في أوائل مايو عام 1832 ، كان معظم الجيش العثماني قد تجمع في قونية ، على السفح الذي يقع شمالي طوروس ،
واحتلت أدنة بعض الوحدات فيما يلي الجبال المذكورة من الجنوب .
وفي 14 مايو كان حسين باشا يقيم مع جيشه في قونية ، لايبدي حراكا وكأنه لايتأهب لمعارك أو حروب ، تاركا الحبل على الغارب للجنود : لاتدريب أو مناورة ولا استعداد ولا نصائح للضباط أو توجيه . فعاثوا فسادا ، ونسوا جيادهم فلا عناية بأمرها ولا علائف تقدم لها . وعبثا ما حاوله الضباط الأوروبيون في هيئة أركان حرب القائد ، بل قل ضاعت جهودهم هباء منثورا .
وعلى نقيض ذلك ، كانت الحال في صفوف الجيش المصري . نشاط موفور ملحوظ بين الجند وضباطهم ، معنوية عالية نتجية لانتصارات في الستة أشهر ، تدريب متوافر وتطعيم لروح الحرب بين أفراد وحدات الإمدادات ؛ تصلهم بين الفينة والفينة أبناء زملائهم في الميادين الجنوبية .
كان محمد علي يلاحق بالآلايات المدربة أولا بأول . فوصلته الآلايات المشاة 5 و 18 و 20 والآلاي الثامن الخيالة و 30000 بدوي لسد خسائر الوحدات ، وملئ المراكز الشاغرة ، لتمسى مرتبات الحرب كاملة وسفن العتاد تواصل الليل والنهار في موانئ الشام التي باتت كلها خاضعة للقوات المصرية . وأسرع إبراهيم باشا في إصلاح ثغرى عكا وحيفا بمعاونة الكولونيل المهندس (Romei) الفرنسي لتكونا قاعتدين ساندتين للحملة المصرية وساعده في ذلك 400 من جنود المهندسين و2000 من العمال . وكان الآلاي العاشر المشاة وقليل من الخيالة تتولى حراسة خطوط مواصلات القاعدة .
وهنا كان على إبراهيم باشا أن يعمل فورا ، دون مضيعة للوقت ، واقتناصا للفرصة السانحة . فما كان بوسعه أن يبدد الوقت في السرور والحفلات . وعلى عاتقه أهداف أخرى ينبغي أن يصلها ببعضها وإلا تلاشت الظروف المهيأة ، وباغته جيش السردار حسين باشا ، الذي انتهى من حشده في الأناضول .
لقد أراح جنده ، وتمتعوا بنوم هادئ بعض الليالي تحت قبة السماء الصافية ، وانتهى من ترتيب الشئون العسكرية في عكا ، وتقدم برأسه المفكر ينظم الخطوط الرئيسية في الجولة الثانية إلى دمشق .
زايل عكا في يوم 9 يونيو (1832) في جيش مؤلف من 18 ألف جندي ، نصفهم من الوحدات النظامية ، قاصدا دمشق ، تلبية أو إذعانا لأمر محمد علي . لأن الاستيلاء عليها وعلى حلب وعكا وطرابلس معناه الاستيلاء على الشام كلها . ولما كان الوالد يعتقد كما أدرك نابليون من قبل أن النصر يحب التقدم الذي تؤارزه الكتائب اللجبة "La vicoire aime a marcher des gros bataillons." لذلك نشاهده يمد ابنه القائد بالوحدات والعتاد التي يتطلبها الموقف العسكري أولا بأول .
وفي 14 يونيو ، وصل إبراهيم باشا الظافر ضواحي دمشق ، برفقة الأمير الشهابي ، على رأس 18000 من المقاتلين (1000 من الجنود النظامية) بعد مصادمة غير عنيفة بالأتراك الذين ولوا أمامه هاربين . ودخل دمشق في 16 يونيو ، فقابله الأهالي بفرح واغتباط . وجعلها مقر الحكومة المصرية في الشام . ورتب الإدارة فيها على نسق جديد ، وعين عليها إبراهيم يكن باشا حاكما ، وأقام لها حامية من الآلاي الثاني المشاة وأورطة من الآلاي الخامس والآلاي الخيالة الثامن .
معركة حمص
اضطر إبراهيم باشا أن يمضى أسبوعين في دمشق إزاء الأنباء التي جاءته بانتشار الكوليرا في حمص حرصا على سلامة جيشه ، ولم يبدد هذه الأيام هباء ، إذ راح يعد العدة لأسباب التقدم ، ويدرب جنده . أما حسين باشا فإنه – قبالة ضغط ضباطه الأوروبيين – قد تخلى عن مراكزه حول أدنه ، وتقدم إلى أنطاكية ثم أوفد محمد باشا والى حلب ، على قيادة مقدمة الجيش وأمره بأن يحصن نفسه في حمص . والمسافة بين أنطاكية وحماه لا يستهان بها . ولا ندري كيف أمر السردار أكرم قائد مقدمته بأن يبعد عن الجيش ... هل يا ترى نسى تعليمات المقدمة في قانون الحرب ؟
فلما علم إبراهيم بالخطأ الذي اقترفه حسين باشا ، عزم على الاتصال بمقدمة الجيش التركي وسحقها ، ثم مهاجمة باقي الجيش بعد ذلك . فزايل دمشق زاحفا على حمص التي كان القائد التركي محمد باشا قد وصل إليها ، واستدعى من بعلبك وطرابلس بعض وحداته التي كانت تحت قيادة عباس حلمي باشا وحسن المناسترلي .
فصارت القوة ؛ التي تجمعت تحت قيادة إبراهيم باشا لدى وصوله إلى مشارف حمص في الجنوب ، حوالي ثلاثين ألف مقاتل (مانجان جـ 3 ص 42) ورأى أمامه المعسكر العثماني إلى جنوبي حمص ذات القلعة المهدمة وتحت أسوارها
أوضاع الجيش التركي والمصري
كان محمد باشا يثق بالإنتصار على خصمه "إبراهيم باشا وفلاحيه" بل أوهمه اعتقاده أن سيفوز وحده في معركة حمص وينال المجد بمفرده وبدون سرداره .
وفي صبيحة يوم 7 يوليو وصل حمص وكانت أسوارها في حالة طيبة ، تحيط بها الحدائق والقنوات التي يتسنى إعدادها لوسائل الدفاع . أما جنوده فقد أنهكها التعب ، وأسقمها السير الطويل فحطوا بأسلوبهم شمال المدينة ، على شاطئ الأورنت . بينما اقتنع القائد أنه في مأمن من جنود إبراهيم باشا – فأجل إلى الغد وضع خططه وتدابيره وبدأ يستعد لتشريف الحفلة الأنيقة التي أعدها له ولضباطه – الباشا وإلى حلب – تكريما لشخصه .
وبينما كان يتنعم بما لذ وطاب مما تشتهيه النفس من أضراب الطعام العثماني ، وألوان الشراب السوري ، كان جنده غادروا مخيمهم يتضورون جوعا في أسواق المدينة يخطفون الخبز وشرائح اللحم ، وكلما وصلت إليه أيديهم .
وفي مساء يوم 7 يوليو (أيضا) كانت وحدات الجيش المصري قد اجتازت مسافة طويلة وصارت على مسيرة خمس ساعات من حمص . فعلم قائدها الكبير بوصول الجيش التركي إليها .
وكانت الوحدات المصرية تتألف من ثمانية آلايات مشاة وستة خيالة و38 قطعة مدفعية ، ومجموع القوة حوالي 30.000 مقاتل يضاف إليها البدو غير النظاميين . وقد أفاده هؤلاء – وهم مهرة في أعمال الاستكشاف – بوجود الجيش العثماني .
وتناقل المعسكران المعلومات بوساطة عيونهما ، فأدرك محمد باشا ، وسط ضجيج الحفل والمرح ، تحرج الموقف ، فجمع كبار ضباطه لتقرير المصير . وهنا ارتأى البعض أن الأصوب التقهقر المنظم إلى موقع آخر بينا فضل آخرون خطة التحرك والقضاة على الجيش المصري .
ولامرية أنه كان من الأصوب في مثل هذا الموقف ، الذي كان فيه الباشا وجيشه ، التقهقر تجاه حلب ، للاتصال بقيادته العليا في أنطاكية وبالاّف الأهالي الموالين للأتراك ، واستهواء إبراهيم باشا إليهم حيث يسهل عليها إدارة المعركة حسب مشيئتها . ولكن هل يتفق هذا الرأي وحبه للمجد وهو قاب قوسين أو أدنى منه . إذن ليتقبل المعركة ، ويتحدى إبراهيم باشا ، في سبيل شهوه المجد .
وقادته فطنته بأن يلتزم خطة الدفاع ، ويشبك نفسه بحمص ، متخذا منها تكأة لحمايته ومن القناوات والمباني المهدمة والأشجار موانع يقاتل جنده خلفها .
كان هذا حسن لو استبسل رجاله في الدفاع والتشبت بمواقعهم . وبذا يعرقل تقدم جيش إبراهيم ويؤخره أياما ، فيعطي الفرصة للمشير حسين باشا باتخاذ الخطة الصالحة في الوقت والمكان المناسبين له وفي الصباح المبكر من يوم 8 يوليو ، أزال محمد باشا معسكره ، ونشر جل قواته قبالة جنوبي المدينة أمام مزارعها الغناء.
وزع جيشه في صفوف ثلاثة . وضع في الصف الأول أربعة آلايات مشاة نظامية عبر الطريق الموصل من حمص إلى دمشق تتكئ ميمنته على الزاوية الكبرى للقناة المتصلة بنهر الأورنت . وميسرته في فضاء الصحراء . وخلف الصف الأول الصف الثاني ، وضع فيه آلايين وآلاي خيالة عبر الطريق بين الأورنت ودمشق ويدعم بها قلب وميمنة الصف الأول . وإلى شرق الطريق المذكور ، عند أكمة وضع آلايا آخر من الخيالة لتسند ميسرة الصف الأول .
وفي الصف الثالث ، الذي امتد بين الأورنت وضيعة مخربة ، تبعد حوالي 1.800 متر عن جنوب شرقي حمص ، وضع قواته غير النظامية وآلايا من الخيالة النظامية لحماية ميسرته .
وهكذا وزع مشاته وخيالته ، أما توزيع مدفعيته فتم على الوجه الآتي : وزع مدافعه بين صفوف وحداته الآنفة الذكر بمعدل مدفع في كل أورطة مشاة ومدفعين في كل آلاي خيالة . وصف 21 مدفعا في مواقع مختارة خلف ميمنة قواته .
حركات الجيش المصري
وبنيما كان الجيش التركي يتخذ أوضاعه المذكورة ، في أحوال سادها الهرج والمرج ، كان الجيش المصري ، الذي قضى ليلته على مقربة من طاحونة قديمة بالقرب من قصير ، قد طفق مسيره في فجر يوم 8 يوليه متجها صوب حمص . وكان ترتيب سير القوات كالآتي : في المقدمة "الآلايات المشاة" 12 و 13 و 18 يتبعها آلاي الحرس . والآلايان الخامس والحادي عشر (المشاة) واتخذت كل أورطة في تشكيل قول مزدوج مفتوح (غير كامل الانتشار) أما الآلاي الثامن فكان في الاحتياط ، خلف منتصف القوة .
أما المدفعية فكانت ثلاث بطاريات منها في الصف (الخط) الأول ، وأربع بطاريات وأيوسين بين الصف الأول والثاني .
وكان توزيع الخيالة على لانسق التالي : ثلاثة آلايات على كلا جانبي التشكيل كله – في ميمنته كما في ميسرته ، وتحرس القوات غير النظامية من البدو أطراف الأجناب للقوات الإحتياطية .
وقد كان يسمح هذا التوزيع أو التشكيل لقائد الجيش – إبراهيم باشا بأن يقوم بالمناورة بحرية واسعة ، حسبما تمليه عليه طبيعة الأرض التي سيتقدم عليها ، وحسبما تصله المعلومات عن حركات العدو ، غير خطته في اللحظة الأخيرة إلى هجوم مضاد . وكانت الأرض إلى شرق الضيعة المخربة تسمح لإبراهيم بمناورة يقوم بها بحركة التفاف واسعة حول ميسرة الأتراك ، وهي أضعف نقط في خط دفاعهم ، والتي لم ترتكز على موانع قوية تكسر من حدة الهجوم المصري إن لم نقض عليه .
وأخيرا اتخذ إبراهيم باشا قراره النهائي : "يقوم قلب الجيش المصري بالهجوم على واجهة الجيش التركي بكل قوته ، يطفى بمشاته وخيالته ومدفعيته نحو ميسرة الأتراك فيحركة التفاف واسعة ، بينما تقوم بعض مشاته بهجوم خادع بموازاة نهر الأورنت لشغل ميمنة الأتراك في خطيه الأول والثاني ، وبذلك يربك عملهم نهائيا . "يتجه لواء الخيالة الثاني (الآلايان 2 و 4) والآلاي الثالث الرماحة المدرعين نحو الضيعة المهدمة ، وعند وصولها لأنسب المواقع تفتح تشكيلها بين لاضيعة المذكورة والمزارع (جنوبي حمص) وتلف حول ميسرة المؤخرة التركية . "آلاي الحرس والآلاي المشاة 18 تدعم القوة السابقة وتفتح تشكيلها عند وصولها إلى غرب وجنوب غربي الضيعة المهدمة . "بطارية مدفعية وأيبوسان تتخذ مواقعها المناسبة حيال الضيعة . بينما تجري هذه الحركات تأخذ الآلايات 13 و18 مواقعها في الأمام ويأخذ الآلاي الخامس مكانه بدلا عن الآلاي الثاني عشر وتفتح وحداتها على طريق دمشق الكبير أمام قوات الأتراك في الصف الأول . "في الوقت نفسه تقوم قوة منفصلة مكونة من الآلاي الحادي عشر المشاة والآلاي السادس والسابع الخيالة وبطارية مدفعية بالتقدم نحو الأرض الواقعة بين نهر الأورنت والقناة (وتشبه الجزيرة أو الدلتا) لمهاجمة ميمنة الأتراك وكإحتياطي لها الآلاي السابع المدرع في الصف الثاني – ولدى ظهورها تولى الرغب قلوب الأتراك ، وتحطمت أعصابهم ، فاضطر القائد إلى إصدار أوامره إلى أورطتين في اليمين لتغيير مواجهتها لصد العدو المفاجئ ، ولكن كان الهرج قد عم الميدان .
لقد بلغ القتال عنفوانه – المعركة في الساعة الخامسة مساء والمدفعية المصرية تقذف نيرانها الشديدة على صفوف الأتراك ، فتسدد إصاباتها بكل دقة وإحكام ، وترد عليها مدفعية الأتراك بدون خطة محددة وتتبعثر طلقاتها هنا وهناك . بينما وهنت روح مشاتهم في الميمنة فانضموا إلى زملائهم في القلب .
والآن تصل المعركة إلى لحظاتها الفاصلة . ورأى إبراهيم باشا أن يستهل الهجوم الساحق ، فأمر آلايات الفرسان 2 و 3 و 4 ومكانها على ميمنة صفوفه بالزحف شرقا (كالخطة الموضوعة) لتقوم بحركة الالتفاف حول ميسرة الترك وتولى بنفسه قيادة هذه المعركة لأن على نجاحها يتوقت مصير المعركة .
تحرك الفرسان الشجعان واجتازوا الضيعة المهدمة بنحو ألفين إلى ثلاثة آلاف ياردة وتقدموا المهاجمة الخيالة الترك غير النظاميين الذين كانوا على مقربة من الضيعة وكان الهجوم شديدا ومحكما . فتراجع الترك وتفرقوا . واحتل المصريون الأرض الواقعة بين الضيعة وحدائق حمص ، ولما رأى الفرسان الترك النظاميون ما حل بزملائهم غير النظاميين تقدموا لصد هجمة المصريين وقد نجحوا – فأمد إبراهيم باشا فرسانه بقوة من جنود الحرس والمشاة (12 آلاي) والمدفعية فأوقعوا بهم وفرقوهم ، ثم هجم معهم المشاة المصريون من لاقلب فارتبكت ميسرة الأتراك بعد مقاومة عنيدة ثم تقهقرت إلى الوراء وبذلك هزم الجناح الأيسر التركي برمته وتخلى عن مواقعه .
أما قلب الجيش التركي فقد اصطدم بنيران المصريين المحكمة . في الوقت الذي لم تمده مدفعيته بمعاونة كافية من النيران ، فبدأ ينثني . وقام محمد باشا بوزن وتقدير الموقف الذي أصبح حرجا بعد أن أصبحت ميمنته ووسطه في حالة سيئة تهدد بالانهيار السريع . وكان ينبغي عليه استدعاء قواته الإحتياطية ليعزز بها المراكز التي ضعفت ويقوم بهجوم مضاد في ناحية الضيعة . لكن لم يفعل – ووجد حلا يائسا يخرجه من الورطة فأمر آلاي خيالة في ميسرة صفه الثاني بالهجوم على مدفعية المصريين الذين وصلوا إلى الضيعة كما أمر آلاي مشاة في قلب الصف الأمامي (وكان هذا الآلاي يرتكز على الآلاي الميسرة في الصف الثاني للقيام بالهجوم بالسونكي لاقتحام الآلاي المصري الثاني عشر . وأسرع آلاي خيالته بتنفيذ الهجوم ولكنه كان متعبا فكان هجومه غير منظم وقابلته مدفعية الحرس بنيرانها المحكمة – فدار وولى الأدبار – أما آلاي المشاة (التركي) فتقدم من القلب كالأمر الذي صدر إليه ولكن أوقفته نيران الآلاي الخامس المصري ثم هاجمه من الجنب الآلاي 12 المصري في تشكيل مدرج من الميمنة . ولم يفعل شيئا لمقاومة الهجوم المصري .
ويسدل الليل ستاره . وتحت ظلام الليل يمتطي محمد باشا جواده قاصدا مدينة حمص ، وبدا كل قائد يبحث عن وسيلة لينقذ نفسه ، واقتدى الضباط بقادتهم ، ثم بدت الفوضى والهزيمة والذعر ، حين تأتي دور الجند في ترك صفوفهم وولوا الأدبار مدحورين .
ولقد خال للمصريون أن الأتراك – بعد لم شملهم في الليل – سيعاودون القتال ، إذ كانت قلعة حمص تحمى ظهورهم . ومرت لحظات توقع المصريون أن يعاود الترك الكرة ويستأنفوا القتال ، ولكن شيئا من هذا لم يقع! ولم يفكر الترك في معاودة القتال . فتقدم إبراهيم باشا بحذر على رأس جيشه الظافر محتلا المواقع التي أخلاها الترك . وأعاد تنظيم قواتها وصفها على شكل مربع ووضع المدافع زواياه الأربع . فازداد مركزه منعة بينما كان الأتراك يمعنون في الانسحاب مكسورين . وبادر إبراهيم باشا فأرسل إلى أبيه ينبئه بهذا النصر الكبير الذي عرف عند المصريين بيوم هزيمة الباشوات .
خسائر الطرفين
كانت خسائر الترك في معركة حمص جد جسيمة – 2000 قتلى و2500 أسرى واستولى المصريون على عشرين من مدافعهم علاوة على ذخائره وعتاده . أما خسائر المصريين فلم تزد عن 102 من القتلى و162 من الجرحى .
وفي اليوم التالي دخل المصريون حمص (9 يوليو) بينما كان الترك يعدون صوب حلب وأنطاكية . وغلب خيالتهم النظامية على أمرهم فاستولى غير النظاميين على جيادهم يمتطونها! .
نقد لعمليات الجيشين
يجد المعلق الناقد لحركات الجيش التركي مادة مستفيضة من الأخطاء التي اقترفتها القيادة . فبعد أن قررت الخروج من حمص لقبول المعركة صفت قواتها في خطوط متقاربة بدون عمق كاف . فضلا عن عدم تفكيرها بوضع احتياط ينتفع به في الوقت المناسب للقيام بهجوم مضاد . فقد كان صفه الثالث هزيلا (راجع الأوضاع السابقة) وكان تشكيل أوضاعه خطيا (formation lineaire) فلم يعد قادرا على القيام بحركة مناورة لها تأثير ناجح على سير المعركة ، ولم تنتفع بطبيعة الأرض إلا من ناحية الميمنة (نهر الأورنت والقناة) ومع ذلك فقد كرم محمد باشا في هذه الجهة معظم قواته ، وترك ميسرة جيشه في الهواء لاتعتمد على قوات أو موانع . كما أنه لم ينتفع بالحدائق أو التخوم التي تحيط بجنوب حمص وتركها والضيعة المهدمة لعدوه الذي انتفع بها تماما .
ولم يعرف كيف يوجه مدفعيته في نيران متجمعة على وحدات المصريين ، بل نثر توزيعها على أهداف كثيرة. وبالاختصار كانت أوضاع الأتراك وتوزيع قواتهم لايسمح بأي نجاح سواء في حالة الدفاع أو في حالة الهجوم المضاد . فقد أهملوا المبادئ الرئيسية للقتال الناجح .
أما في ما يخص حركات المعركة من الجانب المصري فقد كانت كل دقائق الخطة محبوكة من الطرفين واتسمت كل حركة بالنشاط والبراعة في تنفيذها . فقد نظر إبراهيم باشيا جليا إلى نوع المناورة التي يعملها مهتديا بطبيعة الأرض وبتوزيع قوات خصمه وموقفه – فكانت الأوضاع التي اتخذها في توزيع قواته متفقة كل الاتفاق مع التكتيك المثالي وطاقته التي يستطيع بها تنفيذ الحركة من تقدم أو هجوم جانبي أو جبهي أو تقهقر (وهذا لم يفكر فيه أبدا) وكانت وحداته موزعة في عمق كاف يسمح له بالسيطرة على تنفيذ الحركات وفقا لما ينبغي . وأحسن تعبير لبراعة مناورة إبراهيم نجده في عبارة المارشال فيجان في كتابه المعروف . "La manouvre etait en germe dans le dispositif initial de son armee".
وكانت حركة الإلتفاف حول جنب القوات التركية رائعة كما أسلفنا محبوكة في تفاصيلها ومجموعها . كذلك كان هجومه على ميسرة الترك . وكان استخدام المدفعية يسير حسب خطة موضوعة لاهباء ولا ارتجالا ، وهي قواعد المدرسة الحربية الحديثة التي وضع أسسها نابليون ، وفهمها سليمان بك ، وهضمها إبراهيم ، فعرف كيف ينتفع بها . هي الأسس التي أهمها مرونة الخطة ، والقدرة على تنفيذها والسرعة في إنجازها ، وأثر المفاجأة الذي ستحدثه على العدو .
ففي معركة حمص تقابل وجها لوجه للمرة الأولى جيشين شرقيين ، أسلحتهما واحدة ، وأسلوب حربهما متقنة . فكان النصر من نصيب الجانب الذي تفوق في تنظيمه ونظامه في القتال وروح قيادته العليا ، وفي هذه المعركة هدم الجمود أمام الحركة والسرعة .
أجل . في معركة حمص بانت روح القيادة المنظمة التي تسود الجيش المصري ومحى الجنود المصريون هزيمتهم ، أو بعبارة أوضح هزيمة أسلافهم التي لحقت بهم في عام 1517 (معركة مرج دابق و الريدانية) حينما اعتدى السلطان سليم على استقلال مصر وهزم سلطانها الغورى .
وفي التقرير الذي رفعه إبراهيم لأبيه عن المعركة ، قال عن العدو : "لم أر في حياتي هزيمة كهزيمة العدو . فإني لا أغالي إذا قلت أنه لو زحف على مئتا ألف أو ثلاثمائة ألف من عساكره لما نبض لي بسببهم نبض أو اكترثت بهم ، ونحن بمشيئة الله ظافرون بأولئك العساكر أينما وجدوا . وقد أرسلنا الأسرى إلى عكا وأمرنا ديوان أفندي بأن يقبل في التقاعد كل من يريد تسجيل اسمه فيه ويرسل من يرغب في العودة إلى وطنه إليه في مصر أو غيرها . وقد بلغ عدد القتلى منذ 102 والجرحى 162 وخسرنا 172 جوا
واحتلت أدنة بعض الوحدات فيما يلي الجبال المذكورة من الجنوب .
وفي 14 مايو كان حسين باشا يقيم مع جيشه في قونية ، لايبدي حراكا وكأنه لايتأهب لمعارك أو حروب ، تاركا الحبل على الغارب للجنود : لاتدريب أو مناورة ولا استعداد ولا نصائح للضباط أو توجيه . فعاثوا فسادا ، ونسوا جيادهم فلا عناية بأمرها ولا علائف تقدم لها . وعبثا ما حاوله الضباط الأوروبيون في هيئة أركان حرب القائد ، بل قل ضاعت جهودهم هباء منثورا .
وعلى نقيض ذلك ، كانت الحال في صفوف الجيش المصري . نشاط موفور ملحوظ بين الجند وضباطهم ، معنوية عالية نتجية لانتصارات في الستة أشهر ، تدريب متوافر وتطعيم لروح الحرب بين أفراد وحدات الإمدادات ؛ تصلهم بين الفينة والفينة أبناء زملائهم في الميادين الجنوبية .
كان محمد علي يلاحق بالآلايات المدربة أولا بأول . فوصلته الآلايات المشاة 5 و 18 و 20 والآلاي الثامن الخيالة و 30000 بدوي لسد خسائر الوحدات ، وملئ المراكز الشاغرة ، لتمسى مرتبات الحرب كاملة وسفن العتاد تواصل الليل والنهار في موانئ الشام التي باتت كلها خاضعة للقوات المصرية . وأسرع إبراهيم باشا في إصلاح ثغرى عكا وحيفا بمعاونة الكولونيل المهندس (Romei) الفرنسي لتكونا قاعتدين ساندتين للحملة المصرية وساعده في ذلك 400 من جنود المهندسين و2000 من العمال . وكان الآلاي العاشر المشاة وقليل من الخيالة تتولى حراسة خطوط مواصلات القاعدة .
وهنا كان على إبراهيم باشا أن يعمل فورا ، دون مضيعة للوقت ، واقتناصا للفرصة السانحة . فما كان بوسعه أن يبدد الوقت في السرور والحفلات . وعلى عاتقه أهداف أخرى ينبغي أن يصلها ببعضها وإلا تلاشت الظروف المهيأة ، وباغته جيش السردار حسين باشا ، الذي انتهى من حشده في الأناضول .
لقد أراح جنده ، وتمتعوا بنوم هادئ بعض الليالي تحت قبة السماء الصافية ، وانتهى من ترتيب الشئون العسكرية في عكا ، وتقدم برأسه المفكر ينظم الخطوط الرئيسية في الجولة الثانية إلى دمشق .
زايل عكا في يوم 9 يونيو (1832) في جيش مؤلف من 18 ألف جندي ، نصفهم من الوحدات النظامية ، قاصدا دمشق ، تلبية أو إذعانا لأمر محمد علي . لأن الاستيلاء عليها وعلى حلب وعكا وطرابلس معناه الاستيلاء على الشام كلها . ولما كان الوالد يعتقد كما أدرك نابليون من قبل أن النصر يحب التقدم الذي تؤارزه الكتائب اللجبة "La vicoire aime a marcher des gros bataillons." لذلك نشاهده يمد ابنه القائد بالوحدات والعتاد التي يتطلبها الموقف العسكري أولا بأول .
وفي 14 يونيو ، وصل إبراهيم باشا الظافر ضواحي دمشق ، برفقة الأمير الشهابي ، على رأس 18000 من المقاتلين (1000 من الجنود النظامية) بعد مصادمة غير عنيفة بالأتراك الذين ولوا أمامه هاربين . ودخل دمشق في 16 يونيو ، فقابله الأهالي بفرح واغتباط . وجعلها مقر الحكومة المصرية في الشام . ورتب الإدارة فيها على نسق جديد ، وعين عليها إبراهيم يكن باشا حاكما ، وأقام لها حامية من الآلاي الثاني المشاة وأورطة من الآلاي الخامس والآلاي الخيالة الثامن .
معركة حمص
اضطر إبراهيم باشا أن يمضى أسبوعين في دمشق إزاء الأنباء التي جاءته بانتشار الكوليرا في حمص حرصا على سلامة جيشه ، ولم يبدد هذه الأيام هباء ، إذ راح يعد العدة لأسباب التقدم ، ويدرب جنده . أما حسين باشا فإنه – قبالة ضغط ضباطه الأوروبيين – قد تخلى عن مراكزه حول أدنه ، وتقدم إلى أنطاكية ثم أوفد محمد باشا والى حلب ، على قيادة مقدمة الجيش وأمره بأن يحصن نفسه في حمص . والمسافة بين أنطاكية وحماه لا يستهان بها . ولا ندري كيف أمر السردار أكرم قائد مقدمته بأن يبعد عن الجيش ... هل يا ترى نسى تعليمات المقدمة في قانون الحرب ؟
فلما علم إبراهيم بالخطأ الذي اقترفه حسين باشا ، عزم على الاتصال بمقدمة الجيش التركي وسحقها ، ثم مهاجمة باقي الجيش بعد ذلك . فزايل دمشق زاحفا على حمص التي كان القائد التركي محمد باشا قد وصل إليها ، واستدعى من بعلبك وطرابلس بعض وحداته التي كانت تحت قيادة عباس حلمي باشا وحسن المناسترلي .
فصارت القوة ؛ التي تجمعت تحت قيادة إبراهيم باشا لدى وصوله إلى مشارف حمص في الجنوب ، حوالي ثلاثين ألف مقاتل (مانجان جـ 3 ص 42) ورأى أمامه المعسكر العثماني إلى جنوبي حمص ذات القلعة المهدمة وتحت أسوارها
أوضاع الجيش التركي والمصري
كان محمد باشا يثق بالإنتصار على خصمه "إبراهيم باشا وفلاحيه" بل أوهمه اعتقاده أن سيفوز وحده في معركة حمص وينال المجد بمفرده وبدون سرداره .
وفي صبيحة يوم 7 يوليو وصل حمص وكانت أسوارها في حالة طيبة ، تحيط بها الحدائق والقنوات التي يتسنى إعدادها لوسائل الدفاع . أما جنوده فقد أنهكها التعب ، وأسقمها السير الطويل فحطوا بأسلوبهم شمال المدينة ، على شاطئ الأورنت . بينما اقتنع القائد أنه في مأمن من جنود إبراهيم باشا – فأجل إلى الغد وضع خططه وتدابيره وبدأ يستعد لتشريف الحفلة الأنيقة التي أعدها له ولضباطه – الباشا وإلى حلب – تكريما لشخصه .
وبينما كان يتنعم بما لذ وطاب مما تشتهيه النفس من أضراب الطعام العثماني ، وألوان الشراب السوري ، كان جنده غادروا مخيمهم يتضورون جوعا في أسواق المدينة يخطفون الخبز وشرائح اللحم ، وكلما وصلت إليه أيديهم .
وفي مساء يوم 7 يوليو (أيضا) كانت وحدات الجيش المصري قد اجتازت مسافة طويلة وصارت على مسيرة خمس ساعات من حمص . فعلم قائدها الكبير بوصول الجيش التركي إليها .
وكانت الوحدات المصرية تتألف من ثمانية آلايات مشاة وستة خيالة و38 قطعة مدفعية ، ومجموع القوة حوالي 30.000 مقاتل يضاف إليها البدو غير النظاميين . وقد أفاده هؤلاء – وهم مهرة في أعمال الاستكشاف – بوجود الجيش العثماني .
وتناقل المعسكران المعلومات بوساطة عيونهما ، فأدرك محمد باشا ، وسط ضجيج الحفل والمرح ، تحرج الموقف ، فجمع كبار ضباطه لتقرير المصير . وهنا ارتأى البعض أن الأصوب التقهقر المنظم إلى موقع آخر بينا فضل آخرون خطة التحرك والقضاة على الجيش المصري .
ولامرية أنه كان من الأصوب في مثل هذا الموقف ، الذي كان فيه الباشا وجيشه ، التقهقر تجاه حلب ، للاتصال بقيادته العليا في أنطاكية وبالاّف الأهالي الموالين للأتراك ، واستهواء إبراهيم باشا إليهم حيث يسهل عليها إدارة المعركة حسب مشيئتها . ولكن هل يتفق هذا الرأي وحبه للمجد وهو قاب قوسين أو أدنى منه . إذن ليتقبل المعركة ، ويتحدى إبراهيم باشا ، في سبيل شهوه المجد .
وقادته فطنته بأن يلتزم خطة الدفاع ، ويشبك نفسه بحمص ، متخذا منها تكأة لحمايته ومن القناوات والمباني المهدمة والأشجار موانع يقاتل جنده خلفها .
كان هذا حسن لو استبسل رجاله في الدفاع والتشبت بمواقعهم . وبذا يعرقل تقدم جيش إبراهيم ويؤخره أياما ، فيعطي الفرصة للمشير حسين باشا باتخاذ الخطة الصالحة في الوقت والمكان المناسبين له وفي الصباح المبكر من يوم 8 يوليو ، أزال محمد باشا معسكره ، ونشر جل قواته قبالة جنوبي المدينة أمام مزارعها الغناء.
وزع جيشه في صفوف ثلاثة . وضع في الصف الأول أربعة آلايات مشاة نظامية عبر الطريق الموصل من حمص إلى دمشق تتكئ ميمنته على الزاوية الكبرى للقناة المتصلة بنهر الأورنت . وميسرته في فضاء الصحراء . وخلف الصف الأول الصف الثاني ، وضع فيه آلايين وآلاي خيالة عبر الطريق بين الأورنت ودمشق ويدعم بها قلب وميمنة الصف الأول . وإلى شرق الطريق المذكور ، عند أكمة وضع آلايا آخر من الخيالة لتسند ميسرة الصف الأول .
وفي الصف الثالث ، الذي امتد بين الأورنت وضيعة مخربة ، تبعد حوالي 1.800 متر عن جنوب شرقي حمص ، وضع قواته غير النظامية وآلايا من الخيالة النظامية لحماية ميسرته .
وهكذا وزع مشاته وخيالته ، أما توزيع مدفعيته فتم على الوجه الآتي : وزع مدافعه بين صفوف وحداته الآنفة الذكر بمعدل مدفع في كل أورطة مشاة ومدفعين في كل آلاي خيالة . وصف 21 مدفعا في مواقع مختارة خلف ميمنة قواته .
حركات الجيش المصري
وبنيما كان الجيش التركي يتخذ أوضاعه المذكورة ، في أحوال سادها الهرج والمرج ، كان الجيش المصري ، الذي قضى ليلته على مقربة من طاحونة قديمة بالقرب من قصير ، قد طفق مسيره في فجر يوم 8 يوليه متجها صوب حمص . وكان ترتيب سير القوات كالآتي : في المقدمة "الآلايات المشاة" 12 و 13 و 18 يتبعها آلاي الحرس . والآلايان الخامس والحادي عشر (المشاة) واتخذت كل أورطة في تشكيل قول مزدوج مفتوح (غير كامل الانتشار) أما الآلاي الثامن فكان في الاحتياط ، خلف منتصف القوة .
أما المدفعية فكانت ثلاث بطاريات منها في الصف (الخط) الأول ، وأربع بطاريات وأيوسين بين الصف الأول والثاني .
وكان توزيع الخيالة على لانسق التالي : ثلاثة آلايات على كلا جانبي التشكيل كله – في ميمنته كما في ميسرته ، وتحرس القوات غير النظامية من البدو أطراف الأجناب للقوات الإحتياطية .
وقد كان يسمح هذا التوزيع أو التشكيل لقائد الجيش – إبراهيم باشا بأن يقوم بالمناورة بحرية واسعة ، حسبما تمليه عليه طبيعة الأرض التي سيتقدم عليها ، وحسبما تصله المعلومات عن حركات العدو ، غير خطته في اللحظة الأخيرة إلى هجوم مضاد . وكانت الأرض إلى شرق الضيعة المخربة تسمح لإبراهيم بمناورة يقوم بها بحركة التفاف واسعة حول ميسرة الأتراك ، وهي أضعف نقط في خط دفاعهم ، والتي لم ترتكز على موانع قوية تكسر من حدة الهجوم المصري إن لم نقض عليه .
وأخيرا اتخذ إبراهيم باشا قراره النهائي : "يقوم قلب الجيش المصري بالهجوم على واجهة الجيش التركي بكل قوته ، يطفى بمشاته وخيالته ومدفعيته نحو ميسرة الأتراك فيحركة التفاف واسعة ، بينما تقوم بعض مشاته بهجوم خادع بموازاة نهر الأورنت لشغل ميمنة الأتراك في خطيه الأول والثاني ، وبذلك يربك عملهم نهائيا . "يتجه لواء الخيالة الثاني (الآلايان 2 و 4) والآلاي الثالث الرماحة المدرعين نحو الضيعة المهدمة ، وعند وصولها لأنسب المواقع تفتح تشكيلها بين لاضيعة المذكورة والمزارع (جنوبي حمص) وتلف حول ميسرة المؤخرة التركية . "آلاي الحرس والآلاي المشاة 18 تدعم القوة السابقة وتفتح تشكيلها عند وصولها إلى غرب وجنوب غربي الضيعة المهدمة . "بطارية مدفعية وأيبوسان تتخذ مواقعها المناسبة حيال الضيعة . بينما تجري هذه الحركات تأخذ الآلايات 13 و18 مواقعها في الأمام ويأخذ الآلاي الخامس مكانه بدلا عن الآلاي الثاني عشر وتفتح وحداتها على طريق دمشق الكبير أمام قوات الأتراك في الصف الأول . "في الوقت نفسه تقوم قوة منفصلة مكونة من الآلاي الحادي عشر المشاة والآلاي السادس والسابع الخيالة وبطارية مدفعية بالتقدم نحو الأرض الواقعة بين نهر الأورنت والقناة (وتشبه الجزيرة أو الدلتا) لمهاجمة ميمنة الأتراك وكإحتياطي لها الآلاي السابع المدرع في الصف الثاني – ولدى ظهورها تولى الرغب قلوب الأتراك ، وتحطمت أعصابهم ، فاضطر القائد إلى إصدار أوامره إلى أورطتين في اليمين لتغيير مواجهتها لصد العدو المفاجئ ، ولكن كان الهرج قد عم الميدان .
لقد بلغ القتال عنفوانه – المعركة في الساعة الخامسة مساء والمدفعية المصرية تقذف نيرانها الشديدة على صفوف الأتراك ، فتسدد إصاباتها بكل دقة وإحكام ، وترد عليها مدفعية الأتراك بدون خطة محددة وتتبعثر طلقاتها هنا وهناك . بينما وهنت روح مشاتهم في الميمنة فانضموا إلى زملائهم في القلب .
والآن تصل المعركة إلى لحظاتها الفاصلة . ورأى إبراهيم باشا أن يستهل الهجوم الساحق ، فأمر آلايات الفرسان 2 و 3 و 4 ومكانها على ميمنة صفوفه بالزحف شرقا (كالخطة الموضوعة) لتقوم بحركة الالتفاف حول ميسرة الترك وتولى بنفسه قيادة هذه المعركة لأن على نجاحها يتوقت مصير المعركة .
تحرك الفرسان الشجعان واجتازوا الضيعة المهدمة بنحو ألفين إلى ثلاثة آلاف ياردة وتقدموا المهاجمة الخيالة الترك غير النظاميين الذين كانوا على مقربة من الضيعة وكان الهجوم شديدا ومحكما . فتراجع الترك وتفرقوا . واحتل المصريون الأرض الواقعة بين الضيعة وحدائق حمص ، ولما رأى الفرسان الترك النظاميون ما حل بزملائهم غير النظاميين تقدموا لصد هجمة المصريين وقد نجحوا – فأمد إبراهيم باشا فرسانه بقوة من جنود الحرس والمشاة (12 آلاي) والمدفعية فأوقعوا بهم وفرقوهم ، ثم هجم معهم المشاة المصريون من لاقلب فارتبكت ميسرة الأتراك بعد مقاومة عنيدة ثم تقهقرت إلى الوراء وبذلك هزم الجناح الأيسر التركي برمته وتخلى عن مواقعه .
أما قلب الجيش التركي فقد اصطدم بنيران المصريين المحكمة . في الوقت الذي لم تمده مدفعيته بمعاونة كافية من النيران ، فبدأ ينثني . وقام محمد باشا بوزن وتقدير الموقف الذي أصبح حرجا بعد أن أصبحت ميمنته ووسطه في حالة سيئة تهدد بالانهيار السريع . وكان ينبغي عليه استدعاء قواته الإحتياطية ليعزز بها المراكز التي ضعفت ويقوم بهجوم مضاد في ناحية الضيعة . لكن لم يفعل – ووجد حلا يائسا يخرجه من الورطة فأمر آلاي خيالة في ميسرة صفه الثاني بالهجوم على مدفعية المصريين الذين وصلوا إلى الضيعة كما أمر آلاي مشاة في قلب الصف الأمامي (وكان هذا الآلاي يرتكز على الآلاي الميسرة في الصف الثاني للقيام بالهجوم بالسونكي لاقتحام الآلاي المصري الثاني عشر . وأسرع آلاي خيالته بتنفيذ الهجوم ولكنه كان متعبا فكان هجومه غير منظم وقابلته مدفعية الحرس بنيرانها المحكمة – فدار وولى الأدبار – أما آلاي المشاة (التركي) فتقدم من القلب كالأمر الذي صدر إليه ولكن أوقفته نيران الآلاي الخامس المصري ثم هاجمه من الجنب الآلاي 12 المصري في تشكيل مدرج من الميمنة . ولم يفعل شيئا لمقاومة الهجوم المصري .
ويسدل الليل ستاره . وتحت ظلام الليل يمتطي محمد باشا جواده قاصدا مدينة حمص ، وبدا كل قائد يبحث عن وسيلة لينقذ نفسه ، واقتدى الضباط بقادتهم ، ثم بدت الفوضى والهزيمة والذعر ، حين تأتي دور الجند في ترك صفوفهم وولوا الأدبار مدحورين .
ولقد خال للمصريون أن الأتراك – بعد لم شملهم في الليل – سيعاودون القتال ، إذ كانت قلعة حمص تحمى ظهورهم . ومرت لحظات توقع المصريون أن يعاود الترك الكرة ويستأنفوا القتال ، ولكن شيئا من هذا لم يقع! ولم يفكر الترك في معاودة القتال . فتقدم إبراهيم باشا بحذر على رأس جيشه الظافر محتلا المواقع التي أخلاها الترك . وأعاد تنظيم قواتها وصفها على شكل مربع ووضع المدافع زواياه الأربع . فازداد مركزه منعة بينما كان الأتراك يمعنون في الانسحاب مكسورين . وبادر إبراهيم باشا فأرسل إلى أبيه ينبئه بهذا النصر الكبير الذي عرف عند المصريين بيوم هزيمة الباشوات .
خسائر الطرفين
كانت خسائر الترك في معركة حمص جد جسيمة – 2000 قتلى و2500 أسرى واستولى المصريون على عشرين من مدافعهم علاوة على ذخائره وعتاده . أما خسائر المصريين فلم تزد عن 102 من القتلى و162 من الجرحى .
وفي اليوم التالي دخل المصريون حمص (9 يوليو) بينما كان الترك يعدون صوب حلب وأنطاكية . وغلب خيالتهم النظامية على أمرهم فاستولى غير النظاميين على جيادهم يمتطونها! .
نقد لعمليات الجيشين
يجد المعلق الناقد لحركات الجيش التركي مادة مستفيضة من الأخطاء التي اقترفتها القيادة . فبعد أن قررت الخروج من حمص لقبول المعركة صفت قواتها في خطوط متقاربة بدون عمق كاف . فضلا عن عدم تفكيرها بوضع احتياط ينتفع به في الوقت المناسب للقيام بهجوم مضاد . فقد كان صفه الثالث هزيلا (راجع الأوضاع السابقة) وكان تشكيل أوضاعه خطيا (formation lineaire) فلم يعد قادرا على القيام بحركة مناورة لها تأثير ناجح على سير المعركة ، ولم تنتفع بطبيعة الأرض إلا من ناحية الميمنة (نهر الأورنت والقناة) ومع ذلك فقد كرم محمد باشا في هذه الجهة معظم قواته ، وترك ميسرة جيشه في الهواء لاتعتمد على قوات أو موانع . كما أنه لم ينتفع بالحدائق أو التخوم التي تحيط بجنوب حمص وتركها والضيعة المهدمة لعدوه الذي انتفع بها تماما .
ولم يعرف كيف يوجه مدفعيته في نيران متجمعة على وحدات المصريين ، بل نثر توزيعها على أهداف كثيرة. وبالاختصار كانت أوضاع الأتراك وتوزيع قواتهم لايسمح بأي نجاح سواء في حالة الدفاع أو في حالة الهجوم المضاد . فقد أهملوا المبادئ الرئيسية للقتال الناجح .
أما في ما يخص حركات المعركة من الجانب المصري فقد كانت كل دقائق الخطة محبوكة من الطرفين واتسمت كل حركة بالنشاط والبراعة في تنفيذها . فقد نظر إبراهيم باشيا جليا إلى نوع المناورة التي يعملها مهتديا بطبيعة الأرض وبتوزيع قوات خصمه وموقفه – فكانت الأوضاع التي اتخذها في توزيع قواته متفقة كل الاتفاق مع التكتيك المثالي وطاقته التي يستطيع بها تنفيذ الحركة من تقدم أو هجوم جانبي أو جبهي أو تقهقر (وهذا لم يفكر فيه أبدا) وكانت وحداته موزعة في عمق كاف يسمح له بالسيطرة على تنفيذ الحركات وفقا لما ينبغي . وأحسن تعبير لبراعة مناورة إبراهيم نجده في عبارة المارشال فيجان في كتابه المعروف . "La manouvre etait en germe dans le dispositif initial de son armee".
وكانت حركة الإلتفاف حول جنب القوات التركية رائعة كما أسلفنا محبوكة في تفاصيلها ومجموعها . كذلك كان هجومه على ميسرة الترك . وكان استخدام المدفعية يسير حسب خطة موضوعة لاهباء ولا ارتجالا ، وهي قواعد المدرسة الحربية الحديثة التي وضع أسسها نابليون ، وفهمها سليمان بك ، وهضمها إبراهيم ، فعرف كيف ينتفع بها . هي الأسس التي أهمها مرونة الخطة ، والقدرة على تنفيذها والسرعة في إنجازها ، وأثر المفاجأة الذي ستحدثه على العدو .
ففي معركة حمص تقابل وجها لوجه للمرة الأولى جيشين شرقيين ، أسلحتهما واحدة ، وأسلوب حربهما متقنة . فكان النصر من نصيب الجانب الذي تفوق في تنظيمه ونظامه في القتال وروح قيادته العليا ، وفي هذه المعركة هدم الجمود أمام الحركة والسرعة .
أجل . في معركة حمص بانت روح القيادة المنظمة التي تسود الجيش المصري ومحى الجنود المصريون هزيمتهم ، أو بعبارة أوضح هزيمة أسلافهم التي لحقت بهم في عام 1517 (معركة مرج دابق و الريدانية) حينما اعتدى السلطان سليم على استقلال مصر وهزم سلطانها الغورى .
وفي التقرير الذي رفعه إبراهيم لأبيه عن المعركة ، قال عن العدو : "لم أر في حياتي هزيمة كهزيمة العدو . فإني لا أغالي إذا قلت أنه لو زحف على مئتا ألف أو ثلاثمائة ألف من عساكره لما نبض لي بسببهم نبض أو اكترثت بهم ، ونحن بمشيئة الله ظافرون بأولئك العساكر أينما وجدوا . وقد أرسلنا الأسرى إلى عكا وأمرنا ديوان أفندي بأن يقبل في التقاعد كل من يريد تسجيل اسمه فيه ويرسل من يرغب في العودة إلى وطنه إليه في مصر أو غيرها . وقد بلغ عدد القتلى منذ 102 والجرحى 162 وخسرنا 172 جوا