثم إن هناك اشتباهاً في الأمور يحدث في الفتن، فيتميز أهل البصيرة من أهل الغفلة، فترى المغفل يخبط بكلامه خبط عشواء، وأما أهل البصيرة يتكلمون على نور من الله، فتجد الذين في قلوبهم مرض يميلون إلى الأعداء، ويفخمون أمرهم، ويرتمون في أحضانهم، وهكذا يفعلون، وتجد أهل الإيمان يقولون: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَسورة البقرة:249، فيثبتون الناس، ويقولون: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِسورة الشعراء:62.

وهكذا تكون الأمور متبينة، ثم يرى عز وجل من الذي ينصر دينه من الذي يتخلى عن دينه؟ من الذي ينصر أهل دينه من الذي يتخلى عن أهل دينه؟ وهكذا تتبين الأخوة الإسلامية في الأزمات والشدائد، من الذي يشعر فعلاً أنه مع المسلمين؟ ألمهم ألمه؟ وهمهم همه؟ ومصيرهم مصيره؟ وهكذا يؤثرهم بما عنده، ويقدم لهم ومن أجلهم، ويقوم لنجدتهم بخلاف الكسالى القاعدين، أهل الدنيا، أصحاب اللذات والشهوات الذين لا يكادون يقدمون شيئاً للدين، ولا يضحون من أجل الدين، ولا من أجل أهل الدين، وهكذا.
من فوائد التمحيص:

أيها الإخوة، إن لله في الواقع آيات وعبر، إنه سبحانه وتعالى إنه يمحص في حال ضعف المسلمين وعجزهم عن مقابلة كيد الأعداء، إنه سبحانه وتعالى يظهر حتى غرور الكفار وغيرهم من ضعفاء النفوس في مثل هذه المواقف، ألم تر أنه في حُنين قال أبو سفيان لما صارت الهزيمة في المسلمين أولاً، ولم يرسخ الإيمان في قلبه بعد، قال: لا تنتهي هزيمتهم –يعني هزيمة المسلمينء دون البحر، لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وصرخ كِلدة، ألا بطل السحر اليوم. بل إن بعضهم عزم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم إذا سنحت الفرصة، ولكن رجع الإيمان، وعاد الدين إلى القلوب، فثبتوا لما حمل النبي صلى الله عليه وسلم الراية، ودعا أصحابه للعودة إلى الميدان مرة أخرى.

أيها الإخوة، إن هذا التمحيص أمر لابد منه، إن هذا التمحيص يقتضي أن نثبت في هذه المواقف، ومن ذلك ما يثيره أعداء الإسلام من السمعة السيئة عن الدين وأهله، ويشيعون المفهومات المغلوطة عنه، ولنأخذ حادثة من السيرة تبين هذا، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية إلى وادي نخلة في آخر رجب، وهو من الأشهر الحرم، فهاجموا عيراً لقريش في وقت مثل هذا الوقت، فقتل المسلمون أحد المشركين، فلما قدمت السرية قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم بقتال في الأشهر الحرم) ، ووجد المشركون في ما حدث الفرصة العظيمة للتشنيع على المسلم، وتشويه صورة المسلمين في هذا الحدث، تشويه صورة المسلمين بين قبائل العرب، وأشاعوا ذلك على نطاق واسع، فماذا قالوا؟ قالوا: أحل محمدٌ الشهر الحرام، وكثر القيل والقال، كيف وقع من المسلمين هذا؟! كيف حصل منهم القتال في الشهر الحرام؟! كيف حصل الاعتداء في الشهر الحرام؟! وهكذا حتى نزل الوحي حاسماً لهذه القضية، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِسورة البقرة:217، من قتل واحد في الشهر الحرام، كافر يستحق القتل، أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِسورة البقرة:217، إذن الرد الإلهي عليهم ما ملخصه: أن ذنبكم ءيا أيها الكفارء، وأن كفركم ءيا أيها الكفارء، وأن شرككم ءيا أيها المشركونء أكبر من قضية قتل واحد في الشهر الحرام، فكيف تعيبون هذا، وتسلطون الضوء عليه، وتشيعون هذه السمعات السيئة، وأنتم ما أنتم عليه من الكفر والشرك، والصد عن سبيل الله؟! ومعاداة المؤمنين أكبر بكثير من هذا الذي حصل، وهذه الضجة التي افتعلتموها لإثارة الريبة في المسلمين لا مساغ لها بجانب الجرائم التي قمتم بها، وانتهكتم فيها من حرمات الإسلام وأهله.

نعم، إن القتل في الأشهر الحرم كبير لكن أكبر منه ما حصل من أخراج المسلمين، ومقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم، والصد عن دين الله، فهكذا إذن كان الرد، وكانت الإجابة من الله سبحانه وتعالى.

اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وجنودك المجاهدين، وحزبك المفلحين، اللهم اعل راية الإسلام، اللهم إنا نسألك النصر للمسلمين يا رب العالمين، والهزيمة للكافرين إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً رسول الله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى أزواجه وذريته الطيبين، وعلى أصاحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان ومن تبعهم إلى يوم الدين.
حال المؤمن من البلاء:

عباد الله، لابد إذن من تمحيص وتمييز، ولابد من ابتلاء واختبار، فانظر ءيا عبد اللهء ما هو موقعك من هذا، وماذا فعلت حينما أجرى الله عز وجل الأقدار، وعندما خلق سبحانه وتعالى هذه الأفعال أين أنت؟ وماذا فعلت؟ وما هو موقعك؟ هل اعتصمت بالكتاب والسنة؟ وهل لزمت المؤمنين وكنت معهم؟ وهل نصرت من نصر الدين؟ وهل عندك القضايا متضحة جلية؟ أم عندك غبش، وليس هناك في النظر وضوح؟

يا عباد الله، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَسورة العنكبوت:2ء3.

وهذا قيصر الروم يقول في حديثه مع أبي سفيان: سألتك كيف كان قتالكم إياه، فزعمت أن الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لهم العاقبة.
والله سبحانه وتعالى يبتلي ليميز الصفوف، ويمحص القلوب، إنها سنة ماضية، إنه لابد من حصولها حتى يصقل المعدن، وينضج الأمر، وكذلك يظهر المنافقون ءذلك الصف الخفي المندس بين المؤمنينء، ولذلك عند اشتداد الأمر ترى هؤلاء يظهرون على حقيقتهم من خلال ما يصرحون ويعبرون ويتكلمون.

وعلى ضوء سنة التمحيص تتحقق سنة أخرى وهي سنة التمكين، لابد لتمكين من ابتلاء قبله، وقد أدرك أهل العلم والبصيرة هذه الحقيقة، فعندما سئل الإمام الشافعي رحمه الله: أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟ ما هو الأفضل أن يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى، إذن لو قلت: أن يكون عزيزاً متمكناً منصوراً أفضل؟ أو أن يكون مبتلى، وأن يكون واقعاً في محن؟ فكان الجواب: لا يمكَّن حتى يبتلى، لابد لهذا من هذا إذن.

وكذلك ابتليَ النبي صلى الله عليه وسلم فترة طويلة في مكة، أكثر فترة الابتلاء كانت أكثر من الفترة التي عاشها ممكناً في المدينة، لكن النتيجة النهائية أن ما حصل من التمكين العام لأهل الإسلام شيء عجيب جداً ومنتشر، وتأسس الدين في الجزيرة، وانطلق منها.

وكذلك ءيا عباد اللهء فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عانى من الكفار والمنافقين، وكان في تلك الغزوات في الأحزاب والخندق وغيرها ما جعل المسلمون يزلزلون زلزالاً شديداً، فهؤلاء قد تجمعوا عليهم من فوقهم، وأولئك المنافقون من الجهة الأخرى، وهكذا تجد عباد الله يبتلون دائماً بأهل الكفر وبأهل النفاق، فيجتمعون عليهم، ولكن في النهاية ءوإن حصل ما حصل من الكسر للمسلمين، والقتل فيهمء فإن الله ناصر دينه ولابد، الله عز وجل ما أنزل هذا الدين ليهزم وينطفئ نوره، الله أنزله لكي ينتشر في الواقع ويهيمن، ولكن تلك الأيام نداولها بين الناس، لهؤلاء تارة، ولهؤلاء تارة، ولا تجد الأمور تسير على حال واحدة أبداً؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه) ، لا يمكن أن يرتفع شيء يبلغ الذروة ويستمر، لابد أن يستمر مرة أخرى، هذه سنة عامة في الأشخاص على المستوى الفردي، وفي المجتمعات على المستوى الجماعي، لا يعلو شيء إلا وينزل، وهذا مشاهد عبر التاريخ.

ونحن المسلمون يجب أن نري الله من أنفسنا خيراً، وأن نثبت على هذا الدين، وأن نسأل الله أن يعز دينه، وأن نشارك في أن يكون العز للمسلمين، وأن ننصر المسلمين بكل ما نقدر عليه، بكل طاقاتنا؛ لأن المعركة معركتنا نحن المسلمين، نحن مسؤولون أمام الله يوم القيامة عن هذا الدين، هل نصرناه أم تخاذلنا عنه؟.

اللهم إنا نسألك النصر للإسلام والمسلمين، اللهم نسألك نصرك الذي وعدت به عبادك المؤمنين، اللهم نسألك العز والتمكين لهذا الدين، اللهم أنزل مدداً من عندك على المؤمنين المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، اللهم أيديهم بنصرك، وأمددهم بجند من عندك، اللهم أفرغ عليهم صبراً، وثبت أقدامهم، وانصرهم على القوم الكافرين، اللهم إنا نسألك النصر للمسلمين في فلسطين، وفي كشمير وفي غيرها وسائر الأرض يا رب العالمين.

اللهم من كاد المسلمين فكده، ومن تآمر عليهم فخذه، اللهم إنا نسألك أن تفرق شمل الأعداء، اللهم إنا نسألك أن تنصر الذين يريدون أن يرفعوا لواء دينك يا رب العالمين.

اللهم إنا نسألك نصراً عاجلاً غير آجل، اللهم كن للمسلمين ولا تكن عليهم، اللهم وإنا نسألك لهم في ساعتنا هذه أن تنزل من رحمتك وبركاتك ونصرك عليهم يا رب العالمين.

اللهم آمنا في أوطاننا، اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أراد أن يكدِّر أمن بلدنا وبلاد المسلمين فامكر به، وابطش به، واجعله عبرة للمعتبرين، من أراد بلدنا هذا بسوء وسائر بلاد المسلمين فاجعل كيده في نحره، وأنزل عليه العذاب وصبه صباً، اللهم أرنا فيه آية، اللهم أرنا فيه آية، اللهم أرنا فيه آية يا رب العالمين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
 
اللهم أرنا الحق حقا وأرزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا اجتنابه‏، دعاء نسيناه في أيامنا هذه، الكل دخل دوامة الفتن
 
اللهم أرنا الحق حقا وأرزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا اجتنابه‏، دعاء نسيناه في أيامنا هذه، الكل دخل دوامة الفتن

اللهم أمين ..

بالخصوص فتنة المسيح الدجال لعنه الله ..
 
عودة
أعلى