في موقع اسأل فلكيًا Ask an astronomer التابع لجامعة كورنيل Cornell University سأل شخصٌ ما السؤالَ التالي:
"ابتعدتُ عن الدراسةِ الجامعيةِ لعدة سنوات، ولكنْ هناك سؤالٌ صغير ظلّ يقفز في ذهني ويغيظني بين الفينة و الأُخرى منذ أيامي الأولى في الجامعة وهو: إذا كان بإمكاننا استخدام الانزياح الأحمر (Redshift) لتحديد معدّل سرعة واتّجاه حركة الأجسام المبتعدةِ عن الأرض، فهل بإمكاننا أن نأخذَ عينةً من تلك الأجسام، ونستقرئ عبر سرعتها وحركتها النقطة التي انطلقت منها في الفضاء؟ أو بعبارةٍ أخرى: هل يمكن أن نستقرئ نقطة نشوء الانفجار العظيم (Big Bang)؟
لقد اطلعتُ على سؤال سابق في الموقع، تطرق لشرح تمدّدِ الفضاء، مُبيّنًا الطريقةَ التي تتحرك بها الأجسام مبتعدةً بعضها عن بعض. ولكن ذلك السؤالَ على ما يبدو لم يحسب حسابَ الحقيقةِ التي تفيدُ بأن الانفجارَ العظيم عبارةٌ عن نقطةٍ صغيرةٍ جداً من المادّة مرتفعةِ الكثافة! إن الفكرةَ التي تدور في ذهني هي أنه قد يمكن لنا أن نستخدم الانزياح الأحمر للاستقراء وصولاً للنقطة التي حدث فيها الانفجار العظيم في الماضي، وشكرًا لكم".
قام الدكتور ديف كورنيك Dave Kornreich بالإجابة عن السؤال المطروح كما يلي:
يتمُّ عادةً وصفُ الانفجار العظيم على أنه نقطةٌ صغيرةٌ جداً من المادة، لكن هذا الوصفَ مُبسطٌ أكثرَ مما يجب! فإذا كان الانفجارُ العظيم قد حدثَ في نقطة محددة في الفضاء، وقذَفَ المجرات -بما فيها مجرتنا درب التبانة- في كل الاتجاهات ضمن الصَدَفة التي تحوي كل المجرات، والتي تتمدّدُ بشكل مستمر، فهذا يعني أن نقطةَ الانفجار العظيم تقعُ في مركزِ هذه الصَدَفة. لكن هذه الفرضيّة لا تتسق مع ما نراه ولا مع التوقعات ذات الصلة بالانفجار العظيم!
ففي حال كنّا فعلاً موجودين في صَدَفة المجرات، عندها يجب أن نرى العديدَ من المجراتِ عندما ننظر في اتجاه الصَدَفة، ويجب أن نرى عددًا أقلّ من المجراتِ عندما ننظر عمودياً بالنسبةِ إلى الصَدَفة -أي بالنظر إلى الأعلى أو إلى الأسفل.
أضِف إلى ذلك أن المسافاتِ والانزياحاتِ الحمراءَ في مثلِ هذا السيناريو ستعتمدُ على الاتجاه الذي ننظر إليه! فعندما ننظر إلى الصَدَفة عبر المماس (Tangent) يُفترض أنّنا سنرى العديدَ من المجراتِ القريبة ذات الانزياحاتِ الصغيرة، وكذلك يفترض أن نرى عددًا أكبرَ من المجراتِ البعيدة والتي ستكون ذات انزياحاتٍ حمراء كبيرة. وعندما ننظرُ في الاتجاه العمودي للأعلى يجب أن نرى فضاءً فارغاً فقط. لكنَّ هذا ليس ما نراه! فالمجرات البعيدة والقريبة تبدو مُوزعةً بشكلٍ متساوٍ في كل الاتجاهاتِ من حولنا. وعدد المجرات وانزياحاتها الحمراء تبدو مستقلةً تماما عن الاتجاه الذي ننظر إليه -وهو ما نسميه التجانس (Homogeneous).
وهذا التوزيع المتجانس يبدو متوحد الخواص (Isotropic)، أي أنه وبغضّ النظر عن موقعنا في الكون، فإننا سنرى التوزيع المتوسط نفسه (Average distribution) للمجرات والانزياحات الحمراء! وبالتالي، وصفُ الانفجار العظيم بأنه نقطةٌ من المادة داخلَ الفضاء هو وصفٌ غير صحيح.
أمّا بالنّسبةِ إلى الوصفِ الصّحيح، فالانفجار العظيم في حقيقةِ الأمر يُعدُّ كلًّ الكون الذي يمكن أن يُرى! فلم يكن هناك مكان خارج تلك النقطة بحيث يمكن للانفجار العظيم أن يتمدد فيه. والانفجارُ العظيم لم يكن انفجاراً على الإطلاق! ببساطة، كان حالةً ذاتَ درجةِ حرارةٍ مرتفعةٍ جداً عند بدايةِ الكون. عندها كانت المسافةُ بين الأجسام صغيرة للغاية. ومع ذلك، فإنّك إذا كنت موجوداً عند بداية الكون فسترى على الأرجح المادةَ والطاقةَ في حالةِ توزيعٍ متجانسٍ، ومستوٍ، ومتوحد الخواص من حولك.
إذن، وكما أسلفنا، لم يكن هناك أيُّ فضاءٍ فارغٍ خارج نقطةِ المادة بحيث يسمح للانفجار العظيم بالتمدد؛ لأنَّ كلَّ الفضاء كان داخل تلك النقطةِ الصغيرةِ. وبالتالي، فالتباعدُ المستمرُّ بين الأجسامِ لم يحدث في فضاءٍ فارغٍ آخذٍ في الامتلاء التدريجيِّ بسببِ سريان الماديّةِ فيه، وإنما توسُّعُ الفضاء يتجلّى فقط في تمددِ الفضاءِ نفسِه.
وتتمدد هذه المسافات في كل الاتجاهات بشكل متساوٍ، لذا لايمكنُ أن نتتبّعَ هذا التمدّدَ رجوعاً إلى نقطةٍ واحدة. إذا حاولتَ القيامَ بمثلِ هذا التتبع، فستجدُ أن تلك النقطةَ التي ترجعُ إليها هي التلسكوب الذي تستخدم، بغضّ النظر عن المكان الذي تراقب منه الكون!
ففي حقيقةِ الأمرِ، هذه النّقطة الموجودة توجدُ أينما وُجد فضاءٌ قابلٌ للرؤية! إنّ الانفجارَ العظيم حدث في كل مكان! حدث هنا تماماً عند النقطةِ التي تجلسُ عليها، وحدث في المكان الذي توجد فيه مجرة أندروميدا (Andreomeda) الآن، وفي كل مكان يصل إليه الكونُ مهما بَعُدَ. الفرقُ الوحيدُ هو أنّ الأماكن التي يصلها الكون الآن لم تكن بذاتِ البُعد عند النشأةِ الأولى، قبل مليارات السنين.
https://nasainarabic.net/education/articles/view/can-we-find-place-where-big-bang-happened