“جوليو دوهيت”: الإيطالي المُعتدّ وبدايات القوة الجوّية

Sophocles

عضو
إنضم
4 فبراير 2021
المشاركات
5,302
التفاعل
9,258 34 0
الدولة
Palestine
i691.jpg



توطئة

يتتبّع هذا النص بدايات دخول القوة الجوية في تشكيلات الحروب، كما يتناول تنظير “جوليو دوهيت” لأهميتها وضرورة جعلها قسماً مُستقلاً عن أقسام الجيش الأخرى تتضمّن إفراد ميزانيةٍ خاصّةٍ لها، ثمّ ينتقل للحديث عن ظروف الحرب التي عاشها “دوهيت” ودعته للإيمان العميق بالقوة الجوية وقدرتها على حسم الحرب وجعلها قصيرةً. وتظهر الآراء بين مؤيّدٍ ومعارضٍ لتنظيراته، لم تحسم الخلاف حول نقاط الضعف والقوة إلا حروبٌ فعليةٌ خاضتها قوى عظمى مع حركات مقاومةٍ تحرّريةٍ متواضعة التسليح.

*****

قبل أكثر من قرنٍ ظهرت أداةٌ جديدةٌ في ساحة المعركة على صورة طائرةٍ ميكانيكيةٍ مأهولة، استُخدمت في البداية كأداة استطلاعٍ ورصدٍ فعالة، خاصّةً إذا ما قورنت بما سبقها من المناطيد المستنِدة إلى الهواء الساخن في تحليقها فوق أرض المعركة. تقاطع دخولُ تلك الطائرة إلى أرض المعركة مع كتابات الضابط العسكريّ الإيطاليّ “جوليو دوهيت” التي برز فيها تخوّفُه وتوجّسُه من شموليّة الحرب ورصدُه لتبدّل أدواتها وشكلها؛ فبعد أن كانت الحروب تستند إلى الجيوش فقط أصبحت تُقحم المجتمع فيها برُمّته، وهو ما أفصح عن بزوغ البُعد الثالث في الحرب.

ليس من المُستغرب أن أوّل محاولةٍ كبيرةٍ لفهم وتفسير استخدامات وتوظيفات القوّة الجوّية ازدهرت في شبه الجزيرة الإيطالية. في الحقيقة كان الجيش الإيطاليّ أوّل من استخدم القوّة الجوية في الحرب، بالتحديد على يد الملازم “جوليو جافوتي”، الذي ألقى بثلاثِ قنابل يدويّةٍ على مواقعَ للجيش العثمانيّ في الصحراء الليبية. أقنعت تجربةُ الجيش الإيطاليّ في ليبيا هيئةَ الأركان العامة بضرورة مواصلة تطوير قوّتها الجوّية، وعيّنت “جوليو دوهيت” -وكان يحمل رتبة رائد- قائداً للقوّة الجوّيّة في ذلك الوقت. لقد ارتبط اسم “دوهيت” بشكلٍ وثيقٍ بتاريخ الفكر العسكريّ بسبب تجربته كقائدٍ للقوّة الجوّية الإيطاليّة، وكتاباته التي كان لها الأثرُ الكبير في ظهور مقارباتٍ معرفيّةٍ جديدةٍ من خلال تناوله موضوع الطائرة الآلية وتأثيرها المُحتمَل في الحروب.

إن الأفكارَ التي صاغها “دوهيت” وضعته بقوةٍ كواحدٍ من الشخصيّات المركزية في تطويرِ النظريات المرتبطة بالقوة الجوّية. وتشكل كتاباتُه جزءاً لا يتجزأ من البرامج الأكاديميّة التي تتناول القوة الجوّية وتاريخها، وتفلح دوماً بخلق جدلٍ واسعِ النطاق بين المختصّين في هذا المجال. يقول “كلاوديو سيرج”: “كان دوهيت في كثيرٍ من المواقع خاطئاً، ولكن غالباً ما تتم الإشارة له”؛ أيّ أنه بالرغم من الجهد الحثيث لتفكيك ونقد وإظهار الإشكاليّات الأخلاقيّة والعسكريّة في كتابات “دوهيت”، إلا أنّك ما تنفكّ تجده حاضراً في النصوص المختلفة المتعلّقة بتاريخ القوة الجوّية وجدليّاتها. كان “دوهيت” متردّداً من النتائج والعواقب التي سيخلّفها استخدامُ الطائرة الميكانيكية في الحرب حتى أنه دعا إلى حظر القوة الجوّية في أحد نصوصه الأولى، لكنّه سُرعان ما غيّر موقفه مُقدّماً أطروحةً مطوّلةً في أهمية القوة الجوّية وضرورة استخدامها وما تعنيه من “تغيّرٍ ثوريٍّ شاملٍ في الحرب”.
 
نشأة “دوهيت” الفكريّة

غلب على شخصيّة “دوهيت” التعجرفُ وكثرةُ الاحتجاج على قيادة الجيش ومنافسيه وذكاءٌ حادٌّ عزّز من غروره وأدّى في نهاية المطاف إلى سقوط حَظْوته وتأثيره في الجيش الإيطاليّ. لعب هذا العيبُ التراجيديّ في شخصيّة “دوهيت” دوراً كبيراً في احتواء تأثيره على تطوّر القوة الجوّية في إيطاليا وجعل من مقولاته النظريّة والإجرائية محطّ جدلٍ ورفضٍ واسعٍ في بُنى الجيش الرافضة أصلاً للتغيير، خاصّةً عندما طالب بجعل القوة الجوّية سلاحاً مُستقلاً، بما يعنيه ذلك من تخصيص ميزانياتٍ خاصّةٍ لسلاح الجوّ. لم يقف الأمرُ عند الانتقاد الداخلي؛ فقد وصل سخطُ “دوهيت” على ما اعتبره فشلاً من قبل قيادة الجيش الإيطاليّ إلى درجةٍ دفعته باتجاه إرسال مذكّرةٍ إلى مجلس الوزراء ينتقدُ فيها الجيش وقيادتَه، في مُخالفةٍ صارخةٍ للبروتوكولات العامّة أدّت إلى محاكمته العسكريّة والزجّ به في السجن مدّة عام.

يقول “ميلينغر”: “أدّت أساليبُ “دوهيت” في دفع قضية القوة الجوّية إلى تحقيق عكس المُراد تحقيقَه من أهدافٍ”. لقد كان “دوهيت” مقاتلاً فكريّاً شرساً لكنه لم يبنِ التحالفات، فظلّت كتبه ومسرحياته وروايته ومقالاته الحيّز الوحيد الذي استطاع فيه الانتقامَ من أعدائه. وقد يكون لأثر تلك الصراعات جانبٌ إيجابيٌّ بأن دفعت “دوهيت” نحو المزيد والكثيرِ من الكتابة. فكما يُعلّل “سيرج” في مراجعته لحياة وأفكار “دوهيت” بقوله: “تقدّم كتاباتُه رؤيةً أو ربّما سيناريو أكثر من كونها نظريةً تقنيةً أو علميةً… إن كتابات “دوهيت” أقربُ بكثيرٍ إلى الرؤيةِ من المُخطّط”. ودونما شكٍّ، تأثّرت كتاباته بشكلٍ مباشرٍ بالمنافسات والاشتباكات المرتبطة غالباً بطبيعة شخصيته المُعتدّة والمغرورة.

إلى جانب الدافع التنافسيّ الذي أثّر على طبيعة المساهمة الفكريّة لـ”دوهيت”، شكّلت التغيّرات التاريخية عاملاً ضاغطاً ومؤثراً على نصوصه. باختصارٍ، كان “دوهيت” نتاج سياقِه الجغرافيّ والاجتماعيّ والاقتصادي؛ بحيث أن أفكارَه نبعت من الخصوصيّة الجغرافيّة والسياسيّة لإيطاليا. مثلاً، لوحِظ عند “دوهيت” نوعٌ من القصور والمحدوديّة في فهم المسارات التقنيّة العسكريّة والتنبؤ بها؛ فهو لم يتوقع أبداً التطورَ في الآليّات المُدرّعة. يعزو “ملينغيز” ذلك القصور إلى ارتباطِ المكننة عند “دوهيت” بالقيود الجغرافيّة والسياسيّة الخاصّة ببلاده. ذلك أن إيطاليا -كشبه جزيرة- لطالما انهمكت بحماية طرق الملاحة والتجارة المرتبطة بالساحل الطويل الذي تمتلكه؛ بينما كانت جبالُ الألب حامياً حقيقياً لأيّ “توغلٍ” يأتي من جهة الشمال. لذا، لم تستثمر إيطاليا -كما غيرها- بالمركبات المدرّعة والآليّات المُحصّنة، فيما رأت في القوّة الجوّية عنصراً فاعلاً في حماية سواحلِها ونقاط ضعفها البريّة الوحيدة؛ الحدود مع فرنسا.

بعيداً عن الخصوصية الإيطالية، مثّل عصرُ “دوهيت” عصرَ التغيّرات السريعة والكبرى؛ فبعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى تصاعدت التطوراتُ التقنيّة واتّسعت طرق التواصل والتنقل، وصولاً إلى صعود الشيوعيّة في روسيا وتراجع دور ومركزيّة الإمبراطوريّة البريطانيّة. بحث “دوهيت” في التطوّرات والتحوّلات الحاصلة في الحرب وعن الإمكانيّات والآفاق التي تفتحُها القوّة الجوّية باعتبارها ثورةً حقيقيةً وغيرَ مسبوقةٍ في الشؤون العسكريّة، فكتب: “ما زلنا نعوّلُ على الحدود الضيقة للبصيرة البشرية، وبالرغم من ذلك يمكننا أن نؤكد، بكلِّ يقينٍ، أن الحروب المستقبليّة ستكون مختلفةً بشكلٍ جذريٍّ عمّا سبقها.”

لقد آمن “دوهيت” بأنّ الحرب تتّجه نحو الكليّات؛ بمعنى أنّ دائرة أهدافها ستتجاوزُ حدود ضرب البُنى العسكريّة لتصلَ إلى استهدافٍ متعمّدٍ وواضحٍ للحياة المدنية. كما يؤكد “أنّ الأشكال السائدة من التنظيم الاجتماعيّ أعطت الحرب طابعاً وطنياً كلّياً… في نطاق قوّة البصيرة البشرية نرى الآن أن الحروب المستقبليّة ستكون شاملةً في الطابع والنطاق”. سيُثبت التاريخُ أنّ هذه النبوءةَ خاطئةٌ؛ فالحربُ ستتخذُ أشكالاً متعددةً، بما في ذلك أشكالاً محدودةً يوّظف فيها الضعيفُ ما يمتلك في تحدّي القوّة العسكريّة الكُبرى.

لا نستطيع لومَ “دوهيت” كلّياً على هذا الخطأ، فقد تكون مبالغتُه في نبوءاته نابعةً من الرعب الذي شهده في الحرب. ما زالت الحرب العالمية الأولى تشكّل في الأدبيّات العسكريّة متلازمةً لما سبّبته من رعبٍ على خطوط التماس بين الجيوش المُتحارِبة. في حين اتخذت الحربُ طابعاً كُلّياً من حيث مشاركة المجتمع برُمّته في إنتاج أدوات الحرب أو في خوضِ غمارها على الخطوط الأماميّة، لكنّها شهدت كذلك موت الآلاف لأجل التقدّم عدّة أمتارٍ أو لمنع التراجع عدّة أمتارٍ. كانت الحرب تُخاض من مواقع ثابتةٍ وامتزجت فيها الأجسادُ في خنادقَ ضيقةٍ وطويلة، وكانت المعضلة الأساسية التي تواجه القائد العسكريّ تكمنُ في كيفية تخطّي تلك الحدود الصارمة للمعركة التي اتخذت شكل الخندق في ذلك المنعطف التاريخيّ للحرب.

إلى حدٍ بعيدٍ، تشكّلت أفكار “دوهيت” المؤيّدة بشدّةٍ للقوة الجوية من تلك التجربة الأليمة في الحرب العالمية الأولى. فيما دفع الجمود والفشل في مختلف أشكال التكتيكات الهجوميّة العديدَ من واضعي الاستراتيجيّات إلى الخروج باستنتاجٍ مفادُه أن القوة العسكرية -الأسلحة الناريّة وعدد الجنود والهياكل التنظيمية واللوجستيّة – ليست كافيةً لإنهاء المعارك وإتمام المهام العسكريّة بنجاحٍ.

أوضح “دوهيت” أن التقنيّة التي قَدّمت للبشرية المدافعَ الرشاشة والغازات السامة وما إلى ذلك من أدواتٍ عسكريّةٍ أعطت ميزةً وأفضليةً لحالة الدفاع في الحروب البرّية. ويعلّل “ميلينغر” مقاربة “دوهيت” على النحو التالي: “على الرغم من اقتناعه بأنّ التكنولوجيا منحت منظومة الدفاع الأفضليّة في الحرب البرّية، في حين تكمُن المفارقة لديه أنّ التكنولوجيا أيضاً على شاكلة الطائرة ستُنهيها.” هذان الافتراضان الرئيسيان؛ أن الحرب الحديثة تأخذ الطابع الكلّي وأن التكنولوجيا جعلت الحروب البرّية والبحرية الهجومية غير مجديةٍ، رسّخا الكثير من نظريّات ونبوءات “دوهيت” حول استخدامات وتوظيفات القوة الجوّية. باختصارٍ، قدّمت القوة الجوّية حلاً ومخرجاً لمتلازمة الخطوط الدفاعية التي يصعبُ اختراقُها؛ ذلك أنها تستطيع تخطّي الخنادق وخطوط المواجهة الثابتة، كما يُمكنها الضربُ في عُمق فضاء العدوّ المدنيّ والصناعيّ والعسكريّ.

هنا يكمُن الطرح الرئيسيّ لـ “دوهيت”؛ بما أنّ القوات البرّية والبحرية لا يمكنها إنهاءُ الحروب بسرعةٍ، فإنّ استخدام القوة الجوّية كوسيلةٍ لتجاوز ساحة المعركة واستهداف البنية التحتية للعدوّ والمركز الصناعيّ وشبكات النقل والمواصلات والإمدادات، هي الطريقة الأكثر إنسانيةً وسرعةً في إنهاء الحروب. ويربطُ “دوهيت” تحقيق هذه النتائج السريعة بثلاثة قضايا مترابطةٍ:

أولاً؛ يتطلّب الفوز السريع بالحرب تشكيل سلاح جوٍّ مُستقلٍّ يقوده طيّارون أكفّاء ومُختصّون، فيقول في هذا الصدد: “لتحقيق النصر على العدوّ… علينا تنظيم القوة الجوّية في إطار سلاحٍ منفصلٍ”. إذ رأى “دوهيت” أنّ تنظيم القوة الجوّية تحت سلاح البحرية أو تحت قيادة القوة البرّية يعني توظيفها بما يخدم العمليّات الهجينة، لكنّ ذلك لن يُؤدّي إلى استغلالها وتوظيفها بالشكل الأنسب والأفضل في ضرب معنويّات العدوّ وتدمير قدرته على شنّ الحرب، أيّ في استهداف العمق الصناعيّ والمدنيّ.

ثانياً؛ من أجل الانتصار السريع في الحرب يجبُ أن تُبنى الاستراتيجية العسكرية على قاعدة التفوّق الجوّي من لحظة البداية. وقد حثّ “دوهيت” على تدمير “الأعشاش والبيض على الأرض”؛ بمعنى أن يتمّ استهداف مكامن القوة الجوّية لدى العدوّ قبل أن تعلو عن الأرض، فيتعذّر على الخصم إعادةُ استخدامها في سيرورة الحرب.

أما أخيراً، وبعد تأمين السيطرة الكاملة على الجوّ، يحثّ “دوهيت” على الاستهداف المباشر لخمسِ عناصرَ أساسيّةٍ من الأهداف الحيوية عند العدوّ، تتضمّن المراكز الصناعيّة وعُقد النقل المحوريّة والبنى التحتية الهامّة والكبرى (الكهرباء والماء والطاقة)، والمباني الكبيرة، وأخيراً وليس آخراً؛ المدنيين. بالفعل، أكّد “دوهيت” في أكثر من موضعٍ على أنّ استهداف المدنيين مهمٌ وضروريٌّ ويتّخذ شكلاً من أشكال الأولوية:

لا يُمكن أن يحدث الانهيار الكامل للبنية الاجتماعية إلا في بلدٍ يتعرّض لهذا النوع من القصف القاسي من الجوّ… لوضع حدٍّ للرعب والمعاناة، سينهض الناس بأنفسهم ويطالبون بإنهاء الحرب…”. عندها فقط يمكن كسبُ الحرب بشكلٍ فعّالٍ وسريعٍ وإنسانيٍّ وبدون الجمود الدمويّ التي أنتجته الحرب العالميّة الأولى. بهذا المعنى، تشكّل السيطرة التلقائية على الجوّ عند “دوهيت” العاملَ الأساسيّ في تحقيق النصر.
 
التعديل الأخير:
قصور “دوهيت”

وضعت أفكارُ “دوهيت” الاستراتيجيةَ العسكريةَ في معضلةٍ من أكثر من زاويةٍ. فمن ناحيةٍ؛ ساهمت في إعطاء القوة الجوّية أهميّتها المُستقلة بعيداً عن دمجها مع الأسلحة الأخرى. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، اصطدمت تلك الأفكار مع العديد من المنظومات الأخلاقية والقانونية المنادية بفصل المدنيّ عن العسكريّ، والتي تمّ تعميدها في اتفاقيات “لاهاي” ولاحقاً في اتفاقيات “جنيف” حول أخلاقيات وقوانين الحرب. بالرغم ممّا سلف، إلا أنّ أدبيات “دوهيت” تُحيلنا بالتحديد إلى الكيفية التي تعاطت بها أطرافُ النزاع في الحرب العالمية الثانية. وقد تكون القنابل التي حرقت طوكيو وديرزدن، أو حتى تلك التي أُلقِيت على هيروشيما وناغازاكي أفضلَ مثالٍ على معنى القصف الاستراتيجيّ كما لم يتصوره “دوهيت” بنفسه، والذي كتب في مقالٍ قصيرٍ عشيّة الحرب العالمية الأولى:

“لقد ذكرنا مراراً وتكراراً أن الحرب الحالية قد قلبت كلّ الأفكار العلمية التي سادت في السابق حول الحرب. حدث هذا بشكلٍ أساسيٍّ لأنّ الدراسات العلميّة للحرب تركّز على التاريخ والماضي، بدلاً من مراعاة ظاهرة الحرب المُتعلقة بالظروف الحالية … فنُّ الحرب في مُجمله لا يمكن فصله عن السياق الاجتماعي الذي ستحدث فيه الحرب”.

إذاً، تشكّلُ الحرب بالنسبة لـ”دوهيت” ظاهرةً معقّدةً لا يمكن النظر إليها من زاويةٍ أخلاقيةٍ قاصرةٍ أو من زاويةٍ تأريخيّةٍ بمعزلٍ عن البُعد الاجتماعيّ والمستقبليّ. والبُعد الأخير يتجلّى في إحالته الدائمة إلى فكرةٍ أساسيةٍ مفادها أنّ الحرب التي علينا أنّ نفكر فيها هي الحرب القادمة. وقد اتّسمت كتاباتُه بأنها غير تاريخيةٍ ومستندةٌ أساساً إلى التفكير المتعمّق في إشكاليّات المعركة الحاليّة ومحاولات الخروج منها. لهذا نجد “دوهيت” مُبالغاً في ثقته بقدرة القصف الاستراتيجيّ، كعاملٍ وحيدٍ، في تحقيق النصر على حساب الاستخدامات الهجينة القيّمة.

قد يغفرُ له كَوْن الحقبة التي كتب وعاش ومات فيها، لم تشهد حضوراً ودوراً ذا أهميةٍ للقوة الجوّية، بل يمكنُ القول إنّ معظم مقترحات “دوهيت” لاستخدامات للقوة الجوّية كانت ما زالت طورَ التطوير والاختبار. لهذا السبب تحديداً أطلق “كلاوديو سيرج” على “دوهيت” لقب “نبيّ القوة الجوّية” لما تضمّنته أفكاره من صياغةٍ مستقبليةٍ -مُتخيّلةٌ بغالبيتها- حتى وإن كان لها أساسٌ ماديٌّ في الواقع.

كانت أحد أهمّ افتراضات “دوهيت” مُحاجَجتُه بأن جميع الحروب شاملةٌ وكلّيةٌ؛ فهي تشمل أنظمةً اجتماعيةً كاملةً، وقد نكون في القرن الواحد وعشرين أقربَ إلى كلّية الحرب من بدايات القرن العشرين. صحيحٌ أن العديد من الدول توجّهت إلى إعادة هيكلة الجيوش بحيثُ أصبحت لا تعتمد على التجنيد الإجباريّ، لكنّ بالرغم من ذلك، يبدو أنّ الحرب تتّخذ طوراً نفسياً وإعلامياً وسياسياً وحتى عسكرياً على نحوٍ أصبح فيه الجميعُ هدفاً أو جزءاً من العمليّات العسكريّة.

وقد كان لدوهيت الفضلُ في الإضاءة على أهميّة إنشاءِ سلاحٍ جويٍّ مستقّل يُعنى في البُعد الثالث للحرب ويُستَثمر في بناء استراتيجيّاتٍ حوله. بالفعل أصبحت دعوتُه لإنشاء قوةٍ جويّةٍ مستقلّةٍ داخل هيكليّة الجيش الحديث أشبهَ بالفطرة السليمة. وقد نكون نحن في فلسطين والعالم العربيّ أفضلَ من يعرف أهمية الحفاظ على التفوّق في الجوّ وما يعينه من خساراتٍ فادحةٍ خلال العديد من الحروب، كانت أهمَّها حربُ عام 1967 عندما نجح الكيان الصهيونيُّ بإخراج القوة الجوّية المصرية والسورية والأردنية من المعركة مُنذِرةً بنكسةٍ لم نتعافى من نتائجها السياسيّة والاجتماعيّة حتى يومنا هذا.

لعلّ أكثر أفكاره إثارةً للجدل تلك التي ارتبطت بنجاعة وأهميّة القصف الاستراتيجيّ. في هذا السياق، كتب “ميلنغر” جدليّته بشكلٍ يعطي تلخيصاً ملائماً لأهمّ ما قدمه “دوهيت”؛ فمن جهةٍ، انضوت مبادئ “دوهيت” الأساسية على تنبؤاتٍ عسكريةٍ دقيقةٍ، ومن ضمنها أنّ الجوّ سيُصبح ساحةً عنيفةً وحاسمةً، وأن الدولة التي تتحكم في الجوّ ستتحكّم في الأرض أيضاً، وأن الطائرة ستحمل الحرب إلى جميع الشعوب في جميع الأماكن، وأن الآثار النفسية المُترتّبة على القصف الجويّ ستكون كبيرةً. من جهةٍ أخرى، يخلُص “ميلينغر” إلى أن “دوهيت” أثبت خطأه في العديد من المجالات؛ مثلَ مدى الضرر المعنويّ للمدنيين من وراء القصف، حيثُ تتوفّر دلائلُ عدّةٌ على أنّ القصف يُنتج، في حالاتٍ كثيرةٍ، تضامناً اجتماعيّاً أوسع وقدرةً على الاحتمال وإرادةً أكبر على المواجهة. علاوةً على ذلك، بالغَ “دوهيت” في تقدير أثر القصف الاستراتيجيّ وقدرته على إنتاج نهايةٍ سريعةٍ للحرب.

كما وضع “دوهيت” تصوّراً مثالياً عندما كتب عن تأثيرِ الغارات والقنابل بالحرب، مع إهمالٍ واضحٍ ليس فقط لقوّات العدوّ وقدراتها وردودها المُحتَملة، ولكنّ أيضاً للعوامل التي يمكن أن تُعرقِل مثل هذه المهامّ. كما يضيف “سيرج” قوله: “في عالم “دوهيت” كلُّ شيءٍ مثاليٌّ؛ الطائرات تُسقِط حمولتها بشكلٍ مثاليٍّ دون أخطاءٍ أو قاذفاتٍ أو تداخلٍ بين القوّات، وجميع الأهداف ذاتُ بنيةٍ موحّدةٍ.

انهارت هذه الرؤية المثالية على بوتقة الحرب الفعلية؛ فقد أثبتت التدابير الدفاعيّة – للرادارات، وصواريخ أرض-جو، ومكافحة الحرائق، والملاجئ والنفق… إلخ- قدرتَها على تحييد القوة الجوّية بل والتغلّب عليها أحياناً. كما أن المعارك الجوّية نشبت بين الطائرات العسكرية بشراسةٍ خلال الحرب العالمية الثانية، ما يثبت خطأ “دوهيت” بمكانٍ ما. خلال الحرب، قُتل أكثر من 80,000 شخصٍ من الطيارين والأفراد العاملين في سلاح الجوّ من القوات الجوّية الملكية والقوات الجوّية الأمريكية، وفُقدت المئات من القذائف والطائرات.

تقدّم معظم تقييمات القصف الاستراتيجيّ وأثره على معنويّات العدوّ نتائجَ مُختلطة. على سبيل المثال، يقدّم مسحُ القصف الاستراتيجيّ الأمريكيّ لعام 1945 نظرةً متفائلةً للقصف الاستراتيجيّ من حيث أثره على البُنية الصناعية الألمانية في الحرب، ما أدّى بحسب التقييم الأمريكيّ إلى تهاوي الاقتصاد الألماني. في نفس الوقت، تقول نتائج المسح إن الأثر على معنويات المدنيين لم يكن بحجم التوقعات، وإن القصف الاستراتيجيّ لألمانيا لم يترك أثراً كبيراً على حالة التضامن الاجتماعيّ وإرادة المجتمع الألمانيّ في القتال. قدّم مؤرّخون آخرون تقييماتٍ أكثر قتامةً من المسح الأمريكيّ، وكان من بين هؤلاء “ريتشارد هالون”، الذي ادّعى “أن القوة الجوّية الاستراتيجية في الحرب العالمية الثانية لم تستطع الوفاء بوعود “دوهيت”…فقد كانت تفتقر إلى الاستدامة ودقة التدمير للقضاء التامّ على الوسائل التي يمتلكها العدوّ لشنّ الحرب، ولم تحطّم معنوياته. لكنّ على الرغم من أنها خيّبت الآمال، فهذا لا يعني أنها فشلت”.

العنصر الثاني الأكثر مركزيّةً في مذهب “دوهيت” الجوّي هو أهمية الاستحواذ على التفوّق الجوّي؛ إذ يدّعي أن أولئك القادرين على تحقيق التفوّق الجوّي الكامل أو القريب سيخرجون منتصرين في أيّ حربٍ. يقوم منطق هذا الادّعاء على قاعدة أنّ استهداف عمق العدوّ سيؤدّي إلى تقليل زمن الحرب وبالتالي إلى انتصارٍ سريعٍ وأكثر إنسانيةً.

على النقيض من هذا الطرح، تُثبت الشواهد أنّ الضعفاء حول العالم استطاعوا التغلّب على ما مثّلته القوة الجوّية من سلاحٍ في يد القوى العسكرية الغربية الأكثر تفوّقاً تقنياً، وتمكّنوا في أحيانٍ كثيرةٍ من تحييد أثرها على ساحة المعركة. في فيتنام، بُنيت الاستراتيجية الأمريكية على عنصرين؛ أوّلهما البحث عن الأهداف وتدميرها (Search and Destroy Missions)، والثاني يتعلّق باستخدام القوة الجوّية لفرض ثمنٍ باهظٍ على فيتنام الشمالية وحلفائها من المقاتلين في الجنوب. تمتّعت الولايات المتحدة بالتفوّق الجوّي شبه الكامل، ومع ذلك فشلت في تحقيق أهدافها السياسية في الحرب. في الواقع، أُطلِقت ثلاث حملاتٍ جوّية ضد فيتنام؛ رولنغ ثاندر (Rolling Thunder)، ولينباكر1(Linebacker 1)، وليناباكر 2 (Linebacker 2)، واتّسمت بتصعيدٍ تدريجيٍّ حادٍّ ثم اتساع رقعة الاستهداف الأمريكي لفيتنام بناءً على تخوّفاتٍ أمريكيةٍ من تدّخلٍ أوسع للاتحاد السوفيتي في حال صعّدت الحملات الجوّية بشكلٍ سريعٍ.

لكنّ بالرغم من ضراوة الاستهداف وحجمه الواسع إلا أنه لم يحقق المُراد، وقد يكون ساهم في إحراز نوعٍ من أنواع التعادل الاستراتيجي مع جبهة التحرير الوطنية الفيتنامية “الفيتكونغ”. حتى عندما تمّ استخدام القوة الجوّية في محاولةٍ لتعطيل خطوط الإمداد القادمة عبر شبكةٍ معقّدةٍ من التضاريس الصلبة، والمعروفة مُجتمعةً باسم “طريق هو تشي مينه”، لم تنجح مَهمّة سلاح الجوّ الأمريكي. وكما يؤكد “جورج هيرينج”: “اعترفت التقديرات الأمريكية الرسمية بأنّ التسلّل زاد من حواليّ 35,000 جنديّ في عام 1965 إلى حواليّ 90,000 في عام 1967، حتى مع تزايد القصف”.

بعيداً عن فيتنام، قدّمت المقاومة في فلسطين مثالاً واضحاً على كيفيّة التغلّب على التفوّق الجوّي الصهيوني واحتواء آثاره على أرض المعركة. يمكن القول إنّ المقاومة انشغلت على مدار الأعوام الثلاثين الماضية في إيجاد التصاميم الملائمة للتغلب على التفوّق الجوّي الصهيونيّ والتي تضمّنت الأنفاق والمُغر، وحلولاً تقنيةً لمعضلة الاستهداف المباشر لطواقم إطلاق الصواريخ من خلال إعادة تصميمها، بالإضافة إلى التعاطي الجادّ مع ما يمكن إنتاجه محلياً من “طائراتٍ” صغيرةٍ مكّنت الفلسطينيّ من امتلاك سلاح جوٍ للمرة الأولى، وإن لم يزل محدوداً.

خاتمة

يظلّ “جوليو دوهيت” شخصيةً مركزيةً في أصول وتطوّر نظريّة القوة الجوّية، خاصةً وأن أفكاره حملت رؤيةً مستقبليةً. ومن المؤكد أنه قدّم مجموعةً عامةً من المبادئ التوجيهية لاستخدامات القوة الجوّية ما زالت مهمّةً في الوقت الراهن. في الواقع، دفع التقدم التكنولوجي في أنظمة الطيران، والتطوّر على صعيد القصف الدقيق والقدرة على تمويه وإخفاء الطائرات مصحوباً مع تنامي قدرات الحرب الالكترونية، إلى إعادة أفكاره نحو مركز النقاشات في أروقة البحث والإنتاج الفكري العسكري. كما أنّ الانتقال إلى أنظمة الليزر جعل من حلقات “دوهيت” في الاستهداف اليوم أكثرَ أهميّةً من الوقت السابق، بل يمكن القول إن العدوّ أصبح يمتلك القدرة على مُعايرة المجزرة من الجوّ، بحيث يكون الثمن مُتّسقاً مع حالة الاشتباك وطبيعتها. أليس هذا ما حصل في الشجاعيّة وخُزاعة؟ مُجرّد عودةٍ إلى توجيهات “دوهيت”؟ نعم نحن نعيش في عالمٍ ساهم “دوهيت” في تخيّله.

 
التعديل الأخير:
غالبًا ما يُطلق على جوليو دوهيت لقب نبي القصف العشوائي للمدنيين. لكن اللافت للنظر أنه قبل الحرب العالمية الأولى كان من دعاة السلام الليبراليين وطالب بعقد مؤتمر لاهاي جديد يحظر الحرب الجوية ، وكان يعتقد أن قصف الأهداف غير العسكرية غير مسموح به.

طبعا بعد الحرب صار من أشد الداعين لقصف المدنيين في الحروب

 
قال جوليو دوهيت: "سيؤكد المستقبل تأكيدي بأن الحرب الجوية ستكون أهم عنصر في الحروب المستقبلية".

كان الافتراض الرئيسي لنظرية دوهيت هو اعتقاده أنه خلال الحرب ، يمكن تحقيق نصر سريع بهجوم جوي مبكر على المراكز الحيوية للعدو.

 
في عام 1943 ، ألحقت قاذفات الحلفاء أضرارًا بالغة بمتحف Risorgimento (الموجود في Castello Sforzesco) في ميلانو. في مصير مثير للسخرية لمنظر القصف الجوي ، أحرقت أوراق جوليو دوهيت الشخصية في هذا الهجوم.

 
بعد الحرب العالمية الأولى رأى بعض المنظرين العسكريين أن القوة الجوية وسيلة لتجنب رعب الخنادق.

في هذا الفيديو يناقش الدكتور جيتس براون وعود منظري القوة الجوية مثل جوليو دوهيت ، الذي جادل بأن القوات الجوية يمكن أن تنهي الحروب قبل أن تكون القوات العسكرية التقليدية جاهزة لبدء القتال.

ساعد عمل هؤلاء المنظرين في تطوير عقيدة القصف الاستراتيجي لسلاح الجو الأمريكي خلال فترة ما بين الحربين.

 
بعد الحرب العالمية الأولى رأى بعض المنظرين العسكريين أن القوة الجوية وسيلة لتجنب رعب الخنادق.

في هذا الفيديو يناقش الدكتور جيتس براون وعود منظري القوة الجوية مثل جوليو دوهيت ، الذي جادل بأن القوات الجوية يمكن أن تنهي الحروب قبل أن تكون القوات العسكرية التقليدية جاهزة لبدء القتال.

ساعد عمل هؤلاء المنظرين في تطوير عقيدة القصف الاستراتيجي لسلاح الجو الأمريكي خلال فترة ما بين الحربين.


أستاذ أنور A @anwaralsharrad لديك اطلاع جيد على الكتب العسكرية الغربية، هل يوجد تأييد لنظرية جوليو دوهيت وما هي جدوى الإعتماد على القوات الجوية والتفوق الجوي في الحروب في انتزاع النصر؟
 
في عام 1943 ، ألحقت قاذفات الحلفاء أضرارًا بالغة بمتحف Risorgimento (الموجود في Castello Sforzesco) في ميلانو. في مصير مثير للسخرية لمنظر القصف الجوي ، أحرقت أوراق جوليو دوهيت الشخصية في هذا الهجوم.



"يداك أَوْكَتَا وفُوكَ نفخ"
 
أستاذ أنور A @anwaralsharrad لديك اطلاع جيد على الكتب العسكرية الغربية، هل يوجد تأييد لنظرية جوليو دوهيت وما هي جدوى الإعتماد على القوات الجوية والتفوق الجوي في الحروب في انتزاع النصر؟

هذا مبحث طويل وإن كنت أتفق مع رؤية الرجل !!! في الحقيقة إستاذي القوة الجوية air power فوق ميدان المعركة، توفر مرونة يستحيل انجازها بأي وسيلة أخرى تجاه الأهداف المعادية ولا يوازيها شيء في مجال سرعة الاستجابة !! فهي تؤمن دعماً جوياً للقوات الصديقة المتقدمة، وفي الوقت ذاته توفر حماية جوية قصوى أثناء انسحاب هذه القوات. وعلى عكس سلاح المدفعية artillery بطيء الحركة وشبه الثابت والذي يمكن تحديد مراكزه لحظياً بواسطة الرادارات المتقدمة المتخصصة، فإن الطائرات نظراً لحركتها السريعة، تعتبر أهدافاً صعبة المنال، وتنحصر مواجهتها وبنجاح محدود في مرحلة الهجوم فحسب، والتي تستمر ما بين بضع ثوان إلى بضع دقائق في أحسن الأحوال، ويتوقف ذلك طبعاً على لحظة اكتشافها.

التحسين الأكثر أهمية منذ الحرب العالمية الثانية ربما تمثل في قابلية قوة السلاح الجوي في تطوير الذخيرة الموجه بدقة PGM. فمنذ أيام الطيران الأولى، حلم الطيارون بقصف أعداءهم وتحقيق نتائج مؤثرة وحاسمة في الحرب، عن طريق إصابة ما يسددون عليه أسلحتهم. تجارب الحرب العالمية الثانية أثبتت أن شروط القصف المثالية bombing conditions نادراً ما يمكن إيجادها وتوفيرها في أجواء المعركة، فافتقدت الهجمات الجوية للدقة المطلوبة، حيث أكدت دراسات ما بعد الحرب العالمية الثانية أنه فقط 20% من القنابل المسقطة قد وقعت ضمن مسافة 300 م من الأهداف المقصودة.

بعد الحرب حدث تقدم وتطور ملموس في دقة أسلحة الطائرات الموجهة، وأصبحت القنابل والصواريخ أكثر دقة. وأظهرت مراحل لاحقة من الحرب الفيتنامية فاعلية القنابل الموجهة ليزرياً laser-guided bomb، إذ لم تتمكن 871 غارة جوية بقنابل غير موجهه من تدمير هذا جسر Thanh Hoa الإستراتيجي، وكانت الإصابات جزئية ولم تسفر سوى عن أضرار هيكلية (أمكن إصلاحها بعد كل غارة)، وفي المقابل خسائر فادحة منيت بها الطائرات الأمريكية المهاجمة، تمثلت في فقدان 11 طائرة مقاتلة مع طياريها، ولكن حين استخدمت المقاتلات الأمريكية قنابل موجهه ليزرياً للمرة الأولى في 13 مايو 1972 أمكن تدمير الجسر بإصابات مباشرة لركائز تدعيمه بعد أربعة غارات فقط وبدون أي خسائر للقوة المهاجمة.
 
حلم الطيارون بقصف أعداءهم وتحقيق نتائج مؤثرة وحاسمة في الحرب، عن طريق إصابة ما يسددون عليه أسلحتهم. تجارب الحرب العالمية الثانية أثبتت أن شروط القصف المثالية bombing conditions نادراً ما يمكن إيجادها وتوفيرها في أجواء المعركة،
المعضلة بجانب عدم دقة القنابل كانت حاجة الطيار في ذلك الوقت لرؤية الهدف بصريا دون رادار ما يعني وجوب الاقتراب منه وخطر تعرض الطائرة لوسائل الدفاع الجوي.
 
التعديل الأخير:
وجهة نظر تتحدث تآكل قدرة سلاح الطيران على حسم المعارك استشهدت بحرب لبنان في 2006 والتي حدث فيها من الانتشار الذكي في الأرض، واستغلال الجغرافيا في المعركة، وبناء الأنفاق والمواقع الحصينة

اقتباس:

"كان حينها رئيس الأركان دان حالوتس قادماً من القوة الجوية، واعتقد في بداية الحرب أن القصف المكثف سيحقق ضربة قاصمة لحزب الله دون الحاجة لتوغل بري، وهو ما قاد إلى فشل عسكري واستراتيجي وسياسي إسرائيلي.

رفع حالوتس شعار أن "الحرب لا تكتسب على الأرض بل على الوعي، وسلاح الجو يحقق نصراً على وعي الخصم"، وما حصل في الحرب أن جيش الاحتلال بعد أن قصف جميع بنك الأهداف الذي كونه، استمر إطلاق الصواريخ من لبنان تجاه المدن المحتلة وتوسع مداها، ولم يتمكن سلاح الجو من تحقيق انتصار في الحرب، واضطر جيش الاحتلال لدفع قواته إلى داخل لبنان وخرجت بعد أن لحقت بها خسائر فادحة في الميدان والمعدات".
 
قامت إسرائيل بدراسة المواجهات العسكرية المصرية الإسرائيلية التي حدثت في عامي 1956 و 1948, و خرجت بالتالي:

في الصحراء المكشوفة العارية مثل صحراء سيناء يكون الفشل المحقق من نصيب الطرف الذي يفقد طيرانه, و في ضربة جوية مسبقة محكمة و يكون محكوم على جيشه بالدمار الكامل, و ذلك حتى قبل بدا المعركة و المواجهة بين الجيشين على الأرض.و إذا أمكن جعل الجندي يتخلى عن مواقعه و ينسحب منها للخلف بأي وسيلة, فانه يكون من السهل ضربه أثناء تحركه عاريا فوق أرض الصحراء المكشوفة و اصطياده بالطيران, و قد ثبت في حربي عامي 1956 و 1948 أن خسائر الجيش المصري كان أفدحها ما أصيب به أثناء الانسحاب و ليس أثناء المواجهة مع العدو.
 
وجهة نظر تتحدث تآكل قدرة سلاح الطيران على حسم المعارك استشهدت بحرب لبنان في 2006 والتي حدث فيها من الانتشار الذكي في الأرض، واستغلال الجغرافيا في المعركة، وبناء الأنفاق والمواقع الحصينة

اقتباس:

"كان حينها رئيس الأركان دان حالوتس قادماً من القوة الجوية، واعتقد في بداية الحرب أن القصف المكثف سيحقق ضربة قاصمة لحزب الله دون الحاجة لتوغل بري، وهو ما قاد إلى فشل عسكري واستراتيجي وسياسي إسرائيلي.

رفع حالوتس شعار أن "الحرب لا تكتسب على الأرض بل على الوعي، وسلاح الجو يحقق نصراً على وعي الخصم"، وما حصل في الحرب أن جيش الاحتلال بعد أن قصف جميع بنك الأهداف الذي كونه، استمر إطلاق الصواريخ من لبنان تجاه المدن المحتلة وتوسع مداها، ولم يتمكن سلاح الجو من تحقيق انتصار في الحرب، واضطر جيش الاحتلال لدفع قواته إلى داخل لبنان وخرجت بعد أن لحقت بها خسائر فادحة في الميدان والمعدات".

الوضع مختلف في جنوب لبنان، فلم تكن هناك أهداف واضحة للعدو !!! وهذا يقودنا لنقطة أخرى تتحدث عن فاعلية سلاح الطيران والقصف الجوي تجاه جيوش غير نظامية !!! تماما كما هو الحال مع حزب الله أو غيرهم من الجماعات شبه النظامية.. تجربة الإستهداف الجوي لم تأتي ثمارها في أفغانستان ولا في اليمن، لكنها كانت فاعلة في حرب الخليج الأولى والثانية !!!!
 
لكنها كانت فاعلة في حرب الخليج الأولى والثانية !

صحيح .. كنت أطالع دراسة سأنشر مقتطفات منها في هذا الموضوع عن دور سلاح الجو في حرب تحرير الكويت ويظهر أنها ساعدت بشكل كبير تدمير القوات البرية العراقية.

مع ذلك كان هناك أمل من التحالف على جعل صدام ينسحب من الكويت بناء على ضربات جوية مكثفة دون اللجوء لشن حرب برية وهذا لم يتحقق كما نعلم.
 
صحيح .. كنت أطالع دراسة سأنشر مقتطفات منها في هذا الموضوع عن دور سلاح الجو في حرب تحرير الكويت ويظهر أنها ساعدت بشكل كبير تدمير القوات البرية العراقية.

مع ذلك كان هناك أمل من التحالف على جعل صدام ينسحب من الكويت بناء على ضربات جوية مكثفة دون اللجوء لشن حرب برية وهذا لم يتحقق كما نعلم.

في حرب الخليج الأولى 1991 وفرت الطائرات المتقدمة قابليات لإسقاط قنابل صماء غير موجهة ضمن دائرة نصف قطرها 5 أمتار عن الهدف، إلا أن الدفاعات الجوية العراقية التي تميزت بالاعتماد على الأعداد الكبيرة من قذائف أرض جو والمدافع سريعة الطلقات المضادة للطائرات، لم تسمح ببساطة بالاستخدام التقليدي للهجوم من الارتفاعات المنخفضة، في حين أن عمليات القصف من الارتفاعات المتوسطة ولأكثر من 5000 م بواسطة الأسلحة غير الموجهة كانت أيضاً مرفوضة، خصوصاً عند الرغبة بمهاجمة أهداف نقطوية، أو توجيه ضربات مباشرة ضد المخابئ والدبابات والمدفعية. لقد تمثل الحل في استخدام الذخيرة دقيقة التوجيه precision munitions، التي وفرت الكثير من الجهد والمخاطر على أطقم الطائرات المتحالفة. وتشير العديد من الدراسات لتأثير الحملة الجوية الأولى air campaign التي عملت على تحييد مراكز القيادة والسيطرة العراقية، بالإضافة لمنظومات الدفاع الجوي.

لقد استطاعت الهجمات الدقيقة ضد طائرات القوة الجوية العراقية تدميرها وهي في حظائرها، وعجلت هذه الضربات في النزوح الجماعي للطائرات إلى إيران. الهجمات الدقيقة أيضاً ضد الجسور، قيدت حركة القوات العراقية البرية، وفرضت عليها وضع التكدس، أو ما يطلق عليه "عنق الزجاجة" bottleneck، مما حدا بالكثير من الجنود العراقيين للهرب مع بدأ عمليات القصف المركز.

وتشير دراسة وضعت بعد الحرب، أن قدرة القيادة العراقية على تحريك قواتها للمسرح الكويتي، انخفضت من 216.000 طن متري في اليوم (على ما مجموعه ستة طرق رئيسه، وخط سكة حديد) إلى فقط 20.000 طن متري في اليوم على طريقين اثنين فقط. أي نسبة التخفيض وصلت تقريباً إلى 91% من قابليات النقل والدعم العملياتي. واستطاعت حملات التحريم interdiction campaigns تحقيق هذه المستويات باستخدام الأسلحة دقيقة التوجيه. واحتاجت الطائرات الأمريكية المحلقة على ارتفاعات متوسطة أو عالية، إلى بضعة دقائق لاكتساب أهدافها بنجاح، ثم بعد ذلك لتعيينها بالشعاع الليزري المشفر. وينبغي على مشغل نظام التعيين في الطائرة أن يحافظ على استمرارية إضاءة الهدف بشعاع الليزر، وهذا يتطلب تركيزاً عالياً من طاقم الطائرة، ويعرضهم إلى مخاطر الإصابة بالصواريخ المعادية المضادة للطائرات أو بالأسلحة المضادة الأخرى.
 
لقد بلغت نسبة الذخيرة الذكية التي أطلقتها الطائرات الأمريكية بكافة أنواعها في حرب الخليج الأولى نحو 8%، منها 4.3% عبارة عن قنابل موجهة ليزرياً laser guided bombs، والتي ارتبط أسمها فعلياً بنحو 75% من الخسائر الأرضية العراقية. أما النسبة المتبقية من الذخيرة الذكية، فقد شملت صواريخ Maverick وHellfire بالإضافة لصواريخ Cruise والصواريخ المضادة للإشعاع الراداري anti-radiation.

لقد استخدمت القنابل الموجهة ليزرياً في ضرب مراكز القيادة والمطارات والجسور وأهداف مدرعة عراقية متنوعة، حيث تمت عمليات الإطلاق من قبل طائرات عدة، أبرزها F-111F وطائرة الدعم الجوي القريب A-10A وطائرات F-15E (هذه الخيرة قامت بالتنسيق مع طائرة القوة البحرية A-6E واستطاعت تحقيق 30 إصابة ضد قطع مدفعية وأهداف مدرعة أخرى عراقية في إحدى ليالي الحرب الحالكة). وتم إطلاق صواريخ Maverick المجهزة بمجسات حرارية تعمل بالأشعة تحت الحمراء وأخرى بمجسات كهروبصرية، من الطائرات F-16 وA-10A.

الذخيرة الموجهة ليزرياً في عمليات حرية العراق Iraqi Freedom، كانت أيضاً عماد ومرتكز أسلحة القوة الجوية الأمريكية، خصوصاً في جهد تحريم ساحة المعركة، والدعم الجوي القريب close air support المنجز في التضاريس الريفية والحضرية. هذه الذخيرة شملت القنابل الموجهة ليزرياً لكامل عائلة السلسلة Paveway (بما في ذلك قنبلتي GBU-10 وزن كل منها 950 كلغم، أسقطت على هدفين في بداية الحملة الجوية على أهداف في منطقة تكريت) بالإضافة لأعداد كبيرة من الصواريخ الموجهة ليزرياً AGM-65E Maverick لطائرات البحرية الأمريكية من طراز F/A-18 وAV-8B.
 
القصف الجوي المكثف فعاليته الاكبر في حسم الحرب في الحرب النظامية بين جيوش نظامية ودول لها مراكز قيادة وقواعد وبنية تحتية معروفة
يعني لها بنك اهداف واضح خسارته تعني خسارة الحرب
على عكس حروب الميليشيات التي لاتملك كل هذا فالحسم فيها يجب أن يكون بإحتلال الارض بالقوات البرية
 
عندم بدأت عملية تحرير العراق Operation Iraqi Freedom في 30 أبريل 2003، كانت القابليات الجوية قد تطورت كثيراً عن حرب الخليج الأولى، ولأول مرة في تاريخ القوة الجوية يتم تجاوز تحديدات الطقس والظروف المناخية، بل وحتى ما يخص تحديدات وتقييدات التسليح.

فبينما كان على طائرات التحالف خلال حرب الخليج الأولى أن تختار بين الطيران على مستوى عالي يتجاوز 10000 قدم، لتفادى النيران المضادة للطائرات (عند إسقاط القنابل من هذا الارتفاع فإن احتمالات الخطأ في إصابة الدبابة قد تبلغ 60 متر) أو الطيران بمستوى منخفض دون 5000 قدم والمجازفة بالإصابة بطلقات النيران المضادة، فإنها استطاعت خلال عملية حرية العراق وبفضل تجهيزها بقنابل موجة بالأقمار الصناعية satellite guided والتي كانت معظم الطائرات المقاتلة والقاذفة قادرة على حملها، أن تضاعف القدرة على تدمير الأهداف النقطويه الصعبة من الارتفاعات العالية وتحقيق اشتباكات دقيقة، فما أن ترصد قوات التحالف هدف مدرع عراقي على الأرض، فأنها تحول موقعه فوراً على إحداثيات الخارطة الرقمية وتغذي بها أحدى الطائرات الحاملة والمجهزة بقنابل موجهه بالأقمار الصناعية، لتبدأ معها عملية التوجيه والهجوم.

لقد استطاعت الضربات الجوية الأمريكية وبفضل هذه التقنيات أن تدمر وفي أسبوع واحد فقط أكثر من 300 دبابة وعربة مدرعة عراقية، واستطاعت ضربات الطائرات أضعاف قوات الحرس الجمهوري Republican Guard Divisions العراقي بنسبة 50% أو أكثر (إحداث نفس التأثير استغرق نحو ستة أسابيع خلال حرب الخليج الأولى). لقد نشرت الولايات المتحدة في هذه الحرب عدد 60 طائرة A-10، منها 47 طائرة تابعة لطيران الحرس الوطني National Guard، وعدد 12 طائرة من احتياطي القوة الجوية.

واستطاعت الطائرة تحقيق نسبة إنجاز بلغت 85%، وإطلاق نحو 311.597 قذيفة من ذخيرة المدفع عيار 30 ملم. وتفيد إحصائيات وزارة الدفاع الأمريكية عن الأسلحة الموجهة بدقة والمستخدمة خلال حربي الخليج، أن مجملها خلال حرب الخليج الأولى لم يتجاوز 9%، في حين أسقطت القوة الجوية الأمريكية خلال الأسبوعين الأوليين من حرب الخليج الثانية أكثر من 14000 قنبلة دقيقة التوجيه، وأكثر من 750 صاروخ Tomahawk تم إطلاقها (عدد القنابل الموجة ليزريا المستخدمة خلال حرب الخليج الأولى، والتي دامت ستة أسابيع بلغ 9250 قنبلة و300 صاروخ توماهوك).
 
مقدمة عن دراسة القوّة الجويّة

080228-F-0528C-004.jpg

تتضمن دراسات القوّة الجوّية مداخلَ عدّةً، منها ما هو نظريّ، ومنها ما هو عملياتيٌّ- تكتيكيٌّ يختصّ في دراسة استخداماتها بهدف استقصاء المعلومات الاستخباراتية، وصولاً إلى التّدخلات في الحروب البريّة التّقليدية وغير التّقليدية. وتتضمن هذه الدراسات كذلك المعرفة بالطّائرات المستخدمة، وطبيعية القذائف والصّواريخ التي تحملها، وقدرات الطّائرات من حيث سرعتها، ومدى طيرانها، وغيرها من أمور تفصيلية.

تحاول الكثير من النّقاشات والنّظريات الأكاديمية ضمن دراسات القوّة الجوّية الإجابة على أسئلة جوهريّة، أهمّها ما ارتبط بنجاعة هذه القوّة في إطار الصّراعات السّياسيّة ما بين الدّول، أو ما بين الدّول والمنظمات العسكريّة المختلفة. الأسئلة الأكثر أهميةً في هذا السّياق هي: هل يمكن لسلاح الجوّ أن يحسمَ الحرب دون الحاجة إلى القوّة البحريّة أو البريّة؟ كيف يجب استخدام القوّة الجويّة، وما هي طبيعية الأهداف التي يجب التّركيز عليها من الجوّ؟ هل تختلف استخدامات القوّة الجويّة في الحروب التّقليدية عنها في الحروب اللامتماثلة؟

وفي هذا الإطار، وظّف الكولنيل جون واردن حديث كلاوزفتيز عن “مركز الثّقل” في مجتمعات الخصم من أجل تطوير تقسيمٍ خماسيٍّ لطبيعية ونوع الأهداف التّي يُمكن للقوّة الجويّة استهدافها، وهي القيادة، والقدرة الصّناعيّة، والبُنية التّحتية، والبشر، والقوات العسكريّة.

يقول الكولونيل واردن إن الاستخدام الأنجع هو ضرب كلّ الحلقات في محاولةٍ لإضعاف الإرادة القتالية لدى الخصم، وذلك مع التّركيز على القيادة، والتي إن تمّ القضاء عليها، يتم شلُّ بقية الأطراف في البُنية العسكريّة، وخلق حالة من الفوضى في قدرات القيادة والتّحكم، ما يؤدي إلى انهيار العدوّ واستسلامه. وقد تزاوجت نظرية “واردن” مع التّطور التّكنولوجي في الأسلحة وخاصةً القذائف الذكيّة، ومع التّطور في البُنية المعلوماتية العسكريّة، وهو الأمر الذي أدى إلى بزوغ نظريات تروّج لإمكانية الحسم العسكريّ بواسطة القوّة الجوّية.

لكن مثل هذه النّظريات اصطدمت بعوائقَ عدّةٍ، أهمُها انتهاء عصر الخصوم العسكريّين التّقليديين للهيمنة الأمريكية، والتّحول إلى نمط التّنظيمات الهجينة، والتي تستخدم أدوات الحرب غير التّقليدية أو حرب العصابات، والتي أثبتت قدراتها على التّأقلم مع حروب الجوّ والاستمرار بالرغم من التّفوق الجويّ الغربيّ.

وبالتّالي، أصبح الحديث عن القوّة الجويّة وقدراتها في الحسم أمراً مثيراً للسخرية لدى كثير من كبار العقول العسكريّة الغربيّة. ولعل أوضح الأمثلة التّي تستدعي مثل هذه السّخرية هي الحروب التّي خاضتها أمريكا، والتي افتقرت فيها إلى قوّةٍ بريّةٍ متمكنةٍ، ولم تستطع فيها تحقيق الأهداف السّياسية المرجوة، مثل الحرب في فيتنام، وعمليات القصف الجوّيّ التّي أمر بها بيل كلنتون في صربيا والعراق وأفغانستان.
 
عودة
أعلى