القوة البحرية المطلوبة للقرن الحادي والعشرين
في الظروف الحالية من النزاعات والتهديدات وتزايد علاقات الدول مع بعضها البعض، تعاظم دور القوات البحرية وتنوع. والسيطرة على البحر يجب إذاً أن تظل عنصراً حاسماً في قدرة الأمم في القرن القادم. وعلاوةً على ذلك، فالسيطرة على البحار والتحكم فيها عنصر أساسي لضمان الأمن والازدهار.
بعد أن ظهرت عولمة الاقتصاد وحلول عصر المبادلات والشبكات، وبروز الأهمية القصوى للبحر على الصعيد العالمي، أصبح هذا البحر اليوم يتخطى عتبته الجغرافية المجردة، فهو لم يعد مجرد مساحات مائية كبيرة فحسب.
الإطار العام
تتميز بدايات القرن الحادي والعشرين، بشكل واضح جداً، بمرحلتين اتسمت بهما نهاية القرن الماضي، مرحلتان شكلتا - لأسباب جد مختلفة بالتأكيد - دلالة هامة على جدوى استتباب نوع من الاستقرار وانتشار مفهوم فعلي للأطمئنان على الصعيد الأمني.
خلال نحو نصف قرن، ساد العالم نوع من تنافس ثنائي القطب من خلال وضع جغرافي استراتيجي واضح المعالم، ساده توازن شامل اتسم بالردع النووي.
خلال المرحلة الانتقالية التي دامت عشر سنوات، وهي التي تلت نهاية الحرب الباردة، سعى معظم البلدان الكبرى إلى "تخزين" حصصه ومكاسبه من السلام، ضمن إطار جغرافي سياسي "تقليدي" لكن تسيطر عليه هذه المرة دولة عظمى وحيدة فائقة القوة، وضمن مناخ اقتصادي عالمي متفائل، بل مغتبط.
انقطاع أم تواصل
يُذكر تاريخ 11 سبتمبر (2001م) غالباً على أنه انقطاع، أي حد فاصل، لأنه أودى بنا إلى عالم أكثر غموضاً، يتصف، باستمرار، بفقدان القوة الفائقة الأمريكية توازنها، بل قذف بنا في بيئة سياسية أكثر غموضاً تتميز ببروز نزاعات وتهديدات جديدة.
وفي الواقع، إن 11 سبتمبر يندرج ضمن استمرارية أو تواصل تطوُّر العالم العميق في التسعينيات، وهو: عولمة الاقتصادات والنظام المالي؛ وزيادة حدة للاتوازنات بغياب وجود حقيقي لنظام تسويات فعال؛ ونشوب مواجهات إقليمية، دينية أو قومية؛ وتفتت المجتمعات التي فقدت الدول الهشة سيطرتها عليها، وتصاعد حدة التهديدات غير الصادرة عن الدول، وتكيف هذه التهديدات مع المعطيات التنظيمية العالمية الجديدة.
شكل سقوط جدار برلين لأول مرة منذ زمن طويل زوال التهديدات المباشرة على حدودنا، و11 سبتمبر محا ببساطة مفهوم الحدود وأكد وجود التهديدات في كل مكان، حتى في قلب مجتمعاتنا.
أعالي البحار
تابعت مهام البحرية الغربية تطورها الملائم للأجواء الدولية، وخلال سنوات الحرب الباردة، اضطلعت القوى البحرية الفرنسية - على سبيل المثال - بمهمة الردع الوطنية وحماية السواحل المطلة على المحيط الأطلسي من تهديد الأسطول السوفيتي.
أدى انهيار الاتحاد السوفيتي إلى زوال كل تحد عسكري هام في أعالي البحار، وكرس سيادة شبه تامة لقوى البحرية الغربية في المحيطات. وأصبح من الممكن عندئذٍ تجاوز مفهوم "ماهان" حول استراتيجية بحرية غير مباشرة، ووجه الطيران البحري جهوده نحو تطوير قدارت شن عمليات عسكرية ضد الأراضي.
تهديدات جديدة
شهدنا في نهاية التسعينيات بروز قوى بحرية إقليمية طورت استراتيجيات تَحدُّ من حرية حركة الآخرين، وحظيت بالمصداقية من خلال تطوّر أسلحتها التقليدية التي حصلت عليها جراء انتشار الأسلحة. إنه تهديد غير متناسق ظهر في البحر، وتجسد بالهجوم على السفينة الحربية الأمريكية "كول" في ميناء عدن في 12 أكتوبر (2000م) وأدى إلى مقتل (17) عنصراً وجرح (39) آخرين، إنه 11 سبتمبر بحري حقيقي (وتبع ذلك الهجوم بعد سنتين وفي المياه نفسها هجوم على ناقلة النفط الفرنسية ليمبورغ)، كما تجسد بزيادة التهديدات عبر الدول (الهجرة وتجارة المخدرات وانتشار التلوث، إلخ) والتي وصلت إلى سواحلنا أو قريباً منها.
حملت بداية القرن الحادي والعشرين إذاً العديد من التساؤلات الموجهة إلى البحرية: شكوك في البيئة البحرية، وفي قانون المجالات البحرية، وتطور مجتمعاتنا الحديثة أو العلاقات الدولية، بل دارت الشكوك حول اتساع شبح التهديد وتنوعه.
مستقبل القدرة البحرية
خلال القرون الخمسة الماضية كان تفوق القوى البحرية على الصعيد الدولي موضع جدل وخلاف، فكيف سيصبح الوضع في الغد؟
أهمية الواقع البحري
كانت حركة "بحرنة" القوات في العالم تمضي بزخم قوي في القرن العشرين، ويجب أن تتواصل هذه الحركة، بل يجب أن تتسارع خلال العقود القادمة: استغلال ثابت ومستمر للمحيطات؛ تركيز السكان وتجمعهم على السواحل، فهناك 70% من سكان العالم يعيش فوق أراض تبعد أقل من (300) كم عن السواحل، تنظيم الشبكات الاقتصادية حول المراكز الإقليمية الكبرى الواقعة على المحيطات، أولوية الطرق البحرية في المبادلات التجارية بين بقاع العالم، فهناك 80% من حجم التجارة الدولية تجتاز البحار، وثلثا قيمة البضائع المتبادلة تتم عن طريق البحار.
يظل ضمان الوصول إلى عدد كاف من مصادر الطاقة مسألة محورية للبلدان المتقدمة، وتزداد هذه المسألة أهمية كل يوم لدى الدول النامية. وبسبب البعد الجغرافي بين البلدان المنتجة والبلدان المستهلكة، فإن مسألة التحكم في الموارد وفي طرق التزود بها، ولا سيما الطرق البحرية، ستصبح رهاناً استراتيجياً أساسياً في سياسات الأمن الوطني والإقليمي.
في القرن الحادي والعشرين، والمتميز بتواصل حركات عولمة المبادلات التجارية والاقتصادية والأسواق، سيظل البحر والسيطرة عليه إذاً من عوامل القوة.
إن تدويل مجتمعاتنا، وما ينتج عنه من ترابط متبادل بين الدول، يزيدان من هشاشة تلك المجتمعات، الأمر الذي يفتح مجالات عمل جديدة أمام التهديدات، القديمة والجديدة، والتي تتكيف مع تطور الأنظمة العالمية وتهاجم شبكات الاتصال نفسها أو تستخدمها لضرب الدول نفسها في الصميم.
نحو تعريف جديد للقدرة البحرية
ترى التوجهات الكبرى لتطور العالم أن القدرة البحرية يجب أن تتدرج ضمن استراتيجية عمل مزدوجة، تعكس الدور الثنائي للمجالات البحرية.
وجود القوات وزجها
إن وجود القوات - الذي يمكن وصفه بالتقليدي - مرتبط بالعلاقات الدولية وبالتوازنات الاستراتيجية الكبرى، وله دور حاسم في وظائف الوقاية والزج والعمل العسكري.
وتستند القدرة البحرية هنا إلى القيمة الاستراتيجية للمحيطات، بوصفها - في آن معاً - مجالاً حراً يتيح دعم الجهود الدبلوماسية بفاعلية، وطرقاً مفضلة للوصول إلى مناطق الأزمة والنزاع، ومجالاً للمناروة لممارسة قوة هجومية ضد الأرض مباشرة. وسيتعزز هذا التوجه بالتطوير التقاني للأسلحة وأجهزة الاستشعار وأنظمة المعلومات التي يجب أن تخفف أيضاً من الانقطاع أو عدم التواصل بين الأرض والبحر وتعزز من شمولية العمل العسكري المنطلق من البحر.
السيطرة التقليدية على البحار يجب أن تظل أيضاً عاملاً أساسياً على المدى الطويل لضمان الوصول إلى مصادر الطاقة، وبشكل أعم، لحماية المبادلات التجارية الحيوية، وقد تشكل في المستقبل عنصراً حماساً لضمان نجاح مراحل حساسة وحرجة من الاستقرار والخروج من الأزمات، كما في العراق اليوم، حيث يشكل تأمين المنافذ البحرية عاملاً مفتاحياً في إعادة بناء البلد.
الحماية
النتيجة الثانية لظهور تهديدات جديدة ستنتشر في البحر أو ستخرج من البحر، وستشترك فيها فعاليات جديدة غير حكومية، وقد تكون مرتبطة أو غير مرتبطة بفعاليات أو عناصر حكومية. وهي تحديد الاستراتيجيات الدفاعية لحماية المناطق القريبة من السواحل طبعاً، بل ستحمي بشكل أعم المصالح، ما دامت الحدود قد فقدت معناها إزاء هذه الأشكال الجديدة من التهديدات التي تجتاز الحدود بين الدول.
ممارسة القدرة البحرية
بغض النظر عن الردع، الذي تسهم فيه القوة البحرية ولا يستغني عنها أبداً، فإن ممارسة القدرة البحرية يتجسد اليوم في هذين الشكلين من أشكال العمل العسكري وهما:
1- القوى البحرية كعنصر أساسي في جهاز الصراع ضد التهديدات الجديدة التي تظهر في المجالات البحرية أو تنطلق منها.
2- القوى البحرية كأداة لها الأولوية في إدارة الأزمات على مسارح العمليات الخارجية. ومن الأرجح أن الرد على تحديات الأمن الكبرى في الغد سيتطلب اندماجاً كلياً بين هذين الشكلين ضمن استرتيجية شاملة.
وهكذا نجد أن ضرورات حماية المناطق القريبة من الحدود والسواحل ضد بعض أشكال التهديد - ومنها على سبيل المثال: الإرهاب أو انتشار أسلحة الدمار الشامل - يمكن أن تتطلب ليس جهاز حراسة لمناطق واسعة وتزداد اتساعاً باستمرار فحسب، بل تتطلب أيضاً تمركزاً سابقاً للقوى البحرية أو قوى الزج البحري والتي تمتلك وسائط التدخل، وفي المقابل، إن إدارة الأزمات في المسارح البعيدة قد تتطلب مواجهة تهديدات متعددة الأشكال، لا تتوضع بالضرورة في منطقة العمليات، بل قد تدعو إلى شن عمليات بحرية شاملة.
تحديات الغد سيطرة أم ضبط؟
أمام انتشار تلك التهديدات، وباسم مبدأ الحماية، قد يحلو للمرء العدول عن حرية الملاحة في البحار إلى فرض رقابة شاملة على المجالات البحرية، وهذا غرور خطير لأنه إن طبق بالضرورة على مجموع البحار، فسيصبح دون شك رقابة دون جدوى ولايمكن تحقيقها، حتى وإن كان هناك تعاون دولي.
سيكون التحدي الأول أمام القدرة البحرية إذاً، هو وقاية مجال يمكن إجراء تطويرات أساسية عليه جراء ضغط العولمة.
تشير بعض الفعاليات إلى العديد من نقاط التقارب بين مجالين واسعين للاتصالات، هما الإنترنت والبحر، ومسألة إجراء توازن عادل بين حرية المواصلات والإشراف عليها مسألة مركزية في الحالتين.
وحيال تطوير تلك التهديدات العديدة التي تجتاز حدود الدول (كالقرصنة، والتهريب، والهجرة السرية، والأخطار على البيئة ... إلخ)، فإن طموح البحريات الغربية يجب أن ينصب على ضمان ضبط المجالات البحرية وحمايتها، وفي المقام الأول المجالات القريبة من الحدود الوطنية وعُقَد الاتصالات العالمية الحيوية، وهي على سبيل المثال مضائق مالاقا - في جنوب شرق آسيا - ومضيق جبل طارق أو منطقة بحر المانش.
تقليص عدد العاملين
التحدي الكبير الثاني، وهو مشترك بين مجموع البلدان الغربية، وسيكون ندرة الموارد البشرية لأسباب ديمغرافية واجتماعية، ذلك أن الأشخاص لا يحبذون الانخراط في البحرية كما كان عليه الحال في الماضي، الأمر الذي ستكون له نتائجه على السياسات البحرية من حيث عدد الملاك المحمول بحراً وإدارة هذا الملاك.
قيود مالية
التحدي الثالث الكبير، وهو تحدٍ ثابت تاريخياً واقتصادياً، فالأدوات العسكرية للقدرة البحرية ذات كلفة مرتفعة، والانخراط في منافسة اقتصادية عالمية تزداد حدة وشراسة، مما يدفع الحكومات إلى الحد كثيراً من نفقات المجال البحري، ولا سيما إذا كان هذا المجال لا يتطابق مع قطاع صناعي استراتيجي.
وفي هذه الشروط، من الضروري إذاً التفكير في أداة بحرية تتجاوب مع الحاجة العملياتية تماماً، وتتلاءم مع الطموحات السياسية للقدرة البحرية ذات الوظيفة العالمية، ومع كلفة محددة. وثمة طرائق عديدة لذلك، منها:
1- طريقة اقتصادية محضة، يجب أن تسمح بتقليص الكلفة الكلية لحيازة القطع البحرية والمحافظة على موارد مالية ضرورية لتجديد الأسطول ولحسن سير عمل بحارة عصرية.
2- طريقة تقانية وصناعية، لتخفيض نفقات السيطرة على الأهداف وضمانها بحيث تكون أهدافاً متعددة الوظائف ويمكن من خلالها تطوير القطع البحرية.
3- طريقة سياسية لإعمال الفكر في تقاسم الأعباء بين السيادة الوطنية والمسؤوليات الجماعية المشتركة، من خلال احترام التحالفات، والتلاؤم مع المساعي السياسية التي تنتهجها السياسة الأوروبية على صعيد الأمن والدفاع. إن الوقاية من الأزمات الخارجية وإدارتها، كالصراع ضد التهديدات عبر الدول، تشكلان إطارين متميزين للتفكير المشترك، سواء على صعيد المقدرة أو على صعيد إدارة الوسائط على المستوى الأوروبي.
مميزات القدرة البحرية المستقبلية
من ناحية الهدفين الكبيرين للقوة البحرية، فإنها في القرن الواحد والعشرين يجب أن تتميز إذاً بالسيطرة على المعلومات والقدرة على العمل.
السيطرة على المعلومات
من الجدير امتلاك القدرة على التحكم في المعلومات خلال أزمنة تزداد حساسية أكثر فأكثر، وبكميات تزداد أهمية أكثر فأكثر، وفي أوساط هي في أنٍ معاً بحرية ومشتركة بين الدول (دولية). وعلى هذه القدرة نفسها التصرف حسب طبيعة المجالات المفترضة، ويكون تصرفها كالتالي:
1- السهر على المجالات البحرية بأوسع ما تشمله هذه المجالات، وتطوير قدرات جديدة كاستخدام الأقمار الاصطناعية الخاصة بالرصد والمراقبة، واستخدام الطائرات المسيرة بلا طيار، والمرتبطة بالقدرات البحرية التقليدية، وتطوير التعاون ضمن إطار أوروبي وأطلسي، لإقامة شبكة من أجهزة الالتقاط والإعلام، بحيث تتيح ضمان حراسة مناطق تزداد اتساعاً على الدوام.
2- أعمال الحراسة حيال التهديدات القادمة من البحر، والتي تستهدف الأراضي الوطنية، ضمن إطار الدفاع عن مصالح الدولة في البقاع الخاضعة لسيادتها.
3- التحكم الفعلي في غرفة العمليات، التي يجب أن تكون غرفة عمليات جوية - برية أو جوية - أرضية، وذلك من أجل المهام ذات الطبيعة الدفاعية (حماية حركة التجارة، وتأمين مداخل الموانئ) أو ذات الطبيعة الهجومية (تدمير التهديدات القادمة على سطح البحر أو القادمة من الجو أو القادمة من تحت الماء - ومنها الألغام البحرية - ضمن استراتيجية الوصول إلى مسرح العمليات ودعم عمليات جوية - أرضية، وشن عمليات ضد الأراضي).
العمل بأسرع ما يمكن
لا يفيد التحكم في المعلومات إلا لاكتساب القدرة على التحرك والعمل بأسرع ما يمكن، وباستقلالية تامة إن لزم الأمر، لمواجهة تطور الأزمات وسيرورة العمليات على الأرض. وإذا كان من الأرجح أن تظل حاملة الطائرات هي الدعامة الأساسية في قدرة العمل التقليدي للقوى البحرية، فإن السنوات القادمة ستشهد، دون أدنى شك، تطور قدرات العمل الهجومي المنطلق من قطع بحرية أخرى تبحر على سطح الماء أو تغوص فيه.
يجب إذاً إدراج تطور القوى الجوية - البحرية ضمن منطق قدرة العمل الشاملة المنطلقة من البحر والقادرة على التعامل، دون تمييز، مع أهداف تقع في المحيطات أو على السواحل أو في المجال الجوي - البري. ومن هذا المنظور، فإن انبثاق شبكة عمليات مركزية، كأسلوب لمضاعفة القوى، سيتيح تثمين التشكيلات البحرية الدائمة، التي من الضروري تقليصها، ويتيح السهر عن كثب على المناطق الهامة وزيادة قدرتها الضاربة أولاً حتى تكون قدرة حاسمة.
إن ما أحرز من تقدم تقاني في مجال أنظمة الإعلام والقيادة (الاطلاع في الوقت الحقيقي على الموقف التكتيكي في ساحة القتال الجوي - البري، وشبكات اتصال رفيعة المستوى، وتعاون العديد من القطع البحرية، التي تحوي شبكات الطائرات المسيرة دون طيار) وفي مجال التسليح (أسلحة بعيدة المدى تتيح التعامل مع أهداف خلال أزمنه تزداد قصراً أكثر فأكثر، وطائرات مسيرة مقاتله ... إلخ) يجب أن تسهم جميعاً في جعل الوحدات البحرية المنشورة تتمتع بقدرات تأخذ أبعادها تماماً.
ستظل القدرة على شن العمليات المشتركة بين الدول ومختلف صنوف الأسلحة عنصراً أساسياً، لأنه في مهام التدخل الخارجي كما في مهام السلام الداخلية، ستصبح القوات متعددة الجنسيات هي القاعدة والمعيار. وأخيراً، فعلى البحرية الحربية أن تكون أهلاً لضمان التحكم في الوسائط غير الحربية التابعة لمختلف وكالات النقل البحري المشاركة في مهام الحماية والسلامة.
الخلاصة
سيظل البحر - بوصفة عنصراً أساسياً في تاريخنا وفي حياة مجتمعاتنا - يحتل مكانه مركزية في العالم في القرن الحادي والعشرين، وستظل القوة البحرية بذلك ورقة رابحة حاسمة في يد الدول الكبرى؛ فالعلاقات المتبادلة القائمة بين مجتمعاتنا، وانتشار الأسلحة وتنوع التهديدات، يوسعان إلى حد كبير ميدان عمل الدول القوية، وبالتالي عمل قواها البحرية. وأكثر من أي وقت مضى، فإن القوى البحرية سيكون لها الدور الحاسم في ضمان أمن عالم يزداد انفتاحاً أكثر، وبالتالي يزداد هشاشة ويسهل النيل منه، وبفضل السيطرة البحرية على المجالات الجوية - البحرية فإنها تسهم في تدارك الأزمات والوقاية منها وفي حل النزاعات إن نشبت، وتسهم بالتالي في استقرار هذه "القرية الكونية"
في الظروف الحالية من النزاعات والتهديدات وتزايد علاقات الدول مع بعضها البعض، تعاظم دور القوات البحرية وتنوع. والسيطرة على البحر يجب إذاً أن تظل عنصراً حاسماً في قدرة الأمم في القرن القادم. وعلاوةً على ذلك، فالسيطرة على البحار والتحكم فيها عنصر أساسي لضمان الأمن والازدهار.
بعد أن ظهرت عولمة الاقتصاد وحلول عصر المبادلات والشبكات، وبروز الأهمية القصوى للبحر على الصعيد العالمي، أصبح هذا البحر اليوم يتخطى عتبته الجغرافية المجردة، فهو لم يعد مجرد مساحات مائية كبيرة فحسب.
الإطار العام
تتميز بدايات القرن الحادي والعشرين، بشكل واضح جداً، بمرحلتين اتسمت بهما نهاية القرن الماضي، مرحلتان شكلتا - لأسباب جد مختلفة بالتأكيد - دلالة هامة على جدوى استتباب نوع من الاستقرار وانتشار مفهوم فعلي للأطمئنان على الصعيد الأمني.
خلال نحو نصف قرن، ساد العالم نوع من تنافس ثنائي القطب من خلال وضع جغرافي استراتيجي واضح المعالم، ساده توازن شامل اتسم بالردع النووي.
خلال المرحلة الانتقالية التي دامت عشر سنوات، وهي التي تلت نهاية الحرب الباردة، سعى معظم البلدان الكبرى إلى "تخزين" حصصه ومكاسبه من السلام، ضمن إطار جغرافي سياسي "تقليدي" لكن تسيطر عليه هذه المرة دولة عظمى وحيدة فائقة القوة، وضمن مناخ اقتصادي عالمي متفائل، بل مغتبط.
انقطاع أم تواصل
يُذكر تاريخ 11 سبتمبر (2001م) غالباً على أنه انقطاع، أي حد فاصل، لأنه أودى بنا إلى عالم أكثر غموضاً، يتصف، باستمرار، بفقدان القوة الفائقة الأمريكية توازنها، بل قذف بنا في بيئة سياسية أكثر غموضاً تتميز ببروز نزاعات وتهديدات جديدة.
وفي الواقع، إن 11 سبتمبر يندرج ضمن استمرارية أو تواصل تطوُّر العالم العميق في التسعينيات، وهو: عولمة الاقتصادات والنظام المالي؛ وزيادة حدة للاتوازنات بغياب وجود حقيقي لنظام تسويات فعال؛ ونشوب مواجهات إقليمية، دينية أو قومية؛ وتفتت المجتمعات التي فقدت الدول الهشة سيطرتها عليها، وتصاعد حدة التهديدات غير الصادرة عن الدول، وتكيف هذه التهديدات مع المعطيات التنظيمية العالمية الجديدة.
شكل سقوط جدار برلين لأول مرة منذ زمن طويل زوال التهديدات المباشرة على حدودنا، و11 سبتمبر محا ببساطة مفهوم الحدود وأكد وجود التهديدات في كل مكان، حتى في قلب مجتمعاتنا.
أعالي البحار
تابعت مهام البحرية الغربية تطورها الملائم للأجواء الدولية، وخلال سنوات الحرب الباردة، اضطلعت القوى البحرية الفرنسية - على سبيل المثال - بمهمة الردع الوطنية وحماية السواحل المطلة على المحيط الأطلسي من تهديد الأسطول السوفيتي.
أدى انهيار الاتحاد السوفيتي إلى زوال كل تحد عسكري هام في أعالي البحار، وكرس سيادة شبه تامة لقوى البحرية الغربية في المحيطات. وأصبح من الممكن عندئذٍ تجاوز مفهوم "ماهان" حول استراتيجية بحرية غير مباشرة، ووجه الطيران البحري جهوده نحو تطوير قدارت شن عمليات عسكرية ضد الأراضي.
تهديدات جديدة
شهدنا في نهاية التسعينيات بروز قوى بحرية إقليمية طورت استراتيجيات تَحدُّ من حرية حركة الآخرين، وحظيت بالمصداقية من خلال تطوّر أسلحتها التقليدية التي حصلت عليها جراء انتشار الأسلحة. إنه تهديد غير متناسق ظهر في البحر، وتجسد بالهجوم على السفينة الحربية الأمريكية "كول" في ميناء عدن في 12 أكتوبر (2000م) وأدى إلى مقتل (17) عنصراً وجرح (39) آخرين، إنه 11 سبتمبر بحري حقيقي (وتبع ذلك الهجوم بعد سنتين وفي المياه نفسها هجوم على ناقلة النفط الفرنسية ليمبورغ)، كما تجسد بزيادة التهديدات عبر الدول (الهجرة وتجارة المخدرات وانتشار التلوث، إلخ) والتي وصلت إلى سواحلنا أو قريباً منها.
حملت بداية القرن الحادي والعشرين إذاً العديد من التساؤلات الموجهة إلى البحرية: شكوك في البيئة البحرية، وفي قانون المجالات البحرية، وتطور مجتمعاتنا الحديثة أو العلاقات الدولية، بل دارت الشكوك حول اتساع شبح التهديد وتنوعه.
مستقبل القدرة البحرية
خلال القرون الخمسة الماضية كان تفوق القوى البحرية على الصعيد الدولي موضع جدل وخلاف، فكيف سيصبح الوضع في الغد؟
أهمية الواقع البحري
كانت حركة "بحرنة" القوات في العالم تمضي بزخم قوي في القرن العشرين، ويجب أن تتواصل هذه الحركة، بل يجب أن تتسارع خلال العقود القادمة: استغلال ثابت ومستمر للمحيطات؛ تركيز السكان وتجمعهم على السواحل، فهناك 70% من سكان العالم يعيش فوق أراض تبعد أقل من (300) كم عن السواحل، تنظيم الشبكات الاقتصادية حول المراكز الإقليمية الكبرى الواقعة على المحيطات، أولوية الطرق البحرية في المبادلات التجارية بين بقاع العالم، فهناك 80% من حجم التجارة الدولية تجتاز البحار، وثلثا قيمة البضائع المتبادلة تتم عن طريق البحار.
يظل ضمان الوصول إلى عدد كاف من مصادر الطاقة مسألة محورية للبلدان المتقدمة، وتزداد هذه المسألة أهمية كل يوم لدى الدول النامية. وبسبب البعد الجغرافي بين البلدان المنتجة والبلدان المستهلكة، فإن مسألة التحكم في الموارد وفي طرق التزود بها، ولا سيما الطرق البحرية، ستصبح رهاناً استراتيجياً أساسياً في سياسات الأمن الوطني والإقليمي.
في القرن الحادي والعشرين، والمتميز بتواصل حركات عولمة المبادلات التجارية والاقتصادية والأسواق، سيظل البحر والسيطرة عليه إذاً من عوامل القوة.
إن تدويل مجتمعاتنا، وما ينتج عنه من ترابط متبادل بين الدول، يزيدان من هشاشة تلك المجتمعات، الأمر الذي يفتح مجالات عمل جديدة أمام التهديدات، القديمة والجديدة، والتي تتكيف مع تطور الأنظمة العالمية وتهاجم شبكات الاتصال نفسها أو تستخدمها لضرب الدول نفسها في الصميم.
نحو تعريف جديد للقدرة البحرية
ترى التوجهات الكبرى لتطور العالم أن القدرة البحرية يجب أن تتدرج ضمن استراتيجية عمل مزدوجة، تعكس الدور الثنائي للمجالات البحرية.
وجود القوات وزجها
إن وجود القوات - الذي يمكن وصفه بالتقليدي - مرتبط بالعلاقات الدولية وبالتوازنات الاستراتيجية الكبرى، وله دور حاسم في وظائف الوقاية والزج والعمل العسكري.
وتستند القدرة البحرية هنا إلى القيمة الاستراتيجية للمحيطات، بوصفها - في آن معاً - مجالاً حراً يتيح دعم الجهود الدبلوماسية بفاعلية، وطرقاً مفضلة للوصول إلى مناطق الأزمة والنزاع، ومجالاً للمناروة لممارسة قوة هجومية ضد الأرض مباشرة. وسيتعزز هذا التوجه بالتطوير التقاني للأسلحة وأجهزة الاستشعار وأنظمة المعلومات التي يجب أن تخفف أيضاً من الانقطاع أو عدم التواصل بين الأرض والبحر وتعزز من شمولية العمل العسكري المنطلق من البحر.
السيطرة التقليدية على البحار يجب أن تظل أيضاً عاملاً أساسياً على المدى الطويل لضمان الوصول إلى مصادر الطاقة، وبشكل أعم، لحماية المبادلات التجارية الحيوية، وقد تشكل في المستقبل عنصراً حماساً لضمان نجاح مراحل حساسة وحرجة من الاستقرار والخروج من الأزمات، كما في العراق اليوم، حيث يشكل تأمين المنافذ البحرية عاملاً مفتاحياً في إعادة بناء البلد.
الحماية
النتيجة الثانية لظهور تهديدات جديدة ستنتشر في البحر أو ستخرج من البحر، وستشترك فيها فعاليات جديدة غير حكومية، وقد تكون مرتبطة أو غير مرتبطة بفعاليات أو عناصر حكومية. وهي تحديد الاستراتيجيات الدفاعية لحماية المناطق القريبة من السواحل طبعاً، بل ستحمي بشكل أعم المصالح، ما دامت الحدود قد فقدت معناها إزاء هذه الأشكال الجديدة من التهديدات التي تجتاز الحدود بين الدول.
ممارسة القدرة البحرية
بغض النظر عن الردع، الذي تسهم فيه القوة البحرية ولا يستغني عنها أبداً، فإن ممارسة القدرة البحرية يتجسد اليوم في هذين الشكلين من أشكال العمل العسكري وهما:
1- القوى البحرية كعنصر أساسي في جهاز الصراع ضد التهديدات الجديدة التي تظهر في المجالات البحرية أو تنطلق منها.
2- القوى البحرية كأداة لها الأولوية في إدارة الأزمات على مسارح العمليات الخارجية. ومن الأرجح أن الرد على تحديات الأمن الكبرى في الغد سيتطلب اندماجاً كلياً بين هذين الشكلين ضمن استرتيجية شاملة.
وهكذا نجد أن ضرورات حماية المناطق القريبة من الحدود والسواحل ضد بعض أشكال التهديد - ومنها على سبيل المثال: الإرهاب أو انتشار أسلحة الدمار الشامل - يمكن أن تتطلب ليس جهاز حراسة لمناطق واسعة وتزداد اتساعاً باستمرار فحسب، بل تتطلب أيضاً تمركزاً سابقاً للقوى البحرية أو قوى الزج البحري والتي تمتلك وسائط التدخل، وفي المقابل، إن إدارة الأزمات في المسارح البعيدة قد تتطلب مواجهة تهديدات متعددة الأشكال، لا تتوضع بالضرورة في منطقة العمليات، بل قد تدعو إلى شن عمليات بحرية شاملة.
تحديات الغد سيطرة أم ضبط؟
أمام انتشار تلك التهديدات، وباسم مبدأ الحماية، قد يحلو للمرء العدول عن حرية الملاحة في البحار إلى فرض رقابة شاملة على المجالات البحرية، وهذا غرور خطير لأنه إن طبق بالضرورة على مجموع البحار، فسيصبح دون شك رقابة دون جدوى ولايمكن تحقيقها، حتى وإن كان هناك تعاون دولي.
سيكون التحدي الأول أمام القدرة البحرية إذاً، هو وقاية مجال يمكن إجراء تطويرات أساسية عليه جراء ضغط العولمة.
تشير بعض الفعاليات إلى العديد من نقاط التقارب بين مجالين واسعين للاتصالات، هما الإنترنت والبحر، ومسألة إجراء توازن عادل بين حرية المواصلات والإشراف عليها مسألة مركزية في الحالتين.
وحيال تطوير تلك التهديدات العديدة التي تجتاز حدود الدول (كالقرصنة، والتهريب، والهجرة السرية، والأخطار على البيئة ... إلخ)، فإن طموح البحريات الغربية يجب أن ينصب على ضمان ضبط المجالات البحرية وحمايتها، وفي المقام الأول المجالات القريبة من الحدود الوطنية وعُقَد الاتصالات العالمية الحيوية، وهي على سبيل المثال مضائق مالاقا - في جنوب شرق آسيا - ومضيق جبل طارق أو منطقة بحر المانش.
تقليص عدد العاملين
التحدي الكبير الثاني، وهو مشترك بين مجموع البلدان الغربية، وسيكون ندرة الموارد البشرية لأسباب ديمغرافية واجتماعية، ذلك أن الأشخاص لا يحبذون الانخراط في البحرية كما كان عليه الحال في الماضي، الأمر الذي ستكون له نتائجه على السياسات البحرية من حيث عدد الملاك المحمول بحراً وإدارة هذا الملاك.
قيود مالية
التحدي الثالث الكبير، وهو تحدٍ ثابت تاريخياً واقتصادياً، فالأدوات العسكرية للقدرة البحرية ذات كلفة مرتفعة، والانخراط في منافسة اقتصادية عالمية تزداد حدة وشراسة، مما يدفع الحكومات إلى الحد كثيراً من نفقات المجال البحري، ولا سيما إذا كان هذا المجال لا يتطابق مع قطاع صناعي استراتيجي.
وفي هذه الشروط، من الضروري إذاً التفكير في أداة بحرية تتجاوب مع الحاجة العملياتية تماماً، وتتلاءم مع الطموحات السياسية للقدرة البحرية ذات الوظيفة العالمية، ومع كلفة محددة. وثمة طرائق عديدة لذلك، منها:
1- طريقة اقتصادية محضة، يجب أن تسمح بتقليص الكلفة الكلية لحيازة القطع البحرية والمحافظة على موارد مالية ضرورية لتجديد الأسطول ولحسن سير عمل بحارة عصرية.
2- طريقة تقانية وصناعية، لتخفيض نفقات السيطرة على الأهداف وضمانها بحيث تكون أهدافاً متعددة الوظائف ويمكن من خلالها تطوير القطع البحرية.
3- طريقة سياسية لإعمال الفكر في تقاسم الأعباء بين السيادة الوطنية والمسؤوليات الجماعية المشتركة، من خلال احترام التحالفات، والتلاؤم مع المساعي السياسية التي تنتهجها السياسة الأوروبية على صعيد الأمن والدفاع. إن الوقاية من الأزمات الخارجية وإدارتها، كالصراع ضد التهديدات عبر الدول، تشكلان إطارين متميزين للتفكير المشترك، سواء على صعيد المقدرة أو على صعيد إدارة الوسائط على المستوى الأوروبي.
مميزات القدرة البحرية المستقبلية
من ناحية الهدفين الكبيرين للقوة البحرية، فإنها في القرن الواحد والعشرين يجب أن تتميز إذاً بالسيطرة على المعلومات والقدرة على العمل.
السيطرة على المعلومات
من الجدير امتلاك القدرة على التحكم في المعلومات خلال أزمنة تزداد حساسية أكثر فأكثر، وبكميات تزداد أهمية أكثر فأكثر، وفي أوساط هي في أنٍ معاً بحرية ومشتركة بين الدول (دولية). وعلى هذه القدرة نفسها التصرف حسب طبيعة المجالات المفترضة، ويكون تصرفها كالتالي:
1- السهر على المجالات البحرية بأوسع ما تشمله هذه المجالات، وتطوير قدرات جديدة كاستخدام الأقمار الاصطناعية الخاصة بالرصد والمراقبة، واستخدام الطائرات المسيرة بلا طيار، والمرتبطة بالقدرات البحرية التقليدية، وتطوير التعاون ضمن إطار أوروبي وأطلسي، لإقامة شبكة من أجهزة الالتقاط والإعلام، بحيث تتيح ضمان حراسة مناطق تزداد اتساعاً على الدوام.
2- أعمال الحراسة حيال التهديدات القادمة من البحر، والتي تستهدف الأراضي الوطنية، ضمن إطار الدفاع عن مصالح الدولة في البقاع الخاضعة لسيادتها.
3- التحكم الفعلي في غرفة العمليات، التي يجب أن تكون غرفة عمليات جوية - برية أو جوية - أرضية، وذلك من أجل المهام ذات الطبيعة الدفاعية (حماية حركة التجارة، وتأمين مداخل الموانئ) أو ذات الطبيعة الهجومية (تدمير التهديدات القادمة على سطح البحر أو القادمة من الجو أو القادمة من تحت الماء - ومنها الألغام البحرية - ضمن استراتيجية الوصول إلى مسرح العمليات ودعم عمليات جوية - أرضية، وشن عمليات ضد الأراضي).
العمل بأسرع ما يمكن
لا يفيد التحكم في المعلومات إلا لاكتساب القدرة على التحرك والعمل بأسرع ما يمكن، وباستقلالية تامة إن لزم الأمر، لمواجهة تطور الأزمات وسيرورة العمليات على الأرض. وإذا كان من الأرجح أن تظل حاملة الطائرات هي الدعامة الأساسية في قدرة العمل التقليدي للقوى البحرية، فإن السنوات القادمة ستشهد، دون أدنى شك، تطور قدرات العمل الهجومي المنطلق من قطع بحرية أخرى تبحر على سطح الماء أو تغوص فيه.
يجب إذاً إدراج تطور القوى الجوية - البحرية ضمن منطق قدرة العمل الشاملة المنطلقة من البحر والقادرة على التعامل، دون تمييز، مع أهداف تقع في المحيطات أو على السواحل أو في المجال الجوي - البري. ومن هذا المنظور، فإن انبثاق شبكة عمليات مركزية، كأسلوب لمضاعفة القوى، سيتيح تثمين التشكيلات البحرية الدائمة، التي من الضروري تقليصها، ويتيح السهر عن كثب على المناطق الهامة وزيادة قدرتها الضاربة أولاً حتى تكون قدرة حاسمة.
إن ما أحرز من تقدم تقاني في مجال أنظمة الإعلام والقيادة (الاطلاع في الوقت الحقيقي على الموقف التكتيكي في ساحة القتال الجوي - البري، وشبكات اتصال رفيعة المستوى، وتعاون العديد من القطع البحرية، التي تحوي شبكات الطائرات المسيرة دون طيار) وفي مجال التسليح (أسلحة بعيدة المدى تتيح التعامل مع أهداف خلال أزمنه تزداد قصراً أكثر فأكثر، وطائرات مسيرة مقاتله ... إلخ) يجب أن تسهم جميعاً في جعل الوحدات البحرية المنشورة تتمتع بقدرات تأخذ أبعادها تماماً.
ستظل القدرة على شن العمليات المشتركة بين الدول ومختلف صنوف الأسلحة عنصراً أساسياً، لأنه في مهام التدخل الخارجي كما في مهام السلام الداخلية، ستصبح القوات متعددة الجنسيات هي القاعدة والمعيار. وأخيراً، فعلى البحرية الحربية أن تكون أهلاً لضمان التحكم في الوسائط غير الحربية التابعة لمختلف وكالات النقل البحري المشاركة في مهام الحماية والسلامة.
الخلاصة
سيظل البحر - بوصفة عنصراً أساسياً في تاريخنا وفي حياة مجتمعاتنا - يحتل مكانه مركزية في العالم في القرن الحادي والعشرين، وستظل القوة البحرية بذلك ورقة رابحة حاسمة في يد الدول الكبرى؛ فالعلاقات المتبادلة القائمة بين مجتمعاتنا، وانتشار الأسلحة وتنوع التهديدات، يوسعان إلى حد كبير ميدان عمل الدول القوية، وبالتالي عمل قواها البحرية. وأكثر من أي وقت مضى، فإن القوى البحرية سيكون لها الدور الحاسم في ضمان أمن عالم يزداد انفتاحاً أكثر، وبالتالي يزداد هشاشة ويسهل النيل منه، وبفضل السيطرة البحرية على المجالات الجوية - البحرية فإنها تسهم في تدارك الأزمات والوقاية منها وفي حل النزاعات إن نشبت، وتسهم بالتالي في استقرار هذه "القرية الكونية"