تعد التغذية من الأمور الضرورية التي لا يمكن لأي جيش من الجيوش الاستغناء عنها. فمن دون تغذية سليمة ومتوازنة لا يستطيع أي جيش تنفيذ مهامه.
إن الطعام المناسب من حيث النوعية والكمية ضروري لضمان الحفاظ على القدرات الجسدية والأداء الذهني للأفراد في أفضل حالاتها. كما أن التغذية تكون عنصراً مهماً في حالة الجرحى والمصابين في المعارك وإعادة تأهيلهم.
تؤدي التغذية غير الملائمة للجنود إلى تردي مستوى أدائهم، وضعف التركيز، وتدني مستوى اليقظة، بالإضافة إلى نتائجها البعيدة المدى التي تؤدي إلى زيادة مخاطر نقص الفيتامينات والمعادن والسمنة وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والسكري والفشل الكلوي.
ضعف التغذية والأمراض
وتشير الدراسات في مجال التغذية إلى أنه كان لها دور كبير في نجاح بعض الحملات العسكرية أو فشلها. ففي القرن الثامن عشر كان داء الأسقربوط (مرض ينتج عن نقص فيتامين سي) سبباً في خسارة الأرواح بين البحارة، ومات مئات البحارة من أسطول اللورد أنسون أثناء طوافهم حول العالم بين عامي 1740- 1744.
وفي عام 1747، قام الطبيب جيمس ليند الذي كان يخدم على متن السفينة "إتش إم إس سيلبوري" التابعة للبحرية الملكية البريطانية بمحاولة لعلاج مرض الأسقربوط. وأوصى في دراسة نشرت سنة 1753 بضرورة وجود الحمضيات لمعالجة أفراد البحرية الملكية البريطانية ووقايتهم من هذا المرض.
وفي عام 1776 كتب الكابتن جيمس كوك من البحرية الملكية البريطانية أن إضافة الشعير والملفوف المخلل والكرفس البري إلى وجبات البحارة، فضلاً عن الالتزام الصارم بقواعد النظافة وتوفير الماء العذب، كل ذلك يقلّل من الإصابة بالأسقربوط.
وفي عام 1775 أقر الكونجرس الأمريكي أن جميع العسكريين المدرجين في الجيش الأمريكي يجب أن يتناولوا البازيلاء والفاصولياء ونصف ليتر من الحليب بالإضافة إلى مخصصاتهم اليومية من اللحم والخبز. وكان ذلك القرار تعبيراً عن إدراك أهمية وجود الأغذية الطازجة في برنامج التغذية المتبع في الجيوش. ولكن عدم توفر تقنيات حفظ الأطعمة والتبريد في ذلك الوقت جعل وصول الأطعمة الطازجة للجنود في الميدان صعباً.
مشكلة حفظ الأطعمة
وكان حفظ الطعام لمدة طويلة من المعضلات الكبيرة التي تواجه قادة الجيوش حتى سنة 1800. غير أن أحد الطهاة الفرنسيين، ويدعى نيكولاس بيرت، استجاب لإعلان نابليون بونابرت عن تخصيص جائزة مالية قدرها 12000 فرنك فرنسي لمن يجد طريقة لحفظ طعام الجيش لمدة طويلة، فقد استعمل هذا الطاهي أوعية زجاجية محكمة الإغلاق تمنع دخول الهواء، واضعاً بذلك حجر الأساس لصناعة تعليب الأغذية.
ولاحقاً قام التاجر الإنجليزي بيير دوراند باستعمال العلب المعدنية المحكمة الإغلاق سنة 1810. وبعد ثلاث سنوات بدأ الجيش البريطاني والبحرية الملكية بتقديم الطعام المعلب في عبوات معدنية.
إن مقولة نابليون الشهيرة: "إن الجيش يمشي على معدته" تجلت بوضوح خلال الفشل الكبير الذي مني به جيشه البالغ تعداده 600000 عسكري في أثناء غزوه لروسيا، حيث أدت سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها الجيش الروسي أثناء اندحاره، وطول خطوط الإمداد لجيش نابليون المتقدم إلى اضطراره للتراجع بعد خمسة أشهر لفقدانه آلاف العسكريين بسبب الجوع و المرض.
وخلال الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) حالت الظروف دون وصول المخصصات الغذائية الطازجة بشكل كامل إلى الجنود، فانتشرت أمراض مثل التيفوئيد والإسهال والالتهابات المعوية بكثرة بسبب تلوث الماء والأطعمة، ما أدى إلى وفيات كثيرة.
وفي أثناء الحرب الأمريكية-الإسبانية في نهاية القرن التاسع عشر أصيب الكثير من الجنود بالأمراض نتيجة تناولهم الأغذية الفاسدة. وبالرغم من تحسن مستوى المخصصات الغذائية فإنه لم يتم البدء بتوزيع الأغذية الطازجة على الجنود حتى الحرب العالمية الأولى حيث أتاح التطور التكنولوجي إمكانية إيصال اللحوم الطازجة والبيض والألبان والخضار إلى ميادين القتال.
التغذية العسكرية في القرن العشرين
في بداية القرن العشرين بدأ الاهتمام الجدي بالتغذية الصحيحة للجنود؛ بعد أن ثبت أن الجندي الذي يتلقى تغذية جيدة لا يكون بصحة أفضل فحسب، بل يكون في حالة نفسية أفضل تؤهله لتجاوز الصعوبات التي قد تواجهه. وبدأ التنويع في تغذية الجنود لتكون متلائمة مع المكان الذي يتجمعون فيه، فالتغذية في الثكنات تختلف عن التغذية في أرض المعركة، وكذلك عن المشافي.
وبينما توقفت أبحاث التغذية العسكرية في الفترة الواقعة بين الحربين الأولى والثانية قامت عصبة الأمم بتشكيل لجنة التغذية لوضع توصيات تفصيلية تعتمد على المبادئ العلمية لعلم التغذية. وقد أكدت هذه اللجنة في تقريرها النهائي أهمية الخضار والفاكهة والحليب في الحصول على تغذية سليمة.
وقد أجريت بين عامي 1946-1941 أكثر من 30 دراسة ميدانية لتقييم الصحة الغذائية للجنود في مختلف البيئات.
وفي عام 1958 تم في الولايات المتحدة دمج مختبر التغذية العسكرية مع قسم البحوث والتطوير في مشفى "فيتزسايمنز" العام لتشكيل ما عرف بـ"مختبر البحوث الطبية و التغذية العسكري" الذي سرعان ما أصبح المختبر الرائد في أبحاث التغذية. وانتقل المختبر في عام 1973 إلى سان فرانسيسكو حيث أصبح اسمه "مؤسسة ليترمان العسكرية للبحوث".
في عام 1967، قامت اللجنة المشتركة لبحوث التغذية العسكرية بنشر عشرة أبحاث تناقش قضايا مثل المجاعة وسوء التغذية والمخاطر الصحية المتعلقة بذلك، ونتج عن هذه البحوث العديد من برامج التغذية، مثل:"برنامج طوابع الغذاء" و"برنامج التغذية للمسنين" و"برنامج المكملات الغذائية للنساء والأطفال والرضع" و"برنامج الإصلاح الغذائي العسكري".
وكانت مؤسسة ليترمان العسكرية للبحوث في طليعة المهتمين بالتغذية العسكرية، حيث هدفت أبحاثها إلى تطوير منهجيات جديدة لقياس حاجة الفرد المفترضة من الغذاء، وتعريف الملوثات الغذائية، وتقييم الحاجة الغذائية للجندي. وقام علماؤها أيضاً بإجراء دراسات حول مكونات غذائية محددة مثل الكربوهيدرات، والحديد، وفيتامين A، وفيتامين C وغيرها. وبالرغم من كونها مؤسسة عسكرية فقد ساهمت بحوثها في تطوير مفهوم التغذية بشكل عام على المستوى المدني، ولكن في عام 1980 تم تعليق عمل هذه المؤسسة.
وفي عام 1986 استعاد الجيش الأمريكي زمام المبادرة في أساسيات وتطبيق علم التغذية العسكرية بإشراف برنامج البحث والإطعام الحربي التابع لوزارة الدفاع، الذي قدم الأسس البحثية والتكنولوجية والهندسية لنظم التغذية الحربية.
وفي التسعينيات تم إجراء العديد من بحوث التغذية، بما في ذلك تأثير التغذية في نظام المناعة وعلاقة التغذية بالإصابة بالأمراض أثناء إجراء التدريبات القاسية، ودور توازن الطاقة في مقاومة الأمراض، وقد أدت هذه الدراسة الأخيرة إلى تعديل بعض المخصصات الغذائية للجنود المتدربين.
ويقوم علماء من مركز "بيننغتون" للبحوث الطبية الحيوية، وعلماء من "قسم التغذية العسكرية" بتحسين تقنيات الحصص الغذائية، ومعالجة مسائل التغذية، ووضع برامج جديدة للحفاظ على الوزن المثالي للجنود بما يحسن مستوى الأداء القتالي لديهم.
إن الإدارات المسؤولة عن الإطعام في الجيوش المعاصرة تعتمد في أدائها على برامج وكتيبات إرشادية وضعت بشكل علمي ومدروس لتشكل سياسات التغذية العسكرية. وهذه السياسات وضعت لتكون الضابط والناظم لمقاولي الإطعام والمطابخ العسكرية التي تقدم خدماتها للجيوش.
التغذية أثناء العمليات العسكرية
إن الغاية من الوجبات الميدانية هي تقديم نظام غذائي أقرب ما يكون إلى الطبيعي بجميع الظروف، وعادة يجب استبدال الوجبات الميدانية بالوجبات الطازجة خلال 40 يوماً كحد أقصى.
إن الوجبة الميدانية يجب أن تمنح الجندي نحو أربعة آلاف سعرة حرارية، ويجب أن تحتوي على 650 غراماً من الكربوهيدرات، و130 غراماً من البروتين، و90 غراماً من الدسم. وتتألف الوجبة الميدانية من وجبة فطور ووجبة رئيسية ووجبة خفيفة (مكملات غذائية، وبسكويت، وحلويات) وحساء ومشروبات.
وعادة ما تكون هذه الوجبات معبأة بعبوات من ورق الألمنيوم يمكن تسخينها عن طريق غمسها بالماء الساخن أو طهوها على مواقد الهيكسامين.
تغذية الجرحى
إن الأفراد اللذين يتلقون إصابات متعددة ويخضعون لعناية طبية مكثفة غالباً ما يصابون بفقدان الوزن الشديد ويخسرون الكثير من الكتلة العضلية لديهم. وحتى في حال توفر أفضل العناية الطبية فإن التعافي من حالات كهذه قد يستغرق أشهراً. وعودة الجسم إلى حالته الطبيعية وعودة الفرد إلى ممارسة مهامه يستغرقان فترة أطول.
إن المرضى العسكريين عادة ما يشكلون مزيجاً متماثلاً أكثر مما يشاهد عادة في المشافي ووحدات العناية الفائقة المدنية. فغالبية المصابين بنتيجة الصراعات العسكرية هم من الذكور الشباب (اليافعين) ممن يتمتعون بلياقة عالية ويعانون من اختلاطات مرضية أقل. ولذلك ربما لا تكون جميع الدراسات المتعلقة بتغذية المرضى ملائمة أو صحيحة بالنسبة للمصابين العسكريين.
ولكن، وبسبب غياب الدراسات الحديثة المتخصصة بتغذية المصابين العسكريين في وحدات العناية الفائقة، فلا يوجد بد من الاعتماد على الدراسات الطبية المدنية مع أخذ الملاحظات المذكورة أعلاه بعين الاعتبار.
التغذية في القوات المسلحة الإماراتية
تولي القيادة العامة للقوات المسلحة في دولة الإمارات العربية المتحدة اهتماماً كبيراً بتغذية منتسبيها من أفراد وصف ضباط وضباط، سواء في ثكناتهم العسكرية أو في الميدان، أو في المشافي، وتحرص على تأمين أفضل أنواع الأطعمة المتنوعة التي تفي بحاجة الجندي في مختلف الظروف والحالات.
وفي هذا الإطار نظمت كلية زايد الثاني العسكرية في عام 2013 "فعاليات التثقيف الغذائي والصحي" تضامناً مع اليوم العالمي للتغذية والذي يصادف 16 أكتوبر من كل عام، وذلك في إطار رفع مستوى الوعي الصحي وتنبيههم بالمخاطر الصحية للعادات الغذائية السيئة وكيفية تجنبها والوقاية منها، وقد قام قسم التغذية والصحة في الكلية بتنظيم الفعاليات والأنشطة المختلفة المصاحبة لها، مثل الفحوصات الطبية لبعض الأمراض كقياس ضغط الدم، وفحص السكر في الدم، وهشاشة العظام، فضلاً عن إعطائهم توعية صحية عن مخاطر مرض السكر وارتفاع ضغط الدم، بالإضافة إلى التعرف على الوزن ومؤشر كتلة الجسم، وإعطائهم أيضاً بعض الإرشادات الهامة في مجال التغذية ونوعية المأكولات والمشروبات ونسبة الأملاح والسكريات ونسبة الدهون في الأطعمة المختلفة، مع توفير المنشورات والكتيبات التثقيفية للحضور تتناول باختصار أسباب سوء الصحة العامة ومسببات الأمراض في هذا العصر وطرق تجنبها.
http://www.nationshield.ae/home/details/research/التغذية-العسكرية:-أهميتها-وتاريخها/#.Vfr4-9wdBFQ