الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم

معمر القذافى

عضو مميز
إنضم
8 أكتوبر 2008
المشاركات
2,471
التفاعل
81 0 0
إن الإعجاز معناه سبق الشيء لغيره سبقاً بالغاً، بحيث يصير هذا الغير عاجزاً عن إدراكه لحاقاً به، أو سباقاً له، ومنه «معجزات» الأنبياء عليهم السلام، التي يظهرها الله تعالى بقدرته المطلقة، خارقة للعادة، فتعجز المخلوقات جميعا عن الإتيان بمثلها، فإذا تعلق الأمر بالتشريع أو اختيار المنهاج الصحيح للبشر كان الإعجاز أظهر وأغلب، رغم الجدل البشري العقيم طوال التاريخ! وهذا إجمال يحتاج إلى بيان، وقد فصله القرآن الكريم تفصيلاً بديعاً واسعاً، نذكر بعضه فيما يلي:.

أولاً: الخلق والهداية الإلهية
فقد خلق الله عز وجل كل شيء وقدره تقديراً، وهدى كل مخلوق إلى وظيفته النوعية، وإلى غايته العامة، وجعل لذلك سبلاً كثيرة، منها الفطرة التي فطر الأشياء والأحياء عليها، ومنها الوحي الإلهي، ومنها التعليم والتجارب، قال تعالى {سبح اسم ربك الأعلى. الذى خلق فسوى. والذي قدر فهدى} (الأعلى:1-3).
ولذلك كان الوحي الإلهي بالنسبة للإنسان ضرورة لازمة، ونعمة سابغة؛،لأنه يعلمه حكمة حياته، ومهمة وجوده، وغاية خلقه، ومنتهى مصيره، ويصونه عن عبثية الخلق، وبطلانه!
ومن أجل ذلك كانت الشريعة الإلهية للإنسان بمثابة الروح التي تحيي الموات، والنور الذي يضيء الظلمات، والهداية التي تنقذه من الضلالة والضياع، وتدله على الصراط المستقيم، حين يتشابه عليه الأمر، وتتفرق به السبل!!

ثانياً: النبوة من البداية إلى النهاية
وقد جعل الله تعالى النبوة مفتاح الوحي الإلهي، وطريق البلاغ المبين لهذه النعمة الإلهية، منذ فجر التاريخ البشري، ثم في كل مراحله التالية، ثم في ختامه إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
وقد كانت النبوة الأولى مقترنة بخلق الإنسان، فاصطفى الله تعالى آدم عليه السلام لهذه النبوة، وعلمه الأسماء كلها، وبعثه بدينه وشريعته إلى أولاده وأحفاده، وجعل ذلك ناموس الحياة البشرية وقانونها الدائم، كما قال تعالى لآدم عليه السلام من أول الطريق في الأرض: {قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} (طه: 123- 124).
ثم جاءت النبوة الوسيطة ابتداء من إبراهيم عليه السلام، لأن البشرية كانت قد تطورت إلى مرحلة الدولة والحكومات المنظمة في العراق، ومصر، والشام، وغيرها من أقطار الأرض، فبعث الله تعالى لهم الرسل.
ثم أتم الله الأمر لعباده بالنبوة الخاتمة على يد محمد (صلى الله عليه وسلم)، لتمتد دعوته ورسالته إلى العالمين جميعاً، وإلى يوم القيامة.
وفي كل هذه المراحل ما خلّى الله تعالى الأرض، والأمم، والشعوب من دعوته ورسالته لهم بشريعته الدائمة إليهم، قال تعالى {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} (الشورى- 13)، وقال {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل- 36).

ثالثاً: معجزات الأنبياء
النبوة: محض هبة من الله تعالى، لا تنال بالكسب الذاتي مهما اجتهد الإنسان، وهي حجة الله على الناس؛ ولذلك حماها الله عز وجل من الدجالين والكذابين، بأن جعل لكل نبي آية معجزة يظهرها على يديه، تصديقاً له في دعواه، وكأنه تعالى يقول حينئذ: «صدق عبدي فيما يبلّغه عني».
والمعجزة: أمر خارق للعادة يظهره الله تعالى على يد من يدعي النبوة، تصديقاً له، وتمييزاً للمحق من المبطل في هذا الأمر الخطير، الذي يترتب على الصدق فيه وجوب الإيمان بالرسول، وبما أوحي إليه من ربه، ووجوب الطاعة والانقياد في كل شؤون الحياة.
ولذلك لا تكون المعجزة إلا من الله تعالى، ولا تكون قابلة للتكرار إلا بإذن الله تعالى وبأمره، قال تعالى {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط...} (الحديد- 25).
والآيات الكريمة تسمي المعجزة بأسماء عديدة، ذات دلالة موحية بالمراد منها مثل: «البينات»، و«السلطان»، و«الآية»، وكلها تعطي معنى الظهور البالغ، والحجة القاهرة، والعلامة الدالة على القدرة الخارقة، وهذا يؤهلها لمعنى السبق الفائق الذي لا يلحق ولا يسبق في بابه، مما يؤدي إلى العجز التام عن مواجهتها، فيكون العجز أبلغ دليل على إعجازها.

رابعاً: المعجزات الحسية والمعنوية
وقد أخبر الله تعالى في كتابه الكريم بالكثير من معجزات الأنبياء عليهم السلام بأعيانها وأوصافها، وهي نوعان
1- المعجزات الحسية:(1)
وهي الخوارق التي ترى بالأبصار، أو تلمس بالأيدي، أو تدرك بالحواس؛ لتكون بينة ظاهرة، لا يماري فيه إلا المبطلون المجادلون، وذلك مثل ناقة صالح التي خرجت من الصخر أمام العيون، وكانت تشرب المياه، وتعطي لبناً غزيراً يكفي القبيلة الكبيرة؛ لذلك يقول الله عنها {وآتينا ثمود الناقة مبصرة}(الإسراء- 59) أي ناقة حية ذات بصر، ترى الناس ويرونها، وذات دلالة على قدرة خالقها، وصدق رسوله صالح عليه السلام.
ومثل عصا موسى عليه السلام التي يراها الناس جميعاً في يده، فإذا ألقاها صارت ثعباناً مبيناً هائلا، ومثل يد موسى عليه السلام التي يخرجها من جيبه فتكون في غاية الضياء والبياض من غير مرض ولا برص {فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين. ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين} (الأعراف: 107- 108).
2- المعجزات المعنوية
كالإخبار بالغيوب، وتعليم الشرائع الحكيمة التي لا يستطيعها البشر، كما سنبين إن شاء الله، وإقامة الحجج والبراهين القاطعة على صحة الحق، وإبطال الباطل، في مناقشة الأفكار، ومحاورة الناس... الخ.
وهذا لم يقع مجتمعاً في كتاب واحد - يتحدى الكفار، ويصدق الرسول (صلى الله عليه وسلم) - إلا في القرآن العظيم، وقد طلب المشركون من الرسول (صلى الله عليه وسلم) - عناداً - أن يأتيهم بآية حسية مثل الرسل السابقين {بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} (الأنبياء- 5).


المعجزة العظمى .. القرآن

وقد ردّ الله عليهم: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون} (الأنبياء -10)، بل بيّن لهم سبحانه وتعالى أن هذا الكتاب هو الآية الكبرى، والمعجزة العظمى التي تحمل للناس جوامع الآيات والمعجزات، قال تعالى {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين. أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم...} (العنكبوت: 50- 51)، ويقول سبحانه وتعالى {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً} (الرعد: 31) وجواب لو محذوف يدل عليه المقام، والمعنى: لكان هذا القرآن.
وقد كذب الكفار الأولون والآخِرون بالمعجزات الحسية جهلاً وعناداً، وجاءت معجزة القرآن كافية شافية فكان لها من الآثار والأسرار، والإقناع والإبلاغ، ما لا نظير له في العالمين.
وهذا القرآن الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله (صلى الله عليه وسلم) هو المعجزة الكبرى التي تثبت صدقه في دعواه النبوة، وتكليفه بالرسالة، وهو الآية العظمى التي وقع بها التحدي المرة تلو المرة، فعجز الناس أن يأتوا بمثل القرآن، أو بسورة من مثله، فكان هذا العجز هو أبلغ دلائل الإعجاز، والتفرد بالسبق والامتياز.


خامساً: وجوه الإعجاز القرآني

حين بعث محمد (صلى الله عليه وسلم) لم تكن معه قوة، ولا كثرة، ولا مال، وإنما كان وحيداً، في مواجهة خصوم غلاظ شداد، فلما قرأ عليهم القرآن، أدركوا فوراً أنهم أمام طبقة عليا من الكلام، تجاوز ما عهدوه من فنون القول نثراً وشعراً، مع ما تحمله من معانٍ عليا وآفاق رحيبة، فانبهروا انبهاراً، فمنهم من آمن به، ومنهم من صد عنه حمية، أو جهلاً وعناداً، ومضى القرآن يتنزل يدعوهم إلى الحق، ويتحدى المعرضين ويجادل المعارضين، ويقيم الحجة والبرهان على صدق الرسول، وبطلان الشرك، وكان هو السلاح الحاسم مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، كما قال له الله تعالى {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً} (الفرقان - 52).
وكان القرآن من القوة والتأثير بحيث استنطق الكفار بغاية إعجابهم به، مع كفرهم وعنادهم.
فهذا الطفيل بن عمرو الدوسي يقول حين سمع بعضه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل أن يسلم: «إن هذا الكلام ليخرج من قاموس البحر» (1) والمراد من أعماق البحر كاللؤلؤ ونحوه.


سر الإعجاز في القرآن العظيم؟

وما السبب أو الأسباب التي تجعل هذا الكتاب الغلاب شيئاً متفرداً سباقاً لا يعلو عليه قول أو فكر، أو مذهب؟!
لقد أدرك المسلمون الأولون ذلك بسليقتهم العربية، وفطرتهم الإيمانية، فآمنوا بذلك إيماناً وثيقاً بلغ بهم ذروة اليقين، حتى خرجوا بسبب هذا الإيمان جهاداً في سبيل الله، وابتغاء مرضاة الله، وبذلوا أرواحهم وأموالهم ليكون هذا الحق باطنهم وظاهرهم، وواقع حياتهم، ثم أنفق العلماء من بعدهم أعمارهم وجهودهم، ليستخرجوا للناس الجواب عن أسرار الإعجاز الجليل في القرآن العظيم، فقالوا خيراً كثيراً:
1- فمنهم من قال كلاماً عجيباً، يملأ القلوب مهابة وإجلالاً، وخلاصته: أن الإعجاز شيء حقيقي موجود، يدرك ولا يمكن وصفه او التعبير عنه مستقلاً منفردا، كالحلاوة في السكر، والعذوبة في الماء.
يقول أبو حيان التوحيدي رحمه الله: لم اسمع كلاماً ألصق بالقلب، وأعلق بالنفس من فصل تكلم به بندار بن الحسين الفارسي - وكان بحراً في العلم - وقد سئل عن موضع الإعجاز من القرآن، فقال: هذه مسألة فيها حيف على المعنى، وذلك أنه شبيه بقولك: ما موضع الإنسانية من الإنسان؟ فليس لها موضع من الإنسان، بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته، ودللت على ذاته، كذلك القرآن لشرفه، لا يشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعنى آية فى نفسه، ومَعجَزة لمحاوِله، وهدى لقائله، وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه، وأسراره في كتابه، ولذلك حارت العقول، وتاهت البصائر عنده (2).
2- ومنهم من اجتهد في تحديد الوجوه، وتسمية الأسباب، وإبرازها في قوالب علمية معلومة، أو قواعد ذات أصول وفصول، وضوابط يمكن حفظها، وتعلمها، وتعليمها، قال ابن سراقة رحمه الله: اختلف أهل العلم في وجه إعجاز القرآن، فذكروا في ذلك وجوها كثيرة كلها حكمة وصواب، وما بلغوا في وجوه إعجازه جزءاً واحداً من عشر معشاره، فقال قوم هو الإيجاز مع البلاغة، وقال آخرون هو البيان والفصاحة، وقال آخرون هو الرصف والنظم... الخ(3).
3- وقد أطنب بعض العلماء في عد هذه الوجوه حتى جاوز بها ثلاثين وجهاً، كما فعل الإمام السيوطي في كتابه الشهير: «معترك الأقران في إعجاز القرآن»، ومن هذه الوجوه:
الأول: العلوم المستنبطة من القرآن الكريم.
الثاني: كونه محفوظاً من الزيادة والنقصان، محروساً من التبديل والتغيير على مر الزمان.
الثالث: حسن تأليفه، والتئام كلمه وفصاحتها، وإيجازه، وبلاغته الخارقة لعادة العرب... الخ.
الرابع: مناسبة آياته وسوره، وارتباط بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني منتظمة المباني...
الخامس: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات.
السادس: روعته وهيبته.
السابع: اشتماله على جميع أنواع البراهين والأدلة... الخ.
سادساً: الجوامع الثلاثة لوجوه الإعجاز
وعند التحرير والتحقيق العلمي الدقيق، نجد هذه الوجوه الكثيرة تقوم على ثلاثة أصول جامعة، تضم كل الوجوه الجزئية المتشابهة، والمتفرقة، وهي بإيجاز:


الوجه الأول: الإعجاز البلاغي البياني
ويدخل فيه فصاحة الألفاظ، وجودة المعاني، وبراعة الأسلوب، وسائر ما يتصل بهذا الباب.
الوجه الثاني: الإعجاز الخبري الغيبي
ويدخل فيه كل إخبار بالغيب ورد في القرآن الكريم، ابتداء من الغيب السحيق الذي لا يعلمه أحد إلا الله تعالى، مثل خلق العرش والماء، ثم خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم خلق الأحياء كالملائكة والجن، ثم خلق آدم عليه السلام، وإسكانه الجنة، وطرد إبليس، ثم أكل آدم من الشجرة التي نهي عنها، وإهباطه إلى الأرض... الخ.
ويدخل في هذا النوع قصص الأنبياء مع أممهم، وما يسمى الآن بالإعجاز الغيبي، وهو على سعته في القرآن مسوق للدلالة على قدرة الله، وتفرده بالخلق، ودعوته للناس.
ويدخل فيه الإخبار بغيب الحاضر وقت نزول القرآن، وهو كثير جداً في الكتاب العزيز، وسورة التوبة مليئة بهذا على سبيل المثال.
ويدخل فيه الإخبار بغيب المستقبل مثل الدابة، والقيامة، وأحوالها، ومشاهدها، ومحاورات أهل الجنة وأهل النار.. وغير ذلك كثير جداً.
وهذان النوعان كتب فيهما العلماء ما لا يحصى من الكتب والرسائل.
الوجه الثالث: الإعجاز التشريعي
وهو وجه الوجوه في إعجاز القرآن الكريم، وقد أشار إليه العلماء في عدّ الوجوه إشارات واضحة، ولكن لم يتابعوا ذلك بالتأصيل، والتفصيل، والاستيعاب كما فعلوا في الوجهين الأول والثاني، وقد تعجبت من ذلك أشد العجب، إذ لا أجد في المكتبة الإسلامية إلى الآن كتباً مفردة جامعة تبحث في «الإعجاز التشريعي» بحثاً شاملاً جامعاً، وتبرز أسراره وآثاره، كما فعل العلماء في الإعجاز البلاغي، والغيبي بكثرة كاثرة، واستفاضة واضحة، ومن أوضح الإشارات «للإعجاز التشريعي» قول الإمام الخطّابي (توفي 388 هـ) في كتابه «بيان إعجاز القرآن»: «إن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف؛ مضمّنا أصح المعاني من توحيد الله تعالى، وتنزيهه في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان لمنهاج عبادته في تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساويها، واضعاً كل شيء منها موضعه الذي لا يُرى شيء أولى منه، ولا يُرى في صورة العقل أمر أليق به منه...».
وهذا تماماً ما نعنيه بالإعجاز التشريعي، ولكنه يحتاج إلى بسط وبيان كالتالي:
1- المراد بالشريعة والتشريع
الشريعة في اللغة العربية: مورد الماء، والتشريع إيراد الإبل مورد ماء سهل ميسر لا يحتاج إلى آلات، وهو أيسر السقي.
ولذلك سميت الأحكام الإلهية «شريعة وتشريعاً» لأنها مورد تستقى منه المبادئ والأحكام في يسر وسهولة، وبلا معاناة أو بلا تقلب في التجارب التي قد تعرض الإنسان للمهالك، وقد سمَّى الله تعالى مجموع هذه المبادئ والأحكام بأسماء محددة ومميزة، منها الدَّين، والإسلام، والشريعة، والمنهاج. قال تعالى {فأقم وجهك للدين حنيفاً...} (الروم- 30).
وهذا الدين المسمى بهذه الأسماء هو دين الله لعباده في كل العصور، جاء به كل رسول لأمته، وجاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) للناس جميعاً؛ ولذلك كان ديناً واحداً لأن مصدره واحد {كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم} (الشورى- 3).
واتفق فيه الرسل في كل الأصول إلا ما اقتضت حكمة الله أن يتفاوتوا فيه ليناسب زمان كل منهم من الأحكام الفرعية. فاتفقوا في العقائد والأخلاق جميعاً بلا أدنى تفرقة. واتفقوا في أصول العبادات والمعاملات.
وتفاوتوا في صور العبادات والمعاملات فقط.فالصلاة مثلاً ذات ركوع وسجود عند الجميع، ولكن تتفاوت الهيئات والأعداد فقط، والصيام كتب علينا كما كتب على من قبلنا، وتتفاوت الأحكام في زمانه وأعداده ومقاديره فقط، وكذلك الزواج، والبيع وغيرهما من المعاملات.
قال تعالى {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} (الشورى- 13)، وقال تعالى {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين. قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} (الأنعام: 161- 162).
2- إعجاز الشريعة الإلهية في كل العصور
ويتضح مما سبق أن الإعجاز صفة ذاتية ثابتة لشريعة الله تعالى في كل العصور لأن الله تعالى هو الذي شرعها ابتداء، فهي كما قال تعالى: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} (النمل- 88).
ولأنه سبحانه وتعالى متصف بالعلم المحيط؛ لذلك يشرع على غاية الحكمة وحسن الاختيار، فهو لا يأمر فيها إلا بكل خير، ولا ينهى فيها إلا عن كل شر، ولا يحيط الشارعون من دون الله تعالى بهذه الأسرار، ومن ثم يتخبطون في الضلال.
- ولذلك سمى الله شريعته من أول الطريق «هدى» كما مر في الآيتين من سورة طه، لذلك لا يضل من اتبعها، ولا يشقى من لزمها، ومن أعرض عنها واتبع الأهواء والبدع البشرية وقع في ضنك الدنيا والآخرة جميعاً.
- وفي النبوة الوسيطة يقول تعالى عن شريعته {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} (المائدة- 44). { وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء} (الأعراف- 145).
والفارق بين النبوة الخاتمة وما قبلها يتضح فيما يلي:
أن الرسل السابقين بعثوا بمعجزات حسية، وقع بها التحدي لإثبات دين الله وشريعته، ولم يقع التحدي بالكتب السابقة، ولا بالشريعة الهادية مع أنها معجزة في ذاتها.
وفي النبوة الخاتمة جمع الله تعالى بين الدليل والمدلول عليه، وجعل الشريعة في ذات الكتاب الذي هو معجزة التحدي وإثبات الرسالة، فصار الإعجاز مركّباً، ترادفت فيه معجزة الشريعة بمصدرها وبذاتها، ومعجزة القرآن بمصدره الأعلى، وفي ذاته، ومعجزة الرسول الأمي الذي جاء به، ومعجزة الحفظ والصيانة والاستمرار في حاضر نزوله، وفي مستقبل زمانه إلى يوم الدين.
وهذه أمور اقتضاها ختم الرسالة بمحمد (صلى الله عليه وسلم)، ووجوب استمرار قيام حجة الله على الناس بعده (صلى الله عليه وسلم)، وضرورة معرفة الناس بشريعة الله ودينه عبر العصور المقبلة، التي علم الله أنها عصور ستزدحم بالمذاهب والأفكار، والشك والإلحاد، ولا تقوم عليهم الحجة إلا بصوت النبوة الممدود، ونداء المعجزة الموصول، وبرهان الوحي المحفوظ، تماماً كما قال (صلى الله عليه وسلم) «وكان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلى فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» رواه البخاري ومسلم.

سابعاً: أسباب الإعجاز التشريعي القرآني
لهذه الشريعة القرآنية أسباب بالغة، وأسرار جامعة متعددة، جعلتها ذروة في الإعجاز والامتياز منها:
أولاً: الأسباب الخارجية
ويعنى بها الأسباب الخارجة عن ذوات النصوص التشريعية، وإن كان لها أبلغ التأثير في إعجازها.
وأولها: مصدر الشريعة وهو الله رب العالمين، المتصف بكل صفات الكمال والجلال، والمنزه عن كل نقص وقصور، الذي ليس كمثله شيء في ذاته، وصفاته وأفعاله، فمن بدهيات اليقين أن تكون شريعتة على أوفى ذروة من الكمال، والموازنة، والصدق، والحق، والعدل، كما قال تعالى {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً} (الأنعام- 115) أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، وقال تعالى {قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض}(الفرقان- 6)، وقال تعالى معللا انفراده بالحكم والتشريع: {فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (الشورى- 11)، أي أنه تعالى خلق، وبث الحياة على نمط الزوجية، فكل شيء له أشباه ونظائر إلا هو سبحانه {ليس كمثله شيء} في ذاته، أو صفاته، أو أفعاله، ومنها شريعة الهداية التي لا يملكها غيره، ولا يستطيعها سواه على وجهها المعجز، المبرأ من العيوب.
وثانيها: رسولها المبلغ الذي بعث بها، وهو الرجل الأمي، في أمة أمية، لم يجلس إلى معلم، ولم يقرأ كتاباً قط، ولبث في قومه عمراً طويلاً لم يشتهر بخطابة أو شعر، أو اشتغال بعلوم ودراسات {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} (العنكبوت- 48)، وفجأة يأتيه الوحي الإلهي على رأس الأربعين، فيأتي بكل هذا القدر الهائل من الحكمة وفصل الخطاب، أو بكتاب يتحدى المكذبين، ويحاور أهل الفكر والنظر، ويناقض البيئة الجاهلية كل المناقضة، ويندد بأوثانها وشركها، ويجعل رأس دعوته التوحيد الخالص، ويستنكر قبائح الجاهلية من الزنى، والربا، والتطفيف، ووأد البنات، ثم يتعرض - وهو لا يزال مستضعفاً في مكة - لنقد أهل الكتاب قبله، فيندد بتحريفهم الوحي الإلهي في أخص تعاليمه وهو التوحيد، ويكشف جنايتهم على دين الله عز وجل قبل آخر أنبياء بني إسرائيل وبعده وهو عيسى عليه السلام، ويظل يأتي بحقائق الحق، وشرائع الصدق، حتى أنزل الله تعالى عليه هذه الآية الجامعة قبل موته بأشهر معدودة: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة- 3) أي شريعة أكمل الله تعالى صفاتها، وأتم إعدادها وأحكامها، ورضيها للناس ديناً قيماً معجزاً، لا يتسرب إليه عوج ولا خلل، ولا يستطيعها البشر مجتمعين، وينسبها محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى مصدرها الأعلى بأصرح عبارة، فيكون بحاله ومقاله أبلغ دليل على هذا الإعجاز المبين.
ثانياً: الأسباب الذاتية الداخلية:
ونعني بها أسباب الإعجاز التي ترجع إلى ذات النصوص التشريعية، وتتصل بصميم ألفاظها ومعانيها، وإحاطتها وصياغتها، وتفردها بالسبق في كل موطن توضع فيه موضع المقارنة والموازنة، أو تقاس فيه بمقاييس الصلاحية، وجليل الآثار.
وهذا باب واسع جداً لم يعطه الباحثون حقه من التأصيل والتفصيل، ولا يتسع له مقال مهما طال، وحسبنا هنا أن نذكر بعض جوامعها التي هيأ الله تعالى بها هذه الشريعة للإعجاز والتفوق، خاصة في نسختها القرآنية الخاتمة، ومن ذلك:

الشمول التشريعي

والمراد بالشمول: العموم والاستيعاب والإحاطة، والمعنى: أن شريعة الله تعالى لعباده هي شريعة كلية، وليست قاصرة على جانب دون غيره من جوانب الحياة البشرية، بل تستوعب شؤون الحياة جميعاً، الظاهرة والباطنة، المادية والمعنوية، القولية والفعلية، بل تمتد إلى أغوار النفس البشرية؛ لتنظيم النيات والضمائر التي هي بواعث السلوك الإنساني العجيب.
وقد قام هذا الشمول التشريعي على أربع شعب رئيسية، تستوعب الوجود الإنساني من كل أطرافه، وهي:
أولا: شعبة الإيمان
وهو التصديق الجازم، واليقين التام بالله عز وجل، وصفاته، وأسمائه، وأفعاله على الوجه الذي فصلته هذه الشريعة الربانية، ثم التصديق باليوم الآخر، والملائكة والكتاب، والنبيين على تفصيل واسع النطاق في كل أصل منها.
وهذه العقيدة كلها حق وصدق، ولا مدخل فيها للأساطير التي اخترعتها شياطين الإنس والجن، وهي تملأ باطن الإنسان طمأنينة وسكينة، ويقوم عليها ما بعدها من شؤون الحياة جميعاً، وسلوك الإنسان قاطبة.
ثانياً: شعبة الأخلاق
وهي السجايا النفسية التي يصدر عنها السلوك البشري، ولذلك حددتها شريعة الله تعالى، وأمرتنا بأحسن الأخلاق، ونهتنا عن سيئها، كالأمانة، والصدق، والصبر، والعفة في النوع الأول منها، وكالخيانة، والكذب، والهلع، والكبر، والغدر في النوع الثاني.
ثالثاً: شعبة العبادات
كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والعمرة، وغير ذلك من العبادات المحددة شرعاً، أو المطلقة كالذكر وعبادة التفكر، وغير ذلك مما جاءت به الشريعة مفصلاً.
رابعاً: شعبة المعاملات
وهي التصرفات التي تقع بين الناس في شؤون حياتهم الاجتماعية، والأسرية، والاقتصادية، والتعليمية، وفي علاقات السلم والحرب، وغير ذلك مما جاءت به الشريعة على غاية التفصيل، والتحديد، والتبيان.
لقد استوعب الوحي الإلهي شؤون الحياة جميعًا، وجعل للإنسان في كل حال من أحواله حكماً يتصف بكل ضمانات الحق، والصدق، والعدل، والمصلحة، ودفع المضرات، واختيار الأكمل له في كل مواطن الاختلاف والاشتباه، وهذا إنجاز لما تفرق من عناصر الامتياز، وهو إعجاز فوق الإعجاز، ولو اجتمعت الإنس والجن لا يأتون بمثل هذا النظام التشريعي الفذ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
وكان لذلك من جلال الحكمة الإلهية أن الله تعالى ختم آيات التشريع جميعاً بكلمات معجزة، واختار لنزولها جوامع المناسبات: زمانا، ومكانا، وتاريخاً، وعيداً وجموعاً، فقال تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا...} (المائدة- 3).
والآية الكريمة شهادة ربانية في ختام هذه الشريعة الشاملة: بإكمال كل حكم فيها فلا يلحقه نقص في صفات جودة الكيف، وبإتمام أعدادها المطلوبة لكل شؤون الحياة فلا تنقص عن شيء من أعداد الكم، ثم تتويج للشهادة بأنها نعمة يرضاها رب العزة والجلال، وهو وصف - لو يعلم الناس - عظيم من منشئ هذا الهدى، ومعلمه، وموحيه إلى رسوله (صلى الله عليه وسلم) وهي {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون} (التوبة- 33).
فإذا استصحبنا هذه الأصول دائماً وهي: ربانية المصدر، وشمول الشريعة التي أنزلها بشُعبها الجامعة، وشهادته سبحانه وتعالى في ختامها بإكمالها، وإتمامها، ورضاه عنها، لكان ذلك تأكيداً جامعاً، وبرهاناً قاطعاً، وحجة بالغة على تفرد هذه الشريعة بكل ضروب السبق، والامتياز، والإعجاز.
ومن هنا تنبع عشرات المعجزات، والخصائص، والأسباب التي نبين بعضها تتميماً لما سبق في إيجاز:

الصحة والاستقامة

فكل أحكامها صحيحة لا خطأ فيها، ومستقيمة لا اعوجاج فيها، ولذلك فهي شريعة معصومة من الخطأ، والخلط، أو القصور عما شرعت له بشروطه، ومعصومة عن الزيادة والنقصان؛ لأن كلاً منهما ظلم في الحكم، ولذلك وصف الله دينه بالاستقامة، ونزهه عن الجور، ورتب أحكامه جميعاً على هذا الميزان الدقيق، قال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (الأنعام- 153). وقال تعالى {وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر} (النحل- 9).

الوسطية وموافقة الفطرة
والمراد بها الخيرية التي يعلمها الله تعالى في الأشياء كما قال تعالى {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (البقرة- 216)، فهو يعلم الأسرار كلها، وهو الذي يهدي للتي هي أقوم، والتي هي أحسن وأفضل، ولا يدخل عليه سبحانه وهم ولا خداع، ولا يحكم على الأشياء بظواهرها أو زخارفها، وإنما بحقائقها، وما فيها من حق وضده الباطل، ومن خير وضده الشر، ومن مصالح ترجح ضدها من المضار، وليس المقصود المتوسط الحسابي، أو الزماني، أو المكاني، وإنما المقصود تشريع ما فيه الخير، والبعد عن الشر، في كل شُعَب الدين التي شرعها لعباده سبحانه وتعالى.
فالله تعالى يأمر بالتوحيد؛ لأن الحق والخير والفلاح في هذا، وينهى عن الشرك؛ لأنه باطل وكذب وخسران.
والله تعالى أمر بالإنفاق على وجه الاعتدال لأن فيه خير الدنيا والآخرة، ونهى عن الطرفين المذمومين: الإسراف والبخل؛ فقال تعالى {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} (الفرقان- 67).
وشرائع البشر أوقعتهم في سعار المادية تارة حتى صاروا وحوشاً شرهة للحرام، وزناً، وكيلاً، وتطفيفاً، وغصباً، ونهباً، وسرقة، وربا ً... الخ.

الثبات والمرونة
فكل ما علم الله ضرورته لعباده أمر به أمراً جازماً وثبته في شريعته، وكل ما علم الله ضرره المؤكد على عباده نهى عنه نهياً جازماً، وثبته في شريعته ولم يجعل لأحد خياراً في ذلك لما علمه من جهل الناس في كثير من الأحيان، وتقديمهم المضرة على المنفعة، كالخمر والزنا، والربا، والتدخين، وسفك الدماء، أو لما علمه من اتباعهم الهوى، وإيثارهم اللذة العاجلة ولو كانت قاتلة، أما ما عدا ذلك من الوسائل والأساليب فقد شرعها الله تعالى على وجه المرونة حتى تظل شريعته تدور على محورها في ثبات الأحكام أمراً ونهياً، وتمتد وتتجدد على محور المرونة فيما يتغير ويتطور حسب المكان والزمان، فمثلاً أمر الله تعالى بالشورى أمراً جازماً في كل شؤون الحياة، وجعلها قيمة إسلامية لازمة، وترك أساليب تطبيقها في الأسرة والمجتمع والحكومات والدول لاجتهاد اهل الحل والعقد بما يناسب زمانهم، وسيحاسبون عنده.


أعجوبة الدهر

تمتلأ الأرض بالعجائب، ولكن أم العجائب والغرائب جميعاً هو ما عليه المسلمون الآن، من إهدار لهذه المعجزة الربانية الباهرة، واتخاذهم القرآن المعجز مهجوراً، واستجلابهم قوانين الشرق والغرب المظلمة، التي جلبت عليهم خزي الدنيا وضنك الحياة:

ومن العجائب والعجائب جمة

قرب الخلاص وما إليه وصول

كالعيس في البيداء يقتلها الظما

والماء فوق ظهورها محمول.



 
عودة
أعلى