القواعد الأساسية في إعداد الدولة للحرب
الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل العنف، والصراع المسلح واسطته الأساسية، وتحدد المصالح السياسية للدول المتصارعة غاية الحرب، فالغاية والواسطة تحددان السمة الأساسية للحرب كظاهرة اجتماعية.
الحرب ظاهرة من أعقد الظواهر الاجتماعية، وقد بلغ عدد الحروب خلال الخمسة آلاف سنة الماضية (14) ألفاً، كما نشبت خلال النصف الأول من القرن الحالي حربان عالميتان، وقد بلغت خسائر الحرب العالمية الثانية وحدها خمسين مليون قتيل، وظهور الحرب وطبيعتها ومكانتها في التاريخ كظاهرة اجتماعية خاضع لقوانين التطور الاجتماعي . وليست الحروب غاية في حد ذاتها، بل هي واسطة للسياسة، لذا يُعدّ الطابع السياسي لأية حرب سمة مميزة لها، ولا بد لفهم ذلك من تحليل الموقف السياسي الذي سبق الحرب، والاتجاه السياسي للدول المعنية داخلياً وخارجياً؛ فالدول تطبّق سياستها زمن السلم مستخدمة أساليب الصراع السلمي المختلفة، من سياسية وعقائدية واقتصادية ودبلوماسية، ولا تلجأ إلى وسائط الصراع المسلح إلاّ عند ازدياد حدّة التناقض إلى حد يتعذّر فيه أن تحقق أهدافها دونه. فالصراع المسلح إذن هو الطابع المميز للحرب ولا نصر بدونه، وتكتسب أشكال الصراع الأخرى مضامين جديدة، إذ إنها تزداد حدَّة لتساعد الصراع المسلح في تحقيق الغايات السياسية للحرب.
إعداد الدولة للحرب
إن تحقيق النصر في الحروب الحديثة هو نتيجة جهود ضخمة ومشتركة تقوم بها جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها، وتنفق في سبيلها الإمكانات المتاحة كافة، ويُبذل لها أقصى ما يمكن من الطاقة.
ومن الخطورة بمكان أن تترك الأمور التي تمس كيان الدولة ومستقبلها وبخاصة أمور الدفاع عنها إلى الصدفة والقدر، فكل شيء في هذا المجال يجب أن يحسب حسابه، وأن يتم تنفيذه في الوقت المناسب والصحيح، وحتى لا تفاجأ الدولة بتورطها في صراع مسلح دون إعداد جيد ومدروس.
إن جميع التدابير والإجراءات والجهود التي تتخذها الدولة زمن السلم في سبيل تحقيق خاتمة مظفرة للصراع المسلح، تندرج تحت ما أصبح يُعرف حالياً في العلم العسكري ب (إعداد الدولة للحرب).
إن إعداد الدولة للحرب ليس عملية محددة أو محدودة، تتم وتنتهي في توقيت محدد ثم تتوقف، بل هي عملية مستمرة، تساير التطور، وتلاحق الأحداث، بل وتسبقها لتستعد لها. كذلك، فإن عملية إعداد الدولة للحرب هي عملية متكاملة؛ فهي ليست مسؤولية جهة أوجهاز واحد في الدولة، بل هي مسؤولية مؤسساتها وأجهزتها جميعًا، وتتم وفق خطة شاملة ومدروسة بعمق وموضوعية، على أسس علمية سليمة، تتوافق مع واقع الدولة نفسها وطبيعتها، ومع طبيعة الحروب التي سوف تخوضها، مما يحتّم وجود النظرة العميقة والدراسة الدقيقة للأحداث الدولية، وبصفة خاصة ما قد يؤثر منها على الدولة، أو يقع على أراضيها، وتحديد موقف الدولة وسياستها وأسلوب عملها، وبالتالي إعداد نفسها للمواجهة الناجحة السليمة للصراع.
يتضمن إعداد الدولة للحرب مجموعة من التدابير الرئيسة، أهمها:
إعداد القوات المسلحة.
إعداد الشعب.
إعداد أجهزة الدولة.
إعداد الاقتصاد الوطني.
إعداد مسرح العمليات.
1. إعداد القوات المسلحة
القوات المسلحة هي الدرع الواقي للدولة ضد العدوان، وهي التي تحافظ على سلامة ترابها الوطني، وتدافع عن مكتسباتها، كما أنها أداتها في ردع المعتدي وتدميره إذا ما فكّر في العدوان.
ولا يمكن أن تكون القوات المسلحة قادرة على تحقيق هذه المهام في الحرب إلاّ إذا تم إعدادها، وبناؤها بناءً سليماً منذ أيام السلم.
يُعدّ إعداد القوات المسلحة من أولى واجبات الدولة، حيث يجب أن ينال هذا الواجب القسط الأكبر من اهتمام قيادتها السياسية، إذ إنه أهم قطاع في عملية إعداد الدولة للحرب، كما أن بناء القوات المسلحة يُعد المجال الحيوي للاستراتيجية العسكرية، سواءً من الناحية النظرية أو التطبيقية.
ولا يقع عبء إعداد القوات المسلحة للدولة على أجهزة وزارة الدفاع والقيادة العامة للقوات المسلحة فحسب، بل على جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها التي تشارك في الإعداد وتعمل على تلبية وتوفير مطالب واحتياجات القوات المسلحة حتى يأتي بناؤها متكاملاً وقائماً على أسس متينة وراسخة.
إن العوامل التي تؤثر على إعداد القوات المسلحة وبنائها هي:
الهدف السياسي الاستراتيجي للدولة.
الوضع الاقتصادي للدولة وحجم مواردها البشرية والمادية.
طبيعة العدو المحتمل، وقدراته وأطماعه وأسلوبه في الصراع.
طبيعة الصراع المنتظر، وأنواع الأسلحة المستخدمة فيه.
طبيعة مسرح العمليات.
العقيدة العسكرية للدولة.
أسلوب القيادة والسيطرة.
يؤثر كل عامل من هذه العوامل بشدة على الحجم المطلوب من القوات المسلحة، فمثلاً يجب تحديد العدو المنتظر مواجهته، والوقت المحتمل للمواجهة، وما هو حجم العدو في ذلك الوقت، وما هي نسبة التفوق المطلوب أن تكون عليه قواتنا لتحقيق النصر، كما يجب أن لا يكون التفوق في الكم فقط، بل في نوعية التسليح والمعدات أيضاً.
إن طبيعة الصراع المحتمل تؤثر في حجم القوات المسلحة وشكلها للدولة التي يجب أن تكون قادرة على خوض ذلك الصراع بنجاح، والذي قد يتطلب قوات إنزال جوي أو بحري، أو قوات ميكانيكية أو خفيفة.
كذلك، فإن طبيعة مسرح العمليات واتجاهاته العملياتية تؤثر على حجم القوات المسلحة، فالاتجاه الصحراوي يتطلب نوعية معينة تختلف عن الاتجاه الجبلي، أو الزراعي، أو الآهل بالسكان، أو الذي يحتوي موانع مائية، أو الممتد بجوار السواحل البحرية.
كما أن لدور القيادة والسيطرة أهمية كبرى في تحديد الحجم، فكلما زاد حجم القوات المسلحة، وكلما تعددت أنواعها، وكلما زاد انتشارها، تعقّدت السيطرة عليها، وزادت أعباؤها، الأمر الذي يجب أخذه بعين الاعتبار عند تشكيل القوات المسلحة وتكوينها.
وأخيراً، فلعل من أهم العوامل المؤثرة على بناء القوات المسلحة هو الحالة الاقتصادية، فالدولة مهما كانت قدراتها كبيرة لا يمكنها الاحتفاظ بقواتها المسلحة كاملة في كل الأوقات، لأن ذلك يُعدّ مخالفاً لمبدأ المحافظة على القوى، لذلك، فإن العامل الاقتصادي هو الذي يحدد الحجم الدائم من القوات الواجب الاحتفاظ بها في السلم، والحجم الكامل خلال الحرب.
يشتمل إعداد القوات المسلحة على التدابير التالية:
1. التخطيط الاستراتيجي لاستخدام القوات المسلحة.
2. تقدير حجم القوات المسلحة في زمن السلم والحرب، وبناء هذه القوات، وإعداد نظام التعبئة عند توقّع الحرب.
3. وضع أسلوب الانتشار الاستراتيجي للقوات المسلحة، وبناء التجمعات الاستراتيجية والعملياتية في مسرح العمليات، وعلى الاتجاهات الاستراتيجية المختلفة.
4. وضع خطط التدريب القتالي وتنفيذها.
5. وضع التأمين الشامل للقوات وتنفيذه.
6. إعداد مسرح العمليات وتجهيزه.
7. تنظيم الاستطلاع الاستراتيجي.
2. إعداد الشعب للحرب
تعتبر القوى البشرية في الوقت الحاضر أهم وأمضى أسلحة الصراع، ومهما تبدلت الوسائل المادية للحرب، فإن الإنسان يبقى السلاح الرئيس، وهو الذي يحدد مصير الحرب ونتيجتها.
وليس من الضروري أن تربط قدرة القوى البشرية للدولة بحجم تعداد سكانها، بل بنوعية الشعب والأسلوب السليم لاستخدام طاقاته وقدراته وإعداده الإعداد المناسب عسكرياً ومعنوياً، حتى يصبح قوة فعّالة ومؤثرة على سير الصراع.
يشمل إعداد القوى البشرية للحرب النشاطات التي تخدم مباشرة الموقف العسكري، وأهمها:
الإعداد المعنوي والسياسي بهدف غرس المثل العليا، وتوعية الشعب بالأهداف السياسية للصراع المقبل، وبعدالة القضية التي سيقاتل من أجلها.
إعداد الشعب عسكرياً ليكون جاهزاً للالتحاق بالخدمة العسكرية، وللاشتراك في وحدات المقاومة الشعبية خلف خطوط العدو.
حماية الأهداف الحيوية في العمق.
إعداد قوى الدفاع المدني.
يهدف إعداد الشعب للحرب إلى تحقيق ما يلي:
الاستخدام الأمثل للقوى البشرية في جميع المجالات مع العمل على إيجاد التوازن بين أداء الفرد للخدمة الوطنية وممارسته الحياة اليومية.
العمل على زيادة الدخل القومي، وتحقيق أكبر قدر من الوفر المادي في أثناء السلم، لتلبية الاحتياجات الضخمة في أثناء الحرب.
المحافظة على القوى البشرية في الدولة، وحمايتها في أثناء الصراع المسلح بالمحافظة على الروح المعنوية العالية خلال الصراع.
رفع القدرة العسكرية للقوات المسلحة بتعبئة العناصر المؤهلة في أثناء العمليات في أقل وقت دون التأثير على سير الحياة الطبيعية ومتطلباتها.
وهناك مجموعة من العناصر الأساسية التي يتم من خلالها إعداد الشعب للحرب، وهي:
أ . بناء الاقتصاد الوطني والقوات المسلحة.
ب . إعداد قوى الدفاع المدني.
ج. الإعداد العسكري للجماهير.
3. إعداد أجهزة الدولة للحرب
لا يقتصر تأثير الحرب الحديثة على القوات المسلحة للدولة، أو على مناطق العمليات فحسب، بل يمتد تأثيرها بشكل مباشر أو غير مباشر إلى كل أراضي الدولة ومرافقها، مما يستدعي اشتراك جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها في الإعداد لها، وتأمين متطلباتها، لذلك، فإن إعداد الدولة لمواجهة الحرب لا يتم إلاّ بعد إعداد أجهزة الدولة نفسها، لمواجهة الصراع، بحيث تكون الدولة كلها في مناخ واحد، فلا يكون جزء منها وهو القوات المسلحة جاهزاً للصراع، بينما يعيش الجزء الآخر باقي أجهزة الدولة ومؤسساتها في مناخ السلم غير معنيّ بأمور الحرب.
يُقصد بإعداد أجهزة الدولة للحرب إعداد سلطات الدولة ومؤسساتها، وأجهزتها السياسية، والتنفيذية، والإدارية، والجهاز الحكومي، والمؤسسات، والمنشآت الإنتاجية بما يضمن الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة زمن الحرب، وبما يضمن استمرار السيطرة والعمل للنشاطات المختلفة للدولة ومؤسساتها الإنتاجية، دون توقّف أو تأثير كبير نتيجة الصراع الدائر.
يشمل إعداد أجهزة الدولة للحرب التدابير الآتية:
تأمين استمرار عمل الجهاز التخطيطي القادر على التخطيط الاستراتيجي الشامل والتخطيط المرحلي، ورسم السياسات الاستراتيجية، وتحديد أهدافها، وإصدار التوجيهات للأجهزة التنفيذية للدولة، ومتابعة عملية التنفيذ ومراقبتها خلال الحرب.
إعداد كل جهاز من أجهزة الدولة للعمل وقت الحرب وذلك ب :
*إعداد أجهزة التخطيط للعمل في ظروف الحرب وسرعة التحوّل من حالة السلم إلى حالة الحرب.
*وضع الخطط التفصيلية لتنفيذ المطلوب من كل جهاز لتغطية مطالب المجهود الحربي ومطالب الشعب خلال الحرب.
*القدرة على السيطرة في ظروف الحرب، مما يتطلب إنشاء غرفة عمليات لكل جهاز من أجهزة الدولة، يتوفّر لها الوقاية اللازمة، وأجهزة الاتصال الضرورية مع التخطيط للانتقال والمناورة.
لا يمكن إعداد أجهزة الدولة لتولي مسؤولياتها كاملة زمن الحرب إلاّ بالتنبؤ السليم المسبق لطبيعة الصراع المنتظر، والتقدير الصحيح لمداه وتأثيره، ثم وضع الخطط السليمة نتيجة ذلك.
كذلك، فإن من أهم عوامل قيام أجهزة الدولة بمسؤولياتها زمن الحرب هو تحديد المسؤوليات التفصيلية لكل جهاز، وكذا تحديد أسلوب التعاون بين الأجهزة المختلفة بالدولة، وأسلوب السيطرة الشامل للقيادة السياسية عليها جميعاً.
وتقع مسؤولية تنظيم الإجراءات التفصيلية وتحقيقها في إعداد الأجهزة على علي عاتق المحافظين والسلطات المحلية الأخرى، باشتراك قادة المناطق العسكرية، وتستخدم إمكانات الدفاع المدني والجيش الشعبي على نطاق واسع لهذا الغرض، كما تتولى السلطات العسكرية بعض الإجراءات التي تخرج عن طاقة السلطات المدنية وقدراتها.
4. الإعداد الاقتصادي للحرب
من البدهي أن النصر لا يمكن تحقيقه بمحض الصدفة، وبخاصة في العصر الحديث، وإن من الخطورة ترك الأمور التي تمس كيان الدولة ومستقبلها إلى القدر أو الحظ، ولا بد بالتالي من أن يتم بناء كل ما يتعلق بالدفاع وحماية الدولة على أسس علمية، وأن تخصص له الإمكانات اللازمة، وأن يبذل في سبيله أقصى ما يمكن من جهود.
وإذا كان الهدف من إعداد الدولة للحرب هو تحقيق أمن الدولة وسلامتها، وقدرتها على صد العدوان، وعلى توجيه الضربات الرادعة إلى العدو، وتهيئة الظروف والعوامل للحصول على المبادأة الاستراتيجية للدولة والاحتفاظ بها إذا كان الهدف كذلك فإن إعداد الدولة اقتصادياً للحرب يأتي في مقدمة الأولويات في برنامج الدولة الخاص بالإعداد للحرب، ذلك أن الاقتصاد هو القاعدة الأساسية التي يبني عليها الدفاع وخططه، وتقوم عليها القوات المسلحة، وهو المصدر الذي يغذي أجهزة الدفاع جميعاً بنسغ الحياة وبوسائل العيش والعمل.
وليست عملية إعداد الدولة اقتصادياً للحرب عملية محددة أو محدودة، تتم وتنتهي في وقت محدد، ثم تتوقف، بل هي عملية مستمرة ودائمة بقدر ما هي عملية الدفاع عن الدولة مستمرة ودائمة. وتتصف عملية الإعداد الاقتصادي للحرب بأنها معقدة وشائكة، لأنها تدخل ضمن إطار شبكة واسعة ومعقدة من عمليات تأمين الدفاع عن الدولة، تلك العمليات التي تشترك فيها جميع أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع.
وتتوقف طبيعة الإعداد الاقتصادي للحرب على طبيعة الصراع المسلح المتوقع، وعلى دروس الحروب والتجارب الماضية. ومثل ما يأخذ المخططون الاستراتيجيون العسكريون الظروف والعوامل الدولية بعين الاعتبار حينما يرسمون خططهم، يأخذ المخططون الاقتصاديون هذه الظروف والعوامل من وجهة النظر الاقتصادية بعين الاعتبار عندما يضعون خططهم الاقتصادية لإعداد الدولة للحرب.
أ. أهمية الإعداد الاقتصادي للحرب:
إن الإعداد الاقتصادي للحرب ليس بالأمر السهل ولا العشوائي الذي يمكن معالجته في حينه، ولا بالأمر الذي يستطيع جهاز واحد من أجهزة الدولة أن يحققه، ولا هو بالأمر الذي يتخطى الزمن والظروف قفزاً عليها وهروباً من مواجهتها، وإنما هو عمل علمي دقيق، يقوم على معطيات وإحصاءات علمية دقيقة، ويستند إلى تنبؤات وتصورات أساسها الواقع والاحتمال القادم، وهو يتعلق بالدولة كلها والشعب كله والقوات المسلحة كلها، بمثل ما ترتبط هذه الكيانات كلها به؛ ومن هنا تأتي خطورة الإعداد الاقتصادي للحرب، ومن هنا تأتي أهميته وأثره وتأثيره.
وإذا كانت هناك شؤون في الدولة تديرها وتعمل فيها ولها أجهزة متخصصة، فيها الكفاءة والكفاية، فإن الإعداد الاقتصادي للحرب شأن معقد، متشابك الأطراف، متعدد المستويات، متنوع النسيج، ولا تستطيع جهة اقتصادية واحدة في الدولة أن تتولى كفاية القوات المسلحة والشعب بحاجاتها ومتطلباتها، وإنما الأمر يتعلق بمجموعة هرمية كبيرة ذات مستويات كثيرة ومتنوعة، قاعدتها كبيرة تمتد إلى أرض الوطن كله، وتصغر حلقاتها وتضيق حتى تبلغ القيادة الاستراتيجية العليا في قمة الهرم، وفي كل حلقة أو طبقة في الهرم نجد مجموعة متخصصة من الأجهزة الاقتصادية مختلطة مع مجموعة من أجهزة الدولة المختلفة، والتنظيمات الشعبية، وجميعها تعمل في تنسيق وتناسق، كالجوقة الموسيقية تعزف لحناً واحدًا، يتألف في الأصل من أنغام تنبعث من مختلف الآلات الموسيقية، وهكذا يتألف المجهود الاقتصادي للدولة والمجتمع من تآلف هذه العناصر التي ذكرناها، ليصب في تيار المجهود الحربي، فيرفده بالعون والنسغ، بمثل ما يوفّر للشعب والمجتمع حاجاتهما الحيوية.
ب . الحرب الحديثة والإعداد الاقتصادي:
من صفات الحرب الحديثة أن مجرياتها ووقائعها وآثارها لا تقتصر على القوات المسلحة ومسرح العمليات فحسب، وإنما تمتد إلى جميع أنحاء الوطن، شعباً وأرضًا، جوًا وبحرًا؛ لذلك فإن جميع أجهزة الدولة تكون مشتركة في الحرب بشكل ما من الأشكال، وبنسبة ما من نسب الاشتراك. وعلى هذا، فمن واجب الدولة، بمختلف أجهزتها، أن تعد نفسها وشعبها للحرب، بمثل ما تعدّ القوات المسلحة لأداء واجبها.
ويعني إعداد الدولة اقتصاديًا للحرب إعداد أجهزة الدولة الاقتصادية: التخطيطية، والزراعية، والصناعية، والتجارية، والفنية، والهندسية ... وغيرها، مما له علاقة بالاقتصاد الوطني وبما يضمن استمرار الحياة اليومية والإنتاج والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة والمجتمع وقت الحرب، وبما يضمن استمرار السيطرة والعمل للمؤسسات الإنتاجية والخدمات الاقتصادية لمصلحة القوات المسلحة والشعب في آنٍ واحد، دون توقف أو تأثر كبير، نتيجة الصراع الدائر.ويتطلب الإعداد الاقتصادي للحرب:
1. وجود جهاز تخطيطي أعلى، قادر على التخطيط الاستراتيجي الشامل، يضع الخطط والسياسات الاستراتيجية المتخصصة، ويحدد فيها الأهداف، ووسائل التنفيذ ومراحله، والأجهزة الاقتصادية المكلفة بالتنفيذ، ويُراقب هذا الجهاز التخطيطي تطبيق الخطط والسياسات ويتابعها في مختلف مراحلها.
2. إعداد أجهزة التخطيط الفرعية للعمل في ظروف الحرب، وسرعة التحوّل من طبيعة السلم إلى حالة الحرب.
3. وضع الخطط التفصيلية لتنفيذ كل جهاز اقتصادي ما هو مطلوب منه لمصلحة المجهود الحربي وحاجات الشعب وقت الحرب.
4. قدرة الأجهزة الاقتصادية على التنفيذ، والحركة، والمتابعة، والمراقبة، والسيطرة في ظروف الحرب وطوارئها، وقد يتطلب الأمر أن يُنشئ كل جهاز أو كل مجوعة نوعية من الأجهزة الاقتصاية غرفة عمليات خاصة بها، تستطيع من خلالها القيام بواجبها.
5. وضع الخطط التبادلية لتستطيع الأجهزة الاقتصادية المناورة وحسن التصرّف والادعاء، وتوفير المرونة الكافية لمواجهة أية مطالب مفاجئة، أو مواقف طارئة، وهي كثيرة وقت الحرب.
ومن المؤكد أنه لا يمكن الإعداد السليم لأجهزة الدولة الاقتصادية لتولي مسؤولياتها وأداء واجبها بشكل مناسب، وعلى درجة جيدة من الكفاءة وقت الحرب، ودون خلل أو اضطراب جسيم، قد يؤثر تأثيرًا عميقًا في عمل الدولة والوضع الحربي .
لا يمكن الإعداد السليم إلاّ بالتنبؤ السليم المسبق بطبيعة الصراع المنتظر، واحتمالات تطوره، وحجم حاجاته ومتطلباته، والتخيّل الأقرب للواقع لمداه وتأثيره، ثم وضع الخطط المؤسسة على ذلك كله، مع تحديد المسؤوليات والواجبات لكل جهاز اقتصادي، وأسلوب التعاون بين الأجهزة المختلفة، وارتباط مجموعة الأجهزة الاقتصادية بالقيادة العليا للدولة والدفاع.
وفي جميع الأحول، فإن الأجهزة الاقتصادية لا تسطيع أداء واجباتها كاملة بمفردها، إذا لم تتلق العون المباشر من المحافظين، والمجالس الشعبية، وقيادات المناطق والمواقع العسكرية، والسلطات المحلية الأخرى، ومنظمات الدفاع المدني والدفاع الشعبي وغيرها من المنظمات الشعبية.
وعلى هذا، فإن الإعداد الاقتصادي للحرب، يتطلب تخطيطاً اقتصادياً دقيقاً ومفصلاً، يؤدي تطبيقه إلى توفير القاعدة والعوامل المادية، لكي تؤدي القوات المسلحة، والدولة، والشعب، واجباتها في الدفاع عن الوطن.
5. إعداد أراضي الدولة كمسرح للعمليات الحربية
قبل الخوض في بحث إعداد أراضي الدولة كمسرح للعمليات الحربية، لابد من تعريف مفهوم مسرح العمليات بشكل عام، وتطور هذا المفهوم في الظروف الحديثة.
إن المقصود بمسرح العمليات الحربية هو ذلك الجزء من أراضي الدولة (أو الدول المتحالفة)، مع المياه أو البحار المتاخمة لها، ومجالها الجوي، والذي يمكن أن تدور عليه الأعمال القتالية للتجمعات الاستراتيجية في القوات المسلحة البرية والبحرية والجوية بهدف بلوغ أهداف الحرب.
وتحدد القيادة العسكرية السياسة العليا للدولة (أو الدول المتحالفة) حدود مسرح العمليات الحربية وقوامه، مع الأخذ بعين الاعتبار عوامل عديدة، أهمها:
الموقف السياسي العسكري. أهداف الحرب. الظروف الطبيعية. العامل الاقتصادي. الوسائل والطرق المحتملة لخوض الأعمال القتالية.
ويتم تحديد حدود مسرح العمليات الحربية، بحيث تشكّل الأجزاء الرئيسة لكل مسرح بنية متكاملة من الناحية السياسية الإدارية والاقتصادية والطبيعية الجغرافية، وعندئذٍ تمر الحدود كقاعدة على امتداد خطوط طبيعية كبيرة كسلاسل الجبال أو البحار، والمضائق مع اعتبار الحدود الدولية أيضاً.
كما يدخل في حدود مسرح العمليات الحربية عادة جزء من أراضي الدول المعادية، وعند تحديد حدود عدة مسارح عمليات يجب أن تتداخل حدود بعضها البعض، وذلك من أجل تأمين التعاون الأفضل، وبخاصة إذا كانت الأعمال القتالية ستدور على حدود دولتين أو عدة دول.
ويجب أن تؤمن سعة مسرح العمليات الحربية إمكانية تأمين انتشار تجميع استراتيجي، يضم عدة تشكيلات عمليات من القوات البرية والجوية والبحرية على هذا المسرح، والتي يمكن ربط أعمالها العسكرية بفكرة استراتيجية واحدة، وخطة واحدة ضمن حدود المسرح المذكور.
وتتحدد سعة مسرح العمليات الحربية على ضوء أهميته السياسية العسكرية والاستراتيجية، والأبعاد العامة للمسرح (الجبهة والعمق)، وموقعه الجغرافي، ومستوى تطور شبكة المطارات، والموانئ، وطرق المواصلات، وكذلك وجود الأغراض العملياتية والاستراتيجية الهامة وعددها.
إن المفاهيم المذكورة آنفاً هي مفاهيم عامة يحتاج تطبيقها إلى دراسة دقيقة للوضع الراهن سياسيًا وعسكريًا مع أخذ الواقع بعين الاعتبار
طائرة حربية
الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل العنف، والصراع المسلح واسطته الأساسية، وتحدد المصالح السياسية للدول المتصارعة غاية الحرب، فالغاية والواسطة تحددان السمة الأساسية للحرب كظاهرة اجتماعية.
الحرب ظاهرة من أعقد الظواهر الاجتماعية، وقد بلغ عدد الحروب خلال الخمسة آلاف سنة الماضية (14) ألفاً، كما نشبت خلال النصف الأول من القرن الحالي حربان عالميتان، وقد بلغت خسائر الحرب العالمية الثانية وحدها خمسين مليون قتيل، وظهور الحرب وطبيعتها ومكانتها في التاريخ كظاهرة اجتماعية خاضع لقوانين التطور الاجتماعي . وليست الحروب غاية في حد ذاتها، بل هي واسطة للسياسة، لذا يُعدّ الطابع السياسي لأية حرب سمة مميزة لها، ولا بد لفهم ذلك من تحليل الموقف السياسي الذي سبق الحرب، والاتجاه السياسي للدول المعنية داخلياً وخارجياً؛ فالدول تطبّق سياستها زمن السلم مستخدمة أساليب الصراع السلمي المختلفة، من سياسية وعقائدية واقتصادية ودبلوماسية، ولا تلجأ إلى وسائط الصراع المسلح إلاّ عند ازدياد حدّة التناقض إلى حد يتعذّر فيه أن تحقق أهدافها دونه. فالصراع المسلح إذن هو الطابع المميز للحرب ولا نصر بدونه، وتكتسب أشكال الصراع الأخرى مضامين جديدة، إذ إنها تزداد حدَّة لتساعد الصراع المسلح في تحقيق الغايات السياسية للحرب.
إعداد الدولة للحرب
إن تحقيق النصر في الحروب الحديثة هو نتيجة جهود ضخمة ومشتركة تقوم بها جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها، وتنفق في سبيلها الإمكانات المتاحة كافة، ويُبذل لها أقصى ما يمكن من الطاقة.
ومن الخطورة بمكان أن تترك الأمور التي تمس كيان الدولة ومستقبلها وبخاصة أمور الدفاع عنها إلى الصدفة والقدر، فكل شيء في هذا المجال يجب أن يحسب حسابه، وأن يتم تنفيذه في الوقت المناسب والصحيح، وحتى لا تفاجأ الدولة بتورطها في صراع مسلح دون إعداد جيد ومدروس.
إن جميع التدابير والإجراءات والجهود التي تتخذها الدولة زمن السلم في سبيل تحقيق خاتمة مظفرة للصراع المسلح، تندرج تحت ما أصبح يُعرف حالياً في العلم العسكري ب (إعداد الدولة للحرب).
إن إعداد الدولة للحرب ليس عملية محددة أو محدودة، تتم وتنتهي في توقيت محدد ثم تتوقف، بل هي عملية مستمرة، تساير التطور، وتلاحق الأحداث، بل وتسبقها لتستعد لها. كذلك، فإن عملية إعداد الدولة للحرب هي عملية متكاملة؛ فهي ليست مسؤولية جهة أوجهاز واحد في الدولة، بل هي مسؤولية مؤسساتها وأجهزتها جميعًا، وتتم وفق خطة شاملة ومدروسة بعمق وموضوعية، على أسس علمية سليمة، تتوافق مع واقع الدولة نفسها وطبيعتها، ومع طبيعة الحروب التي سوف تخوضها، مما يحتّم وجود النظرة العميقة والدراسة الدقيقة للأحداث الدولية، وبصفة خاصة ما قد يؤثر منها على الدولة، أو يقع على أراضيها، وتحديد موقف الدولة وسياستها وأسلوب عملها، وبالتالي إعداد نفسها للمواجهة الناجحة السليمة للصراع.
يتضمن إعداد الدولة للحرب مجموعة من التدابير الرئيسة، أهمها:
إعداد القوات المسلحة.
إعداد الشعب.
إعداد أجهزة الدولة.
إعداد الاقتصاد الوطني.
إعداد مسرح العمليات.
1. إعداد القوات المسلحة
القوات المسلحة هي الدرع الواقي للدولة ضد العدوان، وهي التي تحافظ على سلامة ترابها الوطني، وتدافع عن مكتسباتها، كما أنها أداتها في ردع المعتدي وتدميره إذا ما فكّر في العدوان.
ولا يمكن أن تكون القوات المسلحة قادرة على تحقيق هذه المهام في الحرب إلاّ إذا تم إعدادها، وبناؤها بناءً سليماً منذ أيام السلم.
يُعدّ إعداد القوات المسلحة من أولى واجبات الدولة، حيث يجب أن ينال هذا الواجب القسط الأكبر من اهتمام قيادتها السياسية، إذ إنه أهم قطاع في عملية إعداد الدولة للحرب، كما أن بناء القوات المسلحة يُعد المجال الحيوي للاستراتيجية العسكرية، سواءً من الناحية النظرية أو التطبيقية.
ولا يقع عبء إعداد القوات المسلحة للدولة على أجهزة وزارة الدفاع والقيادة العامة للقوات المسلحة فحسب، بل على جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها التي تشارك في الإعداد وتعمل على تلبية وتوفير مطالب واحتياجات القوات المسلحة حتى يأتي بناؤها متكاملاً وقائماً على أسس متينة وراسخة.
إن العوامل التي تؤثر على إعداد القوات المسلحة وبنائها هي:
الهدف السياسي الاستراتيجي للدولة.
الوضع الاقتصادي للدولة وحجم مواردها البشرية والمادية.
طبيعة العدو المحتمل، وقدراته وأطماعه وأسلوبه في الصراع.
طبيعة الصراع المنتظر، وأنواع الأسلحة المستخدمة فيه.
طبيعة مسرح العمليات.
العقيدة العسكرية للدولة.
أسلوب القيادة والسيطرة.
يؤثر كل عامل من هذه العوامل بشدة على الحجم المطلوب من القوات المسلحة، فمثلاً يجب تحديد العدو المنتظر مواجهته، والوقت المحتمل للمواجهة، وما هو حجم العدو في ذلك الوقت، وما هي نسبة التفوق المطلوب أن تكون عليه قواتنا لتحقيق النصر، كما يجب أن لا يكون التفوق في الكم فقط، بل في نوعية التسليح والمعدات أيضاً.
إن طبيعة الصراع المحتمل تؤثر في حجم القوات المسلحة وشكلها للدولة التي يجب أن تكون قادرة على خوض ذلك الصراع بنجاح، والذي قد يتطلب قوات إنزال جوي أو بحري، أو قوات ميكانيكية أو خفيفة.
كذلك، فإن طبيعة مسرح العمليات واتجاهاته العملياتية تؤثر على حجم القوات المسلحة، فالاتجاه الصحراوي يتطلب نوعية معينة تختلف عن الاتجاه الجبلي، أو الزراعي، أو الآهل بالسكان، أو الذي يحتوي موانع مائية، أو الممتد بجوار السواحل البحرية.
كما أن لدور القيادة والسيطرة أهمية كبرى في تحديد الحجم، فكلما زاد حجم القوات المسلحة، وكلما تعددت أنواعها، وكلما زاد انتشارها، تعقّدت السيطرة عليها، وزادت أعباؤها، الأمر الذي يجب أخذه بعين الاعتبار عند تشكيل القوات المسلحة وتكوينها.
وأخيراً، فلعل من أهم العوامل المؤثرة على بناء القوات المسلحة هو الحالة الاقتصادية، فالدولة مهما كانت قدراتها كبيرة لا يمكنها الاحتفاظ بقواتها المسلحة كاملة في كل الأوقات، لأن ذلك يُعدّ مخالفاً لمبدأ المحافظة على القوى، لذلك، فإن العامل الاقتصادي هو الذي يحدد الحجم الدائم من القوات الواجب الاحتفاظ بها في السلم، والحجم الكامل خلال الحرب.
يشتمل إعداد القوات المسلحة على التدابير التالية:
1. التخطيط الاستراتيجي لاستخدام القوات المسلحة.
2. تقدير حجم القوات المسلحة في زمن السلم والحرب، وبناء هذه القوات، وإعداد نظام التعبئة عند توقّع الحرب.
3. وضع أسلوب الانتشار الاستراتيجي للقوات المسلحة، وبناء التجمعات الاستراتيجية والعملياتية في مسرح العمليات، وعلى الاتجاهات الاستراتيجية المختلفة.
4. وضع خطط التدريب القتالي وتنفيذها.
5. وضع التأمين الشامل للقوات وتنفيذه.
6. إعداد مسرح العمليات وتجهيزه.
7. تنظيم الاستطلاع الاستراتيجي.
2. إعداد الشعب للحرب
تعتبر القوى البشرية في الوقت الحاضر أهم وأمضى أسلحة الصراع، ومهما تبدلت الوسائل المادية للحرب، فإن الإنسان يبقى السلاح الرئيس، وهو الذي يحدد مصير الحرب ونتيجتها.
وليس من الضروري أن تربط قدرة القوى البشرية للدولة بحجم تعداد سكانها، بل بنوعية الشعب والأسلوب السليم لاستخدام طاقاته وقدراته وإعداده الإعداد المناسب عسكرياً ومعنوياً، حتى يصبح قوة فعّالة ومؤثرة على سير الصراع.
يشمل إعداد القوى البشرية للحرب النشاطات التي تخدم مباشرة الموقف العسكري، وأهمها:
الإعداد المعنوي والسياسي بهدف غرس المثل العليا، وتوعية الشعب بالأهداف السياسية للصراع المقبل، وبعدالة القضية التي سيقاتل من أجلها.
إعداد الشعب عسكرياً ليكون جاهزاً للالتحاق بالخدمة العسكرية، وللاشتراك في وحدات المقاومة الشعبية خلف خطوط العدو.
حماية الأهداف الحيوية في العمق.
إعداد قوى الدفاع المدني.
يهدف إعداد الشعب للحرب إلى تحقيق ما يلي:
الاستخدام الأمثل للقوى البشرية في جميع المجالات مع العمل على إيجاد التوازن بين أداء الفرد للخدمة الوطنية وممارسته الحياة اليومية.
العمل على زيادة الدخل القومي، وتحقيق أكبر قدر من الوفر المادي في أثناء السلم، لتلبية الاحتياجات الضخمة في أثناء الحرب.
المحافظة على القوى البشرية في الدولة، وحمايتها في أثناء الصراع المسلح بالمحافظة على الروح المعنوية العالية خلال الصراع.
رفع القدرة العسكرية للقوات المسلحة بتعبئة العناصر المؤهلة في أثناء العمليات في أقل وقت دون التأثير على سير الحياة الطبيعية ومتطلباتها.
وهناك مجموعة من العناصر الأساسية التي يتم من خلالها إعداد الشعب للحرب، وهي:
أ . بناء الاقتصاد الوطني والقوات المسلحة.
ب . إعداد قوى الدفاع المدني.
ج. الإعداد العسكري للجماهير.
3. إعداد أجهزة الدولة للحرب
لا يقتصر تأثير الحرب الحديثة على القوات المسلحة للدولة، أو على مناطق العمليات فحسب، بل يمتد تأثيرها بشكل مباشر أو غير مباشر إلى كل أراضي الدولة ومرافقها، مما يستدعي اشتراك جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها في الإعداد لها، وتأمين متطلباتها، لذلك، فإن إعداد الدولة لمواجهة الحرب لا يتم إلاّ بعد إعداد أجهزة الدولة نفسها، لمواجهة الصراع، بحيث تكون الدولة كلها في مناخ واحد، فلا يكون جزء منها وهو القوات المسلحة جاهزاً للصراع، بينما يعيش الجزء الآخر باقي أجهزة الدولة ومؤسساتها في مناخ السلم غير معنيّ بأمور الحرب.
يُقصد بإعداد أجهزة الدولة للحرب إعداد سلطات الدولة ومؤسساتها، وأجهزتها السياسية، والتنفيذية، والإدارية، والجهاز الحكومي، والمؤسسات، والمنشآت الإنتاجية بما يضمن الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة زمن الحرب، وبما يضمن استمرار السيطرة والعمل للنشاطات المختلفة للدولة ومؤسساتها الإنتاجية، دون توقّف أو تأثير كبير نتيجة الصراع الدائر.
يشمل إعداد أجهزة الدولة للحرب التدابير الآتية:
تأمين استمرار عمل الجهاز التخطيطي القادر على التخطيط الاستراتيجي الشامل والتخطيط المرحلي، ورسم السياسات الاستراتيجية، وتحديد أهدافها، وإصدار التوجيهات للأجهزة التنفيذية للدولة، ومتابعة عملية التنفيذ ومراقبتها خلال الحرب.
إعداد كل جهاز من أجهزة الدولة للعمل وقت الحرب وذلك ب :
*إعداد أجهزة التخطيط للعمل في ظروف الحرب وسرعة التحوّل من حالة السلم إلى حالة الحرب.
*وضع الخطط التفصيلية لتنفيذ المطلوب من كل جهاز لتغطية مطالب المجهود الحربي ومطالب الشعب خلال الحرب.
*القدرة على السيطرة في ظروف الحرب، مما يتطلب إنشاء غرفة عمليات لكل جهاز من أجهزة الدولة، يتوفّر لها الوقاية اللازمة، وأجهزة الاتصال الضرورية مع التخطيط للانتقال والمناورة.
لا يمكن إعداد أجهزة الدولة لتولي مسؤولياتها كاملة زمن الحرب إلاّ بالتنبؤ السليم المسبق لطبيعة الصراع المنتظر، والتقدير الصحيح لمداه وتأثيره، ثم وضع الخطط السليمة نتيجة ذلك.
كذلك، فإن من أهم عوامل قيام أجهزة الدولة بمسؤولياتها زمن الحرب هو تحديد المسؤوليات التفصيلية لكل جهاز، وكذا تحديد أسلوب التعاون بين الأجهزة المختلفة بالدولة، وأسلوب السيطرة الشامل للقيادة السياسية عليها جميعاً.
وتقع مسؤولية تنظيم الإجراءات التفصيلية وتحقيقها في إعداد الأجهزة على علي عاتق المحافظين والسلطات المحلية الأخرى، باشتراك قادة المناطق العسكرية، وتستخدم إمكانات الدفاع المدني والجيش الشعبي على نطاق واسع لهذا الغرض، كما تتولى السلطات العسكرية بعض الإجراءات التي تخرج عن طاقة السلطات المدنية وقدراتها.
4. الإعداد الاقتصادي للحرب
من البدهي أن النصر لا يمكن تحقيقه بمحض الصدفة، وبخاصة في العصر الحديث، وإن من الخطورة ترك الأمور التي تمس كيان الدولة ومستقبلها إلى القدر أو الحظ، ولا بد بالتالي من أن يتم بناء كل ما يتعلق بالدفاع وحماية الدولة على أسس علمية، وأن تخصص له الإمكانات اللازمة، وأن يبذل في سبيله أقصى ما يمكن من جهود.
وإذا كان الهدف من إعداد الدولة للحرب هو تحقيق أمن الدولة وسلامتها، وقدرتها على صد العدوان، وعلى توجيه الضربات الرادعة إلى العدو، وتهيئة الظروف والعوامل للحصول على المبادأة الاستراتيجية للدولة والاحتفاظ بها إذا كان الهدف كذلك فإن إعداد الدولة اقتصادياً للحرب يأتي في مقدمة الأولويات في برنامج الدولة الخاص بالإعداد للحرب، ذلك أن الاقتصاد هو القاعدة الأساسية التي يبني عليها الدفاع وخططه، وتقوم عليها القوات المسلحة، وهو المصدر الذي يغذي أجهزة الدفاع جميعاً بنسغ الحياة وبوسائل العيش والعمل.
وليست عملية إعداد الدولة اقتصادياً للحرب عملية محددة أو محدودة، تتم وتنتهي في وقت محدد، ثم تتوقف، بل هي عملية مستمرة ودائمة بقدر ما هي عملية الدفاع عن الدولة مستمرة ودائمة. وتتصف عملية الإعداد الاقتصادي للحرب بأنها معقدة وشائكة، لأنها تدخل ضمن إطار شبكة واسعة ومعقدة من عمليات تأمين الدفاع عن الدولة، تلك العمليات التي تشترك فيها جميع أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع.
وتتوقف طبيعة الإعداد الاقتصادي للحرب على طبيعة الصراع المسلح المتوقع، وعلى دروس الحروب والتجارب الماضية. ومثل ما يأخذ المخططون الاستراتيجيون العسكريون الظروف والعوامل الدولية بعين الاعتبار حينما يرسمون خططهم، يأخذ المخططون الاقتصاديون هذه الظروف والعوامل من وجهة النظر الاقتصادية بعين الاعتبار عندما يضعون خططهم الاقتصادية لإعداد الدولة للحرب.
أ. أهمية الإعداد الاقتصادي للحرب:
إن الإعداد الاقتصادي للحرب ليس بالأمر السهل ولا العشوائي الذي يمكن معالجته في حينه، ولا بالأمر الذي يستطيع جهاز واحد من أجهزة الدولة أن يحققه، ولا هو بالأمر الذي يتخطى الزمن والظروف قفزاً عليها وهروباً من مواجهتها، وإنما هو عمل علمي دقيق، يقوم على معطيات وإحصاءات علمية دقيقة، ويستند إلى تنبؤات وتصورات أساسها الواقع والاحتمال القادم، وهو يتعلق بالدولة كلها والشعب كله والقوات المسلحة كلها، بمثل ما ترتبط هذه الكيانات كلها به؛ ومن هنا تأتي خطورة الإعداد الاقتصادي للحرب، ومن هنا تأتي أهميته وأثره وتأثيره.
وإذا كانت هناك شؤون في الدولة تديرها وتعمل فيها ولها أجهزة متخصصة، فيها الكفاءة والكفاية، فإن الإعداد الاقتصادي للحرب شأن معقد، متشابك الأطراف، متعدد المستويات، متنوع النسيج، ولا تستطيع جهة اقتصادية واحدة في الدولة أن تتولى كفاية القوات المسلحة والشعب بحاجاتها ومتطلباتها، وإنما الأمر يتعلق بمجموعة هرمية كبيرة ذات مستويات كثيرة ومتنوعة، قاعدتها كبيرة تمتد إلى أرض الوطن كله، وتصغر حلقاتها وتضيق حتى تبلغ القيادة الاستراتيجية العليا في قمة الهرم، وفي كل حلقة أو طبقة في الهرم نجد مجموعة متخصصة من الأجهزة الاقتصادية مختلطة مع مجموعة من أجهزة الدولة المختلفة، والتنظيمات الشعبية، وجميعها تعمل في تنسيق وتناسق، كالجوقة الموسيقية تعزف لحناً واحدًا، يتألف في الأصل من أنغام تنبعث من مختلف الآلات الموسيقية، وهكذا يتألف المجهود الاقتصادي للدولة والمجتمع من تآلف هذه العناصر التي ذكرناها، ليصب في تيار المجهود الحربي، فيرفده بالعون والنسغ، بمثل ما يوفّر للشعب والمجتمع حاجاتهما الحيوية.
ب . الحرب الحديثة والإعداد الاقتصادي:
من صفات الحرب الحديثة أن مجرياتها ووقائعها وآثارها لا تقتصر على القوات المسلحة ومسرح العمليات فحسب، وإنما تمتد إلى جميع أنحاء الوطن، شعباً وأرضًا، جوًا وبحرًا؛ لذلك فإن جميع أجهزة الدولة تكون مشتركة في الحرب بشكل ما من الأشكال، وبنسبة ما من نسب الاشتراك. وعلى هذا، فمن واجب الدولة، بمختلف أجهزتها، أن تعد نفسها وشعبها للحرب، بمثل ما تعدّ القوات المسلحة لأداء واجبها.
ويعني إعداد الدولة اقتصاديًا للحرب إعداد أجهزة الدولة الاقتصادية: التخطيطية، والزراعية، والصناعية، والتجارية، والفنية، والهندسية ... وغيرها، مما له علاقة بالاقتصاد الوطني وبما يضمن استمرار الحياة اليومية والإنتاج والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة والمجتمع وقت الحرب، وبما يضمن استمرار السيطرة والعمل للمؤسسات الإنتاجية والخدمات الاقتصادية لمصلحة القوات المسلحة والشعب في آنٍ واحد، دون توقف أو تأثر كبير، نتيجة الصراع الدائر.ويتطلب الإعداد الاقتصادي للحرب:
1. وجود جهاز تخطيطي أعلى، قادر على التخطيط الاستراتيجي الشامل، يضع الخطط والسياسات الاستراتيجية المتخصصة، ويحدد فيها الأهداف، ووسائل التنفيذ ومراحله، والأجهزة الاقتصادية المكلفة بالتنفيذ، ويُراقب هذا الجهاز التخطيطي تطبيق الخطط والسياسات ويتابعها في مختلف مراحلها.
2. إعداد أجهزة التخطيط الفرعية للعمل في ظروف الحرب، وسرعة التحوّل من طبيعة السلم إلى حالة الحرب.
3. وضع الخطط التفصيلية لتنفيذ كل جهاز اقتصادي ما هو مطلوب منه لمصلحة المجهود الحربي وحاجات الشعب وقت الحرب.
4. قدرة الأجهزة الاقتصادية على التنفيذ، والحركة، والمتابعة، والمراقبة، والسيطرة في ظروف الحرب وطوارئها، وقد يتطلب الأمر أن يُنشئ كل جهاز أو كل مجوعة نوعية من الأجهزة الاقتصاية غرفة عمليات خاصة بها، تستطيع من خلالها القيام بواجبها.
5. وضع الخطط التبادلية لتستطيع الأجهزة الاقتصادية المناورة وحسن التصرّف والادعاء، وتوفير المرونة الكافية لمواجهة أية مطالب مفاجئة، أو مواقف طارئة، وهي كثيرة وقت الحرب.
ومن المؤكد أنه لا يمكن الإعداد السليم لأجهزة الدولة الاقتصادية لتولي مسؤولياتها وأداء واجبها بشكل مناسب، وعلى درجة جيدة من الكفاءة وقت الحرب، ودون خلل أو اضطراب جسيم، قد يؤثر تأثيرًا عميقًا في عمل الدولة والوضع الحربي .
لا يمكن الإعداد السليم إلاّ بالتنبؤ السليم المسبق بطبيعة الصراع المنتظر، واحتمالات تطوره، وحجم حاجاته ومتطلباته، والتخيّل الأقرب للواقع لمداه وتأثيره، ثم وضع الخطط المؤسسة على ذلك كله، مع تحديد المسؤوليات والواجبات لكل جهاز اقتصادي، وأسلوب التعاون بين الأجهزة المختلفة، وارتباط مجموعة الأجهزة الاقتصادية بالقيادة العليا للدولة والدفاع.
وفي جميع الأحول، فإن الأجهزة الاقتصادية لا تسطيع أداء واجباتها كاملة بمفردها، إذا لم تتلق العون المباشر من المحافظين، والمجالس الشعبية، وقيادات المناطق والمواقع العسكرية، والسلطات المحلية الأخرى، ومنظمات الدفاع المدني والدفاع الشعبي وغيرها من المنظمات الشعبية.
وعلى هذا، فإن الإعداد الاقتصادي للحرب، يتطلب تخطيطاً اقتصادياً دقيقاً ومفصلاً، يؤدي تطبيقه إلى توفير القاعدة والعوامل المادية، لكي تؤدي القوات المسلحة، والدولة، والشعب، واجباتها في الدفاع عن الوطن.
5. إعداد أراضي الدولة كمسرح للعمليات الحربية
قبل الخوض في بحث إعداد أراضي الدولة كمسرح للعمليات الحربية، لابد من تعريف مفهوم مسرح العمليات بشكل عام، وتطور هذا المفهوم في الظروف الحديثة.
إن المقصود بمسرح العمليات الحربية هو ذلك الجزء من أراضي الدولة (أو الدول المتحالفة)، مع المياه أو البحار المتاخمة لها، ومجالها الجوي، والذي يمكن أن تدور عليه الأعمال القتالية للتجمعات الاستراتيجية في القوات المسلحة البرية والبحرية والجوية بهدف بلوغ أهداف الحرب.
وتحدد القيادة العسكرية السياسة العليا للدولة (أو الدول المتحالفة) حدود مسرح العمليات الحربية وقوامه، مع الأخذ بعين الاعتبار عوامل عديدة، أهمها:
الموقف السياسي العسكري. أهداف الحرب. الظروف الطبيعية. العامل الاقتصادي. الوسائل والطرق المحتملة لخوض الأعمال القتالية.
ويتم تحديد حدود مسرح العمليات الحربية، بحيث تشكّل الأجزاء الرئيسة لكل مسرح بنية متكاملة من الناحية السياسية الإدارية والاقتصادية والطبيعية الجغرافية، وعندئذٍ تمر الحدود كقاعدة على امتداد خطوط طبيعية كبيرة كسلاسل الجبال أو البحار، والمضائق مع اعتبار الحدود الدولية أيضاً.
كما يدخل في حدود مسرح العمليات الحربية عادة جزء من أراضي الدول المعادية، وعند تحديد حدود عدة مسارح عمليات يجب أن تتداخل حدود بعضها البعض، وذلك من أجل تأمين التعاون الأفضل، وبخاصة إذا كانت الأعمال القتالية ستدور على حدود دولتين أو عدة دول.
ويجب أن تؤمن سعة مسرح العمليات الحربية إمكانية تأمين انتشار تجميع استراتيجي، يضم عدة تشكيلات عمليات من القوات البرية والجوية والبحرية على هذا المسرح، والتي يمكن ربط أعمالها العسكرية بفكرة استراتيجية واحدة، وخطة واحدة ضمن حدود المسرح المذكور.
وتتحدد سعة مسرح العمليات الحربية على ضوء أهميته السياسية العسكرية والاستراتيجية، والأبعاد العامة للمسرح (الجبهة والعمق)، وموقعه الجغرافي، ومستوى تطور شبكة المطارات، والموانئ، وطرق المواصلات، وكذلك وجود الأغراض العملياتية والاستراتيجية الهامة وعددها.
إن المفاهيم المذكورة آنفاً هي مفاهيم عامة يحتاج تطبيقها إلى دراسة دقيقة للوضع الراهن سياسيًا وعسكريًا مع أخذ الواقع بعين الاعتبار