أصبحت البحرية الصينية تتمتع بدور كبير، ولا بد أن يتعزز هذا الدور في المستقبل، وكانت البحرية الصينية قد أدرجت منذ العام 2006 في جدول البحريات الثمانية الأكبر في العالم ضمن نشرة: «أساطيل قتالية» Flottes de Combat وقد ترتب على ظهور الصين في هذا الجدول، إلى دفع الصين لإجراء عدة مراجعات هامة، خصوصاً أنها وصلت لأول مرة إلى المركز الثالث مباشرة بعد روسيا، وقبل بريطانيا. «ما المدهش في الأمر؟ فالصين أصبحت إحدى القوى العظمى في الكرة الأرضية»، وفق ما يقول «برنار بريزلن» مؤلف هذه النشرة المرجعية التي تصدر كل سنتين. ويكشف وصول البحرية الصينية إلى المرتبة الثالثة بين القوى العظمى عن الأهمية العظمى التي توليها بكين لسلاحها البحري، الذي بلغ تعداده 230000 (بما في ذلك طيران البحرية و7000 من مشاة البحرية)، يضاف إلى ذلك نحو 350,000 في الاحتياط.
إعداد: معين أحمد محمود
خلفية تاريخية
أقلعت قوات الصين البحرية في العام 1949، منطلقة نحو مكان يدعى «باي ما مياو» (معبد الحصان الأبيض) بعد فترة من بنائها، وراحت وحداتها الخمس الكبرى: وحدة البوارج، وحدة الغواصات، وحدة السلاح الجوي، وحدة الدفاع الساحلي، ووحدة مشاة البحرية، تتقدم بخطوات واسعة من مرحلة مكنتها نحو مرحلة تعميم بناء المعلوماتية فيها.
لقد أصبحت القوات البحرية الصينية قوة بحرية ضاربة تقدر - في جميع الظروف - على مواجهة التهديدات المتنوعة للأمن، وتنفيذ سائر المهمات العظيمة الملقاة على كاهلها، بعد 62 سنة من بناء وتنمية نفسها، من سفن مدفعية من الخشب إلى مدمرات «تشونهوا شن دون» (الدرع الصيني الرائع) وفي الثالث والعشرين من إبريل 1949، أقلعت بوارج الشعب الصيني البحرية من نهر اليانغتسي الذي تتلاطم أمواجه الهائجة إلى البحر بصعوبة.
متحف قوات الصين البحرية في مدينة «تشينغداو» يستعرض، بصورة نابضة بالحياة، مسيرتها المكتنفة بالمصاعب والمشقات في التقدم الظافر من المياه الصفراء إلى المياه الزرقاء.
في عام 1954، خصصت الصين مبلغاً ضخماً من المال لاستيراد 4 مدمرات من صنع الاتحاد السوفييتي السابق. وفي عام 1962 نجحت الصين في ابتكار أول صائدة غواصات، وفي عام 1971، بدأت أول مدمرة صواريخ موجهة «المدمرة جينان» صنعتها الصين بنفسها، على ضوء التصميم الذي وضعته بمبادرتها الذاتية، في أداء الخدمة العملية، وفي عام 1975، تم تسليم أولى سفينة حراسة مزودة بالقذائف الموجهة من صنع الصين إلى وحدة منتفعة بها من بحريتها، الأسلحة والمعدات العسكرية لبحرية الصين شقت طريقها إلى مرحلة لتطورها السريع بعد أن كانت من استيرادها من الخارج إلى إيجادها من صنعها هي، بالاعتماد على قواها الذاتية.
في عام 1981 ظهرت «جينان» للعيان، من جديد بعد أن صارت، سرياً، أثراً بعد عين، لسنة واحدة، وقد أضيفت إليها منصة تحمل طائرات ونظام لملاحة الأقمار الصناعية في حين لا تزال محافظة على صواريخها الموجهة المضادة للغواصات مما زادها قوة هائلة ضد الغواصات ومهاجمتها، ومذ ذاك سارت بحرية الصين في خط الملاحة العالي التكنولوجيا، بسرعة كبيرة.
المدمرة «هاربين» التي أنعم عليها باسم «أول مدمرة صينية الصنع» كانت واحدة من الجيل الثاني لمثيلاتها الصينية الصنع والمزودة بفئة من الصواريخ الموجهة للدفاع الجوي، والأسلحة المضادة للغواصات، وذات القدرة على حمل الهليكوبترات، وقد تزودت بحرية الصين بهذا النوع من المدمرات الحديثة خلال تسعينات القرن الماضي، وذلك إن دل على شيء فإنه دل على أن السفن الحربية للصين شرعت تشق الطريق إلى تحقيق أغراض عديدة والقيام بعمليات في أعالي البحر.
في السنوات الأخيرة، تزودت قوات الصين البحرية بمدمرات «الدرع الصيني الرائع» المجهزة بالصواريخ الموجهة الصينية الصنع من الجيل الحديث، تزوداً تدريجياً أكسب وحدات سفنها الحربية قدرة للدفاع الجوي زاوية وإقليما في آن واحد، وفي الوقت نفسه، تزودت بمدمرات الصواريخ الموجهة للحراسة، وسفن الصواريخ الموجهة، وصائدات الغواصات، وكاسحات الألغام ، وسفن الإمدادات في المحيطات، من الجيل الجديد، وقد رفع ذلك قدرتها على القيام بعمليات متعددة الأغراض في المحيطات البعيدات.
قوات غواصات البحرية الصينية هي الأخرى تقدمت وثباً إلى الأمام، حيث أنزلت أول غواصة نووية للصين إلى الماء عام 1970، ثم أنزلت أول غواصة نووية صينية الصنع ومزودة بالصواريخ الموجهة إلى الماء عام 1981، وأكثر من ذلك أن الصين أطلقت لأول مرة وبنجاح صاروخاً من غواصة، عام 1981، اليوم ازداد عدد الغواصات الصينية وحمولاتها الإجمالية، عشرات أضعاف، قياساً للأيام الأولى لبناء هذه القوات، وقد شكل ذلك ترساً حصيناً تحت الماء.
التحديث
في الواقع، كانت بكين قد عزمت على تحديث سلاح الغواصات بشكل جذري، بعد أن أطلقت غواصتين SSN في نهاية العام 2002 ونهاية عام 2003، والجدير بالذكر أن هذا النوع من الغواصات مشتق من الغواصات الروسية طراز Victor III، وقد أحيط بناؤها بسرية قصوى. وقد تسلمت الصين في العام 2006 الغواصات الثمانية طراز Kilo التي طلبتها من ثلاثة أحواض سفن روسية مختلفة منذ العام 2002 بهدف تسلمها سريعاً حسب قول «برنار بريزلن»، الذي يضيف: «ازداد إلى حد كبير الإنتاج المتسلسل للغواصات من طراز Song فضلاً عن إنشاء حوضين لبناء الغواصات، توجد اثنتان منها في الخدمة الآن عن أربع أخرى على الأقل قيد البناء».
تستطيع هذه الغواصات زنة 2250 طن في أثناء الغوص، أن تنطلق بسرعة 22 عقدة تحت الماء، كما تم تزويدها بصواريخ مضادة للسفن، وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى نجاح بكين في إنتاج غواصة أخرى أحدث من طراز Yuan، بحجم وسط بين Song الصينية وKilo الروسية.
السفن الخَفِيّة
تغيرت صورة الأسطول الصيني سراً ولكن بثقة، مع سفن أصبحت تتخذ أشكال الإخفاء مقتربة بذلك من أشكال السفن الغربية، ينطبق ذلك على المدمرات صنف Lanzhou، التي تسلمها من أحواض صناعة السفن في شانغهاي حديثاً، هذه السفن تبلغ إزاحتها 7000 طن، وهي مزودة بصواريخ جوية مضادة صينية طراز HQ-9 و16 صاروخاً مضاداً للسفن Ying Ji-3 C803 بمدى 160 كلم. مجهزة أيضاً برادار رباعي الأوجه المستوية يبدو مستوحى من منظومة Aegis الأمريكية.
دخلت في الخدمة أيضاً خلال الفترة الأخيرة وحدتان من طراز Guangzhou مزودتان بصواريخ روسية طراز SA-N-7 وصواريخ مضادة للسفن طراز C803.
هذه المدمرات تبلغ إزاحتها 6800 طن، وهي قــــادرة على الانطلاق بسرعة 29 عقدة، ويبلغ طولهـــا 160 م. وحسب معطيات برنار بريزلن: «هناك مدمرتان أخريان قاذفتان للصواريخ مشتقتان من الـ Shenzen التي كانت قد وضعت في الخدمة عام 1999 (إزاحة 6600 طن)، ولكن على الأرجح مزودتان بصواريخ سطح - جو طراز HQ-9 أو SA-N-6، اكتمل بناء إحداهما والأخرى قيد البناء. ومع المدمرات الأربع الروسية طراز Sovremenny التي طلبتها الصين من أحواض بناء السفن في «سان بطرسبورغ»، ستكون الصين قد وضعت في الخدمة، في غضون أقل من سنتين، عشر سفن دفاع جوي كبيرة، كما أن تطور الفرقاطات الصينية هام أيضاً مع وضع الوحدتين الأوليين من صنف Ma`Anshan طراز Jankai في الخدمة، مما يرفع عدد المجموعة المتسلسلة إلى أربع سفن.
كان من المعتقد، خطأً، أن هذه السفن، التي تتميز بأشكالها الخفية، والتي بنى منها ثلاثون نسخة، مصممة على شاكلة فرقاطات La Fayette الفرنسية، تحمل هذه السفن، التي تبلغ إزاحتها 3500 طن، منظومة دفاع جوي طراز Crotale و8 صواريخ مضادة للسفن. تضم فئة الفرقاطات أيضاً عشراً من طراز Jiangwei II أصغر حجماً بقليل من الـ 2250 (Ma`Anshan) طن، ولكن بتسلح مماثل.
فضلاً عن ذلك، تملك الصين أكثر من 100 سفينة برمائية، بينها 36 سفينة تزيد حمولتها عن 6000 طن، وكذلك عدداً من المدرعات البرمائية خاصة بالجيوش البرية، وهناك دراسات للحصول على قوارب إنزال مسطحة بحمولة 12000 طن.
امتلاك حاملات الطائرات
ما بقي حتى الآن سراً شائعاً بدأ يتخذ مظهراً واضحاً، ومن بعد تردد وتأخر وتخلف عن دول أخرى، دشنت الصين في العاشر من أغسطس 2011 حاملة طائراتها الأولى، لتصبح بذلك خامس دولة آسيوية تملك مثل هذا السلاح، والدولة الحادية عشرة على مستوى العالم من بعد الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا والبرازيل والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتايلاند، فعلى صعيد الدول الآسيوية سبقت الهند الصين في امتلاك بحريتها لحاملات الطائرات، وذلك حينما اشترت في عام 1994 حاملة الطائرات الروسية «أدميرال غوروشكوف» التي تزن 45.5 ألف طن، بمبلغ 1.6 بليون دولار، علماً بأن البحرية الهندية بدأت منذ عام 2005 في بناء حاملة طائرات أخرى محلية التصنيع بالكامل بوزن يناهز 37.5 ألف طن، كما أن تايلاند سبقت الصين أيضاً بامتلاكها لحاملة طائرات إسبانية الصنع بدءاً من عام 1997، علماً بأنها صغيرة الحجم (لا يتجاوز وزنها 11.5 ألف طن، ولا يتسع سطحها لأكثر من 26 طائرة نصفها من المروحيات). أما اليابان، التي كانت رائدة في امتلاك حاملات الطائرات الضخمة قبل هزيمتها في الحرب الكونية الثانية، فصارت بسبب القيود المفروضة عليها تتحاشى استخدام اسم حاملة الطائرات في وصف سفنها الحربية الضخمة ذات التقنيات العالية والتي يمكنها أن تتحول إلى مهابط للطائرات المقاتلة والمروحيات عند الحاجة، وتملك كوريا الجنوبية حاملة طائرات مصنوعة محلياً، وتزن 14 ألف طن، وبإمكانها حمل 700 عنصر مقاتل و12 مقاتلة حربية و10 مروحيات، إن دخول الصين عصر امتلاك حاملات الطائرات أثار الكثير من علامات الاستفهام في الأوساط العالمية ومراكز البحوث الاستراتيجية، إلى الدرجة التي دفعت واشنطن رسمياً إلى طلب تفسير من بكين حول الحدث ومراميه، ذلك أن الكثيرين شبهوا تدشين حاملة الطائرات الصينية الأولى بتدشين الأمريكيين لحاملتهم الأولى «يوجين إيلاي» من حوض بناء السفن في برمنغهام في 14 نوفمبر 1910، مفترضين أن الحدث الصيني ربما كان مثل الحدث الأمريكي قبل قرن من الزمن لجهة بداية حقبة جديدة من الاستراتيجيات والعمليات الحربية في أعالي البحار، وبكلام آخر هل الخطوة الصينية هي البداية لمشروع صيني أكبر يكتمل في عام 2020 مثلاً، ومفاده استخدام القوة العسكرية في أعالي البحار لترجيح وتأمين المصالح السياسية والاقتصادية للصين مثلما فعلت واشنطن من قبل، ورغم أن بكين قاومت جميع أشكال المبالغة في الاحتفال بتدشين حاملتها الأولى، بل حاولت إسدال قدر من الغموض على الحدث، إلى حد تجنبها إطلاق اسم معين على الحاملة، بل والإصرار على أن ما دشنته بحريتها ليس سوى سفينة أبحاث وتدريب، فإن المراقبين راحوا ينقبون عن غير المعلن، فإذا كان صحيحاً أن الحاملة، التي تعود إلى الحقبة السوفيتية، وتم بناؤها في أوكرانيا، وتزن 67 ألف طن، واشترتها بكين من موسكو في عام 1998، ثم أجرت عليها تعديلات وتجديدات كثيرة في ميناء «داليان»، مجرد سفينة أبحاث وتدريب، فإن الصحيح أيضاً هو أن العملية بمجملها استباق وتحضير لقيام الجيش الأحمر بتدشين حاملة طائرات صينية خالصة في عام 2014 ضمن ثلاث أخريات تعتزم بكين إلحاقها بسلاحها البحري المتعاظم، وبعضها مزودة بقدرات نووية، وإذا كان صحيحاً أن بكين تحاشت إطلاق اسم على الحاملة التي كانت عـُرفت في الحقبة السوفيتية باسم «فارياغ»، فإن مصادر مقربة من جنرالات الجيش الأحمر سربت خبر اختيار «شي لانغ» كاسم للحاملة، وذلك تيمناً بالأدميرال «شي لانغ» المنحدر من سلالة «قينغ» التي حكمت الصين ما بين 1644 - 1911.
واستناداً إلى ما عــُرف عن هذا العسكري من دعوات بالسيادة على تايوان، فقد قيل إن إطلاق اسمه على الحاملة متعمد ويستهدف إرسال رسالة تحذير مفادها أن أي عمل متهور بإعلان استقلال تايوان سوف يواجه بالقوة العسكرية، على أن خبيراً عسكرياً أمريكياً هو الأدميرال المتقاعد «إيريك ماك فارون» له رأي آخر، إذ قال إن إطلاق اسم «شي لانغ»، رغم حساسيته، ليس فيه إيحاءات بالتهديد لتايوان، مضيفاً أن حاملة الطائرات غير ضرورية لسينايوهات غزو تايوان، لأن لدى بكين أعداد هائلة من المقاتلات التي يمكن تحريكها بسهولة من البر الصيني عبر مضيق تايوان في عمليات قصف خاطفة وسريعة، كما أن الخبير العسكري الأمريكي أثار نقطة هامة كانت مجلة «وايرد» قد طرحتها من قبل في عددها الصادر في يونيو الماضي، وهي أن نقطة الضعف الرئيسية في الحاملة الصينية «موجودة تحت جلدها» وتتمثل في محركاتها الأوكرانية الصنع من تلك التي أثبتت فشلاً ذريعاً في تحقيق السرعة المطلوبة، بدليل ما حدث لحاملة الطائرات «كوزنتسوف» الروسية المطابقة للحاملة «فارياغ» تصميماً ومضموناً، في أسباب لجوء بكين إلى هذه الخطوة من بعد تأخر وتلكؤ، تباينت آراء المحللين، فمن قائل إن بكين تسعى إلى فرض هيمنتها في بحر الصين الجنوبي، ومياه المحيط الهندي حيث التنافس على أشده بين بكين من جهة وقوى إقليمية كالهند واليابان وكوريا الجنوبية من جهة أخرى، إلى قائل بأن للأمر علاقة بردع كل من يستهدف الصين أو يقلل من شأنها أو يحاول فرض الأمر الواقع عليها، إلى قائل بأن الخطوة ليست سوى محاولة لرفع معنويات سلاح البحرية في الجيش الأحمر والذي هــُمـّـش طويلاً لصالح سلاحي الجو والبر، هذا ناهيك عمن قالوا بأن الخطوة تستهدف الإيحاء لمن يعنيه الأمر بأن البحرية الصينية تواكب التطورات العالمية لجهة عمليات حراسة السفن التجارية في أعالي البحار، ومحاربة القرصنة والإرهاب، والمساهمة في عمليات الإنقاذ والإغاثة والإجلاء وتقديم الخدمات الإنسانية، أي أن الصين تتحمل مسؤولياتها كدولة عظمى دائمة العضوية في مجلس الأمن، وبطبيعة الحال، كان هناك من قال بأن المسألة تتعلق بالتنافس الأمريكي – الصيني، وحول هذا الموضوع علق «إيريك ماك فارون»، قائلاً إن البون شاسع جداً في ما خص القدرات القتالية البحرية، ليس بين الصين والولايات المتحدة فقط، وإنما بين الأخيرة وكل دول العالم مجتمعة، فالولايات المتحدة تمتلك مثلاً 20 حاملة للطائرات، بينما دول العالم الأخرى مجتمعة تملك 10 منها فقط، ناهيك عن أن الحاملات الأمريكية أكبر حجماً وأكثر تقدماً في تقنياتها.
وفي هذا السياق يكفي أن نوضح أن المساحة الإجمالية لأسطح الحاملات الأمريكية العشرين تبلغ 280 ألف متر مربع، بينما هي في الحاملات الأجنبية الأخرى كلها لا تزيد عن 60 ألف متر مربع، ويجزم الأدميرال «ماك فارون» بأن الصينيين على قدر من الذكاء الذي يجعلهم يتعاطون بواقعية مع قدرات القوى الأخرى، مضيفاً أن الأرجح هو تعاون حاملات الطائرات الصينية والأمريكية مع بعضها البعض من أجل تحقيق الأهداف المشتركة، وليس تنافسهما، وفي قول مشابه، يؤكد «يوشي يوشيهارا» الأستاذ المشارك في معهد السياسات الإستراتيجية التابع للكلية البحرية في «رود آيلاند» بأن الصينيين واقعيون، وبالتالي فإن استثماراتهم في السلاح البحري ستكون معتدلة وحذرة بحيث لا تقودهم إلى سباق تسلح مكلف يؤدي في نهاية المطاف إلى الإفلاس والانهيار مثلما حدث للاتحاد السوفييتي.
مع حلول القرن الواحد والعشرين، سجل سلاح الطيران لبحرية الصين تقدماً بخطوات أوسع إلى الأمام، وأصبح نصف قطر قيامه بعمليات أطول، ذلك لأنه تزود شاملاً وكاملاً بمقاتلات «الفهد الطيار» الممتازة بالقدرة الكبرى في القيام بعمليات جو - بحر الهجومية، ومقاتلات الجيل الثالث ذات الكفاية العليا في القيام بعمليات معلوماتية، وبذلك صارت له قوة قتالية في جميع الظروف الجوية، والتناسق الوثيق بين طائرات الأسطول من الجيل الأول وبوارج البحرية ارتقى بمزيد من كفاءة البحرية المضادة للغواصات والهجوم عليها في حين أرسى التصاعد الشامل للكفاءة القتالية لدى طائرات الاستطلاع والتزويد بالوقود والقاذفات أساساً منيعاً لكسب السيادة الجوية لميدان المعركة البحرية والسيادة القيادية للجو الكهرومغناطيسي.
علاوة على ذلك تم تعميم الصواريخ الموجهة كأسلحة ركائزية في وحدات قوات الدفاع الساحلي على العموم، لتحل محل المدافع المضادة للطائرات، كما جرى تحقيق المكننة في وحدات مشاة البحرية في حين اتخذت تدابير تجعل كل استعداداتها للقتال معلوماتية، المعدات الحديثة للعمليات البرمائية ارتقت بالقدرة على التحرك وعمليات الإنزال لمشاة البحرية في جميع النواحي، وقد تم تصعيد الأسلحة والمعدات لدى أسلحة البحرية الصينية الخمس، تصعيداً كاملاً وشاملاً إلى المستوى الرفيع.
سياسة الأمر الواقع
وقعت الصين مع بقية الدول الأعضاء في رابطة جنوب شرق آسيا في العام 2002 على إعلان بالتزام الحيطة وضبط النفس في التعامل مع كل قضايا المنطقة ومشكلاتها، وفي العام 2010 اجتمعت الدول الأعضاء في الرابطة، وحضرت الاجتماع هيلاري كلينتون وزيرة خارجية الولايات المتحدة، لتعلن أن بلادها تنظر إلى نزاعات الدول في بحر الصين الجنوبي في إطار المصلحة القومية الأمريكية، وانضم إليها في الإعراب عن قلقها إزاء تطورات الوضع في المنطقة قادة عشر دول مجاورة للصين، شعروا أن القوة المتصاعدة للصين على أرض الواقع جعلت الإعلان الصادر قبل ثماني سنوات خالي المضمون وغير ذي معنى، ولم يعد سراً أن الصين تعمل منذ سنوات على بناء قاعدة بحرية للغواصات في جزيرة هاينان وهو ما اعتبره محللون عسكريون تحولاً استراتيجياً جذرياً في العقيدة العسكرية للصين، أول معنى من معاني هذا التحول كما فسرته الولايات المتحدة هو أن الحالة الملاحية في بحر الصين الجنوبي سوف تتعرض لقيود، وقد تصبح مساحة المياه التي يمكن لأساطيل الدول الأخرى أن تتحرك فيها بحرية صغيرة للغاية، إذ سيتعين إن آجلاً أو عاجلاً على كل بواخر الشحن والبوارج وحاملات الطائرات والغواصات التي ترفع أعلام الدول الأخرى إطلاع القيادة البحرية الصينية مسبقاً على تحركاتها.
فالأمر الواضح والمؤكد - ولا حاجة بنا إلى المراهنة على صدق هذه التوقعات من عدمه - هو أن الصين قد واجهت العالم بأمر واقع جديد في الإستراتيجية الدولية حين أعلنت على الملأ أن بحر الصين الجنوبي بؤرة اهتمام صينية ليست أقل خطورة على أمن الصين واستقرارها من البؤرتين التقليديتين، وأعني بهما تايوان والتبت.
لم تخف الصين انزعاجها من موقف الوزيرة هيلاري وتصريحاتها، وبخاصة تلك التي دعت من خلالها إلى مقاربة متعددة الأطراف لحل مشكلات الحدود البحرية في إطار منتدى أمن آسيوي يضم إلى جانب الصين فيتنام والفلبين وبروناي وتايوان وإندونيسيا، أي الدول صاحبة الحقوق في هذا البحر الذي يمتد من جزيرة هاينان شمالاً إلى جزيرة بورنيو جنوباً.
والجدير بالذكر أن هذا الاهتمام المتزايد من جانب الصين ببحر الصين الجنوبي، وكذلك ببحرها الشرقي وبحر اليابان ومضايق تايوان يعكس انشغالاً طبيعياً ومنطقياً بأمنها المباشر، خاصة أن المناطق المتاخمة لهذه البحار أصبحت خلال الثلاثين عاماً الماضية أهم قواعد النمو الصناعية والتجارية في الصين إن لم يكن في كل آسيا، يعكس أيضاً توجهاً استراتيجياً أوسع نحو العالمية، خاصة أن الشواهد تدل على أن الصين تبني في الوقت الراهن قوة بحرية لعلها احتلت بالفعل الآن المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة وروسيا.
وفي هذا السياق، يذكرنا متخصصون في الشؤون الصينية بأرقام لا يمكن إغفالها عند متابعة ثم مناقشة توجهات الصين العسكرية في السنوات الأخيرة، لم يعد خافياً أن الصين تستعد، ومنذ فترة ليكون في حوزتها 78 غواصة في عام 2020، بمعنى آخر يكون لديها عدد من الغواصات يعادل ما سيكون لدى الولايات المتحدة الأمريكية، يتوقعون أيضاً أن يكون لدى الصين ما يزيد على سبعمائة قطعة بحرية مسلحة مزودة بالصواريخ، وأحدث أجهزة الاتصالات والتوجيه، وهي الآن تقيم مرافئ في بلاد عديدة أهمها باكستان وبنجلاديش وسيريلانكا تقول عنها بكين إنها محطات تموين لأسطولها التجاري ومخازن لبضائعها المتوجهة إلى الشرق الأوسط وما وراءه، بمعنى آخر ترفض الصين اتهام دول الغرب لها بأنها تقيم قواعد عسكرية في تلك الدول.
ويميل الخبراء العسكريون من أمريكيين وبريطانيين إلى تصديق بيانات الصين عن الموانئ التي تشيدها في الخارج، وأنها ليست قواعد عسكرية، ولكنهم لا يستبعدون أن تضطر الصين قريباً جداً إلى التفاوض مع دول بعينها للحصول على قواعد أو تسهيلات بحرية تحتمي فيها أساطيلها التجارية والحربية، أو لتنطلق منها لمطاردة القراصنة الذين ينشطون في المياه القريبة من شرق إفريقيا ومداخل البحر الأحمر والمضايق التي تحكم طرق الملاحة في بحر الصين الجنوبي.
ما أشبه اليوم بالبارحة، على الأقل في المقارنة الآتية، إذ تمر الصين الآن بما مرت به بريطانيا العظمى قبل قرون حين احتاجت إلى أسطول حربي يحمي مراكبها وتجارتها العالمية، وهنا ينتهي التشابه، ففي أزمنة هيمنة التجارة البريطانية لم يكن هناك في البحار والمحيطات والمضايق قواعد عسكرية بحرية وبوارج ومدمرات لدولة أقوى وأعظم تتولى حماية سفن بريطانيا وغيرها من ناقلات التجارة الدولية، بينما في الأزمنة الراهنة تصعد الصين كقوة تجارية لها وزنها وتبحر سفنها في كل البحار مطمئنة إلى أن دولة عظمى هي الولايات المتحدة تتولى حماية هذه السفن الصينية ضمن مهمتها الموكلة لها ضمناً أو انتزاعاً من المجتمع الدولي لحماية طرق التجارة العالمية، ولكن يصعب علينا أن نتصور أن الصين ستواصل نموها الاقتصادي والتجاري معتمدة على حماية الولايات المتحدة الأمريكية لتجارتها في ممرات الملاحة الإستراتيجية في العالم، سيأتي يوم لن تكون فيه الصين وشركاتها التجارية العملاقة ومصالحها الاقتصادية مطمئنة إلى الحماية الأمريكية، هنا تظهر أهمية وخطورة ما حدث في اجتماع رابطة الآسيان عندما تأكدت مخاوف الصين بإعلان الولايات المتحدة أن بحر الصين الجنوبي يندرج تحت مظلة التزامها أن تبقى الممرات المائية ومنها بحار الصين مفتوحة لكافة الدول وللتجارة العالمية. كان يعنيها بشكل خاص بحر الصين الجنوبي حيث تمر أكثر من ثلث التجارة البحرية العالمية، وحيث يمر نصف مجمل واردات شمال شرق الصين والكوريتين واليابان وتايوان من النفط والغاز، وللسبب نفسه لم تقبل الصين أن تتولى الولايات المتحدة حماية هذا البحر والتجارة فيه، ولتأكيد رفضها الوجود الأمريكي قامت بإجراء مناورات بحرية تثبت بها سيادتها على البحر والجزر المتنازع عليها، وبخاصة مجموعة الجزر المعروفة باسم سبارتلي وباراسيل، ويعرف العسكريون الصينيون كما يعرف أقرانهم في جنوب آسيا والغرب أن حماية تجارة الصين وأساطيلها وقواعدها في الخارج تتوقف على نجاحها في تأكيد هيمنتها على مياه هذا البحر، فهو البحر الذي ستنطلق منه غواصاتها وسفنها العسكرية وبواخرها التجارية المتجهة إلى المحيط الهندي والخليج والبحر الأحمر.
يطلق الكاتب «سيمفيندورفر» Sempfendorfer تعبير طريق الحرير الجديد على خطوط الملاحة الصينية الممتدة من بحر الصين الجنوبي إلى أقصى نقطة عند الأمريكتين مروراً بالشرق الأوسط، يختلف هذا الطريق عن طريق الحرير القديم في أن القديم اعتمد على البر من مواقع في غرب الصين مروراً بوسط آسيا حتى غربها وجنوب أوروبا، بينما يعتمد الطريق الجديد على البحر من موانئ على سواحل بحر الصين الجنوبي مروراً ببحار الهند والعرب وصولاً إلى مياه الأطلسي، هذا الطريق وما ينقله من بضائع هو الذي يفرض الآن على الصين بناء أكبر قوة بحرية بعد القوة الأمريكية سعياً وراء أن تصير قريباً أقوى قوة بحرية في التاريخ، وهو التعبير الذي استخدمه روبرت كابلان Robert Kaplan في مقال نشرته له مجلة Foreign Affairs الأمريكيــة وفي حوارات أجراها في مواقع متعددة، لكنه يقـــول: إن إصرار الصين على بناء قوة بحرية في ظل وجـــود قوة أمريكية عظمى تحمي طرق التجارة الدولية لا يخرج عن كونه رفاهة تزين بهــا صعودها السريع في سلم المكانة الدولية، بينما كان بناء بريطانيا قوة بحريـــة في القرنيــن الثامن عشر والتاسع عشر ضرورة لا غنى عنها لحماية تجارتها العالمية.
الصينيون الذين عاشوا قروناً يبنون القلاع والأسوار ومنها سور الصين العظيم ليحموا حدودهم البرية من غزو البرابرة، أي الأجانب، هم أنفسهم الذين قرروا في الثلاثين عاماً الأخيرة أن تصبح بلادهم أقوى قوة بحرية عرفها التاريخ.
إنزعاج العديد من الجيران
ولقد أدى هذا التوجه إلى إزعاج العديد من جيران الصين، وترى وزارة الدفاع في الولايات المتحدة أن الصين تهدف من وراء ذلك إلى بناء سلسلة من القواعد الإستراتيجية العسكرية والدبلوماسية ـ أو ما يسمى بـِ «عقد اللؤلؤ» ـ إلى جانب الممرات البحرية الكبرى من بحر الصين الجنوبي إلى الشرق الأوسط الغني بالنفط.
والحقيقة أن الصين لا تسعى إلى تأمين إمداداتها من الطاقة فحسب، بل إنها ترغب في تحقيق أهداف أمنية أوسع نطاقاً. ولنذكر على سبيل المثال ميناء جوادار العسكري الذي تعكف الصين على إنشائه الآن في جنوب غرب باكستان، والذي اختير له هذا الموقع الإستراتيجي لحراسة الممر الذي يؤدي إلى الخليج، حيث أنشأت الصين مواقع إلكترونية لاستراق السمع ومراقبة السفن ـ بما في ذلك السفن الحربية ـ المارة عبر مضيق هرمز وبحر العرب.
وفي بحر الصين الجنوبي تعمل الصين على تطوير أنظمة تسمح لها بنشر وحدات من قواتها البحرية والجوية على نطاق واسع من خلال تحصين قواعدها على جزيرة هانيان والمنطقة الساحلية من جنوب الصين. وعلى جزيرتي سباراتلي وباراسل تبني الصين موانئ لإرساء السفن ذات الأسطح الضخمة، ومدارج طائرات متسعة على نحو يسمح بصعود وهبوط قاذفات القنابل البعيدة المدى، وتعكف الصين بالفعل الآن على بناء مجموعة من حاملات الطائرات غير القابلة للغرق في وسط بحر الصين الجنوبي.
تـرى ما الأسباب التي تدعو الصين، التـي كان ينظر إليها عادة باعتبارها «قوة قارية»، إلى الانخراط في مثل هذه الأنشطة البحرية التوسعية؟ كانت الصين تفرض هيمنتها على آسيا في مجال «القوة البحرية» حتى القرن السابع عشر، فخلال حكم أسرة منج (1368-1644) كانت «البحرية العظمى» تحت قيادة الأدميرال زنج هي القوة البحرية الأعظم في العالم، ولكن الصين لم تكن لها إستراتيجية بحرية عالمية طيلة القرون الثلاثة الماضية، بل ولم تمتلك ولم تسع إلى امتلاك قوات بحرية قادرة على دعم إستراتيجية عالمية.
وعلى ذلك فإنه لما يثير العجب أن تكون للإستراتيجية البحرية الحالية للصين جذور في الولايات المتحدة ذاتها، وهي الدولة التي تنظر إليها الصين باعتبارها المنافس الرئيسي لها على الصعيد الإستراتيجي، وخاصة فـي إطار نظرية «القوة البحرية» التـي وضعها الأدميرال ألفريد ثاير ماهان في نهاية القرن التاسع عشر، ففي كتابه «تأثير القوة البحرية على التاريخ» الذي نشر في عام 1890، يؤكد ماهان أن العلاقة وثيقة للغاية بين القوة البحرية والتنمية الاقتصادية، وهو يرى أن القدرة على حماية القوة التجارية عن طريق البحر هي فقط التي من شأنها أن تعمل على تأمين هذه الرابطة.
ولقد حدد ماهان الشروط التي تقرر مدى «القوة البحرية» فيما يلي: الموقع الجغرافي والبيئة، القدرة الإقليمية، وخاصة على الحدود الساحلية، تعداد السكان، شخصية الأفراد الذين يتولون الحملات البحرية، شخصية الحكومة المتلهفة إلى تبني «القوة البحرية».
كانت هذه الشروط تنطبق على الولايات المتحدة في زمن ماهان، ومن المؤكد أنها تنطبق على الصين اليوم، فلقد أصبحت الصين بالفعل ثالث أضخم أمة تجارية على مستوى العالم، وهي تعمل الآن بقوة وسرعة على تطوير قدراتها من حيث الموانئ بحيث تتمكن من استيعاب وإدارة هذا الحجم الهائل المتزايد باستمرار من التجارة، وتعد السعة الطنية لسفنها (باستثناء أساطيلها التي تبحر تحت أعلام دول أخرى) الرابعة من حيث الضخامة على مستوى العالم، وتأتي التوسعة السريعة للسعة الطنية للسفن كجزء من الخطة الخمسية الحالية للصين، ومن المرجح أن تتزايد قدرات بناء السفن لدى الصين حتى تتمكن من منافسة قدرات اليابان وكوريا.
ولكن على النقيض من سياسة الدول الكبرى في الماضي، تضطر الصين اليوم إلى بناء القواعد عبر البحار بدلاً من استعمار الدول سعياً إلى تعزيز قوتها البحرية، وحتى الآن مازالت الصين تعمل على تحويل قوتها البحرية الساحلية إلى قوة بحرية قادرة على عبور المحيط، بسرعة تفوق كل تقديرات الخبراء، فمن المتوقع مع نهاية العام الجاري 2011 أن تمتلك الصين سبعين من أكثر السفن السطحية حداثة، علاوة على العديد من الغواصات النووية الإستراتيجية الحديثة وعدة عشرات من الغواصات الهجومية المستحدثة، بحيث تتفوق على القوات البحرية الحديثة لتايوان، بل وحتى القوات البحرية اليابانية التابعة لقوات الدفاع عن الذات، على الأقل من حيث الكم.
فضلاً عن ذلك فإن الصين تخطط لتحسين وتوسعة قدراتها في مجالي الإنزال البحري الهجومي والدعم اللوجيستي المشترك، وكان كل من المجالين يمثل نقطة ضعف في القوة البحرية للصين، وهذا من شأنه أن يمد الصين بالقدرات اللازمة لغزو أكثر جزر اليابان انعزالاً، بما في ذلك جزر سينكاكو المتنازع عليها، علاوة على تايوان.
استرتيجية الصين البحرية
تستند الإستراتيجية البحرية الصينية الراهنة إلى ركائز ثلاث: تدريبات عسكرية ترمي إلى التدريب والردع في آن واحد، تجارب أجهزة قذف الذخائر بعيدة المدى. الانتشار العسكري السريع، ودبلوماسية عسكرية تتمثل في إقامة علاقات ثنائية وتبادل استخدام المرافئ.
في الأعوام 2010 و2011 ضاعفت الصين تدريباتها الوقائية، البحرية منها والبرية، وبعكس ما كانت عليه سابقاً ركزت القوات البحرية جهودها على تدريبات لمواقف قتالية حيّة. ركزت على حماية السواحل والتعبئة السريعة ومرونة القيادة والسيطرة وقوة القذف البعيدة المدى، مما ساعد على تضاعف تطوير الأسطول البحري الصيني.
في بداية شهر أبريل 2010، قامت ست عشرة سفينة حربية تابعة للأساطيل الثلاث (أسطول البحر الشمالي والشرقي والجنوبي) بتدريبات بحرية غير مسبوقة لجمهورية الصين الشعبية، حيث أبحرت السفن على بعد 140 كلم من جزيرة أوكيناوا اليابانية عبر قناة باشي وباتجاه مضيق ملاكا، وأجرت اختبارات بالذخيرة الحية، إضافة إلى مضادة للغواصات على طول الساحل الصيني، هذا وقد قامت أساطيل بحرية صينية أخرى وأفواج من السلاح الجوي بشنّ غارات وهمية على الأسطول خلال فترة تدريبه.
وقد أوضح هذا العرض بلوغ الأسطول البحري الصيني لأقصى درجات المرونة في قدرته على نشر عناصره بحراً وجواً وبراً بشكل متزامن، كما برهن العرض عن اكتساب الأسطول الثقة المطلوبة للإبحار عبر مسافات طويلة، في الوقت الذي تسعى فيه الصين إلى تدعيم مطامحها الإقليمية ضمن نطاق بحر الصين الجنوبي.
كما قامت البحرية الصينية في شهر يوليو الماضي بأولى التدريبات العسكرية لسفن الهجوم الصاروخي السريع Houbei 022 التابعة للفيلق السادس عشر في أسطول البحر الشرقي. وتشكل سفن Houbei 022 التي كانت كلاً منها تحمل ثمانية صواريخ مضادة للسفن من نوع YJ-83 أهم دعائم الإستراتيجية الدفاعية التي تتبناها الصين في حماية سواحلها، وهي إستراتيجية معروفة بهجوم الذئاب Wolf Pack يعتمد على مضايقة أساطيل العدو عن بعد.
وفي خضم التوترات المحيطة ببحر الصين الجنوبي أصبحت هذه التدريبات العسكرية البعيدة الأمد بمثابة رسالة ردع واضحة لجيران الصين وكشفت عن قدرتها وعزمها على بثّ قوتها البحرية بشكل مرن وشامل عبر بحر الصين الجنوبي، وعن عدم انحصار مجهودات الأسطول البحري الصيني في اكتساب القدرة العسكرية لحل مشكلتها مع تايوان.
وللبرهنة أمام العالم على قدرة الصين على نشر حلقة دفاعية متعددة الجبهات ومتنوعة السّلاح في مياهها الإقليمية، قام الأسطول البحري الصيني بتجريب صواريخ طويلة المدى على سواحل المنطقة العسكرية نانجنغ، مستخدماً لذلك أنظمة (ال ب ه ل –03) الصاروخية المتعددة الإطلاق، يصل مدى قذف هذه الأنظمة إلى نحو الـ 150 كلم، كما تستطيع إطلاق ذخائر موجهة بدقة، وقد أمّنت شعبة الطيران في الأسطول البحري الصيني PLANAF الدعم الجوي الشامل للتدريبات البحرية.
الانتشار البعيد المدى
على الرغم من مشاركة الصين الفاعلة في قوات حفظ الأمن لدى الأمم المتحدة، إلا أن هذه المشاركة اقتصرت على القوات غير القتالية، ولكنّها ومنذ ديسمبر 2008 سخّرت بوارجها لمحاربة عمليات القرصنة في خليج عدن من خلال مناوبات يتمّ استبدالها بعد حوالي أربعة أشهر على بدء مهمتها، وتضم كل مناوبة عادة مدمرتين أو فرقاطتين وسفينة لتزويد المؤن، ويسمى الأسطول البحري الصيني هذه المشاركة «بالعمليات العسكرية غير الحربية»، ويعتبرها فرصة لتدريب الضباط، ذلك أن القوات المسلحة الصينية لم تشهد حركة ملحوظة على حدودها منذ نزاعاتها مع فيتنام في الثمانينات.
لقد اكتسب الأسطول البحري الصيني خبرة واسعة من انتشاره، كما أستطاع التغلب على مشاكل لوجستية مختلفة، فأسطوله الأول عانى من نقص حاد من الأغذية الطازجة لأنه لم يملك ميناء للتزود بالمؤن، وبعكس الأساطيل الغربية التي كانت ترسو إلى الشاطئ باستمرار، كلما مرت على إبحارها فترة زمنية مُعينة (من 10 إلى 14 يوماً)، فإن الأسطول الصيني الأول مكث في عرض البحر طوال مدة المناوبة، مما عرض صحة أفراد طاقمه للخطر وقلل من فعالية أدائه، أضف إلى ذلك أن تعامل هذا الأسطول مع هجمات القرصنة الأولى كان رديئاً ومفتقراً إلى التنسيق، لعجز الأسطول البحري الصيني عن وضع أسس متينة للمشاركة.
بحلول موعد المناوبتين التاليتين كانت الصين قد قامت بتدريبات من أجل تأمين مرافئ للمؤن، فصارت السفن الصينية ترسو في موانئ مثل جيبوتي، وصلالة في عمان وعدن في اليمن، كما أن القوات الخاصة الصينية استأنفت مشاركتها في الاجتماعات الشهرية «من أجل الوعي المشترك ودرء نشوب النزاعات» التي تتبادل خلالها القوات البحرية المختلفة معلوماتها العملية، كما شاركت بوارج الأسطول البحري الصيني في تدريبات مشتركة وعمليات لتبادل الضباط، كذلك وقد استهدفت اكتساب الخبرة ضد أعمال القرصنة من القوات البحرية الأخرى، بالإضافة إلى ذلك أعرب الأسطول البحري الصيني عن اهتمامه بمضاعفة دوره في المجهود ضد القرصنة، وهي خطوة ذات دلالة وأهمية عاليتين، فعلى سبيل المثال تمت تبادلات استخباراتية متعدّدة بين الأسطول البحري الصيني والقوات البحرية السنغافورية، بعد احتجاز قراصنة لسفينة صينية الصنع والطاقم مسجلة في سنغافورة.
الدبلوماسية العسكرية
بني الجزء الثالث من إستراتيجيتها البحرية على مفهوم الدبلوماسيّة العسكرية، وإن الهدف من برنامج الحكومة الصينية الدبلوماسي هو بناء علاقات ثنائية وعلاقات عامة متعددة في آسيا والمحيط الهادئ وما وراءهما، بالإضافة إلى الحد من وتيرة النزاعات الإقليمية مع جيرانها، وكبح نزاعاتهم المحتملة إلى توطيد علاقاتهم العسكرية بالولايات المتحدة، وبصفته أكبر أجنحة الجيش الصيني مرونة وتركيزاً، فقد أثبت الأسطول البحري أنه أنجح الوسائل للبرهنة على قوة الصين، إن الوجود البحري الصيني المكثف عبر محيطات العالم شهد، وما زال، على تقدّم هذه الدبلوماسية العسكرية بشكل غير منظور، فالسفن المنتشرة في خليج عدن تعود من مهماتها البحرية إلى الصين عبر مسار دائري يخولها زيارة الموانئ المختلفة والقيام بأنشطة تدعم العلاقات العامة.
فبعد استكمال المهام المسندة ضد القراصنة، أرسلت المدمرة غوانغزهو عبر قناة السويس إلى البحر الأبيض المتوسط، لتحط رحلتها في مرافئ مصر واليونان وإيطاليا، ثم زارت ميانمار واستكملت رحلتها الدبلوماسية بوقفة في مرفأ سنغافورة، أجرت خلالها تدريبات خاصة مع القوات البحرية السنغافورية في الخامس من سبتمبر الماضي.
وفي هذا السياق لا بد من التذكير هنا أن فعالية الجهود الدبلوماسية المذكورة ما تزال قيد الاختبار، لكن السفن الصينية قد اكتسبت بالفعل مرافئ صديقة تستطيع من خلالها تجديد مؤونتها، والدبلوماسية العسكرية قد سجلت نجاحاً ملحوظاً أيضاً حيث تزامنت لفتات النوايا الحسنة مع عمليات تمويل ملموسة، مثل مرفأ هامبانتوتا السريلانكي الذي استكمل منذ فترة وجيزة بدعم مادي صيني، وسيوفر لسفن الملاحة الصينية مركزاً مهمّاً لإعادة تخزين الوقود.
إنّ الحماس الذي يتعاطى به الأسطول البحري الصيني مع التدريبات الثنائية بين الصين من جهة ودول آسيا والمحيط الهادئ من جهة أخرى، يدعم التبادل العسكري والشفافية، ويهيئ لدول المنطقة فرصة للتعرف على القوة العسكرية الصينية عن قرب.
إستراتيجية مستقبلية
ما تزال الصين تعمل بجد ونشاط لتحقيق هدفها لخلق قوة بحرية تخوض غمار البحر وتعمل عبر المحيطات المفتوحة بلا عراقيل، لذلك فإن التحديات البحرية ستحتل مكانة ذات أهمية في سياستها الخارجية والدفاعية في السنوات العشر المقبلة على الأقل، أما بالنسبة لركائز إستراتيجية الصين البحرية الثلاث، فهي ترمي إلى فرض قوة ردع إقليمية، واكتساب الخبرة العملية وتوطيد التعاون الثنائي، ومن المرجح أن توظف الحكومة الصينية قدرتها البحرية المتنامية في دعم مطالبتها بالجزر المتنازع عليها داخل نطاق بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، كما يرجح أن تستخدم القدرات عينها في أي حل عسكري قد يطرأ على مسألة تايوان.
لقد حققت إستراتيجية الصين البحرية نتائج ملموسة على الرغم من محدوديتها، وبشكل عام فإن نشاط الأسطول البحري الصيني قد أفصح عن تنامي ثقته وخبرته العملية في آن معاً، وإذا ما استمر نمو القدرات البحرية للصين بهذا المعدل الحالي، فلربما تصير صاحبة القوة البحرية الأعظم على مستوى العالم بحلول عام 2020 .