عادة ما يبدأ من حصل على وثائق عن مرحلة تاريخية ما بعرض تحليله وقراءته لها، على اعتبار أنه قد توفر له الوقت الكافي لتكوين رؤية من خلالها، ووضعها في سياقها العام، هذا إذا كان يعمل "بالتأريخ".
أحدهم – اسمه ملأ الأسماع والأبصار – دفعه الحقد على السادات – وربما لأهداف أخرى قد يكون من بينها النيل من إنجاز حرب أكتوبر نفسه – إلى أن يخلع عن نفسه رداء الموضوعية الذي يدعيه، فراح في كتاب أصدره عام 1993 "يحشد معلومات ووثائق قام بتوزيعها في ثنايا الصفحات، خلاصتها أو رسالتها الأساسية التي يريد توصيلها في طول الكتاب وعرضه ودون أن يكتبها مباشرة هي "أن ثمة اتفاقا بين السادات وأمريكا – وإسرائيل عبرها- على أن تكون حرب أكتوبر محدودة تمهيدا للتفاوض" حسب تعبير المؤرخ عاصم الدسوقي.
سيمحا دينتس ومردخاي شاليف قبيل الاجتماع مع هنري كيسنجر وبيتر رودمان
وبعد صفحات أخرى أورد صاحب الكتاب أن "جهاز المخابرات المصرية بدأ يرصد إشارات لاسلكية تخرج من القاهرة، وهاجم أمكنة عدة ولم يجد شيئا، وعندما ركز المسئولون في المخابرات جهودهم وجدوا أن الإشارات تنبعث من قصر القبة.. محاولا أن يوحي للقارئ أن السادات وبخبرته السابقة كضابط في سلاح الإشارة عبقري في التجسس!".
ثم ذكر صاحب الكتاب "اعتمادا على وثائق أمريكية أن اتصالا تم بين السادات والولايات المتحدة عبر قناة سرية هي حافظ إسماعيل يوم 7 أكتوبر فحواه أن السادات لن يطور الهجوم."، بعدها ذكر الكاتب أن أوامر قد صدرت لسلاح الطيران الإسرائيلي بعدم عبور خط منتصف قناة السويس، موحيا بذلك أن الحرب كانت أقرب إلى مسرحية متفق عليها.. بل أكثر من ذلك".. ويقول صاحب الكتاب "إن خبر الهجوم المصري السوري تسرب إلى إسرائيل عبر خمسة عواصم عربية، فجمعت جولدا مائير مجلس الحرب واقترح موشي ديان توجيه ضربة وقائية فاعترضت جولدا مائير واختارت الاتصال بالرئيس الأمريكي نيكسون الذي نصحها بالتروي وقال إن أمريكا ستقف ضد من يبدأ بالهجوم".. لكي يؤكد أن الحرب متفق عليها سلفا".
سيمحا دينتس مع جولدا مائير في الطائرة في رحلة إلى أمريكا قبل حرب أكتوبر
ذلك الكتاب قرأه كثيرون وطبع عدة طبعات، وهناك من تأثر به كثيرا، لكن المؤرخ عاصم الدسوقي يؤكد أن "صاحبنا" "يعطي لنفسه مساحة من الحرية لعدم إدانته علميا، وكتابة التاريخ ليست حرفته، ولها أصول من حيث صدقية المصادر ونقدها واعتمادها.. وهو بلا شك يفتقد ذلك.. هو كاتب سياسي يضع معلوماته ووثائقه في خدمة الاتجاه الذي يريد إشاعته، يجتزئ من الوثائق ويهمل منها ما لا يخدم غرضه".
ويتابع "الدسوقي" أن ذلك الكاتب "لديه قدرة على اتصال بجهات أمنية في الخارج للحصول على معلومات، على عكس ما يدعي أنه يحصل على وثائق أمريكية طبقا للقوانين المنظمة لحق المواطنين في الحصول على المعلومات.. وهذا محل شك كبير.. على خلاف الأرشيف البريطاني الذي يلتزم بقاعدة مرور 30 عاما على الوثيقة، ليس للأرشيف الأمريكي قاعدة محددة في نشر الوثائق، فيمكن النشر بعد 10 سنوات مثلا وفقا لأهداف محددة، ما يؤكد أن ثمة اتصالا للرجل بمصادر للوثائق الأمريكية، ربما أنها تمهد للحفاوة البالغة التي يحظى بها في أوساط النشر بالخارج".
بيتر رودمان – مساعد مستشار الأمن القومي الأمريكي
الآن لدينا الوثائق الأمريكية عن حرب أكتوبر عبر طرق غير مشبوهة أو مجتزأة أو ذات أغراض خاصة، بعد الإفراج عنها في ملف ضخم، عنوانه: العلاقات الخارجية الأمريكية، 1969-1976، المجلد الخامس والعشرون - الأزمة العربية الإسرائيلية وحرب 1973، صادر عن: وزارة الخارجية الأمريكية - مكتب التأريخ - مكتب الشؤون العامة - مكتب طباعة حكومة الولايات المتحدة – واشنطن – 2011.
هذه الوثائق تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن ما قاله "صاحبنا" مجرد "هراء"، لا يمت للحقيقة بل يمت لمحاولات تشويه إنجاز أكتوبر باستخدام "كاتب مرموق" يحظى بتقدير كثيرين ممن لا يقرأون بعمق، ممن يمكن توجيه عقولهم في اتجاه معين بسهولة.
ونحن ننشر "يوميات الحرب في الوثائق الأمريكية" كما هي يوما بيوم، لا ندعي كتابة التاريخ ولا قراءته، ولا ندعي أنها تقدم "الحقيقة كاملة" بل تظهر جانبا منها، يمكن عند وضعه ومضاهاته بمصادر أخرى تكوين صورة "أشمل قليلا" عما حدث، فقط نوفر مادة ثرية للمؤرخين والمتخصصين وعموم القراء، ونضعها في إطارها المحدد بأن ننبه القارئ إلى أن من أعدوا هذا الملف في وزارة الخارجية الأمريكية كان لهم أهداف محددة هي توثيق سياسة الولايات المتحدة تجاه الصراع العربي الإسرائيلي ما بين يناير وديسمبر 1973، أي خلال شهور ما قبل حرب أكتوبر 1973 وفي أثناءها وبعدها مباشرة.
لكن الملف - في الوقت نفسه - يلقي الضوء على جوانب أخرى تتعلق – ربما- بالواقع العربي والدولي الراهن، حيث يوحي بإمكانية التأثير على صناعة السياسة الأمريكية، وفق شروط ومحددات معينة، ويؤكد أن هامش المناورة مع "قوة عظمى" ليس صفريا، حتى في غياب تناقض دولي مع قوى كبرى مناوئة (الاتحاد السوفييتي)، فالملف يوثق ويشير بوضوح إلى "الجهود الدبلوماسية الأمريكية الفاشلة لكسب دعم حلفاء واشنطن في أوروبا الغربية لأهداف السياسة الأمريكية"، ويوثق ويشير كذلك إلى مدى تأثير "الحظر النفطي" الذي فرضته منظمة "الأوابك" (الدول العربية المصدرة للنفط) في صياغة الموقف الأمريكي، بالإضافة إلى مدى تأثير المشاكل السياسية الداخلية (فضيحة ووترجيت) على الدور المباشر للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، ما جعل وزير خارجيته "ينفرد" تقريبا بإدارة الملف، وبشكل أساسي تظهر الوثائق مدى قدرة الموقف العربي الموحد والمنسق على فرض مصالحه وتحقيق أهدافه رغم تعارضها مع سياسات قوى دولية وإقليمية خارجية.
من منطلق تغطية ما هو جديد تابعت بعض صحفنا – نقلا عن وكالات أنباء في الغالب – بعض عناوين الملف، ولأنها صحافة سمتها الأساسية "توجيه الرأي العام" وليس "بناء الوعي" و"تعميق المعرفة" اكتفت بذلك القدر المثير العابر، في حين أن وثائق المجلد تشمل مذكرات وسجلات مناقشات المسئولين المتعلقة بصنع السياسة الأمريكية، وكذلك مناقشاتهم مع مسؤولين أجانب، والبرقيات المرسلة من وإلى المسئولين الدبلوماسيين الأمريكيين، والأوراق التي تحدد القضايا والخيارات السياسية، التي توضح القرارات أو الإجراءات التي تم اتخاذها، وينصب تركيز المجلد على العملية التي فرضتها سياسة الولايات المتحدة، والتداعيات الكبرى لتطبيقها أكثر مما ينصب على تفاصيل تنفيذ تلك السياسات. (يبدأ ملف الوثائق من 2 يناير 1973 وحتى 10 يناير 1974)، أي قراءة المحتوى تفتح الباب أمام فهم كثير من الظواهر السياسية الأمريكية والعالمية.. أمام فهم التاريخ.. الذي مازلنا نعيشه.. فلنبدأ..
نحن الآن قبل 41 عاما وأحد عشر شهرا وعشرين يوما.. في العاشر من سبتمبر 1973.
كيسنجر وجولدا مائير وسيمحا دينتس
هنري كيسنجر مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي ومساعده بيتر رودمان يستقبلان السفير الإسرائيلي في واشنطن سيمحا دينتس ونائب رئيس البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية في واشنطن (بدرجة وزير) مردخاي شاليف، يجلسون باسترخاء في مقاعد وثيرة يناقشون فكرة تحريك مفاوضات السلام مع العرب، ويطمئنهم كيسنجر أن ما يصدر عن وزارة الخارجية كلام لا وزن له، وحسب تعبيره "ليس إلا عبارات"، لا ينبغي أن يعلقوا أهمية كبيرة عليها، ويدعوهم إلى التحرك نحو "تسوية مؤقتة"، وينبههم إلى أن الرأي العام الأمريكي يرى أن المشكلة تتركز في تعنت إسرائيل، وهدفه من النصيحة بأن يقدموا شيئا هو أن يضعفوا موقف العرب (في المطالبة بقبول إسرائيل لمبدأ الانسحاب الكامل كشرط للتفاوض) أمام الرأي العام الأمريكي، والهدف الاستراتيجي الثاني لكيسنجر هو أن يجد مع الإسرائيليين وسيلة لتقسيم العرب وتفريغ الضغوط عليه وعلى رئيسه في أمريكا.. ضغوط شركات النفط والمؤيدين للعرب في مواجهة اليهود.. ويفهم الإسرائيليون جيدا أن كيسنجر مهتم بإزاحة الملك فيصل من الصورة أي إخراج السعودية من النزاع العربي الإسرائيلي وعزل السادات.. أي إدخال مصر في حل منفرد.. ويقول كيسنجر نصا "استراتيجيتي هي استنفاد العرب، كنا نفعل ذلك باستمرار، ولكن في كل مرة يخرج واحد منا عن هذا الخط"!
88- مذكرة محادثات
واشنطن في 10 سبتمبر 1973
من 6:03 إلى 06:45
المشاركون: سيمحا دينتس - سفير إسرائيل
الوزير مردخاي شاليف - (نائب رئيس البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية في واشنطن)
هنري كيسنجر مساعد الرئيس لشئون الأمن القومي
بيتر دبليو رودمان - من الأمن القومي
دينتس: انتهيت للتو من محادثات استمرت ساعة مع الوزير راش (كينيث راش القائم بأعمال وزير الخارجية من 3 إلى 22 سبتمبر 1973)، وكانت مجرد استعراض عام للوضع.
كيسنجر: من كان هناك؟ سيسكو؟ (جوزيف سيسكو مساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأدنى وجنوب آسيا)
دينتس: نعم. ومعاونه صامويلز أيضا.
كيسنجر: هو معاون جيد.
شاليف: وكذلك ستاكهاوس من الشئون العربية الإسرائيلية. (إتش.إتش. ستاكهاوس مدير فرع إسرائيل والشئون العربية الإسرائيلية في قسم شئون شرق وجنوب آسيا بوزارة الخارجية)
دينتس: لقد استعرضت مسألة الإرهاب، وخاصة قلقنا من صواريخ روما (صواريخ اكتشفت الشرطة الإيطالية وجودها في حوزة "إرهابيين" عرب) (1)، وعلمنا أنها تحمل أرقاما متسلسلة، ولذلك يجب أن يجري الروس تحقيقا لمعرفة من أين حصلوا عليها، ليس صعبا أن يتتبعوا أثرها إذا أرادوا ذلك، وطلبت من الوزير راش أن يجد وسيلة لنقل قلقنا إلى الروس، وثانيا أن تؤكد منظمة الطيران المدني الدولية في روما على خطورة الوضع، وأن تساعد في صياغة مشروع قانون للتعامل مع هذا الوضع.
كيسنجر: فماذا قال؟
دينتس: قال إن الحكومة الأمريكية على اتصال مع الروس بخصوص الموضوع، وسيأخذ نصيحتنا لمنظمة الطيران المدني الدولي في الاعتبار، وأنك ستشارك معنا في هذا الأمر.
كيسنجر: هل تعطيني الأرقام التسلسلية؟
دينتس: نعم، لم نعطها له وأستطيع أن أعطيها لك.
كيسنجر: سأرى دوبرنين يوم الخميس. (أناتولي دوبرنين، السفير السوفييتي في الولايات المتحدة)
دينتس: ثم تحدثنا عن النفط والدبلوماسية.
كيسنجر: هل لاحظت ما قاله الرئيس يوم السبت، الأمور تسير في الاتجاه الذي أشرت إليه.
دينتس: قلت لراش إن المزيد من النشاط مفيد لعلاقاتنا، لكن التفسيرات الصحفية الكثيرة ليست مفيدة بصراحة، وأعرب عن موافقته على ذلك، وقد لفت انتباهه إلى حوار سيسكو مع الصحيفة الأردنية.
كيسنجر: ماذا قال سيسكو؟
دينتس: خلال المحادثات لم يقل سيسكو شيئا على الإطلاق.. وفي الحوار مع الصحيفة استخدم مصطلح "الحقوق" الفلسطينية وليس "المصالح"، وطالب باتخاذ خطوات قبل المفاوضات، وثالثا أشار إلى أن مبادرة في الطريق، وطلبت من راش التعاون لوقف هذه النوعية من السلوك، لأنها تعني أننا نتحاور من خلال الصحافة، وهي لا تؤدي إلا إلى الإضرار بعلاقاتنا.
وقال راش إنه يتفق معي كثيرا وإن المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وإسرائيل واحدة، وقال إن الولايات المتحدة ليست منحازة لإسرائيل أو منحازة للعرب بل منحازة للسلام، (وقد سمعت هذا الكلام من قبل)، لكنه أكد بعد ذلك أن الوضع الراهن ليس جيدا، وأن علينا أن نكسر هذا الجمود بالشروع في المفاوضات.
وقلت له إننا متفقون تماما؛ فإسرائيل تريد تحويل الوضع الراهن إلى سلام وأمن، وانتقلت بعد ذلك إلى مداخلة طويلة حول كيفية التقدم إلى الأمام باقتراح جديد، يقتضي فقط تأجيل المفاوضات، وأشرت إلى أن العرب يربطون كل شيء الآن بفلسطين، فقال إنه لا يطلب منا اتخاذ خطوة من جانب واحد أو التفاوض من نقطة ضعف، وإنه تعلم من مفاوضاته في برلين أن الطريقة الوحيدة الأفضل هي التفاوض من موقع القوة، واختتم حديثه بأن طلب منا ما تستطيع حكومتنا أن تفعله، وبالتنسيق معك، لتحريك المفاوضات.
كيسنجر: أولا، اسمحوا لي أن أوضح أنني لا أتحدث الآن بصفتي الرسمية، وعلينا أن نواصل اللقاء عبر هذه القناة المقيدة.
دينتس: اجعلها منفصلة.
كيسنجر: من المهم أن تفهم رئيسة الوزراء رأيي في هذا الشأن، كل ما تسمعونه من وزارة الخارجية ليس إلا عبارات، وأنا أؤكد لكم وللآخرين القلقين عليكم أيضا ذلك. ولا ينبغي أن تعلقوا عليها أهمية كبيرة.
دينتس: أعلم ذلك، كل ما في الأمر أنني كنت أبلغك بما دار بيننا.
كيسنجر: وكما قلت لرئيسة الوزراء، وكما قلت لكم من قبل، الاتجاه الغالب هنا هو ضرورة أن نفعل شيئا، ويمكن أن يتأخر لكن لا يمكن الامتناع عنه نهائيا، وعليكم أن تنظروا إلى التوازن بين تأثير الأفراد وتأثير المجموعات.. قبل عامين اقترحت على السفير رابين ورئيسة الوزراء أنه ينبغي أن نفعل شيئا باتجاه تسوية مؤقتة، ولم تفعلوا شيئا بعد تلك النصيحة.
المشكلة هي أن الرأي العام الأمريكي لا يفهم حقيقة أن العرب يقترحون - كشرط مسبق للمفاوضات - أن تتخلوا عن جميع الأراضي في مقابل "إنهاء حالة الحرب"، والذي لا يمكن تمييزه عن وقف إطلاق النار القائم حاليا، ويعتقدون أن المسألة تتركز في تعنت إسرائيل، ومعظم الناس لا يفهمون الموقف على حقيقته، ولذلك فإن أي مبادرة إسرائيلية ستحقق ميزة -على الأقل- هي إظهار حجم المبالغة فيما يطالب به العرب، وليس لدي اقتراح محدد، وقد استنفدت جهد لي دوك ثو (عضو المكتب السياسي لجمهورية فيتنام الديمقراطية والمستشار الخاص لوفدها في محادثات السلام في باريس) العام الماضي بإعطائه في جلسة سريعة خمسة مقترحات مختلفة كانت كلها معقولة، لكن أيا منها لا يضعف موقفنا الرئيسي وهو عدم الإطاحة بثيو (رئيس فيتنام الجنوبية)(2)، وفي حالة انهيار المفاوضات يمكننا أن نظهر أنه هو الذي رفض، وأن السبب ليس تمسكنا بالحد الأقصى من مطالبنا، وكانت كل هذه المقترحات ناجحة.
ومن المهم أن أنوه عن أن مشاكلنا مع فيتنام الجنوبية بدأت عندما فعلنا هذا، حيث اعتقدوا أننا نتخلي عن شيء ما، لكننا لم نفعل، وكانت تنازلاتنا عن أشياء هامشية، وليس عن القضية الرئيسية، وهذا من شأنه أن يبقي المبادرة في يدكم.
واهتمامي الاستراتيجي الثاني هو أن نجد وسيلة لتقسيم العرب وتفريغ الضغوط هنا في أمريكا، فلا يمكننا أن نواجه كل هذه الضغوط هنا، من شركات النفط ومن المؤيدين للعرب في مواجهة اليهود، يمكننا أن نحاول دفع السعوديين للانقسام، قبل ثلاث سنوات جاء قادة شركات النفط إلى هنا، وكانت قضيتهم أن نفعل شيئا حيال القدس، وأرادوا أن تكون مدينة محايدة، وأنا أعلم أن هذا غير مقبول بالنسبة لكم، لكنني أتساءل لماذا لا تكون هناك صيغة ما تحقق لكم امتيازات، بالإضافة إلى ممر للوصول إلى الأماكن المقدسة، ولن يتم هذا كاقتراح أمريكي، ويمكنكم الاعتماد على ذلك، لكنه سيساعد في التعامل مع السعوديين، فهذا هو الشيء الوحيد الذي يتحدثون عنه، والاقتراح سيساعدنا على الصعيد الداخلي، وما قاله الرئيس –إلى جانب ما قلته- هو أنكم يجب ألا تعتقدوا أن القدس لن تعود.
والآن يمكنني أن استخدم المناقشات مع (حافظ) إسماعيل؛ لن يحدث شيء إلا بعد انتخاباتكم، ولذلك لن تكون هناك ضغوط على الفور، وأنا لم أناقش اقتراح القدس مع الرئيس، ولن تقدم مبادرة كبيرة عندما أصل، وربما تحقق تسوية مع الأردن أولا الهدف المطلوب، وربما يكون لديكم فكرة أكثر ذكاء.
دينتس: أشرت من قبل إلى أن تفكيرك يتحرك نحو القدس، لأول مرة عندما سألت إيبان (3) عنها، وفي المرة الثانية عندما قلت من قبل إنك مهتم بإزاحة (الملك) فيصل من الصورة وعزل السادات، وبالمناسبة لقد اعتقدت أنك بإرسالك طائرات الفانتوم إلى فيصل ستؤدي إلى العكس وتجذب السادات إليه.
القدس بالطبع هي القضية الأكثر حساسية بالنسبة لنا، وليس لدي كلام محدد عنها، وسأقدم تقريرا بالطبع عن كل هذا لرئيسة الوزراء.
كيسنجر: ربما يكون لديها فكرة أفضل.
دينتس: ولكن عادة عندما تحاول نزع فتيل قضية تختار الجانب الأقل حساسية والأقل تأثيرا على المستوى العاطفي، والقدس هي القضية الأصعب بالنسبة للأردن، وقد حاولنا استخدام بعض العبارات من قبل للإشارة إلى الأماكن المقدسة مثل "وضع خارج أراضيها".
كيسنجر: من فضلك لا تفسر الأمر على المستوى القانوني، وإنما على المستوى الاستراتيجي.
دينتس: إنني أرى الاستراتيجية.
كيسنجر: أعتقد أن قضية الحدود ستكون أكثر حساسية.
دينتس: لا، أعتقد أن وضع الحدود النهائية مع السادات أسهل من الاتفاق على تقسيم السيادة في القدس، وأي شخص في إسرائيل يقترح ذلك سيضرب بالنار في مكتبه، ويمكن أن نوافق على ممر للأردنيين للدخول إلى مسجد عمر دون المرور عبر نقاط التفتيش الإسرائيلية.
واسمح لي أن أطرح سؤالين.. هل تعني أن على إسرائيل أن تفكر بشكل مستقل في مسار البدء في المفاوضات؟
كيسنجر: هناك طرق كثيرة للقيام بذلك، ويمكننا أن نبلغ السعوديين أننا سمعنا هذا منكم وأنكم على استعداد لمناقشته، أو يمكنكم أن تجعلوه عرضا علنيا، أو عرضا سريا ثم تنشروه فيما بعد إذا لم ينجح.
دينتس: سؤالي الثاني هو: هل تعني أنك تعتقد أن شيئا من هذا القبيل يمكن أن يحرك السعوديين؟
كيسنجر: بأمانة.. ليس لدي تصور محدد عن موقف السعوديين، التقيت فقط باليماني (4) عندما كان هنا، وقبل خمسة عشر شهرا التقيت مع أميرهم، وطلبنا بشكل غير رسمي من الأمير فهد (5) أن يأتي، وفعلنا ذلك لتفادي ذهاب عدد كبير من وفودنا إلى السعودية، وهذا ليس له علاقة بإسرائيل، وهو على استعداد للمجيء في أواخر نوفمبر أو أوائل ديسمبر، ويمكن أن تكون مناسبة جيدة، واستراتيجيتي هي إبعاد السعوديين عن النزاع العربي الإسرائيلي، لأن أي تسوية قابلة للتحقيق لن تكون مرضية للعرب، وستضعف النظام الذي يتحمل مسئوليتها، وقد تساعد على اتخاذ بعض الإجراءات فيما يتعلق بمخاوفهم الدينية.
دينتس: سأنقل أفكارك إلى رئيسة الوزراء (مائير).
كيسنجر: ليس لدي فكرة عما يعنيه راش عندما يقول لنكسر الجمود الحالي بالمفاوضات.
دينتس: ولا هو يعرف.
كيسنجر: من الضروري للغاية ألا تضعوا أنفسكم في موقف من يبحث عن عقبة في طريق السلام، وأن تضعوا العرب في موقف دفاعي، والبريطانيون أبلغونا أنهم يريدون التحدث معنا حول هذا الموضوع، والفرنسيون أيضا.. وأنا لست مهتما بالحصول على جائزة نوبل للسلام.
دينتس: لا أمانع في أن أراك تفوز بها، بل سأكون سعيدا للغاية.
كيسنجر: ولكن لا توجد وسيلة أمامنا لنفعل ذلك دون التعامل بشدة مع الجميع، وسيتم العمل من خلال قنوات خاصة.
دينتس: ماذا تقصد؟
كيسنجر: الرئيس سيعين بعض المبعوثين الخاصين.
دينتس: لحل أزمة الشرق الأوسط؟
كيسنجر: نعم. وأنا بالفعل ليس لدى أفكار محددة، (ثم وجه كلامه إلى رودمان) هل سمعنا شيئا من زاهدي؟ (يقصد نتائج محادثاته مع حافظ إسماعيل في جنيف).
رودمان: لم تصلنا بعد.
كيسنجر: تحقق من ذلك.
دينتس: هل تعتقد أن بإمكانك أن تغير موقف العرب في المطالبة بالالتزام بالانسحاب الكامل كشرط مسبق للمفاوضات؟
كيسنجر: استراتيجيتي هي استنفاد العرب، كنا نفعل ذلك باستمرار، ولكن في كل مرة يخرج واحد منا عن هذا الخط، ولكن هل يمكنني أن أفعل ذلك؟ سيكون أمرا استثنائيا ألا يسرب المصريون مفاوضاتي مع إسماعيل، هذا يعني أنهم لم يتخلوا بعد عن توجهي.
دينتس: مصادرنا تقول إنها يعتقدون الآن أن النفط سيلعب دورا في صالحهم لهم.
كيسنجر: إذا تمكنا من إحداث انقسام يخرج السعوديين من المعادلة... فالأردن منقسمة بالفعل.. والسوريون لم ينقسموا بعد، لكن مصر بالفعل على استعداد لإبرام سلام منفرد.
دينتس: أعتقد أن المحوري في هذا هو استراتيجية النفط، واليوم أول زيارة يقوم بها الملك حسين لمصر، يمكنك أن تقول للملك إنها ليست فكرة جيدة.
كيسنجر: سوف نفعل ذلك، (وموجها الحديث إلى رودمان) هل سيأتي الرفاعي إلى اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة؟
رودمان: سأتأكد من ذلك.
دينتس: عندما كان الشاه هنا.. هل تحدثت معه عن مساهمته إلى الأردن؟
كيسنجر: نعم وبشكل مطول، لكنه قال إنه من وجهة نظره الذاتية والاستراتيجي هو يؤيدك، ولكن من وجهة نظر تكتيكية يريد تحريكا للموقف.
دينتس: لكنه ليس لديه أي فكرة عما ينبغي أن يكون.
كيسنجر: صحيح.
دينتس: ليس لدي قراءة متشائمة للتوافق في الآراء في أمريكا كما ترى أنت، وما تصفه هو شعور في الإدارة وليس في البلد، ليس الأمر مجرد موقف من اليهود، بل من الكونجرس.
كيسنجر: الكونجرس يقف دائما ضد ما تريده الإدارة أيا ما كان!
دينتس: لكن الحركة العمالية ووسائل الإعلام وضغوط الصحافة.
كيسنجر: لن أعلق أهمية كبيرة على ذلك، يمكننا التعامل مع الأمر بسهولة إذا كان لدينا نقطة انطلاق نبدأ منها، ولا نطلب منكم أن تتخلوا عن مواقفكم الأساسية.
دينتس: نعم.
كيسنجر: الشيء المدهش في جلسات الاستماع أن أرى الليبراليين يهاجمونني لأنني متساهل مع الروس (6).. لخمس سنوات هاجمونا لأننا متشددون! ولكن عندما تأتي أزمة يهربون.
دينتس: نعم. هم يعتقدون أن حسن النوايا هو الحل.
كيسنجر: تتذكر الأزمة الأردنية، لم أر قط نموذجا على فعالية إدارة الأزمات مثلما كان الحال في تلك الأزمة، فقد عملنا معا بشكل جيد.
دينتس: نعم، كنت في الطرف الآخر.
هوامش:
(1) في 5 سبتمبر 1973 اعتقلت الشرطة الإيطالية خمسة من العرب حولوا شقة على بعد 4 أميال من مطار فيوميتشينو في روما إلى قاعدة، خططوا لإسقاط طائرة إسرائيلية منها، وقالت الشرطة إنها عثرت على صواريخ سوفيتية الصنع أرض جو وأسلحة أخرى مخبأة في الشقة.
(2) نجوين فان ثيو رئيس فيتنام الجنوبية حليفة الولايات المتحدة، والتي ناصرتها أمريكا خلال حرب فيتنام، وظل في السلطة حتى 21 إبريل 1975.
(3) أبا إيبان وزير الخارجية الإسرائيلي.
(4) أحمد زكي اليماني- وزير النفط السعودي.
(5) الأمير فهد بن عبد العزيز آل سعود كان وقتها وزيرا للداخلية ونائبا ثانيا لرئيس الوزراء.
(6) كيسنجر يشير هنا إلى جلسة إقرار تعيينه وزيرا للخارجية.
http://hadarat.ahram.org.eg/Articles/أفكار/يوميات-أكتوبر-في-الوثائق-الأمريكية---1-071015