حين تطلبُ من شخص ما أن يتصرف بشكل يتناسب مع عمره فأنت تطلب منه بعبارة أخرى أن يُحسن من سلوكه. ولكن التقدم بالعمر لا يعني دائماً التصرف بشكل أفضل. تميل خلايا معينة في الجهاز المناعي لأن تُسيء التصرف حين تتقدم في السن، مما يجعل الإنسان المُسن أكثر عرضة للإصابة بالأمراض. ونظراً لأن من المعروف أن هذه الخلايا تسيء التصرف بشكل مشابه خلال الرحلات الفضائية، فإن الباحثين يقومون بدراسة تأثيرات "الجاذبية الصغرى (الميكروية)" (microgravity) على الخلايا المناعية، وذلك للحصول على فهم أفضل لطريقة تبدل أجهزتنا المناعية مع تقدمنا بالسن.
الفريق العلمي في المختبر الموجود ضمن مركز كينيدي للفضاء في فلوريدا، والذي قام بالعمل على العينات قبل إطلاقها إلى الفضاء. من اليسار إلى اليمين: تارا كانديلاريو، ميا يوشيدا، إيميلي مارتينز، والباحثة الرئيسية ميلي هوفز-فولفورد. المصدر: NASA / Cory Huston
تعاونت كل من وكالة الفضاء الأمريكية ناسا والمعهد الوطني للشيخوخةNational Institue on Aging، وهو جزء من المعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدة، لدعم الأبحاث التي تجرى على متن محطة الفضاء الدولية، والتي يمكن أن تؤدي في يوم من الأيام إلى تطوير الرعاية الصحية ونوعية الحياة لدى البشرية جمعاء. وتعتبر تجربة تفعيل الخلايا التائية في حالة الشيخوخة (T-Cell Activation in Aging) أولى الدراسات التي تم إطلاقها إلى الفضاء، ويتم تمويلها من قبل مبادرة المعاهد الوطنية للصحة لإجراء الأبحاث الطبية الحيوية على متن محطة الفضاء الدولية.
من الصعب دراسة التبدلات الجينية والجزيئية التي تترافق مع التثبيط المناعي المرتبط بالتقدم بالسن، وذلك لأن هذه الحالة تتطور خلال عدة عقود، ويعاني المسنون عادة من أمراض مرافقة يمكن أن تجعل مثل هذه الأبحاث معقدة. ولكن تبدلات الجهاز المناعي –بما في ذلك سلوك الخلايا التائية– تحدث في الفضاء بشكل سريع.
قام طاقم محطة الفضاء الدولية في أوقات معينة من تجربة "تفعيل الخلايا التائية في حالة الشيخوخة" باستخدام أدوات تُشغل يدوياً لإضافة مواد مُفعّلة ومُثبّتة لوحدات التجربة التي تظهر إحداها في هذه الصورة. المصدر Millie Hughes-Fulford:
والباحثة الرئيسية في الدراسة هي ميلي هوفز-فولفورد Millie Hughes-Fulford، وهي رائدة فضاء سابقة في ناسا بالإضافة إلى أنها باحثة في كل من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، ومعهد شمال كاليفورنيا للأبحاث والتعليم، والمعهد الطبي لشؤون المحاربين القدماء في سان فرانسيسكو. تقول هوفز-فولفورد: "يتمثل أحد أهدافنا من هذه الدراسة باستخدام الجاذبية الصغرى كنموذج جديد للشيخوخة بهدف استقصاء الآليات الجزيئية للتثبيط المناعي، والتي تعتبر شائعة بين الأشخاص المسنين. ومن الممكن أن يقودنا ذلك في النهاية إلى تطوير استراتيجيات علاجية جديدة لاضطرابات وظيفة الجهاز المناعي".
يقول فيليب سييرا Felipe Sierra، وهو الحائز على شهادة الدكتوراه ومدير قسم بيولوجيا الشيخوخة التابع للمعهد الوطني للشيخوخة: "إن الطريقة الفريدة التي تتعامل فيها هذه التجربة مع دراسة الآليات الجزيئية التي تساهم في تدهور وظيفة الخلايا التائية ستُحسن من فهمنا لتأثيرات انعدام الجاذبية على الجهاز المناعي، كما ستُحسن من معلوماتنا عن التثبيط المناعي (immunosuppression)، والذي يعتبر من المشاكل المهمة لدى المسنين. ونأمل أن يساعد ذلك على تطوير تداخلات جديدة للوقاية من حالات العدوى، ليس فقط لدى أولئك الذين يسافرون إلى الفضاء، وإنما أيضاً لدى أولئك الذين لديهم ضعف في الجهاز المناعي، بما في ذلك الأشخاص المسنون".
والجهاز المناعي هو شبكة دفاعية معقدة تحمي جسم الإنسان من الأمراض. تتجول الخلايا المناعية باستمرار في مجرى الدم، وهي تتفحص الخلايا الأخرى التي تصادفها لتخاطبها بلغتها الجزيئية قائلة: "هل أنت عدو أم صديق؟". حين تكتشف هذه الخلايا عدواً، فهي تقوم بإيصال هذه الرسالة الاستخباراتية إلى خلية مناعية متخصصة تدعى بالخلية التائية (T-cell).
تم في دراسة "تفعيل الخلايا التائية في حالة الشيخوخة" استخدام حاضنة كوبيك الموجودة على متن محطة الفضاء الدولية. تظهر هذه الصورة وحدات مماثلة من العينات تم استعمالها في تجربة سابقة تدعى PKinase. المصدر: NASA/Millie Hughes-Fulford
تقول هوفز-فولفورد: "إذا اعتبرنا بأن الخلايا المناعية تمثل جيشاً كاملاً، فإن الخلايا التائية تمثل الضباط في هذا الجيش". حين تصل أخبار المواجهة الوشيكة إلى الخلايا التائية، فهي تتفعل وتطلق أوامرها التي توقظ جيشاً من الخلايا المناعية، والتي تقوم بدورها بمحاربة العدوى. ولكن إذا أساءت الخلايا التائية التصرف وفشلت في استدعاء جنودها فإن الإنسان يمكن أن يصاب بالمرض.
ويمثل تراجع وظيفة الجهاز المناعي إحدى المشاكل الشائعة لدى المسنين، وكذلك لدى رواد الفضاء. ومن الجدير بالملاحظة أن العديد من التبدلات المحورية التي تطرأ على الجهاز المناعي لدى المسنين مشابهة لتلك التي تحدث لدى رواد الفضاء العائدين من الرحلات الفضائية. ومن هذه التبدلات اضطراب تفعيل الخلايا التائية وتراجع سرعة إنتاج الخلايا. ونظراً لأن التثبيط المناعي يبدي هذه الخصائص المحورية في الحالتين، سواءً أكان ناجماً عن الرحلات الفضائية أم مرتبطاً بالشيخوخة، فإن الباحثين يتوقعون أن نتائج هذه الدراسة ستكون قابلة للتطبيق لدى عامة الناس.
ويسعى البحث الذي قامت به هوفز-فولفورد إلى تحديد الطريقة التي تؤدي فيها الجاذبية الصغرى إلى تأثيرات مشابهة للشيخوخة على الخلايا المناعية، وإلى الكشف عن الآليات الكيميائية الحيوية التي تكمن وراء حدوث الاضطراب في الجهاز المناعي. ولن يتم تطبيق النتائج التي سيتم التوصل إليها فقط في مجال التثبيط المناعي، وإنما أيضاً في معالجة الأمراض الالتهابية، والتي يتصرف فيها الجهاز المناعي بشكل غير طبيعي من خلال الارتكاس المفرط تجاه أنسجة الجسم الطبيعية وليس بالفشل في الاستجابة تجاه العوامل الغريبة.
وقد قامت هوفز-فولفورد سابقاً بتصميم دراسة أخرى –والتي دعيت بدراسة لوكين-2 (Leukin-2)– لتحديد خصائص الرحلة الفضائية التي تؤدي بالذات إلى اضطراب الجهاز المناعي. وقد أظهرت الأبحاث السابقة أن تفعيل الخلايا التائية يضطرب بشكل كبير في الفضاء. وقد شكلت الدراسة لوكين-2 أولى الدراسات التي تقارن تفعيل الخلايا التائية في ظروف الجاذبية الصغرى مع نماذج المقارنة الموجودة تحت ظروف الجاذبية الصّنعية ضمن جهاز المنبذة (centrifuge) على متن محطة الفضاء الدولية. تقول هوفز-فولفورد: "أظهرت النتائج التي حصلنا عليها من الدراسة لوكين-2 للمرة الأولى أن الجاذبية تؤثر على التعبير الجيني والتفعيل المبكر للخلايا التائية".
ويبذل العلماء مجهوداً كبيراً على الأرض لمحاكاة الأمراض في المختبر بحيث يتمكنون من دراستها وتطوير وسائل للوقاية من هذه الأمراض أو معالجتها. وبعد رحلة قصيرة نسبياً إلى محطة الفضاء الدولية في دراسة لوكين-2 فإن الخلايا التائية غير المُعدلة والمأخوذة من متبرعين أصحاء قد قلدت الخلايا التائية المأخوذة من المسنين المثبطين مناعياً. وبعبارة أخرى فقد وجدت هوفز-فولفورد أن التعرض للجاذبية الصغرى يمكن أن يؤدي إلى تسريع الشيخوخة.
صورة بالمجهر الإلكتروني الماسح للخلية اللمفاوية التائية البشرية المأخوذة من متبرع سليم. المصدر: NIAID
وتعتمد "تجربة تفعيل الخلايا التائية في حالة الشيخوخة" على المعلومات التي تم الحصول عليها من دراسة لوكين-2، حيث ستؤمن معلومات جديدة حول الآليات الكيميائية الحيوية لتفعيل الخلايا التائية.
وقد قام الفريق العلمي الذي تقوده هوفز-فولفورد بزرع عينات من الخلايا التائية البشرية المأخوذة من متبرعين أصحاء في حاويات خاصة في مركز كينيدي للفضاء والتابع لناسا في فلوريدا، وذلك كخطوة تحضيرية قبل إطلاق تجربة "تفعيل الخلايا التائية في حالة الشيخوخة" الذي تم في الثامن عشر من أبريل/نيسان من عام 2014. وقد وصلت معدات التجربة إلى محطة الفضاء الدولية على متن المهمة التجارية الثالثة للمركبة الفضائية دراغون (Dragon) التابعة لمنظومة SpaceX. وقد قام طاقم محطة الفضاء الدولية بوضع العينات في قسم الحاضنات كوبيك (Kubik) ضمن مختبر كولومبوس التابع لوكالة الفضاء الأوروبية.
وتم خلال هذه الدراسة وضع بعض العينات في جهاز المُنبّذة (الطرد المركزي)، والذي يمكنه توليد جاذبية صنعيّة بحيث يحتوي على العينات التي ستُقارن مع العينات المعرضة للجاذبية الصغرى. بعد ذلك أضيفت مادة مُفعلة إلى حاويات التجربة، وهذه المادة ترسل إشارات كاذبة بحدوث العدوى بهدف تحريض الخلايا التائية. بعد ذلك أضيفت مادة مثبتة تمنع الخلايا من التبدل أكثر، وذلك بهدف تثبيت العينات ليتم تحليلها بعد انتهاء الرحلة. وقد تمت إعادة العينات إلى الأرض على متن المركبة دراغون، حيث وصلت إلى الفريق العلمي التابع لهوفز-فولفورد بعد حوالي ثلاثين يوماً من الإطلاق.
يشكل المعهد الوطني للشيخوخة الوكالة الراعية لتجربة "تفعيل الخلايا التائية في حالة الشيخوخة". ويُعتبر مركز أبحاث إيميس Ames Research Center التابع لناسا في موفيت فيلد في كاليفورنيا مشاركاً مُدمجاً في هذه التجربة، حيث يؤمن الدعم للفريق العلمي. وقد قامت وكالة الفضاء الأوروبية بتطوير آلية نقل الحمولة بالإضافة إلى تأمين العتاد الحاسوبي البحثي، وإدماج الحمولة، ودعم العمليات الخاصة بهذه البعثة.
بمجرد عودة العينات إلى الأرض، قام الفريق العلمي بتحليل العينات التي وصلت من الفضاء بالإضافة إلى عينات مُقارنة موجودة على الأرض بهدف كشف تبدلات التعبير الجيني وتركيب البروتينات. كما تم فحص العينات للبحث عن نوع من الجزيئات يدعى بالرنا الميكروي (micro-RNA)، وهو جزيء صغير من الرنا يؤثر على سلوك الخلية دون أن يُرمّز أياً من البروتينات. وقد شاهد الباحثون خلال تجربة لوكين تبدلات متحرضة بالجاذبية في واحد على الأقل من أنواع الرنا الميكروي. وستتيح تجربة "تفعيل الخلايا التائية في حالة الشيخوخة" للفريق متابعة هذه النتائج. ولا يزال الدور الذي يلعبه الرنا الميكروي في وظيفة الجهاز المناعي غير معروف في الوقت الحاضر، سواءً على الأرض أو في الفضاء.
وتُعتبر جزيئات الرنا الميكروي من المركبات الواعدة المرشحة للمساهمة في تطوير الأدوية، فمن المعروف عنها أنها تقوم بتنظيم الجينات. تقول هوفز-فولفورد: "يتمثل أحد أهدافنا البحثية بالعثور على طرق جديدة واختبارها لتنظيم الجهاز المناعي من خلال الرنا الميكروي. وبمجرد أن نتمكن من تحديد الأهداف الصحيحة، فسنصبح قادرين على تطوير أدوية يمكنها تعزيز الاستجابة المناعية لدى المرضى المثبطين مناعياً، أو كبح الاستجابة المناعية في الأمراض الالتهابية أو أمراض المناعة الذاتية. ويمكن الاستفادة من هذه التأثيرات بالاتجاهين".
وسيقوم الباحثون بتطبيق النتائج التي يحصلون عليها من هذه الدراسة التي أجريت في الفضاء ضمن أبحاث مستقبلية ستجرى على الأرض حول الخلايا التائية المأخوذة من الأشخاص المسنين.
ويمكن لأبحاث الجاذبية الصغرى أن تساعدنا على دراسة الآليات البيولوجية التي تحدث بشكل طبيعي مع التقدم بالعمر. وطالما أننا جميعاً نتقدم بالسن، فنحن مرشحون جميعاً للاستفادة من الاستراتيجيات الحديثة للمحافظة على أجهزتنا المناعية الدفاعية بحيث تعمل بأفضل شكل ممكن. وقد لا نتمكن من إيقاف الزمن، ولكن التطورات التي يتم تحقيقها من خلال مثل هذه التجارب تُحيي الأمل بإطالة فترة حياة الإنسان دون أمراض على كوكب الأرض.
https://nasainarabic.net/main/articles/view/for-immune-cell-microgravity-mimics-aging