16 ساعة .. مهمة في كرم تسور

مصحف و بندقية

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
14 يوليو 2009
المشاركات
10,807
التفاعل
6,997 5 0
logo_03.png




16 ساعة .. مهمة في كرم تسور


(الحلقة الأولى)


CF82A507C.jpg



المجد - خاص




8/6/2002م ... اليوم هو السبت، الساعة الآن تقترب من الثامنة مساءً، بتوقيت مدينة خليل الرحمن، بدأ السكون يعمّ منطقة دائرة السير، فأصحاب المحلات يلملمون بقايا أشيائهم المبعثرة، بعضهم أغلق محله قبل أن يأذن النهار لشمسه بالمغيب، والمكان يميل إلى الهدوء، فالمارة خفت أقدامهم، والسيارات هجعت منهكة من زحمة النهار، والناس كما الشمس أفلوا، والكل يغادر المكان، ووحدي القادم إليه، أبحث فيه عن نقطة...


كنت قد تلقّيت رسالة محكمة الإغلاق، يوم الأحد الماضي، خبرت فيها أن "موعدنا اليوم الساعة التاسعة مساءً لاجتماع مهم، ستحضر سيارة سوداء تنقلك إلى مقر الاجتماع من أمام السهل الأخضر". تجهّزت جيدا، واتبعت التعليمات المفصّلة في الرسالة، وعلى الموعد بالتمام، وصلت السيارة، فصعدت فيها، ولكن هذه المرة ليست كسابقاتها، فقد تحدث إليَّ السائق بشيء من الحزم، وطلب مني الاستلقاء في المقعد الخلفي، و أن أحرص على عدم مشاهدة أي شيء خارج النافذة، كي لا أتعرف على مسار السيارة، فاستجبت لطلبه، وانطلق كالريح يطوي بنا الطريق طياً، وقد شغل عقلي التفكير، وسيطرت عليَّ فكرة واحدة؛ "هذا الاجتماع هو الاجتماع الأخير، لن نلتقي بعده أبداً".

تهيأت لهذا اليوم من البداية، منذ اليوم الأول، قبل نصف سنة تقريباً، حين التقيت (بمجد) تحت مظلة أشجار الصنوبر في ساحة جامعة الخليل، يومها عرض علي بكل ثقة أن ألتحق بكتائب الشهيد عز الدين القسام، وبحكم العلاقة الجامعية، والصداقة الطويلة العميقة، لم يكن بحاجة إلى الإطناب والإسهاب، فقذفها في قلبي كلماتٍ فجّرت الدهشة وظهرت شظاياها حمرةً في الوجه، وأحدثت فتحة في فمي، صمتُّ لحظة، والفجأة سرّعت من نبضات قلبي، واضطرّبت حركتي، وقد عملت المباغتةُ عملَها، وكأنه لاحظ ذلك كلَّه، فاستدرك قائلا:

ـــ لا تتسرّع! فكّر في الأمر جيداَ، فهذا قرار صعب، سيكون عليك التفكير ملياً ومتى اتخذت القرار فسأحترمه ان سلباً أو إيجاباً.
تركني وحيداً، أقلّب سِفر الماضي، فقد تربيت في أسرة مجاهدة، فأبي من أوائل المنتسبين إلى الكتائب، وكان محضن المطاردين، ومأوى المجاهدين، وأعمامي و أخوالي لهم باع طويلة في الدعوة، و متجذرون فيها، وقد ترعرعت في المسجد منذ كنت برعماً يافعاً، ونشأتُ على حب الإخوان المسلمين، وكبر معي حلم الشهادة والانتساب إلى القسام، فلماذا أضطرّب الآن؟! أهو الشعور الإنساني في طبيعة الإنسان، أم هيبة القسّام في نفسي، أم هي الدنيا تضمني بين ذراعيها، وتخوّفُني الموت، صمتٌ مضطرّب، هربتُ منه إلى مبنى النشاطات الطلابية، حيث أقامت الكتلة الإسلامية معرضها السنوي.

دخلت المعرض وتوجهت من زاوية الكتب العلمية إلى باحة الشهداء، هزّني وقار المكان، وخشعَتْ لأنفاس البطولة نفسي، وجمعَتْ شتاتَ قلبي صورُ الراحلين، فهذه صور عماد عقل والعياش تتوسّط القبّة، وعن اليمين تزاحمت صور القادة العظماء، وعن الشمال تألقت وجوه الجند الأوفياء، هذا محمد عزيز، وجهاد غلمة، وطاهر قفيشة، وإياد أبو حديد.... وغيرهم وغيرهم، كلهم ينطق عن لسان واحد: "هذا سبيلي؛ إن صدقتَ محبّتي فاحمل سلاحي".

رعشةٌ دبّت في حنايا الروح، ويقظةٌ سرتْ في أوصالي، صمتٌ يتكلّم، وصورٌ تحكي روعة الاستشهاد، شدّني شِلوٌ ممزّق فاقتربت منه، جسدٌ تخفّت معالمُه الحسناء، وملابسُ محترقة، استبدلَتْ عطراً بعطر، مسكاً بدم!! كُتبَ عليها جثمان الشهيد (أكرم الأطرش).
اغرورقت عيني بالدموع، وطارت من قلبي الدنيا، وهمدت لذاتها، هذا الجثمان لطالما صدح بالحق صوتُه، وباليقين قلبُه، إنه الكفيف الأعمى الذي أبى إلا حملَ الراية، وتصدّر الصفوف المجاهدة، وقد كانت تكفيه النية مع قوله تعالى "ليس على الأعمى حرج"، واريتُ نفسي عن الناس حياءً وقد غافلتني دمعة شوق فهملت! وخرجتُ من المبنى أبحث عن قدَري!

التقيتُ (بمجد)، في ساحة المبنى الرئيسي، وبكل ثقة أجبته "على بركة الله"، فأحسست بفرحه، لكن المسؤولية فرضت عليه أن يبصّرني بالعاقبة قائلاً:

ـــ لا بدّ من أنك تعرف نتيجة قرارك، هذه طريق معبّدة بالدم والأشلاء، قد تستشهد ويتأذى أهلك، ويُهدم بيتك، وقد تُسجن، أو تصاب بإعاقة دائمة!!

ـــ نعم، وقد يحدث ذلك كله وأنا جالس في بيتي!
لم يمضِ من ساعتها يومان حتى لقيني حاملاً رسالة مقفلة، محكمة الإغلاق، سلّمنيها قائلا: "هذه لك ولا أعرف ما فيها، فأنا مجرد رسول، اقرأها بتمعّن ونفّذ ما فيها حرفياً".

فتحتُ الرسالة وكان مكتوبٌ فيها...." الى اللقاء في الجزء الثاني "

بقلم الأسير المحرر / علي عصافرة

 
رد: 16 ساعة .. مهمة في كرم تسور



16 ساعة .. مهمة في كرم تسور

(الحلقة الثانية)


DCB49997F.jpg


المجد- خاص
توقّفت السيارة فجأةً، فهمسَ السائق لي: "أبا قتادة، قد وصلنا، عليك الانتظار قليلاً بعد نزولي من السيارة، خمس دقائق مضت، ثم فُتحَ الباب، وكان الظلام دامساً، سترَ بحلكته المباني، وحجبَ عني عورة المكان، فلم أرَ إلا شرفة البيت الذي وقفنا أمامه، انتزع أحدهم مفتاح غرفة جانبية قرب المنزل الكبير، فدخلتُها وحدي، ثم أغلق الباب.

تسمّرت مكاني، فقد كانت غرفة موحشةً أشبه ما تكون بالقبر رائحةً وظلمة، وفتح الباب مرة أخرى، وسرى النور في أرجاء الغرفة، ووقعت عيني على طاولة حُفّت بمقاعد خمسة، وواجهة زيّنتها الراية الخضراء، وقطع من السلاح اتّكأت على الحائط، كأنها تحرس المكان!

اقتحم عليّ الغرفة أربعةٌ من الرجال مقنّعين، وبلباسهم العسكري، قابلتُهم بالأحضان، واتخذنا مواقعنا، ثم ابتدأَنا أميرُنا بالكلام مفتتحا الجلسة بالحمد والثناء على الله عز وجل، ثم قال:

ـــ نحن اليوم بصدد دراسة العملية، ولكن قبل ذلك، أحب أن تؤكّدَ لنا أبا قتادة، أنك لا زلت مصمّماً على التنفيذ تحت أيِّ ظرفٍ كان؟
... نظرتُ إليه بابتسامة فيها الرضا.
ـــ وهل رأيت مني ما دفعك لهذا السؤال؟
ـــ لا على العكس تماماً، ولكني أحب أن أسمع الإجابة منك واضحة، و الآن!!
ـــ نعم، وبكل سرور.
أومأً لأحد الجالسين، فنهضَ حاملاً في يده شريط فيديو فشغّله وقال: هذه إحدى المغتصَبات، تمّ مراقبتها على مدار شهرين متواصلين، فيها هدفٌ يستحقّ الاقتحام، وما يعنينا اليوم مسار التسلّل إلى الداخل، وأقترحُ أن يكون من هنا... وأشار إلى المنحدر الواقع بين الجبلين، والسبب أن الكاشفات الليلية الماسحة لا تصل إلى هذا المسار.

تجاذبنا الآراء وناقشْنا المقترحات، حتى اقتحم علينا الجلسة خامس، بدا مُجهداً وهو يقول:

ـــ الجيشُ الإسرائيليُّ يجتاح المدينة من منطقة الحاووز الثاني ومنطقة رأس الجورة.
وقفَ أميرُنا فوقفْنا، وقال:
ـــ نبقى على ما قاله أبو أحمد، ونكتفي بهذا القدر من المعلومات، وأنت أبا قتادة تجهَّز، فقد تصلك رسالتنا الأخيرة في أيِّ لحظه، سنضطرّ لاستخدام السيارة لنقل السلاح إلى مكانٍ آمن، لذا عليك مغادرة المكان مترجّلاً، وسيرشدك أبو أحمد إلى مكان تعرفه.

كانت ليلةً موحشة، اضطررتُ فيها للركض مسافةً تزيد على (5) كم، لأصلَ إلى سكن الطلاب الذي هيّأته لمثل هذه الساعة المتأخرة من الليل.
جاء يوم الجمعة حاملاً معه رسالةً مضمونها:

ـــ "أبا قتادة؛ موعدنا يوم السبت الساعة الثامنة مساءً عند دائرة السير، أمام إشارة رُسمَ عليها الكفّ، قبل الموعد بساعتين، اكتب وصيتك الأخيرة، والسلام".

مضى السبت على عجل، كان طبيعياً جدّا، داومتُ في الجامعة حتى الساعة الخامسة مساءً، ولم أودّع أحداً، ولو بالنظرات الأخيرة.
وجدتُ الإشارة في دائرة السير، وعلى الموعد تماماُ، كما عوّدوني على الانضباط، وصلَت السيارة فركبتُها، تحدّث إليَّ السائق وقال:

ــ جرى تعديلٌ على الخطة، سنتجوّل في المدينة قليلاً فاحرص على الاختفاء.
سار بنا على عجل، حتى حمل معنا رابعاً، أجلسه بجانبي ثم انطلق يقتحم الليل، ويقطع الطريق الواصل بين الدارين، ولعل حجاب الليل هذا هو البرزخ الفاصل بين الحياتين، أستعرض الدنيا كما يستعرضها عجوز لبس العمائم الثلاث، على عجل بطيء من محركات السنين، فما يخلّفه وراء ظهره من أمسه لا يعود، أما أنا فأنتقل من الأمس إلى اليوم بسرعة محرّكات السيارة، والشبر الذي يمضي لعلي لا أراه بعد اللحظة أبداً.

وكأني سمعت صوتاً يناديني من ضمير الغيب، أيها المسافر تهيّأ للرحيل، فقد بدأت مسيرة الخلود، واقتربت ساعة الصفر، فجدّد عزيمتك، وتحسّس ختم الإخلاص، فقد بدأت رحلة الاستشهاد.

اختفت كل الذكريات، إلا صور اللقاءات الإخوانية، وأيام التدريب، والرسالة الأولى التي استلمتها من مجد، كانت فاتحة الخير ومفتاح العبور إلى العملية، أذكر جيدا شكل مفرداتها وهي تنضح بالقوة والجدّية:

"بسم الله الرحمن الرحيم. وبعد، غداً الساعة السادسة صباحاً، قف أمام مسجد الأنصار لابساً معطفاً، حاملاً في يدك اليمين حقيبةً شفّافة، فيها مجلّة، وانتظر سيارةً سوداء، نعطيك إشارة ضوئية مكرّرة ثلاث مرات، اركب في المقعد الخلفي، ولا تبدأ أحداً بالحديث حتى يتحدث إليك. والسلام. إخوانك في القيادة".

تجهزت للقائي الأول، وما أبصرت هدفه ومقصده ولا وجهته، بحثت طول اليوم عن إجابة للسؤال، لماذا؟؟ خطرت لي جميع الخواطر إلا أن أساق إلى منطقة جبلية وعرة مع سائق ومرافق، وقفا بنا على رأسٍ منحدر إلى واد معمّر ذي زرع، نزل المرافق من السيارة وأذن لي فنزلت، وفتح الصندوق الخلفي، وطلب مساعدتي في إنزال حقيبتين ثقيلتين وكبيرتين، خفق لهما قلبي وثقل بهما عقلي....

انصرف السائق، وانحدرنا إلى أسفل الوادي، ثم دخلنا مغارة قد ضُيّقَ بابُها بأكوام الحجارة، جلستُ مترقّباً، في حين أخذ يفتح الحقائب، حتى استوى كل ما فيها على الأرض، وقد غمرتني الدهشة، وملكتني الحيرة، وغرقتُ في جملة من التساؤلات السريعة، والخواطر المهيبة، فهربتُ إلى ابتسامة جافّة بادلنيها صاحبي واستقر في جلسته وقد تكلم:

ـــ أهلاً بك أبا قتادة! أعرّفك بنفسي، أخوك أبو إسلام، مدرّبك وملازمك حتى تتقن مهمتك، الوقت متأخر، وعلينا المغادرة بعد نصف ساعة، لذا سنجفّف منابع الكلام وندلف في منابع العمل، هل لك تجربة سابقة مع السلاح؟
ـــ أبداً، على الإطلاق!!
ـــ إذن، سنبدأ من الصفر، فتعاون معي بانتباهك.
ثم درج يفصّل لي تركيبة القطع الملقاة على الأرض، وختمت الجلسة باستخدام قطعة (كلاشنكوف)، كان شعورا دافئاً، مفعماً بالحب، ثم توالت اللقاءات بعد ذلك، وكنتُ في كل مرةٍ أرى الفرحة تتدفّق من عيون مدرّبي على سرعة التلقّي والتنفيذ.

وازدادت حماستي مع الأيام، وانفجرت نفسي بالرغبة العارمة، بالتقدّم خطوةً أخرى للأمام، على الرغم من الصعاب التي تواجهني في التوفيق بين الدراسة والعمل، وفي اضطراري للانتقال من القرية للمدينة في وقت مبكر جداً تنقطع فيه المواصلات، ثم اضطراري للمبيت أحياناً خارج البيت، والتأخر عن مواعيد الإخوان، والعمل الحركي داخل القرية، وفوق هذا مسؤولية الكتلة الإسلامية والعمل النقابي داخل الجامعة، كانت من أكبر المهام المؤرِّقة والمستنفِذة للوقت والجهد، كانت أياما مرهقةً ومثبّطة، لولا الحب ومتعة الفناء في خدمة الدعوة.

واستمرت اللقاءات المتتالية، إلى أن كان اللقاء الأخير في التدريب، كان يوما مميزاً، وفيصلياً حاسماً جرى على غير العادة....
هذه الذكريات آنستني وزوّدتني بالثقة على طول الطريق التي أوصلتنا إلى منطقة موحشة، على بوابة أحراش كثيفة... قاربت الساعة على 9:30 مساءً.

نزلنا من السيارة أربعتُنا، وتعاونّا على حمل الحقائب، وانطلقنا بمحاذاة الأشجار، استقبل وجهةً لا أعرفها حتى أشرفنا من رأس الجبل على قمة مقابلة يفصل بيننا وبينها وادٍ سحيق مظلم، كانت القمة مزدحمة بكشافات المغتصبة التي لم أتعرف عليها بعد، ولم أطلع على خطة التنفيذ باستثناء ما رأيته على الشريط المصور، إلا أن الثقة بالقيادة والتجربة العملية أيام التدريب، والقدرة على الاتصال على مدار الأشهر الماضية، كل ذلك منحني الطمأنينة لخوض الخطوات التي يقرّونها.

بعد سيرٍ مجهِد، قام احدهم بإصدار صوت يشبه (مواء) القط فسمعْنا عليه رداً من مكان قريب، توجّهنا نحو الصوت، ودخلنا أرضاً مفروشةً بالعنب، كان فيها أميرُنا وصاحبه، إنهم هم الأربعة في الاجتماع الأخير، تعانقنا ثم تحلّقنا مباشرةً، وابتدأتُ قائلاً: "لم أصلِّ العشاء!". فقام معي من رافقني في السيارة فصلّينا ثم رجعنا إلى جلستنا، وقد هُـيِّئ فراشان، رُكّبت عليها القطع ونُثرت فوقها المعدّات، وانطلق أميرنا في الحديث:

ـــ الأخ أبو إسلام، كيف ترى أبا قتادة؟
ـــ أثقُ به وأراه قادراً على التنفيذ.
ـــ ما رأيك أبا قتادة؟
ـــ عزيمتي قوية، أما قدراتي فهذه عند مدرّبي.
ـــ وأنت أبا أحمد؟
ـــ أحضرتُ المعدّات، بيدَ أني نسيتُ الكفوف مع السرعة وضيق الوقت.
ـــ قدّرَ الله وما شاء فعل.

قام مدربي، و أخذ أحدهم بيد مرافقي، فقال أبو إسلام:
ـــ أنظر بهذا المنظار، "وكان منصوبا أعلى السلسلة يرصد ويكشف المغتصبة في الجبل المقابل"،

ثم تابع: أترى تلك ... تابعونا (الحلقة الثالثة)
 
رد: 16 ساعة .. مهمة في كرم تسور



16 ساعة .. مهمة في كرم تسور

(الحلقة الثالثة)

A76BA6505.jpg


المجد - خاص
أنظر بهذا المنظار، "وكان منصوبا أعلى السلسلة يرصد ويكشف المغتصبة في الجبل المقابل"، ثم تابع: أترى البيت المميَّز باللون البنّي والبرج المثبّت في رأسه إضاءة حمراء؟ قلت: نعم، قال: أترى تقاطع الشارع أمام البيت والجنديّين أمامه؟ قلت: نعم. قال: هذان للحراسة الليلية لا يفارقان المكان ويلازمان باب البيت فاحفظ الصورة جيداً.

عُدنا للجلسةِ فقال الأمير:
البيتُ هو هدفنا، بعد الرصد نتوقع أنه استراحة للجنود الصهاينة، يدخله كل ليلة من خمسة عشر إلى عشرين جندياً، عليكم أن لا تنشغلوا بشيء قبل الاقتحام مهما حدث، ولو تسنّت لكم أهدف أخرى، فإن أصبتم الهدف، فلكم حرية اتخاذ القرار من بعد، واعلموا أنكم استشهاديّون، فلا رجعة بعد، إلا ما خرج عن الإرادة. ساعةُ الاقتحام: الساعة الثانية صباحاً، الخطة البديلة في حال فشلت العملية وقررتم الرجوع؛ كل واحد سيحمل رقماً لهاتف نقّال مشفَّر، استخدماه عند الضرورة القصوى فقط، وهذه بطاقة اتصال لهاتف عمومي، فإذا اتصلتما فأوجزا الفكرة في أقل من خمس عشرة ثانية. هل هناك استفسار؟؟ صمتْنا جميعاً، فأكمل: أبا قتادة، سيشاركك المهمة أبو القسّام، يكفيك أن تعرف كنيته، وإياكما أن يدفعكما الفضول للتعارف أكثر من ذلك، أمامكما مشوار طويل فتجهّزا.

أخذ أبو القسّام بإعدادي، فلبستُ الِّلباس العسكري، وجعبةً كانت مجهَّزة بكل ما يلزم، ثم سلّمني بندقيةً من نوع (كلاشنكوف) كانت قد لازمتني في جميع مراحل التدريب، وتجهّز صاحبي أيضاً.

هممْنا بالوداع، فاصطففْنا، وتولّت حرارة العناق فصل الخطاب فمضوا بالألم، ودلفنا بشوق، كانت الساعة تحوم في العاشرة والنصف ليلاً، كان الثوب الأسود يغطّي عورة الوادي، ولا أكاد أبصر خطوتي، والصمت يزيد الأمر تعقيداً، وهذا الذي لا أعرفه، من يكون، ومن أي كوكب نزل؟ يبدو أنه كبير في السن، لحيته لا تكاد تبين، ومع هذا فهي أطول من شعر رأسه، كنت أفكر في حديث آنس به، لأحمله ويحملني، فهذا الغموض قطعةٌ مركّبة من الليل، هممتُ أن ابتدأه، لكنه ابتدأني بالحديث:

ـــ مشوارٌ طويل.
ـــ نعم، معبّدةٌ بالأشواك والصخور، وشديدةُ الانحدار.
ـــ علينا السير بحذر، فنحن غرباء عن المكان.
ـــ ألا تعرف شيئاً عن مسارنا؟ وموقعنا؟ المنطقة مظلمة وأجهل مكاننا تماماً.

ـــ كلا!! ولكن أترى عن يمينك تلك الأنوار الخافتة البعيدة هناك.
ـــ نعم: أراها بصعوبة.
ـــ تلك بلدة حلحول، وعن الشمال خلف الجبل بلدة (بيت أمّر)، وهي أقرب للمغتصبة من حلحول.
ـــ فقلت:
ـــ أحبُّ أن أتعرف إليك، ولكن!!
ـــ لا عليك، قد نتعرّف على بعضنا قريباً ولكن على الأرائك!
ابتسمتُ! وقد أسهب في الحديث عن الجنة، نعم، الجنة، فهي النسب الوحيد الذي يجمعني به في هذا المكان المظلم، وهي الحلقة الأجمل التي تؤلّف النفوس المؤمنة في أواصر إخوانية أعزُّ من رابطة القربى، سرّى عني وحملَني و حملته، ثم قال:

ـــ أتحفظ شيئاً من النشيد؟
ـــ نعم.
ـــ هات، أسمعني.
ـــ فرحتُ أنشدُ له رائعةَ المجلة الإسلامية.
النورُ ملءُ عيونـــــــــــي والحورُ مِلكُ يمينــــــــي
وكالملاكِ أغنّـــــــــــــــي في جنةٍ وعيونــــــــــــي
فسعد وطرب، وكسر حاجزاً من حواجز الرهبة التي أقامها المجهول، وضاعفَها عدم معرفتي به، فقال: زدني، فأنشدتُ لأبي راتب شهيرتَه:
ماضٍ، وأعرفُ ما دربي وما هدفي ... والمــوت يرقص لي في كلِّ منعطفِ
مضيت وكأني لم أعش من قبل يوماً، فلا ماضي ولا ذكريات، فقط عينٌ ترنو إلى المغتصبة، ونفسٌ تتوق إلى الجنة، وقبضةٌ تطمع أن تنال من المحتل، وقد أخذت المغتصبة بالاقتراب شيئاً فشيئاً، هي تريني أسلاكاً ودروعاً وكاشفات، كأنّها قلعةٌ محصَّنة، وأنا لا أراها إلا مصعدَ العروج إلى الجنة، وكل همي أن يسدّد الله رميَنا ويحقّق هدفَنا.

وصلْنا الخطَّ المتوسّط بين الجبلين والذي سنتّخذه مساراً للصعود، فجلسْنا في ظل صخرة وقد أجهدَنا تعنّت الجبل، وحِدّة منحدراته، وقسوة طِباعه، كان الليل قد انتصف واحلولك، في بطن الوادي الموحش.

سألتُ صاحبي:
ـــ كان يبدو عليك التعب الشديد، وكنت تكثر من الاستراحة، فماذا دهاك؟
قال: قل: آمين!
فقلت: آمين!
فقال: حرمه الله عافيته من حرمَني عافيتي وأعاق سيري إلى الله.
لم أفهم مقصده، ولم أعرف قصّته، غير أن الألم يعتصر قلبه، وفاض الأسى والحزن من كلماته، ثم استلقى، فاستأذنته لأقضي وِتراً من ركعتين خفيفتين، فأذن لي.
مضت نصف ساعة قبل رجوعي إليه، فوجدته في سِنة من النوم، فاتّكأت بجانبه فاستيقظ، وقال:

ـــ يبدو أني غفوت قليلاً.
ـــ من الجيد أن تنام في ساعة كهذه.
ـــ كم مضى من عمرك أبا قتادة؟
ـــ عشرون عاماً! وأنت؟؟
ـــ سأبلغ الأربعينَ قريباً، فاسمع مني أحدّثك.
ـــ تفضّل.
ـــ حين ترجع من العملية....
ـــ قاطعتُه قائلاً: عن أيِّ رجوع تتكلّم؟
ـــ اسمع ولا تقاطع!
ـــ نعم، ولكنّا تعاهدنا على الشهادة معاً أو نرجع معاً، فماذا جدَّ لتخاطبَني كأني راجعٌ وحدي؟! وهل نسيتَ حديث الجنة؟؟
ـــ لا لم أنس... وكأنه غضبَ فقررتُ الإنصات، ودرجَ في الكلام.
ـــ حين ترجع من العملية تنزل من هنا، وأشار إلى خطٍّ في الجبل، تسمع صوتاً كثيفاً من الرّصاص، لا تكترث ولا تلتفت، فقط واصل السير، ولا تعبأ بالإنارات الضوئية، ولا تخف، أنت ترى بنور الله وهم في ظلمات لا يبصرون، وحين تصل الوادي، خذ طريقك من اليمين فإن وصلت البيت فسلّم على زوجتي وأولادي وقل لهم : إني أحبهم كثيراً!

أنهى كلامه فاستراح، غير أن قلبي انقبض، ولفّني همٌّ ثقيل وإحساس بالخوف من المجهول....
انتفضَ من مكانه معلناً أن الساعة قد شارفت على الواحدة بعد منتصف الليل، وقال لي: تهيّأ، علينا أن نصلَ القمّة قبل الساعة الثامنة.
ـــ وقبل أن نصعد قلت له: أحب أن نغيّر المسار.

ـــ ولماذا؟
ـــ بصراحة، أخشى من الاختراق الأمني، فنقع في كمين، مع ثقتي بإخواني.
ـــ وماذا تقترح؟
ـــ أن نصعد من نقطة معاكسة للمسار (180) درجة.
أطرق قليلاً ثم قال: على بركة الله.
غيّرنا اتجاه الصعود، واقتربنا من ساعة الحسم، وما فارقْنا الذكر والدعاء، وحديث الجنة، ومشاهد من سيرة الصحابة، وقد رافقنا ذاك الصحابي الذي تلقّى السهم بصدره، ودمه يثقب منه وهو ينادي "فزت ورب الكعبة"، وخبيب وعاصم وابن أبي رواحة وجعفر، فيحدونا الشوق، ويحثّنا على السير، كانت بذكرهم تشحذ الهمة، وتسمو الروح، ويغشى النفس السكينة والطمأنينة، والرغبة العارمة في اللقاء، كنا نحس بالحنين إليهم، وكأننا نعرفهم جيداً، فهم أحبابُنا، وهوى كل نفس حيث حلَّ حبيبُها.

مضت الساعة مسرعةً، ووصلنا إلى نقطة في ظل صخرة، أسفل الطريق الترابية التي تحيط بالمغتصبة، وقد شُقّت لدوريات الحراسة، كان علينا الانتظار لعشرة دقائق أخرى، نتفحّص المكان، فهذه دقائق خطرة جداً، فإن تجاوزنا الحدود والأسلاك الشائكة، فسيسهل علينا ما بعد ذلك، ثم إن موعدنا لم يحن بعد، صرتُ أهمس همساً خفيفاً: أتعلم أني أحسُّ بالجوع الشديد، فمن الساعة السابعة صباحاً خرجتُ إلى الجامعة ولم أذق طعاًما إلى هذه الساعة! تبسّمَ ابتسامةً كأنها تنطق بلسان الحال، أهذه ساعةٌ يُشتهى فيها الطعام؟ فرفع عن حزامه، وأخذَ بصرّة سوداء فتحَها، ومدَّها إليَّ قائلاً:

ـــ تفضّل، هذه تداوي لسعةَ الجوع وتُخمد ثورته.
مددتُ يدي، وإذا هي حبّات من التمر، تناولت ثلاث حبات، وقدمتها له فأخذ واحدةً يتبصّرها ويقلّبها بين يديه مبتسماً، شدّني تصرّفه، فقلتُ قبل أن أتناول تمرتي:

ـــ مالكَ تقلّبها وتبتسم؟
ـــ أفكّر في ذلك الصحابي الذي رمى التمر في ساحة المعركة.
ـــ تبسمتُ وقلت: وبعد؟
ـــ بماذا سبقَنا الصحابة، ومالنا لا نجاريهم؟
فقلتُ مداعباً: كُلْ.. كُل، أمامك مهمة صعبة، تحتاج فيها للعضلات مع الإيمان، لا وقتَ للعواطف!
نظرَ إليَّ بحزم وقال: بخٍ بخٍ، أما بيني وبين الجنة إلا أن أقتحم تلك الأسلاك، لا آكلها إلا في الجنة شهيداً بإذن الله، بخٍ بخٍ إن عشت حتى آكلها.. إنها لحياةٌ طويلة! ثم أرجعَ التمرات، وإني لأعلم أنه بحاجة إليها فوق حاجتي.
هزّني من الأعماق صدقه، و أحيا فيَّ ثورة شوق عارمة، وأحسست بنفسي تثبُ من المكان فخراً بما صنع، وضع يده على كتفي، وانتصب واقفاً:
ـــ الآن!! أيقظْ كلَّ حواسّك وأرِ الله حُسنَ صنيعك.
شددتُ على يده ومضينا نزحف تارةً ونهرول أخرى، فكانت التوفيقات الربانية لنا بالمرصاد، وإذا مساحةٌ من الأسلاك تهدّمت نتيجة التوسعات الجارية في الطريق وقد دفنت تحت التراب، والكاشف المثبَّت على عمود الكهرباء قد عشعشت فيه الطيور فوفر لنا حجاباً من العتمة ساترا، والموقع مستور عن برج المراقبة. ولو قُدّر لنا أن نصعد من المسار الأول لما وجدنا من هذا شيئاً.
تسمّرنا في المكان لدقائق، نتفحّص فيه الأجواء، كان الهدوء مسيطراّ، والصمت متمكّناً من كل حي، والليل يخفي تحته الأسرار، أشار لي بمراقبة البرج، وحماية ظهره، وإسناده، فتقدم ووثب، فلحقته، وهكذا سرنا باجتياز البيوت نسرق المسافات، خفية وبخفّة وحذر، يسندني وأسنده، ويلحقني وألحقه، حتى وصلنا إلى أقرب بيت لا يبعد عن هدفنا عشرة أمتار، كنا نرى الحارسين بوضوح شديد، كانت الساعة تمام الثانية صباحاً.
دقيقةُ صمتٍ ساكنة في ظل البيت، تخطّفتني الوحشة من كل جانب، عشرة أمتار هي المسافة الفاصلة بين الحياة والموت..
الى اللقاء في الجزء الاكثر اثارة ... الحلقة الرابعة ..

 
رد: 16 ساعة .. مهمة في كرم تسور



مهمة في كرم تسور .. ماذا يوجد في البيت

(الحلقة الرابعة)


62A386B62.jpg



المجد- خاص
عشرة أمتار هي المسافة الفاصلة بين الحياة والموت، قلّبت صفحة الذكريات، وإذا الدنيا بهزلها وجدّها وأفراحها وأتراحها تمرّ من ذاكرتي بسرعة رصاصة تنطلق في عشرة أمتار.

لم يتجاوز عقرب الدقائق خطوتين حتى انحدرت سيّارتان وحطّتا أمام المبنى، عند الحارسين. تسارعتْ نبضاتُ قلبي، وأحسستُ أن هناك خطأً ما، هاتان السيّارتان لم يأتِ على ذكرهما الرّاصد، التفتَ إليَّ صاحبي مستنكراً، أحرّك شفتي بهمس لا يُسمع، فالمسافةُ قريبة، وكلمةٌ مسموعةٌ تعني رصاصةً قاتلة، وكأنّه فهم ما رميتُ إليه، أو لعله كان يفكّر بمثل ما أفكر به، فهمس بكلمتين وسقطت الثالثة في ممر الهواء بين فمه وسمعي: "هناك دائما مفاجآت!".

جلس الستة الصهاينة على كراسيهم مدجّجين بالسلاح، وأحضر سابعهم شراباً، أدركْنا أن الجلسة قد تطول، فأسندْنا ظهورَنا للحائط، وجلسنا على الأرض، ومرَّ بخاطري صوتُ مدرّبي وهو يقول: "الجندي الجيّد هو الذي يتوقع الأسوأ"، كان هذا في آخر لقاء تدريبي، قبلها بيوم وصلتني رسالة مميزة بمضمونها، لم أعهد مثلها قط، كان مما كُتب فيها: "أحضر معك لباسك العسكري و لثاماً، وحين تصل موقعك المعتاد، سيتركك مرافقك، تصرّف بسرعة، بدّل ملابسك، وتلثّم، وافتح الحقيبة السوداء وترقّب".
أخذت الخيالات من عقلي كلَّ مأخذ، ومحت يومي توهّمات لم يقع منها شيء، وجاء الغد بالخبر اليقين، وكانت حقائقه تزخر بتخوّفات الأمس، بدّلت ملابسي، وتلثّمت، وتناولت من الحقيبة السوداء أل (إم 16) المفكَّكة، فركّبتُها حتى أصبحت جاهزةً لأيِّ طارئ، اتخذتُ ساتراً وترقّبت بحذر، و إذا بملثّمان ومدرّبي يقتحمون المكان مسلّحين، فرددت التحية بالعناق، فقال أبو إسلام:

- سنجري لك اختباراً لعملية اقتحام وهمية، فكن عند ثقتي بك، لم أكن يومها أعلم أنني أجهّز للعملية، ولم نكن نعدّ لها بعد، فقلت متسائلاً:
ــ إن شاء الله، ولكن لِمَ هذا الاختبار؟
ــ سأُعلمكَ لاحقا، أما الآن فخذ هذه المخازن الثلاثة، وانظر عن يمينك أعلى التلة، هناك، وضعت لك شارة، صوِّب نحوها بعشر رصاصات فقط، ثم انطلق متسلِّلا من جهة اليمين بمحاذاة الصخور حتى تصل بعد قطعتين من الأرض إلى أرض مشجَّرة على بعض أشجارها شارات، تخيل أنك تقتحم موقعاً وهذه الشارات أهداف أمامك، عليك إصابتها جميعاً، تصرف بحكمة وذكاء، ونحن سنراقبك في كل خطواتك من الجهة المقابلة، أنجز مهمتك، وسنلتقي هنا في نفس المكان.

كان يوماً ممتعاً، شعرت فيه بالإنجاز لما رأيت الرضا في ابتسامة مدربي وقد اجتزت الاختبار بامتياز!
وكزَني أبو القسام بيده، وكأنه علم أني خارج المكان والزمان، فأرادني أن أبقى معه، فهمس: طال مكوثهم أكثر مما توقعت.
تنهدت بأنفاس كتمها الوقت، الدقيقة تمر كأنها نفس يتعثر في صدر رجل يحتضر، لم أكن قبل هذه الدقائق أُدركُ حقيقة أن الوقت هو الحياة! الصمتُ مُطبِق، والسكون عمَّ وطمّ، كانت حركة الحياة قد توقفت إلا مجرى الدم في العروق وصوت القلب النابض وخزّان الأعصاب الذي أوشك أن ينفجر. كانت قدمي تتحرك وكأنها غاضبة تصرخ بي: "تحرّك! لقد أيستُ من الانتظار"، والرشاش يكاد أن يفرّ من يدي محتجّاً: "لقد ضجرتُ من الصمت". كل شيء فيَّ يحتج عليَّ، إلا عقلي؛ كان يقول لي تصبَّر، لا تتهوَّر، ألم تسمع ما قاله أميرُك، لا تشتبك مع أحد قبل اقتحام الهدف، لا تفسد خطّتك بقلة الصبر. وكأني أقول له: "ولكن المكان خَطِر، وقد ننكشف في أي لحظة، والوقت عدوُّنا وليس في صالحنا".

أما صاحبي فمرة يجلس، ومرة يرصد حركة الجنود، وكأني به يفرُّ من ضجر إلى ضجر، ويشعر بكل ما أشعر به، مرّت نصف ساعة، بل ثماني مئة وألف ثانية، كل ثانية بيوم!!
أخذ الجنود بالتحرك، وانصرفوا مخلِّفِينَ الحارسَينِ مدرَّعَين بالحديد، مدجَّجَينِ بالسلاح، وكأنهما مستعدان للحرب! اغتنمنا فرصة تمشِّيهما بعكس تواجدنا، فتسلّلنا بحذر حتى وصلنا الهدف واتخذنا ناحيةً منه؛ على بعد خمسة أمتار من مدخله، حيث الجنديّان على مقعديهما خلف ساتر.
هذه اللحظة كنا نرومُها منذ البداية، تباحثنا فيها طوال الطرق دون نتيجة، فقد كانت الصورة ضبابية، أما الآن فقد اتّضحت الرؤية، وبدا الأمر أصعب مما توقعنا، إذ كيف لنا أن نقتحم الموقع ونباغته دون الاشتباك مع الحارسين، وإطلاق النار يعني استيقاظ الجنود داخل المبنى، وخطأ رصاصة واحدة في التصويب يعني فشل العملية.

أخذ الحارسان بالاختفاء للحظات ثم الظهور، وأخذتُ وأبو القسّام نضع (سيناريو) سريعا للدخول للموقع، كان مما اقترحتُه ساعتها، أن استغلَّ لحظة اختفائهما فأنقضَّ على الجنود في الداخل ويتبنّى صاحبي قتل الحارسين في حال اندفاعهما للمساندة، لكن هذا لم يقنع أبا القسام.
بدأتُ أفقدُ أعصابي، وضاق بي المكان، وصرتُ أحسب على الساعة مدة غياب الجنديِّين، فوجدتها بين دقيقة وعشر ثوان إلى دقيقة وعشرين ثانية.
وضعَ صاحبي يده على خاصرته وكأنه يتألم ثم قال: "أحتاج لشربة ماء". لم أكن أعلم أنه يعاني من التهابات حادة في الكِلى، فقلت له: تناول قنية الماء الموجودة على ظهري.

أخرجَها لكنها كانت فارغة. قلت في نفسي هذه فرصة جيدة لتنفيذ خطتي في الاقتحام، نظرت إليه وقلت: سأحضر لك الماء! همَّ الجنود بالتحرك كالعادة فأشرتُ إليه:
- احمِ ظهري!
- ولكن ما الذي تفعله؟
- لا عليك، فقط احمِ ظهري.
تحرّكَ الجنديّان وتحركتُ بسرعة وخفّة بمحاذاة الجدار الأمامي للبيت، كنت أقترب من الباب المفتوح، لا وقت للتفكير، لا وقت للحسابات، لا تستطيع إلا أن تندفع باتجاه الداخل ويدك على الزناد، اقتحمتُ الهدف بحواسّي الخمس، كانت الصدمة بالمرصاد وعيني لا تصدّق ما ترى!.

الى اللقاء في الجزء الخامس بعونه تعالى

 
رد: 16 ساعة .. مهمة في كرم تسور



16 ساعة .. عملية في كرم تسور (الحلقة الخامسة)

88F13EFA5.jpg


المجد- خاص
اقتحمتُ الهدف بحواسّي الخمس، كانت الصدمة بالمرصاد وعيني لا تصدّق ما ترى!
ليس هذا ما خرجْنا إليه، لم نقطع كل هذه المسافات الطويلة، ولم نضيّع فرصة قنص الجنود لنقتحم مركزا يهودياً فارغاً إلا من المقاعد ومكتبة زجاجية احتوت كتباً وسجّلات. تحركتُ بسرعة نحو دورة المياه، لا أحد، كل شيء فكّرْنا فيه ليس إلا وهماً كبيراً، أشياء من اختراع العقل الخيالي. تحركتُ بسرعة نحو المطبخ، لا أحد، لا أحد إلا الماء الذي أبحث عنه، شربتُ بسرعة وملأتُ القنينة وانسحبتُ كالبرق، ووصلتُ لصاحبي، وعاد الجنود إلى مقاعدهم في نفس اللحظة.

- ماذا حدث؟
- اشربَ الماء.
- لم تطلق النار.
- على من.
- على الجنود.
- تقصد على المقاعد الفارغة.
- ماذا تقول؟
- هذا مركز يهودي، وليس استراحة جنود كما أُعلِمْنا!
- ماذا يعني هذا؟
- يعني فشل العملية.
وضع يده على رأسه وأسندت ظهري على الجدار مشتَّت العقل مشوَّش التفكير، ثم شرب الماء، وقال: يجب أن لا نضيِّع فرصة قنص الجنود.
في هذه الأثناء سمعتُ صوتا من ركام الليل الأسود يصيح بنا منادياً: من هناك؟ فالتفتنا باتجاه الصوت لا نرى أحداً، جلستُ على ركبتي، وصوَّبتُ سلاحي باتجاه العتمة الناطقة. تردَّد النداء مرات متقطعة، يبدو أن صوت الجدل كان مرتفعاً فكُشف أمرُنا، والصوت يتكرّر في إصرار.

- من هناك، وكلمات بالعبرية لم أفهمْها.
لكني سمعتُ أقسام سلاح تُسحب، فعلمتُ أن الأمر جِدُّ خطير، وضع صاحبي يده اليسرى على كتفي، فأطلقنا الرصاص باتجاه الصوت، فسمعنا صراخاً وعويلاً، فقال:
ــ الآن بدأنا، الحق بالجنديين وأنا سأقتحم البيوت وأمشّط المنطقة العلوية ثم نلتقي هنا في نفس المكان.

انحدرتُ خلف الحارسين أبحثُ عنهما ولكني لم أرهما إلا مرة واحدة وهما يهربان من المنطقة باتجاه الوادي فاختفيا، قلت لنفسي، هذا مضيعةٌ للوقت، فعدتُ من الطريق التي نزلت
وقفتُ أمام المركز وبودّي أضرم فيه النار لأخفي فيه معالم الفشل، كنتُ أقول لصاحبي ونحن في طريقنا: "أحب أن أستشهد ولكن بثمن، أن ألقى الله يدي مخضّبة بدم اليهود، أما أن تذهب نفسي سدىً فهذا ما لا أُطيق التفكير فيه، أن نَقتل لا أقلَّ من واحد بواحد".

سمعتُ صوتاً من خلفي مرتبكاً فيه رجفةُ الخوف وهزّة الرعب، التفتُّ التفاتةً خاطفةً وإصبعي على الزناد، كان خيالاً سارياً خرَّ برصاصةٍ لم تمهله حتى يختفي، تحركتُ باتجاهه، كان مسجَّىً على بطنه نصف ميت! فأجهزتُ عليه ليدفع ضريبة اغتصابه لأرضنا، كل نفَسٍ استنشقه من روابيها هو من مُلْكنا، هو اختار أن يكون محتلاً وأنا اخترت أن أكون حراً، وعليه أن يؤدي ضريبة خياراته وعليَّ أن أؤدّي حق حريتي. كانت عن يمينه قطعة سلاح من نوع (جليلو).

جلبةٌ وحركةٌ من بيت مجاور، اتخذتُ ساتراً، فأطلق باتجاهي النار، كمنتُ ولم أحرِّكْ ساكناً، تبينتُ الهدف، وحددتُ موقعه، فأطلقت الرصاص متتالياً، فهمدَ ولم يبدِ حياة، أو جذوةً من حياة، توجهتُ نحوه فإذا هي مجندة في يدها (إم 16) طويلة.

برزَ أبو القسام من عتمة الليل، وقد بدت علية ابتسامة خفيفة. فبادرني بالثناء ثم قال:
ـ الآن واحد بواحد.
ـ أجل، ولكن أين ذهبت؟
ـ اقتحمتُ معظم البيوت في المنطقة العلوية لكنها كانت فارغة.
تناولنا قطع السلاح عن الأرض واتجهنا إلى الناحية الشمالية، اقتحمْنا بعض البيوت، إلا أنها كانت فارغةً أيضاً.

كان هذا الحي من المغتصبة قد أُقيم حديثاً كما علمتُ فيما بعد، وهو متطرّف من المجمّعات السكنية ومركز الحركة والحياة، وبينما نحن على بعد أمتار من الشارع الموصل إلى البوابة الرئيسة، إذ تقدَّمتْ منا دوريّتان عسكريّتان، الأولى سيارة إسعاف للجيش، والثانية جيب عسكري مصفَّح ضدّ الرصاص، تقدمنا ببطء وحذر شديدَين، أشار عليَّ ساعتها:

ــ دعنا نتخذ موقعنا، نتحصّن به، فلا شكَّ أن وحدات الجيش ستأتي للمساندة.
ــ وأين تقترح؟
ــ هناك، وأشار إلى بيت قريب من ملتقى الطريق مسند من الجانبين ببيتين، فكأن هذا البيت قد تحصّنَ بهما.

أخذتُ زاويةً وتمترس صاحبي بالزاوية الأخرى، وكثَّفت الوحداتُ الخاصة وقواتٌ من الجيش تواجدَها، دلَّتنا عليهم أضواء السيارات وحجم الرصاص المنصبّ علينا، فالليل حدَّ من وضوح الرؤية على مسافات قريبة.
استدعاني أبو القسام، وكنتُ قد لمحتُ جيباً عسكرياً مسرعاً يتجه إلى ناحيته على بعد مئة متر تقريباً، جلستُ بجانبه نرصد تحرك السيارة، حتى وقفتْ تحت ضوء عمود للكهرباء. فسألني:

ــ أتجيدُ القنص؟
ــ قليلاً.
ــ جيد، راقب حركة السائق حتى يفتح الباب، ومتى تمكنتَ منه؛ أطلقْ عليه النار، وسأرصد أنا حركة الجنود في الباب الخلفي، لا تطلق النار قبل أن تعطي إشارة البدء.

دقيقة، دقيقتان، ثلاث دقائق مرت، بطيئة جداً، وفُتح البابُ الخلفيُّ للجيب، ثم نزل الجندي الأول خائفاً يترقب، فهمسَ صاحبي: لا تطلق النار وراقب السائق جيداً. ثم تبعه الثاني و عيني ترصد بحذر، وكلُّ جوارحي تترقّب فتح الباب، ونزل الثالث وأبو القسام لا يكفُّ عن التوجيه والتحذير: إياك أن تخطىء السائق. وها قد تبعهم الرابع يتلفّت، ثم تناولوا الجُعبَ العسكرية، وفُتحَ الباب ونزل السائق ببطء شديد حتى استوى على الأرض واقفاً، وأصبحَ في المرمى.

- الآن... فأرديتُ السائق على الأرض وأردى أبو القسام الأربعةَ وعلا الصُّراخ والعويل... فقال:

- سنحاصر المصابين بالرصاص ونمنع عنهم المساعدة والإسناد، فمن كانت إصابتُه خطيرةً منهم مات.

وتمَّ ذلك بالفعل، فقد حاول مجموعةٌ من الجنود الوصول إليهم، فوقعت بيننا وبينهم مواجهةٌ عنيفةٌ ردّتْهم خائبين، ثم استعانوا بجيب آخر، ولكنَّ منطقتَهم المكشوفة لنا حالت دون وصوله، حتى وصلت ناقلة جنود مصفَّحة، اتّخذوها درعاً واقياً من الرصاص، واحتموا بها إلى أن وصلوا إلى المصابين وانطلق الجيب الجريح مخلِّفا وراءه غيمةً سوداء من غبار الطريق، وعدنا إلى نقطه البداية.

مضت نصف ساعة كأننا وسط أتون من النار، الرصاصُ وقودُه، وسوادُ الليل رمادُه، وصوتُ البنادق كأنه صوت النار تلتهم الحطب. نظر إليَّ أبو القسام قائلاً:

ــ كأني قد أُصبت.
ــ أين؟
ــ في فخذي الأيمن.
ــ تأكَّد!
ــ اشعر بحرارةٍ تسري في فخذي وكأني أحسُّ بدمٍ ينزف.
ــ هذه مشكلة
ــ المشكلة الأكبر أن ذخيرتي نفدت.

على موعد سادس بإذن الله تعالى

 
رد: 16 ساعة .. مهمة في كرم تسور

351736F84.jpg

المجد- خاص

كنت مضطراً لترك الزاوية، فوقفتُ عنده، وتأكّدْنا أنها إصابةٌ خفيفة، فقلتُ له: أحملُ في جعبتي كيسَ رصاص كان قد وضعه أبو أحمد في اللحظات الأخيرة قبل أن نغادر الموقع.

تناولَ الرصاص، وعدتُ إلى زاويتي التي تبعد عنه ثلاثة أمتار فقط، وكان قد أغفلَ زاويتَه ليملأ مخزن الرصاص.

اشتدَّ إطلاق النار، انهال عليَّ من كل ناحية حتى اضطرني للتراجع خطوتين إلى الوراء، صرتُ على بعد خطوة من صاحبي، فالتفتُّ إليه لا أعلم ما صنع، وإذ بجنديٍّ يقتحم علينا من وجهته كلمح البصر أو هو أسرع، كان آخر ما أشعر به تناثر الحصى والتراب في وجهي وكأني قد فقدت وعيي فأُغشي عليَّ بغيبوبة لم تطل.

فتحتُ عيني على هدوء لم أعهده في نصف الساعة الأخيرة، سواد الليل تعبث به الأضواء المتحركة على ظهور السيارات العسكرية، غامرني شعور بالحزن العميق وقلت في نفسي: لم تُكتب لك الشهادة. خَدَرٌ يسري في جانبي الأيمن، وملابسي مصبوغةٌ بالدم، ووجهي وشعري مليء بالتراب والدم أيضاً، لعلي قد أُصبت؟! فجسدي مُثقل، كأنه قد تلقّفَ صخرة خرّتْ من السماء.

رفعتُ جنبي بلطف رفع الواثق أنه قد أصيب، فوقعت عيني على رأس صاحبي وقد أثقل فخذي، حسبتُه في غيبوبة كما كنتُ أنا، كان مسجّىً وهو يحتضن قطعةَ سلاحه كما يحتضن الحبيبُ حبيبَه، فأحببتُ أن أوقظه، فوضعتُ كفي الأيمن على رأسه، فارتجعتْ وعادت مخضَّبةً بالدم؛ لقد استشهد.

انقبضَتْ نفسي، وفاضتْ حزناً على حزن، صرتُ أنظر إليه ثم أردُّ الطرف إلى السماء وهو حسير، كسير، كأني أبصر ابتسامته وهو هازئ من الدنيا يسخر من عقل المتكالبين عليها، أراه وأرى نفسي، وقد تُـقـبِّـل قُربانُه ورُدَّ قُرباني، وقد أصبحتُ وحيداً فريداً على بُعد سلسلة من القيد، لا أرى الدنيا إلا زنزانةً أُغلق بابُها، وأُطفئت أنوارُها.

بدأت أقيّم الوضع من حولي، تفقّدتُ الزاوية الأولى، على بعد عشرة أمتار كان الجنود يتمترسون بناقلة جند مصفَّحة، والمشهد يتكرر عند الزاوية الأخرى، وقع في نفسي أنهم سوف يقبضون علي، فأسندتُ ظهري على الجدار ولساني يبتهل بالدعاء إلى الله أن يجعل لي مخرجاً، ويرزقني الشهادة ويجنّبني الأسر.

الوقت ينفد، ولا حلول ناجعة، ولا مجال لمواصلة الاشتباك، الثواني تمرّ كأنها صخور تتزحزح عن جسد انهارت عليه، وفجأةً وقعَ في نفسي الانسحاب من الموقع، وهذا خاطرٌ لم يقع لي من قبل، فأحسستُ بانشراحٍ في الصدر، وكأن الزنزانة قد أضاءت من جديد.

عزمتُ أمري، وحدّدتُ وجهتي وانطلقت كالسهم، وأنا أردِّد: إلا متحرِّفا لقتال أو متحيِّزا إلى فئة. كانت هذه الآية تواسيني كلما شعرتُ بذنب الانسحاب، فلا أبالي إذن لو كانت الرصاصة في الظهر.

وفي عتمة الليل انزلقت قدمي عن صخرة مرتفعة، فأردتني على الطريق الترابية، وقد ارتطم رأسي بالأرض وسُحقت أصابعي بين الحصى والسلاح، وانطلقت الثلاث رصاصات فلم يعد السلاح بعدها إلا قطعةَ حديد، لا قيمة لها لانعدام الذخيرة؛ فوقعت الكارثةُ الأكبر، وانكشف أمري، ولم أعدْ أسمعُ من حولي إلا صوتَ البنادق تأتي فتفجِّر الصمت!

لم أملك إلا إلقاء نفسي ودحرجتها من القمة نحو الوادي، كجلمودِ صخرٍ حطَّه السّيلُ من علٍ، دحرجةٌ لم تمكّني من الوقوف إلا للحظات متفرقة، حاولت أن أتخلص من الجعبة التي لم يعد لها عمل إلا إعاقتي من الركض المتواصل، وقد سقط السلاح من يدي عنوةً في سفح الجبل المدجَّج بالصخور والأشواك اللافحة.

لا أدري كيف وصلتُ قعر الوادي السحيق بهذه السرعة، ولكني وصلت، وصوت الرصاص لا زال مدويّا يملأ الوادي أزيزه، توقفتُ بين أشجار الزيتون، شأخص ببصري إلى القمة، أنظر إلى الكاشفات الضوئية، وقد غطّت الطريق الترابية، وكنت أقول لنفسي، المسافة بيني وبينهم بعيدة، فعلى مَن يطلقون الرصاص؟؟ إذن هم لا يروني، ولا يعرفون مكاني، صرتُ أفتّش في ساقي، وساعدي عن كسور في العظام جراء الدحرجة المتهورة، فلم أجد، الحمد لله!

كانت كلمات أبي القسام ترنُّ بسمعي كأنه يقولها الآن، أو كأنه شاهدَ كلَّ هذا الذي يحصل، قبل صعود الجبل.

نزعتُ قميصي العسكري المغمَّس بدم الشهيد، وعلّقتُه وسط زيتونة جانبية، وبدأتُ أفكر بالخطوة القادمة، فأنا الآن في بقعة جغرافية مجهولة المعالم، لا أعرف شرقها من غربها، وكحلة الليل تزيد الوضع سوءاً، لكن الشهيد دلَّني على نقطة البداية: "حين تصل الوادي خذ طريقك من اليمين!".

رحتُ أرسم لنفسي أهدافاً قصيرة، بدأتُها بالبحث عن مغارة ألتجئ إليها حتى الصباح، وهرولتُ من اليمين على وقع الرصاص الذي لم يهدأ ساعةً من الليل، حتى وجدتُ ضالتي، بيد أنه بدا لي أولُ إضاءة خافتة من بعيد، حتى أنها لا تكاد تُبين، فقلت لنفسي: لا أزال قادرا على الركض، ما عليَّ إلا أن أصل إلى الضوء فلعلي أجد عند أهله مأوى، أو قبساً يرشدني إلى طريق النجاة، فاتخذتُ قراري وألزمتُ نفسي، وانطلقتُ بلا تردد.

ازداد الوضع سوءاً لما انهالت من السماء الإشارات الضوئية، حتى كأن الليل زال فجأة وطلع النهار، لعلهم عرفوا موقعي، باتوا قريبين مني، أسمع أجهزة الاتصالات اللاسلكية، ولكن لا خيار أمامي إلا المضي قدماً نحو الهدف دون الالتفات إلى الوراء. وصرتُ أُلقي بجسدي على الأرض حتى تخفت الإضاءة قليلاً، ثم أنهض، وهكذا.... كانت إضاءة البيت الخافتة من بعيد لا تزداد إلا خفوتاً، كلما اقتربتُ منها ابتعدَت، فصارت هدفاً صعب المنال، حتى أيستُ منها وصار هدفي أن أتخلصَ من المطاردة الضوئية.

اقتحمتُ أرضاً معروشةً بالعنب، حجبَتْ عني تكالب الأضواء، وقطعتُها ماشياً، ثم صعدتُ إلى مثيلتها، وهكذا...، حتى وجدتُ نفسي عند أول بيت يبعد عن الطريق المعبّدة عدّة أمتار، والمغتصبة بدت عن شمالي كأنها غاضبة، تودّ لو أنها تشي بي وتدلّ علي.

حقّقتُ هدفي الثاني، ولكني لم أتوقّف، فأنا قادرٌ على الركض على الرغم من الإجهاد الشديد، أوجدتُ هدفاً جديداً، قلتُ لنفسي: بما أني لا أستطيع تحديد موقع، والمغتصبة عن شمالي، فسأسلك كل طريق من جهة اليمين، حتى أبتعد ما استطعت عن دائرة الأحداث.

صارت المنازل تتكاثر، وأنا أهرول، ولكن دون هدف ولا جهة، فقط أنا أبتعد، فأصبحتُ وسط المجمّعات السكنية، وهذا يزيد الأمر تعقيداً، ويضاعف المخاطرة، هذه المجمّعات أقرب منطقة على المغتصبة، وفي أي لحظة سيقتحمها الجيش الصهيوني، وقد يعلن منع التجول فيها، كما أن موعد أذان الفجر قد حان، وحركة الناس ستبدأ، وقد تسحق كل ما حقّقتُه نظرةُ عميلٍ ترصدُني على حين غرّة، ولن يبذل جهداً كبيراً ليتعرّف علي، فلا زلتُ أرتدي بنطالي العسكري الملوَّن بالدم والتراب، وأنا غريبٌ عن المنطقة أيضاً.

على طول الطرق التي قطعتُها لازمَني الذِّكر والدعاء، لكني الآن بأمس الحاجة لتكثيف الرجاء، فكلُّ الطرق أُغلقت أمامي. كنت أرى التيسير في كل مرحلة قطعتُها، كانت التوفيقات الربانية حليفتي عند المفترقات الصعبة، فلا بدّ من طريق ستوصلني إلى بر الأمان بإذن الله.

ظللتُ هائماً على وجهي، تائهاً بلا دليل، في بقعة من الأرض، مسكونة بالليل، هي الصحراء في عين الغريب عنها، وأصبحتُ في ظلماتٍ ثلاث: ظلمةُ الليل، وظلمةُ التيه، وظلمةُ الأفكار. وأطبقَت السماءُ على الأرض، والهواجس تروح وتجيء، وأضحى اعتقالي على مرمى التفاتةٍ من عين جاسوس، لم يغسل وجهه بعد.

ولكنّ عين الله بالمرصاد، ولطف الله في مئذنةٍ تتلو القرآنَ وتهيِّئ النفوس لاستقبال الصلاة، فسرَّي ذلك عني، وابتهجَتْ نفسي المطمئنّة رغم الخطوب، ووثبَتْ همتي تبحث عن المسجد متتبَّعةً الصوت في الآفاق، ولكن لله إرادةٌ لا يردّها التدبير. حطَّت قدمي عند نقطةٍ أعرفها جيداً، وأستطيع منها تحديد الجهات الأربع.

جددتُ عزيمتي، وحددتُ هدفاً جديداً؛ وادي حسكه، وهو واد يفصل بين قريتِي وبلدة حلحول، ويقع غرباً من موقع تواجدي. شحنتُ طاقتي، وسرتُ باتجاه الغرب راكضاً، ولم أغفل أن الجيش قد يقتحم البلدة في أي وقت، وحسبتُ أني قد بلغت المرام، ولكن....

في الجهة الغربية كنتُ أركض، غير أن المساكن أخذت تحاصرني من كل جانب، وتشدّد قبضتها عليّ، وعدتُ إلى نقطة البداية، في المتاهة من جديد، ولكن في هذه المرة عليَّ أن أحسم أمري، وأتخذ قراراً صارماً في الاختفاء عن الأنظار، لا مجال لمزيد من المغامرة والتهور، لقد بحثت، وتنقّلتُ من شارع إلى شارع بلا فائدة.

وقفتُ في جهة من شارع عريض، يدلُّ على أنه شارع مركزي رئيسي، وآخره ظاهر لي، غير أني كنت متردداً في قطعه لضيق الوقت، على الرغم من أنني توقعت أنه سينتهي بي إلى نتيجة جيدة! وعن يميني مبنى جديد، مكوَّن من ثلاث طوابق لم يُسكن بعد، فأخذتُ حثيات من التراب، ونثرتها على الدم لأواريه، ثم دخلتُ إلى الطابق الأخير من المبنى.

جلستُ على أرضيّة غرفة فيه، بيد أن نفسي لم تطمئن، وتضاعف أرقي فنزلت، ثم أخذتُ أسير في طريق ضيِّق لا تتّسع لاثنين، تفصل بين البناية الكبيرة التي كنتُ فيها، ومسكنٍ أرضُه أسفل من قدمي بمترين، مسوَّر بسور يعلو قدمي بنصف متر تقريباً، والساعة الآن شارفت على السادسة إلا عشر دقائق.

أوصلني الطريق إلى زريبة صغيرة، من غرفتين مظلمتين، دخلتُ في الثانية، لأنها فارغة إلا من البعوض، والحجارة والرطوبة، أخذتُ زاويةً فيها، وجلستُ مرهقاً، وقد استنفدتُ أسبابَ النجاة، وصرتُ أقرأ القرآن حتى نمت.

استيقظتُ على وقع أقدام هائجة،لا يفصل بيني وبينها الا جدار رقيق من ( الطوب ) ، وصوت مكبرات الصوت يملأ الآفاق، يعلن منع التجول، ..؟؟؟

الى اللقاء في الجزء السابع والاخير
 
رد: 16 ساعة .. مهمة في كرم تسور

79ED5D6DE.jpg

المجد - خاص

استيقظتُ على وقع أقدام هائجة، لا يفصل بيني وبينها الا جدار رقيق من ( الطوب )، وصوت مكبرات الصوت يملأ الآفاق، يعلن منع التجول، نظرت إلى نفسي، وقد أرهقها النوم، وملابسي تعلن عن نفسي. وجهي وشعري ألمسُ فيهما التراب المجبول بالدم، كلها تقول لكل مبصر: هذا قادم من العملية، فأين المفرّ؟!

"اللهم إني قد استنفدتُ أسباب الأرض، فاجعل لي من لدنك سبباً للنجاة".

وقفتُ مع نفسي تحدّثني وأحدثها، وكأنها تشكّك، فلمزَت، وهمزَت، وقالت:

ــ كأنك استبدلت أمنية بأمنية، وغاية بغاية، ألم تُقبل على الشهادة ليلة أمس، إقبال محبٍّ عاشق؟ ومضيتَ للقتل مضاء الواثق أن الجنة على بُعد رصاصة! فما عدا ما بدا، حتى تبحث عن أسباب النجاة، وكأنها أسمى الأمنيات؟!

فقلتُ:

ــ بل هما غايتان بينهما رابط وثيق، فحين كان القتل نصراً وإغاظةً للأعداء؛ جعلتُ الموت غاية، أما وإن الانسحاب بعد الإثخان نصر وإغاظة، وفية ظفر وإفشال لهدف العدو في النيل مني، فقد جعلتُ النجاة غايتي! وظلَّتْ تجادلني وأحاججها، وتماريني وأُفحمها، حتى سكنتْ حركة الأقدام وتوقّفت.

كان الفضول يدفعني لأعرف ما يدور حولي، وأن أحدد موقعي، لأحدد الخطوة القادمة، تحركتُ نحو الباب مختلساً النظر بحذر شديد، الشمس ساطعة تعلن أن الساعة الآن السابعة والنصف، وكلُّ شيء بدا واضحاً ومقلقاً. وها أنا أرى دبابة تبعد عن مكاني خمسين متراً فقط. الشارع على اتساعه فارغ، باليمين الجيبات العسكرية التي تمنع التجول، والمباني السكنية تتزاحم مناكبها وتحجب الأفق، وعن شمالي ساحة البيت الهابط عن الأرض أنظر إليها من علوِّ مترين.

رجعت إلى زاويتي، أقيّم وضعي وأدرس إمكانياتي، أول ما خطر لي أني عطش جداً، وجائع بلا وصف، عضلات جسمي مرهقة حد التمزق، والآلام شديدة في فخذي الأيمن، تائه بلا خارطة للمكان، كل قطعة من ملابسي تدلّ علي، هذا يعني أني لا أستطيع المغادرة في وضح النهار، ولكني لا أستطيع الانتظار لليل أيضاً، إن لم يكن بسبب العطش، فبسبب الجامعة، فمسؤولية الكتلة الإسلامية على عاتقي، وغيابي سيثير ألف علامة استفهام مشكِّكة!

صرت أقف على الباب دقيقة، وألقي جسدي المنهك في الزاوية دقيقة أخرى، ولساني في حيّزه الجاف يجتهد بالذكر والدعاء.

حددتُ هدفي الجديد، أريد شربة ماء، ومعرفة الاتجاه الذي يوصل إلى وادي حسكه، فقط إشارة يد، ولكن كيف؟؟ لقد أيستُ من تقليب الأمور وصرتُ أتخيّل أن نجاتي لن تكون إلا بمعجزة، بيد أن عهد المعجزات دُفن في مقابر الأنبياء عليهم السلام.

خطر لي وأنا بالباب، أن اقفز إلى ساحة البيت، وأستعين على حاجتي بأهله، ولكنها مجازفة خطرة، فمن يضمن أن أصحابه سيتعاونون معي إذا رأوني على حاليتي المزرية، وإن تعاونوا فمن يدري أنهم لن يشوا بي ويسلموني للعدو، وبذلك أخسر كل ما بذلته حتى الآن، وإن تحركتُ في هذه الأمتار الخمسة فمن يضمن أن أحداً من الجيران لن يراني؟؟! لا...لا... هذه مخاطرة كبيرة، وخطوة متهوِّرة، الموت عطشاً أحبُّ إليَّ من التفكير بها.

كلما صرفتُ عقلي عن التفكير في ذاك البيت، دفعني ضيق الحال وسوء الموقف للتفكير فيه، فلا بديل غيره يصلح للتفكير!

وبينا أنا بالباب واقف، وإذا فتاة في العشرين من عمرها في لباس الصلاة الأبيض، تنزل عن درجات الطابق الثاني الخارجي، انشرح لها صدري، فهذا الوقت لا صلاة فيه إلا الضحى، وبيتٌ فيه فتاة في العشرين تصلي صلاة الضحى، أحسب أنه بيتٌ صالح، هذه علامة جيدة، اطمئنَّ لها قلبي، ولكنها ليست كافية!

لم يطل الانتظار، انفتح باب الطابق الأرضي، وخرجت منه عجوز في السبعين، في ثوبها الفلّاحي، متكئة على عصا، وفي يسراها كوب من الشاي، فتوسطت الساحة على كرسيِّها تتلفّت. فقلتُ: هذه فرصة لا تفوَّت، هذه عجوز يستحيل لمثلها أن تكون مرتبطة مع المحتل، ولست أريد منها إلا شربة ماء، وإشارةً باليد، ولا بأس إن حُرمنا رشفة الماء!!

لا وقت للتردد، والحياة تحتاج إلى قليل من التهوّر، وكثير من المجازفة، لتحقيق شيء فيها، والحسبة أحياناً تفسد التوكل على الله، وتضع الثقة كلها في الأرقام والمعادلات. دعوتُ الله دعاء غريق في عرض البحر... وانطلقتُ بلا تلكُّؤ.

فزعت المرأة من اقتحامي دون إذن، وسقوطي على الساحة كصخرة ارتطمت بالأرض، أشرتُ بكلتا يدي، هدِّئي من روعك، وأعطيتُها الأمان. ولم ألبث أن سألتُ حاجتي حتى خرجت الفتاة وأمها مضطَّربتين على وقع الارتطام! كدتُ أتحدّث إليهما، ولكنهما لم يمهلاني، فأشارت الصغيرة بيديها في ارتدادات سريعة: أدخل! أدخل!

فاندفعتُ إلى الداخل، وأغلقتُ الباب، وعيني لا تصدّق ما ترى، جلستُ على مقاعد الضيافة، والتلفاز أمامي صامت، وصور الجيبات العسكرية تتحرك فيه، فهذه نشرة الأخبار تتناقل الحدث.

خرجت العجوز لترصد حركة الجنود، ودخلت الأم إلى الداخل، وجلست الفتاة على الكرسي أمامي:

ــ أنت الذي كنت في ( كرم تسور)؟؟؟

ــ نعم.

ــ كل تلك الاشتباكات بسببك؟

ــ نعم.

ــ ملابسك مغسولة بالدم هل أنت مصاب؟ تحتاج إلى طبيب؟

ــ شكراً، لا يهم. أريد شربة ماء وسأغادر.

حضرت الأم وقالت:

- أدخل من هذا الممر إلى آخره، اغسِلْ وجهك وشعرك. كان الواقف في المرآة رجلاً يشبهني، كأنه أنا.. غير أنه نصف ميت، عائد من قبره! أما الماء، فهو ماء قبل أن يمسَّ رأسي، وحين ينسكب في المغسلة فترابٌ مائع آسن.

ارتويتُ من الماء، وكانت الفتاة واقفةً أمام غرفة فقالت:

- تركتُ لك ملابساً على كرسي داخل الغرفة، بدِّلها بملابسك، هناك قميص وبنطال وحذاء!

كان هذا أكثر مما توقعتُ، وفوق ما تمنيتُ، وأرفع مما تخيّلت! لم أفكر بشيء وأنا ألبس شخصية غيري، ولم يحفل جسدي المتألم بنظرة متفحصة أو حانية، ترحم آلامه وشكواه، فأمامي مهمة أحق بالنظر إليها منه، وألمٌ أخفُّ من ألم، وعناء أرحم من عناء.

لم ألبث أن خرجتُ إليهن، وجلست على مقاعد الضيافة، وأخذت العجوز تحدثني كيف اقتحم الجنود المباني المجاورة يعيثون فيها الفساد، وحمدت الله أني لم أبقى في مبنى الثلاثة طوابق، وأن الله هداني لمغادرته، حين علمت أنهم اقتحموه أيضاً.

وقفنا في الساحة، و أشارت الأم إلى برج اتصالات بعيد، وقالت:

- وادي حسكه من هذا الاتجاه، إذا وصلت البرج، فاسأل أحداً هناك، وسيرشدك إلى المكان بالضبط.

شكرتُ لهم وتناولتُ قنينة ماء باردة، وتسلّقت السُّور، وانطلقت وقلبي يخفق بشدة، سعادة وفرحاً، فالآن أستطيع السير بين الناس بأمان أكبر، وإن كنتُ غريباً عن المنطقة، وألبس قميصاً زهرياً.. تلبسه الفتيات!!

مضيتُ مشدوهاً بما حدث، وعقلي لا يكاد يصدق ما جرى، فأي إرادة دفعتني إلى هذا المنزل، وأي مشيئة تضبط حركة الإنسان، وأي أقدار تحركه وتحفظه، كم منزل مررت به وبودِّي لو آوي إليه؟ وكم مكان مدَّ ذراعيه ليضمّني ضمة القبر فدفعَتْه عني الأقدار؟ وكم مرة راودتني نفسي لألقي بها في مهمة قفرٍ ثم أخذَتْ بيدي مشيئة أعظم من مشيئتها فأسلمتني لهذا المنزل الوادع، فتحصّنتُ به من مصائد العدو، لأفرَّ من قدر القتل إلى قدر النجاة.

الساعة الآن الثامنة والنصف صباحاً، كنت أتحرك من شارع إلى شارع، ومن حي إلى حي، أتجاوز الجنود المشاة، وأحياناً الجيبات العسكرية، ومضيتُ أقتطع المسافات، وتقطع هي وقتي وجهدي وأنفاسي، كنت ولأول مرة منذ انسحابي أمشي بلا هرولة، وأعيد شريط الأحداث منذ البداية، وأحاول التصديق أن كل هذا حدث في ساعة من ليل.

بلغت الشارع الفاصل بين الجبل المطل على الوادي، وبين المناطق المأهولة بالسكان، كانت المدرعة العسكرية تغتصب الشارع، وتمنع الاقتراب منه فزحفتُ حتى صرتُ منها على بُعد أمتار قليلة، أرصدُ حركتها، حتى بلغتُ أبعد مدى، فاجتزتُ الرصيف مسرعاً وألقيتُ نفسي في أرض معروشة بالعنب، تخفي كل ما تحتها، أمشي وأسمع خفقات القلب تعزف أغنية النصر، وقدماي تحثّان السير على وقع النغمات، بيد أن حواسي تعمل بكل حذر.

شارفتُ على الجبل، فبدا أول ما بدا لي من بعيد مأذنة مسجدنا، في الجبل المقابل؛ مسجد الرحمن، حيث مراتع الصبا، وعمر الشباب، كادت تغلب صبري عبرة وقفت على عتبات جفني، أظنها دمعة شوق وحنين، أو لعلها عبرة الفرح، لا أدري، كانت مشاعر مختلطة، لم أكن أعلم أني أحب المسجد هذا الحب، إلا من تلك النظرة البعيدة في الأفق.. حقاً لا ندرك قيمة الأشياء من حولنا إلا حين نفارقها... أو نكاد!

عدوتُ باتجاه الأحراش ركضاً، وانحدرتُ إلى قاع الوادي، هذا نحبه ويحبنا، فلطالما أظلَّنا بظلاله، وأضفا علينا حنانه، فهنا تنزَّهنا، وهنا لهوْنا، وهنا قطعنا الزيتون، وتحت تلك الصنوبرة سمرنا وشربنا وأكلنا، هذه مرابع لهونا وهنا الصبا، والصبا مجمع الأحباب. في هذا المكان فقط شعرتُ بالأمان، ورحت أتسلّق الجبل باتجاه البلدة بكل حماس.

في طريقي للقمة تضاعفت الآلام في جنبي الأيمن، وأحسستُ بها كما لم أحسّ بها من قبل، حتى أوقفتني عن السير، وصارت الخطوة أمامي كأنها ألف ميل، فارتميتُ على الأرض، وحاولتُ الزحف، غير أن الألم نال مني، فأعطيت نفسي نصف ساعة لأستريح في ظل شجرة، ثم مضيتُ أجرُّ قدمي على مضض.

ومضت نصف ساعة على صلاة الظهر، وطرقتُ الباب مستأذناً، فدخلت ولم أكن قد أعددتُ للسؤال جواباً! استقبلتني والدتي وهي تبتسم كعادتها، فأردت أن أستبق دقّة ملاحظتها ليبدو الأمر طبيعياً، فمددتُ يدي الخصبة بالشوك وقلتُ بلا مبالاة مصطَنعة:

ــ أريد تنظيف الأشواك من يدي.

ــ ما هذا؟

وقد بدت متفاجئةً، واختفت ابتسامتها وسط غمامة استنكار، لا أدري كيف لفّقتُ لحظتها قصة هروب من ورشة عمل وسط المدينة، وقد زحفت في أرض من الشوك لأختفي عن عين الجندي الذي لمحني من بعد، وكأنها اقتنعت أو تظاهرت فقالت:

ــ خرجت بملابس جديدة ليلة أمس، فأين هي؟!

ــ حين هربت من الورشة، تركتها هناك، وهربتُ بملابس العمل. دعينا من الملابس، فأنا بحاجة إلى حمام ساخن.

ــ أتدري لمَ منعوا التجوّل في الخليل؟

ــ سمعتُ أن هناك عملية، وقعت أمس. فما التفاصيل؟

ــ اقتحام مغتصبة، قتل فيها ثلاثة جنود وجرح ثمانية، اثنان في حالة حرجة.

ــ هل أعلنوا عن هوية المنفِّذ؟

ــ نفذَ العملية اثنان، واحد استشهد، والثاني انسحب، وهم يطاردونه الآن.

ــ هل أعلنوا اسم الشهيد؟

ــ نعم، أحمد مسالمة ـ أبو يحيى، من قرية بيت عوا.

ــ الله يعطيهم العافية.

ــ سأحضّر لك الحمام.

ــ كم الساعة الآن؟

ــ الثانية عشر.

وقفت أنظر إلى التلفاز، وهو يتحدث عن تفاصيل العملية، ويبثُّ الصور، وعيني تنكر مشاهد الجبال الوعرة، وعقلي لا يصدّق أني اجتزت ليلة الموت تلك. تجاهلتُ التلفاز، ودخلت الحمام، فهالني ما رأيت! ثمانية رصاصات قد أصابت فخذي المتورم، ثلاثة منها كانت قد اخترقت اللحم...!

بقلم الأسير المحرر / علي عصافرة
 
عودة
أعلى