اعتنت الصحافة الإسرائيلية خلال منتصف الشهر الجاري بقضايا التسليح السوري والمصري بدرجة بدت معها الدولتان وكأنهما تسعيان بحمية لتحديث جيشيهما.
كانت نتائج أبحاث مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بجامعة تل أبيب تعكس الاعتناء الإسرائيلي بمستويات تحديث الجيش المصري الذي رفع عدد مقاتلات إف 16 الأميركية إلى 220 طائرة مقابل 350 لإسرائيل، وهو ما اعتبر تحديثا لا مبرر له لدولة تجاورها السودان وليبيا اللتان لا تحتاج مصر تجاههما لهذا العدد من المقاتلات.
وبشكل متواز كانت الحملة مستعرة على سوريا التي صورت وكأن التسليح الروسي سيحرر أرضها غدا، ولقد وقع الكثيرون حيارى أمام مسارعة موسكو بنفي نيتها بيع أسلحة لدمشق، وليس في دستور الفيدرالية الروسية ولا فيما التزمت به روسيا من معاهدات دولية ما يجرم السعي لبيع ثاني أهم سلعة لموسكو بعد النفط، وبالمثل جاء مدهشا نفي دمشق المبكر شراء السلاح الروسي رغم حقها الشرعي في الدفاع عن النفس والأرض.
هوية الأسلحة الروسية لدمشق
لم يكن القلق الإسرائيلي نحو تسليح روسيا لسوريا وليد اليوم، ولا مرافقا لزيارة الرئيس السوري لموسكو مؤخرا، إذ ترجع القضية إلى مطلع سبتمبر/أيلول من عام 2002 حينما صدر اعتراض أميركي إسرائيلي ضد ترتيب روسيا لبيع دمشق صواريخ مضادة للطائرات، فأعلنت واشنطن أنها "ضد بيع أسلحة روسية لدولة راعية للإرهاب مثل سوريا".
وفى مثل هذا الشهر قبل عامين ماضيين ثارت ضجة أخرى بسبب تسريب معلومات تفيد بأن موسكو تحضر لإنشاء محطتين نوويتين في سوريا، واحدة لإنتاج الطاقة الكهربائية والثانية لتحلية مياه البحر.
وآنذاك سافر ناتان شارانسكي نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي، ليذكّر موسكو بأن "تقديم مثل هذه التقنيات إلى دولة مثل سوريا يمثل تهديدًا ليس فقط لإسرائيل بل للعالم الحر بأسره"، واستجابت موسكو وتوقفت عن المفاوضات حول المشروع.
تنتمي الأسلحة الروسية التي سعت دمشق لامتلاكها في السنوات الأخيرة إلى نوعين من الصواريخ: أولهما الصواريخ البالستية المعروفة باسم "إسكندر"، وقد اتفق محللون عسكريون إسرائيليون وغربيون على أن كثيرا من المبالغات أثيرت حول مدى فاعلية هذه الصواريخ بالنسبة للجيش السوري.
وفى ظنهم أنها لن تغير من القدرات العسكرية لسوريا الكثير، وذلك لأن لدى سوريا صواريخ سكود بنوعيها بى ودي بقدرات لا تختلف كثيرا عن المأمول شراؤه.
وحسب بيداتزور فى هآرتس فإن "مئات الصواريخ القادرة على حمل رؤوس كيميائية شبيهة في قدرتها بصواريخ "إسكندر" تقع بالفعل في أيدي السوريين منذ فترة، وفي مقدورها إصابة أي هدف داخل إسرائيل، ولم تطلق منها واحدة".
وثانيهما صواريخ أرض/جو يمكن أن يحملها الأفراد بحرية لاقتناص الطائرات، وتحقق صواريخ إيغلا وإستريلا (وتعنى الشوكة والسهم) ما يمكن تسميته بالرادع الفعال أمام الطائرات المقاتلة الإسرائيلية، بدرجة تشبه ما حققه حائط الصواريخ السوفياتي على الضفة الغربية لقناة السويس بعيد هزيمة يونيو/حزيران 1967 وتوفير الأمان للتحضير لحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
ورغم الأهمية الحيوية التي تمثلها الصواريخ الأخيرة، فإن إسرائيل لن تكون قد خسرت الكثير لو سمح لدمشق بإتمام صفقتها مع موسكو، إذ أن الأجواء اللبنانية ستبقى تحت طائلة الطيران الإسرائيلي، ومنها يمكن تنفيذ ضربات ضد الأهداف داخل العمق السوري بالاستفادة من الموقع الجغرافي للبنان المتوغل في غربي سوريا.
أين المشكلة إذن؟ يجيب عن التساؤل إيفانوف وكرامر المحللان بالقسم العسكري في صحيفة نيزافيسيميا غازيتا الروسية موضحين أن تل أبيب تخشى أن توصل دمشق الصواريخ إلى حزب الله في الجنوب اللبناني لإيقاف أي غارة إسرائيلية مستقبلية وإحباط أي خطط إسرائيلية بشأن العودة إلى الجنوب اللبناني، بالإضافة إلى إمكانية دفع دمشق بهذه الصواريخ إلى حركتي الجهاد وحماس في غزة لإسقاط المقاتلات الإسرائيلية المغيرة.
ولتدشين المخاوف الدولية دعت تحليلات عسكرية وسياسية في صحيفة هآرتس الولايات المتحدة والدول الأوروبية لتذكر أن هذه الصواريخ قادرة على إسقاط الطائرات المدنية المحلقة بالآمنين، وبالتالي فإن وصولها إلى المنطقة فرصة ينتظرها "الإرهابيون" منذ عقود.
نعود إلى إيفانوف وكرامر اللذين يضربان لنا مثالا على التنظيم الإسرائيلي في متابعة شؤون التسليح العربية، بإفشال إسرائيل صفقة أسلحة الطائرات الروسية إلى الجزائر نهاية مايو/أيار الماضي، وهي صفقة كانت روسيا ستجني منها 1.8 مليار دولار، أسقطتها بحجة أن هذه الأسلحة قد توصلها الجزائر إلى أشقائها العرب على خط القتال!
وبعيد أن سربت الصحافة اليهودية في روسيا والصحف الإسرائيلية تفاصيل الاتفاق المنتظر، نوه خبراء عسكريون أدلوا بشهاداتهم لصحف روسية بأن نشاطا قويا للتجسس الإسرائيلي موجود في كل من موسكو ودمشق.
ورغم نفي موسكو ودمشق توقيع اتفاق بشأن هذه الصواريخ، لا تستبعد إسرائيل أن يعود الرئيس السوري دون أسلحة، على أن تلحق به صواريخ إيغلا نفسها بعد عدة أشهر حينما تتوارى الضجة المثارة عالميا حول القضية.
ماذا كسبت دمشق وجنت موسكو؟
"روسيا اليوم ليست ضعيفة تابعة مسلوبة الإرادة كما نقرأ لدى بعض المحلّلين السطحيين.." كلمات أطلقتها صحيفة تشرين السورية صبيحة زيارة الرئيس بشار الأسد لموسكو، كثير منها صحيح وبعض منها يحتاج إلى مراجعة.
في المقابل كتبت سوبونينا مراسلة صحيفة فريميا نوفستي من دمشق تقول "أخبار زيارة الرئيس السوري لموسكو لم تبرح مكانها في الصفحات الأولي لصحف دمشق على مدى أربعة أيام".
هنا في دمشق كم يحترمون روسيا وقيادتها ويثنون عليهما، قليل منهم أولئك الذين يقولون إن روسيا اليوم ليست روسيا الأمس، بيد أن الجميع يبدو مقتنعا بالمثل الروسي "صديق الأمس خير لك من صديقين تعرفهما اليوم".
هذا التناغم المتبادل ليس مفتعلا بالمرة، إذ تحتفظ سوريا لدى الروس بمكانة كبرى من التقدير، وهى حالة متميزة في تاريخ العلاقات العربية الروسية على مدى نصف القرن المنصرم، في وقت لم تنس فيه روسيا بعد أنها أزيحت من مواقع شديدة الحساسية في العالم العربي الذي كانت قد دعمته في فترة تاريخية شديدة الحساسية وبعطاء سخي.
اليوم يبدو أن روسيا مستعدة للسير على نفس الدرب القديم، وهاهي تسقط عشرة بلايين من الدولارات تزيد على 70% من مستحقاتها على دمشق، وهو ثمن رآه البعض كبيرا للحصول على مكانة في دولة محورية في المشرق العربي.
وإذا ما طرحنا جانبا ما روجت له صحف روسية من أن موسكو أسقطت البلايين العشرة لأنها أموال ميتة في مقابل أن تحصل من الرئيس السوري على مبلغ 2 بليون دولار نقدا أعطته إياها إيران والسعودية لشراء الصواريخ المذكورة، فإن موسكو لديها بالفعل مصالح كبرى ستحقق منها الكثير على الأراضي السورية، أهمها دعم شركاتها النفطية العاملة في سوريا في مجالي التنقيب وصيانة أنابيب نقل النفط الذي ينتظر أن يكون مجزيا بعد استقرار العراق.
هذا بالإضافة إلى أن بعض مشاريع الطاقة الرئيسية في سوريا مازال يشرف عليه فنيون روس وذلك منذ العهد السوفياتي.
وكما هو متوقع أن يؤدى التعاون الروسي السوري إلى دور بارز في المفاوضات السورية الإسرائيلية، ما يمكن موسكو من أن تجد لنفسها موقعا رائدا في عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية بترتيب مع واشنطن وتل أبيب، مقابل أن تقدم موسكو خدمة جليلة بإقناع دمشق بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1559 بالانسحاب السوري من لبنان.
ولابد أن تسجل لروسيا جرأتها في المبادرة بدعم كل من سوريا وإيران، ومراوغتها لمواجهة الاحتكار الأميركي لمقدرات المنطقة، ولا يخفي الروس أن ذلك يحقق مصالحهم القومية في المقام الأول.
كما أن روسيا وهى تسقط ديونا بأرقام فلكية عن دمشق، تجمعت خلال أكثر من ثلاثين عاما تضمن عمليا أن يرقى نصيبها من التجارة مع دمشق من 200 مليون إلى بليون دولار سنويا.
من جانبها تحصل دمشق اليوم من موسكو على أكثر مما كان متوقعا، فإلى جانب الاحتفاء الإعلامي غير المسبوق بالرئيس السوري، ومنح جامعة موسكو له الدكتوراه الفخرية وكتابة عشرات المقالات عن سيرته الذاتية ومناقبه وإسقاط رقم فلكي من الديون الخارجية، كسبت سوريا محاميا له صوت شبه مسموع سيسعى لينفي تهما باطلة عنها.
وفي المقابل حصلت روسيا على أولوية في الاستثمارات بالأراضي السورية وتعاون بيني على مستوى سرية المعلومات والجهود الأمنية المشتركة.
وتنال القضية الأمنية جانبا مهما في الاهتمام الروسي، والاعتناء بفتح قنوات للتفاهم مع بعض المنظمات الإسلامية ذات الصلة بالحركات الإسلامية على الأراضي الروسية، بل إن سوريا التي يعيش على أرضها أكثر 100 ألف مواطن من أصول قوقازية شمالية أصبحت تفوق في أهميتها الأردن التي يعيش بها 20 ألف شيشاني.
وهذه نقطة على جانب من الأهمية لأمن روسيا القومي، فموسكو مقتنعة بأن مفتاحا أساسيا للقضية الشيشانية ستجده لدى دول المشرق العربي، وقد نجحت بالفعل من خلال اتفاقات ثنائية مع عديد من هذه الدول من بينها سوريا أن تنتزع اعترافا حكوميا بأن الشيشان جزء لا يتجزأ من التراب الروسي، كما انتزعت التزاما بمنع جمع تبرعات في هذه الدول للمقاتلين الشيشان.
بين الإقدام والتراجع
هكذا يبدو المشرق العربي اليوم في أفضل علاقاته مع روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي؛ هاهي موسكو تدنو بحساب من دول الخليج والسعودية، تتوازن في الموقف الدولي من احتلال العراق، تقيم علاقة إستراتيجية مع إيران جارة العرب الكبرى، تلبي دعوة الفلسطينيين للمشاركة في تسوية الصراع مع الإسرائيليين، واليوم تعود مجددا إلى دمشق.
غير أن الخطوات الروسية الجريئة وغير المدعومة بقوة عربية فاعلة، قد تتراجع أمام ثلاثة مخاطر: أولها التربص الصهيوني بها، سواء بالأذرع الإعلامية في الولايات المتحدة والغرب أو حتى داخل روسيا.
وغير بعيد منها الدور الذي لعبته الصحف اليهودية التي يمتلكها يهود في روسيا في إجهاض اتفاق صفقة الصواريخ، بإفشاء أخبار الاتفاق مبكرا وإظهاره على أنه "فضيحة عسكرية".
وثانيها هو الثقل الذي يشكله مليون مهاجر بإسرائيل من أصول روسية سوفياتية، وجانب من هذا الثقل إيجابي لدرجة جعلت الرئيس بوتين يصف إسرائيل بإحدى الدول المتحدثة بالروسية التي تستحق الاعتناء الحضاري.
وجانب منه سلبي لدرجة تضر بالمصالح الروسية، كما رُوج في الأزمة الأوكرانية من دعم إسرائيلي للمعارضة بأموال ليف ليفاييف الملياردير ذي الأصل السوفياتي سابقا.
أما ثالثها فهو التوازنات الحرجة في علاقة موسكو المتنامية بتركيا المتحالفة مع إسرائيل، وآخر ما جمع الأطراف الثلاثة مشروع نقل الغاز الروسي إلى إسرائيل عبر تركيا والذي سيقدم ثمارا بالغة الأهمية للاقتصاد الروسي.
وفي النهاية لن يكون التحليل مخطئا إذا ما نادى بضرورة الاستعداد بالبحث عن بدائل أخرى حينما تتراجع موسكو، فروسيا مستعدة حقا للتعاون المستقبلي ولكنها حسمت أمرها، وستترك سوريا وحيدة قبيل تلك اللحظات التي ستلمع فيها الصواريخ الأميركية أو الإسرائيلية فوق دمشق، وما حديث بغداد منا ببعيد.
المصدر:
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/7E94C621-A0A1-49CB-B019-45E2DC130B5C.htm
كانت نتائج أبحاث مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بجامعة تل أبيب تعكس الاعتناء الإسرائيلي بمستويات تحديث الجيش المصري الذي رفع عدد مقاتلات إف 16 الأميركية إلى 220 طائرة مقابل 350 لإسرائيل، وهو ما اعتبر تحديثا لا مبرر له لدولة تجاورها السودان وليبيا اللتان لا تحتاج مصر تجاههما لهذا العدد من المقاتلات.
وبشكل متواز كانت الحملة مستعرة على سوريا التي صورت وكأن التسليح الروسي سيحرر أرضها غدا، ولقد وقع الكثيرون حيارى أمام مسارعة موسكو بنفي نيتها بيع أسلحة لدمشق، وليس في دستور الفيدرالية الروسية ولا فيما التزمت به روسيا من معاهدات دولية ما يجرم السعي لبيع ثاني أهم سلعة لموسكو بعد النفط، وبالمثل جاء مدهشا نفي دمشق المبكر شراء السلاح الروسي رغم حقها الشرعي في الدفاع عن النفس والأرض.
هوية الأسلحة الروسية لدمشق
لم يكن القلق الإسرائيلي نحو تسليح روسيا لسوريا وليد اليوم، ولا مرافقا لزيارة الرئيس السوري لموسكو مؤخرا، إذ ترجع القضية إلى مطلع سبتمبر/أيلول من عام 2002 حينما صدر اعتراض أميركي إسرائيلي ضد ترتيب روسيا لبيع دمشق صواريخ مضادة للطائرات، فأعلنت واشنطن أنها "ضد بيع أسلحة روسية لدولة راعية للإرهاب مثل سوريا".
وفى مثل هذا الشهر قبل عامين ماضيين ثارت ضجة أخرى بسبب تسريب معلومات تفيد بأن موسكو تحضر لإنشاء محطتين نوويتين في سوريا، واحدة لإنتاج الطاقة الكهربائية والثانية لتحلية مياه البحر.
وآنذاك سافر ناتان شارانسكي نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي، ليذكّر موسكو بأن "تقديم مثل هذه التقنيات إلى دولة مثل سوريا يمثل تهديدًا ليس فقط لإسرائيل بل للعالم الحر بأسره"، واستجابت موسكو وتوقفت عن المفاوضات حول المشروع.
تنتمي الأسلحة الروسية التي سعت دمشق لامتلاكها في السنوات الأخيرة إلى نوعين من الصواريخ: أولهما الصواريخ البالستية المعروفة باسم "إسكندر"، وقد اتفق محللون عسكريون إسرائيليون وغربيون على أن كثيرا من المبالغات أثيرت حول مدى فاعلية هذه الصواريخ بالنسبة للجيش السوري.
وفى ظنهم أنها لن تغير من القدرات العسكرية لسوريا الكثير، وذلك لأن لدى سوريا صواريخ سكود بنوعيها بى ودي بقدرات لا تختلف كثيرا عن المأمول شراؤه.
وحسب بيداتزور فى هآرتس فإن "مئات الصواريخ القادرة على حمل رؤوس كيميائية شبيهة في قدرتها بصواريخ "إسكندر" تقع بالفعل في أيدي السوريين منذ فترة، وفي مقدورها إصابة أي هدف داخل إسرائيل، ولم تطلق منها واحدة".
وثانيهما صواريخ أرض/جو يمكن أن يحملها الأفراد بحرية لاقتناص الطائرات، وتحقق صواريخ إيغلا وإستريلا (وتعنى الشوكة والسهم) ما يمكن تسميته بالرادع الفعال أمام الطائرات المقاتلة الإسرائيلية، بدرجة تشبه ما حققه حائط الصواريخ السوفياتي على الضفة الغربية لقناة السويس بعيد هزيمة يونيو/حزيران 1967 وتوفير الأمان للتحضير لحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
ورغم الأهمية الحيوية التي تمثلها الصواريخ الأخيرة، فإن إسرائيل لن تكون قد خسرت الكثير لو سمح لدمشق بإتمام صفقتها مع موسكو، إذ أن الأجواء اللبنانية ستبقى تحت طائلة الطيران الإسرائيلي، ومنها يمكن تنفيذ ضربات ضد الأهداف داخل العمق السوري بالاستفادة من الموقع الجغرافي للبنان المتوغل في غربي سوريا.
أين المشكلة إذن؟ يجيب عن التساؤل إيفانوف وكرامر المحللان بالقسم العسكري في صحيفة نيزافيسيميا غازيتا الروسية موضحين أن تل أبيب تخشى أن توصل دمشق الصواريخ إلى حزب الله في الجنوب اللبناني لإيقاف أي غارة إسرائيلية مستقبلية وإحباط أي خطط إسرائيلية بشأن العودة إلى الجنوب اللبناني، بالإضافة إلى إمكانية دفع دمشق بهذه الصواريخ إلى حركتي الجهاد وحماس في غزة لإسقاط المقاتلات الإسرائيلية المغيرة.
ولتدشين المخاوف الدولية دعت تحليلات عسكرية وسياسية في صحيفة هآرتس الولايات المتحدة والدول الأوروبية لتذكر أن هذه الصواريخ قادرة على إسقاط الطائرات المدنية المحلقة بالآمنين، وبالتالي فإن وصولها إلى المنطقة فرصة ينتظرها "الإرهابيون" منذ عقود.
نعود إلى إيفانوف وكرامر اللذين يضربان لنا مثالا على التنظيم الإسرائيلي في متابعة شؤون التسليح العربية، بإفشال إسرائيل صفقة أسلحة الطائرات الروسية إلى الجزائر نهاية مايو/أيار الماضي، وهي صفقة كانت روسيا ستجني منها 1.8 مليار دولار، أسقطتها بحجة أن هذه الأسلحة قد توصلها الجزائر إلى أشقائها العرب على خط القتال!
وبعيد أن سربت الصحافة اليهودية في روسيا والصحف الإسرائيلية تفاصيل الاتفاق المنتظر، نوه خبراء عسكريون أدلوا بشهاداتهم لصحف روسية بأن نشاطا قويا للتجسس الإسرائيلي موجود في كل من موسكو ودمشق.
ورغم نفي موسكو ودمشق توقيع اتفاق بشأن هذه الصواريخ، لا تستبعد إسرائيل أن يعود الرئيس السوري دون أسلحة، على أن تلحق به صواريخ إيغلا نفسها بعد عدة أشهر حينما تتوارى الضجة المثارة عالميا حول القضية.
ماذا كسبت دمشق وجنت موسكو؟
"روسيا اليوم ليست ضعيفة تابعة مسلوبة الإرادة كما نقرأ لدى بعض المحلّلين السطحيين.." كلمات أطلقتها صحيفة تشرين السورية صبيحة زيارة الرئيس بشار الأسد لموسكو، كثير منها صحيح وبعض منها يحتاج إلى مراجعة.
في المقابل كتبت سوبونينا مراسلة صحيفة فريميا نوفستي من دمشق تقول "أخبار زيارة الرئيس السوري لموسكو لم تبرح مكانها في الصفحات الأولي لصحف دمشق على مدى أربعة أيام".
هنا في دمشق كم يحترمون روسيا وقيادتها ويثنون عليهما، قليل منهم أولئك الذين يقولون إن روسيا اليوم ليست روسيا الأمس، بيد أن الجميع يبدو مقتنعا بالمثل الروسي "صديق الأمس خير لك من صديقين تعرفهما اليوم".
هذا التناغم المتبادل ليس مفتعلا بالمرة، إذ تحتفظ سوريا لدى الروس بمكانة كبرى من التقدير، وهى حالة متميزة في تاريخ العلاقات العربية الروسية على مدى نصف القرن المنصرم، في وقت لم تنس فيه روسيا بعد أنها أزيحت من مواقع شديدة الحساسية في العالم العربي الذي كانت قد دعمته في فترة تاريخية شديدة الحساسية وبعطاء سخي.
اليوم يبدو أن روسيا مستعدة للسير على نفس الدرب القديم، وهاهي تسقط عشرة بلايين من الدولارات تزيد على 70% من مستحقاتها على دمشق، وهو ثمن رآه البعض كبيرا للحصول على مكانة في دولة محورية في المشرق العربي.
وإذا ما طرحنا جانبا ما روجت له صحف روسية من أن موسكو أسقطت البلايين العشرة لأنها أموال ميتة في مقابل أن تحصل من الرئيس السوري على مبلغ 2 بليون دولار نقدا أعطته إياها إيران والسعودية لشراء الصواريخ المذكورة، فإن موسكو لديها بالفعل مصالح كبرى ستحقق منها الكثير على الأراضي السورية، أهمها دعم شركاتها النفطية العاملة في سوريا في مجالي التنقيب وصيانة أنابيب نقل النفط الذي ينتظر أن يكون مجزيا بعد استقرار العراق.
هذا بالإضافة إلى أن بعض مشاريع الطاقة الرئيسية في سوريا مازال يشرف عليه فنيون روس وذلك منذ العهد السوفياتي.
وكما هو متوقع أن يؤدى التعاون الروسي السوري إلى دور بارز في المفاوضات السورية الإسرائيلية، ما يمكن موسكو من أن تجد لنفسها موقعا رائدا في عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية بترتيب مع واشنطن وتل أبيب، مقابل أن تقدم موسكو خدمة جليلة بإقناع دمشق بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1559 بالانسحاب السوري من لبنان.
ولابد أن تسجل لروسيا جرأتها في المبادرة بدعم كل من سوريا وإيران، ومراوغتها لمواجهة الاحتكار الأميركي لمقدرات المنطقة، ولا يخفي الروس أن ذلك يحقق مصالحهم القومية في المقام الأول.
كما أن روسيا وهى تسقط ديونا بأرقام فلكية عن دمشق، تجمعت خلال أكثر من ثلاثين عاما تضمن عمليا أن يرقى نصيبها من التجارة مع دمشق من 200 مليون إلى بليون دولار سنويا.
من جانبها تحصل دمشق اليوم من موسكو على أكثر مما كان متوقعا، فإلى جانب الاحتفاء الإعلامي غير المسبوق بالرئيس السوري، ومنح جامعة موسكو له الدكتوراه الفخرية وكتابة عشرات المقالات عن سيرته الذاتية ومناقبه وإسقاط رقم فلكي من الديون الخارجية، كسبت سوريا محاميا له صوت شبه مسموع سيسعى لينفي تهما باطلة عنها.
وفي المقابل حصلت روسيا على أولوية في الاستثمارات بالأراضي السورية وتعاون بيني على مستوى سرية المعلومات والجهود الأمنية المشتركة.
وتنال القضية الأمنية جانبا مهما في الاهتمام الروسي، والاعتناء بفتح قنوات للتفاهم مع بعض المنظمات الإسلامية ذات الصلة بالحركات الإسلامية على الأراضي الروسية، بل إن سوريا التي يعيش على أرضها أكثر 100 ألف مواطن من أصول قوقازية شمالية أصبحت تفوق في أهميتها الأردن التي يعيش بها 20 ألف شيشاني.
وهذه نقطة على جانب من الأهمية لأمن روسيا القومي، فموسكو مقتنعة بأن مفتاحا أساسيا للقضية الشيشانية ستجده لدى دول المشرق العربي، وقد نجحت بالفعل من خلال اتفاقات ثنائية مع عديد من هذه الدول من بينها سوريا أن تنتزع اعترافا حكوميا بأن الشيشان جزء لا يتجزأ من التراب الروسي، كما انتزعت التزاما بمنع جمع تبرعات في هذه الدول للمقاتلين الشيشان.
بين الإقدام والتراجع
هكذا يبدو المشرق العربي اليوم في أفضل علاقاته مع روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي؛ هاهي موسكو تدنو بحساب من دول الخليج والسعودية، تتوازن في الموقف الدولي من احتلال العراق، تقيم علاقة إستراتيجية مع إيران جارة العرب الكبرى، تلبي دعوة الفلسطينيين للمشاركة في تسوية الصراع مع الإسرائيليين، واليوم تعود مجددا إلى دمشق.
غير أن الخطوات الروسية الجريئة وغير المدعومة بقوة عربية فاعلة، قد تتراجع أمام ثلاثة مخاطر: أولها التربص الصهيوني بها، سواء بالأذرع الإعلامية في الولايات المتحدة والغرب أو حتى داخل روسيا.
وغير بعيد منها الدور الذي لعبته الصحف اليهودية التي يمتلكها يهود في روسيا في إجهاض اتفاق صفقة الصواريخ، بإفشاء أخبار الاتفاق مبكرا وإظهاره على أنه "فضيحة عسكرية".
وثانيها هو الثقل الذي يشكله مليون مهاجر بإسرائيل من أصول روسية سوفياتية، وجانب من هذا الثقل إيجابي لدرجة جعلت الرئيس بوتين يصف إسرائيل بإحدى الدول المتحدثة بالروسية التي تستحق الاعتناء الحضاري.
وجانب منه سلبي لدرجة تضر بالمصالح الروسية، كما رُوج في الأزمة الأوكرانية من دعم إسرائيلي للمعارضة بأموال ليف ليفاييف الملياردير ذي الأصل السوفياتي سابقا.
أما ثالثها فهو التوازنات الحرجة في علاقة موسكو المتنامية بتركيا المتحالفة مع إسرائيل، وآخر ما جمع الأطراف الثلاثة مشروع نقل الغاز الروسي إلى إسرائيل عبر تركيا والذي سيقدم ثمارا بالغة الأهمية للاقتصاد الروسي.
وفي النهاية لن يكون التحليل مخطئا إذا ما نادى بضرورة الاستعداد بالبحث عن بدائل أخرى حينما تتراجع موسكو، فروسيا مستعدة حقا للتعاون المستقبلي ولكنها حسمت أمرها، وستترك سوريا وحيدة قبيل تلك اللحظات التي ستلمع فيها الصواريخ الأميركية أو الإسرائيلية فوق دمشق، وما حديث بغداد منا ببعيد.
المصدر:
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/7E94C621-A0A1-49CB-B019-45E2DC130B5C.htm