نظرة إلى الرحمة المهداة/د.جابر قميحة

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,508
التفاعل
17,634 43 0
نظرة إلى الرحمة المهداة

أ.د/ جابر قميحة


إن الناظر إلى شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم كالواقف أمام جبل شامخ رفيع ، لن يستطيع أن يفيه حقه من التصوير والوصف ، وكل ما يستطيعه لن يتجاوز مجرد إشارة لجانب واحد أو شريحة صغيرة من هذا الجبل الشامخ الرفيع .
وقد شهد كثيرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هؤلاء كفار ، وأعداء للدعوة الناشئة . وقد صدق فيه قول الشاعر:
نسبٌ أضاءَ عمودهُ في رفعة كالصبح فيه ترفُّعٌ وضياءُ
وشمائلٌ شهدَ العدوُّبفضلها والفضلُ ما شهدت به الأعداء
وكأنه يردد مفهوم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم : ".... وقد جعلني الله من خير القبائل ، وذلك قوله تعالى:
(وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
فأنا أتقى ولد آدم، وأكرمهم على الله عز وجل، ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتًا، فجعلني من خيرها بيتًا، فذلك قوله تعالى:
(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: 33).
وقال له نفر من صحبه: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، فقال: أنا دعوة أبي إبراهيم يعني قوله تعالى:
(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة: 129).وبشر بي عيسى ، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور بُصرى من أرض الشام، واستُرضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بَهَمًا لنا، إذا جاءني رجلان عليهما ثياب بيض بِطِسْتٍ من ذهب مملوء ثلجًا، فأخذاني، فشقا بطني، ثم استخرجا منه قلبي، فشقاه، فاستخرجا منه علَقة سوداء، فطرحاها ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه".

**********
ولنلق نظرة سريعةعلى ما قاله بعض الأعداء فيه من اعتراف بالحق ، حينما غلبهم صوت الفطرة في أعماقهم :
قال أبو سفيان: كنا في المدة التي هادنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد الصلح الذي وقع في الحديبية سنة ست فخرجنا تجاراً إلى الشام ، وبينما نحن في تجارتنا في سوق من أسواق الشام، وإذا بجنود هرقل ، يطلبونا، وهم يسألون في السوق، هل هنا في السوق أحد من العرب؟
فدلهم الناس علينا، فألقوا علينا القبض، وذهبوا بنا، وأدخلونا على ملك الروم ، وإذا حوله: البطارقة، والقساوسة، والوزراء، وقواد جيشه، وقد اكتظّ بهم المكان.
قال أبو سفيان : فقال هرقل : من منكم أقرب الناس نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبيّ؟
فقال أبو سفيان : أنا أقربهم نسباً من هذا الرجل، الذي يزعم أنه نبيّ.
( وهذا الكلام يجري عن طريق مترجم ). قال: اجلس أمامي.
قال: فأجلسني أمامه، ودعا برفقتي، فأجلسهم خلفي، ثم قال لهم: إني سائل هذا الرجل عن الرجل الذي يزعم أنه نبيّ فإن كذّبني فكذّبوه.
قال أبو سفيان : فوالله لولا أن يتحدثوا عني بالكذب، لكذبت عليهم؛ لأنهم لن يكذبوه وهو منهم وهو سيدهم.
فسأله السؤال الأول: كيف نسبه فيكم؟
قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب.
فقال هرقل : هل كان من آبائه من كان ملكاً؟
قال أبو سفيان: لا.
قال هرقل : فهل قال أحد هذا القول قبله منكم؟
قال أبو سفيان : لا.
فقال هرقل : أأشراف الناس يتبعون دينه أم ضعفاؤهم؟
قال: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون؟ .
قال أبو سفيان : يزيدون.
قال: أيرتد أحد منهم بعد أن يدخل في دينه سخطة على دينه؟ .
قال: لا يرتد أحد منهم بعد أن يدخل دينه.
فقال: أقاتلتموه؟
قال: نعم، قاتلناه.
قال: كيف قتالكم معه؟
قال: يدال علينا، ونديل عليه، الحرب سجال، مرة نغلبه، ومرة يغلبنا.
قال: فهل يغدر؟
قال: لا، ونحن منه في مدة، لا ندري هل يغدر أم لا؟
قال هرقل : بماذا يأمركم؟
قال: يأمرنا أن نعبد الله، ولا نشرك به شيئاً، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة.
قال: فهل جربتم عليه كذباً؟
قال: لا .
ثم قال هرقل لأبي سفيان : وقد كنت أعلم أنه سوف يملك مكان قدميّ هاتين.
(وصدق هرقل ، فبعد ربع قرن زحف إليه سيف الله المسلول، خالد بن الوليد ، يخوض المعركة ويرفع راية لا إله إلا الله.)
وإذا بهرقل يولي الأدبار، وينظر إلى قصره في الشام ، ويقول: سلام عليك يا سوريا ، لا لقاء بعد اليوم، ويدخل خالد ، ويجلس على سريره، ويقول:
((كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ)).الدخان 25 28 .
وأثناء ذلك جاء دحية بن خليفة الكلبي ، برسالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم .
ونصها : (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل ، عظيم الروم ، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فأسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) آل عمران:64 .
فلما انتهت الرسالة، وترجمت: قال أبو سفيان : كثر اللغط، وارتفعت الأصوات، واحتدمت الضجة واختلط الناس .
قال: فأخرجنا الجنود من القصر، فقلت في نفسي: لقد أمِرَ(ظهر) أمر ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر، أي: ملك الروم ، وعاد أبو سفيان ، وأسلم بعض الروم بعد هذه الرسالة، وارتفعت دعوته صلى الله عليه وسلم.
**********
ولا ننسى أن كبار قريش وهي في حال كفرها أشادوا بلسان المقال ولسان الحال بالرسول صلى الله عليه وسلم . ونجد ذلك في مظهرين :
1- الشهادة بأمانة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ أطلقوا عليه قبل أن يبعث نبيا لقب " الأمين " . وقد رأينا شهادة أبي سفيان للرسول صلى الله عليه وسلم أمام هرقل الروم . وكذلك شهادة الوليد بن المغيرة للقرآن ، إذ قال قولته المشهورة : " والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يعلى عليه " .
2- استئمان رجال قريش الرسول صلى الله عليه وسلم على أموالهم ، فكانوا يحفظون عنده ودائعهم ، ولا يستأمنون غيره ، وهم الذين كفروا به وآذوه وضايقوه . وهذا هو السر في أنه جعل على بن أبي طالب ينام مكانه ليلة الهجرة ، ليرد للكافرين ودائعهم .
ومن حق القارئ أن يسأل إذا كانت هذه شهادتهم فلماذا يتمسكون بكفرهم ، ويتصدون للرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه بالحرب والمضايقات ؟
إنه العناد ، والحرص على المركز الاجتماعي الذي ظنوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد انتزعه منهم . وكانوا يتمنون أن ينزل هذا القرآن على واحد من رءوسهم الكبار من مكة أو الطائف ، وقد صور القرآن هذه الأمنية في قوله عنهم :
" وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ " الزخرف (31) .
وقولهم هذا إنما هو شهادة ضمنية ، بل شهادة صريحة بصدقية القرآن ، وعظمته
ومرة آخرى أردد قول الشاعر :

نسبٌ أضاءَ عمودهُ في رفعة كالصبح فيه ترفُّعٌ وضياءُ
وشمائلٌ شهدَ العدوُّ بفضلها والفضلُ ما شهدت به الأعداء

**********
والمعروف أن أغلب المستشرقين يحملون على الإسلام ورسوله بدافع الحقد الأسود ، والتعصب الذميم ، ولكن الله هدى عددا غير قليل منهم لينصف محمدا صلى الله عليه وسلم والدعوة التي أتى بها . ونسوق السطور الآتية بعض شهادة هؤلاء :
يقول المستشرق الأمريكي إدوارد ريمسي : «جاء محمد للعالم برسالة الله الواحد، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فبزغ فجر جديد من العدل والحرية .
ويقول الفيلسوف والشاعر الفرنسي لامارتين: «إن ثبات محمد وبقاءه ثلاثة عشر عاما يدعو دعوته في وسط أعدائه في قلب مكة ونواحيها، ومجامع أهلها، وإن شهامته وجرأته وصبره فيما لقيه من عبدة الأوثان، وأن حميته في نشر رسالته، كل ذلك أدلة على أن محمدا كان وراءه يقين في قلبه وعقيدة صادقة تحرر الإنسانية من الظلم والهوان».
ويقول الفيلسوف والكاتب الإيرلندي برنارد شو : «إن أوروبا الآن ابتدأت تحس بحكمة محمد، وبدأت تعيش دينه، كما أنها ستبرئ العقيدة الإسلامية مما اتهمتها به أراجيف رجال أوروبا في العصور الوسطى».
ويقول المستشرق الألماني كارل بروكلمان : «لقد حورب الإسلام كثيرا ومازال يحارب، ولكن النصر دائما للحق، وما جاء محمد إلا بالحق والحقيقة».
ويقول المستشرق الفرنسي بارتيملي سانت هير في كتابه (خواطر شرقية): «من العجيب حقا أن نتطاول اليوم على النبي محمد وعلى دينه، والأعجب من ذلك تلك النظرة الحمقاء التي نرى من خلالها المسلمين، حيث تناسينا أن العلوم التي نباهي بها العالم جاءت نتاج تطور العلوم التي ألفها المسلمون».
يقول فتزوجرالد: "ليس الإسلام دينًا فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضًا".
ويقول نلينو: "لقد أسس محمد في وقت واحد دينًا ودولة، وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته".
ونجتزئ في السطور الآتية بشهادة بعض أصحابه ، وكلماته صلى الله عليه وسلم عن نفسه :
وصفه ابن أبي هالة بقوله: "كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عياب ولا مداح".
وحينما سأله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن سنته قال: "المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضاء غنيمتي، والعجز فخري (أي إظهار الضعف أمام الله )، والزهد دفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرة عيني في الصلاة".
المعرفة.. العقل.. الحب،.. الشوق.. ذكر الله.. الثقة.. سطور من قائمة القيم الأخلاقية الإنسانية العظيمة، شكلت النسيج النفسي لهذه الشخصية الجليلة، وكل صفة منها يمكن أن نردها إلى أصلها القرآني، ومن هنا نستطيع أن ندرك مدى صدق السيدة عائشة حين قالت "كان خلقه القرآن : يرضى برضاه، ويسخط بسخطه" ".
ومما يرسخ صدقية هذه الصورة أن تلتقي بشهادته صلى الله عليه وسلم عن نفسه، وشهادات الآخرين عنه، بلا خلاف، فهو إذن التقاء واعتناق وتعانق بين كلمة الذات المحمدية المباركة، وشهادات الآخرين، وهم من صفوة الناس وأشمخهم إيمانًا.
وواجب علينا نحن المسلمين أن نتذكر.. ونتذاكر مواقف النبوة الهادية، ونستلهم منها الدروس، ونستقي منها العبر، بل يجب أن نرتفع بمشاعرنا وعقولنا إلى "درجة المعايشة، المعايشة الكاملة" لأعطيات خاتم الرسل، بل يكون "فينا" محمد صلى الله عليه وسلم لا يغيب عن قلوبنا، ولا ضمائرنا لحظة واحدة، وهذا هو "الميلاد المحمدي الدائم المتجدد" ومعه هوية شخصية المسلم لا تذبل، ولا تذْوى، فالمسلم الحق هو الذي يردد بالاعتناق والعناق، بلسان المقال ولسان الحال:
في ضميري دائمًا صوتُ النبيْ
آمرًا: جاهدْ، وكابدْ، واتعبِ
صائحًا: كن أبدًا حرا أبِيْ
كن سواءً ما اختفى وما علنْْ
كن قويًّا بالضمير والبدن
كن عزيزًا بالعشير والوطن
كن عظيمًا في الشعوبِ والزمنْ
وهذا الميلاد المتجدد، المتمثل في "صوت النبي، متعمقًا القلوب والضمائر، يلزم المسلم الحق أن يجاهد في الحياة الجهاد بمفهومه الشامل النقي، باذلاً أقصى ما يملكه من طاقات في دأب واستمرار، وأن يحرص على تحصيل الحق، وتحقيقه، وأن يعيش في عزة، وحرية، وإباء، واستعلاء إيمان لا يهون.
إنها بعض من القيم المحمدية علينا أن نعيشها، ونأخذ أنفسنا بها، في المنشط والمكره، والسرّاء، والضراء .
************
ونختم مقالنا بالحقيقة التالية التي قدمها بعض السلف " ..ومن فضله – صلى الله عليه وسلم – أن الله تعالى أعطاه اسمين من أسمائه فقال " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم " التوبة 128 .
كان محمد صلى الله عليه وسلم خير تجسيد "للمثالية الواقعية" وخير تجسيد للوسطية العادلة. وتأكيدًا لنفي "يوتوبية المثال" وخياليته . كان تركيز القرآن الكريم على "بشرية" محمد صلى الله عليه وسلم:
(إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (الكهف: 110 وفصلت : 6) (...قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً) (الإسراء: 93).
لقد كان صلى الله عليه وسلم تجسيدًا لمجموعة من القيم الإنسانية في أرقى صورها من ناحية وأصلحها للتطبيق العملي من ناحية أخرى.
واستطاع صلى الله عليه وسلم أن يغرس هذه القيم، ويرسّخها في قلوب الرعيل الأول من المسلمين، متبعًا منهجًا واضح الملامح والسمات . وبهذه القيم فتحوا العالم لافتح انتهاب وتخريب وتدمير ، ولكن فتح عدل وتعليم وتنوير .

عن موقع رابطة أدباء الشام
 
عودة
أعلى