يميلُ العلماء إلى التصديق بأن البنية الأوّلية المؤسِسة للعالم الذي نراه هي في النهاية بسيطة وجميلة، وعلى وجه الخصوص تلك البُنى التي لم نكتشِفها بعد. وحتى الآن تظل تلك الأناقة الأساسية لا تُظهر نفسها دائمًا بشكل مُباشِر، فالكون الذي نراه فيه شيءٌ من الفوضى.
يُعتبر هذا الرسم البياني بالأحرى نوعاً من التمثيل الركيك لإنجازٍ حقيقي مُثيرٍ للإعجاب، بيان مُفصل للكميات النسبية من المواد المختلفة التي تُشكّل عالمنا. يُمثّل الجزء الملوّن باللون الأصفر المادة العادية؛ الذرات والجزيئات والغبار والنجوم والكواكب، المرئي منها وغير المرئي، أو ما يُسميه علماء الكون بالباريون [1](baryons)، حيث تتألف معظم كتلة المادة العادية من البروتونات والنيوترونات داخل النواة الذرية، وتُصنّف البروتونات والنيوترونات من قِبل علماء فيزياء الجُسيمات كباريونات.
يُشكّل الباريون نحو 5% من الكون المعروف (في الواقع تُشكّل ما يقارب الـ 4%، ولكن لنكن مرنين بعض الشيء) ونحن نعلم ذلك من قياسات مُستقلة متنوعة تشمل نتائج التخليق النووي (Nucleosynthesis) في الانفجار العظيم [2] (Big Bang). وتشمل أيضًا قياسات تقلبات درجة الحرارة في إشعاع الخلفية الميكروي، أو إشعاع خلفية الكون ([3] (cosmic microwave background أو اختصاراً (CMB) ، وتشمل بشكل أقل القياس المباشر. كل ما رأيناه في أي وقت مضى يُمثل فقط واحداً على عشرين مما هو موجود واقعياً.
هذا يُبِقي95% من الكون كأشياء غير مرئية كُليًا. وكما هو مُبين يوجد مكونان، حيث يشير اللون الأحمر إلى المادة المظلمة[4] (dark matter) وهي تمثل ما نسبته 25%، بينما يشير اللون الأزرق إلى الطاقة المظلمة [5] ونسبتها 70%. يكمن الفرق بين الاثنين (المادة المُظلمة والطاقة المُظلمة ) في سلوك كلٍ منهما: حيث تتصرف المادة المُظلمة كالجزيئات العادية من حيث أنها تتجمع في المناطق الكثيفة (مثل المجرّات أو مجموعات من المجرّات)، بينما الطاقة المُظلمة موزّعة على نحوٍ سلسل في جميع أنحاء الفضاء، كما تتفاوت ببطء خلال الوقت. ولعل أفضل مُمثل للطاقة المظلمة هو الثابت الكوني [6] (Cosmological Constant) أو طاقة الفراغ [7] (vacuum energy)، وتنص هذه الفكرة على أن هناك كمية لا صفرية من كثافة الطاقة تكمُن في نسيج الزمكان نفسه [8] (spacetime)
لا تعتبر المادة المُعتمة ولا الطاقة المُظلمة عبارة عن بُنى نظرية اختُرِعَت من قِبَل علماء الكون، وذلك يعود لكونها مثيرة للاهتمام، وقد أجبرتنا البيانات المرصودة على افتراض وجودها. وعلى الرغم من كونها غير مرئية، إلا أن كلاً من المادة المُعتمة والطاقة المُظلمة يزيدان من مجال الجاذبية، ويمكننا أن نشعر بآثارها. كما تُساهم المادة المُظلمة في المجموع الكلي لمجال الجاذبية للمجرات وللعناقيد المجرية، والذي نقيسه بواسطة رصد الجزيئات المجاورة، أو بواسطة انحراف الضوء العابر.
تتوزع الطاقة المُظلمة بشكلٍ سلس لكنها تؤثر على هندسة الزمكان نفسه، بحيث تُظهر المجرات البعيدة وهي تتحرك بسرعة بعيداً عنا، وتُسطِّح هندسة الفضاء (أي تجعله مُسطّح الشكل)، وقد تم رصد هذين الأثرين بشكل مباشر. تعد هذه المكوّنات المُظلمة نقيض الأثير الكوني الذي كان معروفاً في القرن الماضي، يتوقع كل شخص وجود الأثير الكوني على الرغم من عدم حصول أي شخص على دليلٍ لوجوده، في حين لم يتوقع أحد وجود المادة المُظلمة أو الطاقة المُظلمة ومع ذلك فإننا وجدناها بمحض الصدفة.
رغم أن هذه الصورة الأولية لكونٍ أغلبه مُظلم، تتماشى مع مجموعة واسعة من البيانات التجريبية، إلا أنها على مستوى أعمق لا تَعني لنا شيئاً، على وجه الخصوص، لماذا تكون كميات المادة العادية، والمادة المُظلمة، والطاقة المُظلمة متماثلة في الأساس، في حين يمكن أن تكون بسهولة مختلفة بشكل كبير؟
هذا اللغز خطير بالنسبة للطاقة المُظلمة تحديداً، إذا ما قورنت بإجمالى المادة (العادية + المُظلمة). حيث أن كثافة المادة تقل مع توسع الكون، في حين أن كثافة الطاقة المُعتمة تبقى قريبة من الثبات. لهذا فإن التزامن التقريبي الذي نُلاحظه بين كمية الطاقة المظلمة وكمية المادة هو تقارب قصير الأجل (عند التكلم بمفاهيم علم الكون). في وقت سابق كانت المادة تطغى، وقبل وقت طويل جدًا (بضع مليارات من السنين) طغت الطاقة المُظلمة بشكلٍ كامل. يعلّمنا تاريخ علم الكون مرة تلو الأُخرى أننا لا نعيش في مكان مُميز في الكون، لكن هذه الحالة من الشؤون الكونية، تُشير إلى أننا نعيش في زمن مُميّز. (وأنا شخصياً أعتقد أنه مجرد مصادفة، لكن ربما يحدث شيء ما أكثر عُمقاً بشكل واضح).
ملاحظات:
[1] الباريون: هو جسيم مركب دون ذري يحتوي على ثلاثة كواركات (ثلاثة جسيمات أولية).
حيث تتكون المادة بحسب نظرية النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات من مكونيين أساسيين: كواركات وليبتونات. تجتمع الكواركات معًا لتُشكل جسيمات مركبة تسمى هادرونات، ولا يمكن أن تظهر الكواركات بشكل مفرد حر، فهي دائما محتجزة ضمن هادرونات ثنائية (ميزونات)، أو ثلاثية (باريونات) مثل البروتونات والنيوترونات، وهما من المكونات الأساسية للذرة، بينما المكون الآخر وهو الإلكترون فينتمي إلى الليبتونات.
[2] الانفجار العظيم: نظرية سائدة حول نشأة الكون.
[3] إشعاع الخلفية الكونية الميكروي أو إشعاع خلفية الكون: هو الإشعاع الحراري الذى خُلِّف وقت إعادة الدمج في الانفجار العظيم، وهي أشعة كهرومغناطيسية توجد في جميع أركان الكون بنفس الشدة والتوزيع، وهي تعادل درجة حرارة 2.725 درجة كلفن.
[4] المادة المُظلمة أو المُعتمة: هي مادة افتُرضت لتفسير جزء كبير من مجموع كتلة الكون. لا يمكن رؤية المادة المظلمة بشكل مباشر باستخدام التلسكوبات، حيث من الواضح أنها لا تبعث ولا تمتص الضوء، أو أي إشعاع كهرومغناطيسي آخر على أي مستوى هام. عوضاً عن ذلك، يُستدل على وجود المادة المظلمة، وعلى خصائصها من آثار الجاذبية التي تمارسها على المادة المرئية، والإشعاع، والبنية الكبيرة للكون.
[5] الطاقة المُظلمة: أحد الأشكال الافتراضية للطاقة التي تملأ الفضاء، والتي تملك ضغطاً سالباً. وفق النسبية العامة، تأثير مثل هذا الضغط السالب يكون مشابهاً لقوة معاكسة للجاذبية في المقاييس الكبيرة. ولعل افتراض مثل هذا التأثير هو الأكثر شعبية حالياً لتفسير تمدد الكون بمعدلٍ متسارع.
[6] الثابت الكوني: هو قيمة فيزيائية تصف كثافة طاقة الفراغ (الفضاء الخالي) وضعه ألبرت آينشتاين كإضافة إلى نظريتة النسبية العامة "لكبح الجاذبية" وتحقيق كونٍ ثابتٍ كما كان متعارفاً عليه في ذلك الوقت. غير أنه تخلى عنه لاحقًا. ولا تُعرف قيمته في كوننا الحالي، فربما يكون صفرًا على الرغم من وجود بعض الأدلة على قيمة غير صفرية، وتحديد قيمة هذا الثابت بدقة هي من أهم التطلعات في البحوث العلمية القادمة.
[7] طاقة الفراغ: هي طاقة الخلفية الموجودة في الفضاء حتى مع خلوه من المادة.
[8] الزمكان: دمجٌ لمفهومي الزمان والمكان معاً ضمن استمرارية معينة، الأبعاد المكانية الثلاثة، بالإضافة إلى البعد الرابع "الزمن". أي أن الزمكان يُعبّر عن الفضاء رُباعي الأبعاد الذي أدخلته النظرية النسبية ليكون فضاء الحدث بدلاً من المكان المطلق الفارغ في الميكانيكا الكلاسيكية ونظرية الكم.
https://nasainarabic.net/education/articles/view/preposterous