سؤال يطرح نفسه ما الذي يجعل الحديث يتطرق إلى الحرب العالمية الرابعة دون أن تكون هناك في الأصل حرب عالمية ثالثة؟ لتناول هذا الموضوع لا بد من توخّي التدرّج المنطقي وذلك بأن تتم الإشارة أولا إلى الحرببين العالميتين الأولى والثانية اللتين شهدهما التاريخ في غضون القرن الماضي، والتي كانت المعارك خلالهما من الشمولية والإتساع بحيث غدت مناطق عديدة في بلدان العالم جبهات قتال.
وتبعا لذلك، فإذا قُدّر للبشرية أن تشهد حربا عالمية أخرى فستأتي في التسلسل الثالث، وستكون وفقا للمعطيات القائمة من طراز فريد إلى حد بعيد وعلى نحو تشكل فيه، من فرط ضراوتها وشدتها، حالة من الدمار البالغ لم يسبق لها مثيل. وبالتالي فإن التأثير العميق لهكذا حرب والتداعيات المترتبة سيُقرّران ماهية القوى والوسائط التي ستكون متاحة ومتيسّرة للحرب التي تليها، أي الحرب العالمية الرابعة!
من المتعارف عليه عسكريا أن لكل حرب أسبابا حقيقية، فعلى خلفية أوضاع محددة سادت أوروبا خلال النصف الأول من القرن الماضي، كانت خلالها الروح القومية والتكتلات الإقليمية والتحالفات المنبثقة عنها هي السمة المميزة للمشهد السياسي والعسكري في هذه القارة، عليه فقد أمست الأمور حينئذ تنحو إلى منعرجات بالغة التعقيد. وقد أدّى تشابك المصالح واحتدام النزاع بسبب المنافسة الإستعمارية والإقتصادية الشديدة إلى تصاعد وتيرة التطلعات التوسعية التي غدت الشغل الشاغل للقادة والزعماء الأروبيين، وقد تحوّلت في تلك الأثناء النعرات الملتهبة والتهافت على الهيمنة وبسط النفوذ إلى عوامل واقعية تُذكي النزعة العدائية وتجذّرها في نفوس بعض الدول الأوروبية المتنافرة، مما أجّج مشاعر الحقد والضغينة فيما بينها. وفي خضم هذه الأوضاع المحتقنة ظل كل طرف يفكر في تقصّي أنجع السبل الممكنة للإطاحة بخصمه والعمل على تدمير مقوماته تدميرا ساحقا، لذا كان لا بد من إعداد العدّة لخوض هذه المواجهات المصيرية.. من أجل ذلك عكف المبتكرون على اختراع وتطوير شتى أنواع الأسلحة والعتاد الحربي استعدادا لخوض حرب منتظرة أصبحت طبولها تدق في أرجاء القارة. وعلى هذه الوتيرة ظل جبل البارود في البلدان الأوروبية ينمو ويتضخم على مدى عقود من الزمن في انتظار شرارة الإشعال. وما أن جاءت ساعة الصفر حتى انطلقت المناوشات التي أفضت إلى اندلاع حربين متتتاليتين اكتوى العالم بنارهما وقد خلّفتا عشرات الملايين من القتلى في صفوف العسكريين والمدنيين، ناهيك عن أكثر من ذلك من المفقودين والمصابين.
في هذا المقام لسنا بصدد التصدّي لمجريات المعارك أو التركيز على النتائج أو الخسائر والتداعيات.. وإنما حسبنا أن نسلط شيئا من الضوء على أبرز الأسلحة والوسائط القتالية المستخدمة في كل حرب من الحروب التي يتناولها هذا المقال.
الحرب العالمية الأولى (1914-1918):
حرب سجّلت أول نزاع شامل دار بين البشر، وقد لجأ في غضونها الطرفان المتحاربان إلى استخدام أحدث ما كان متاحا من تقنيات وإمكانيات في ذلك الوقت. كانت الوسائل القتالية التي استخدمت في المعارك البرية لهذه الحرب هي في المجمل الأسلحة ذاتية الحركة والمدافع الرشاشة وأنظمة المدفعية التي أدّى تطويرها إلى رفع كثافة نيرانها وهو ما تسبب في إحداث أكبر الخسائر في صفوف الأفراد على نحو لم يسبق له مثيل في حروب محلية سالفة، ناهيك عن الدمار البالغ على مستوى المجهود الحربي وفي مختلف المنشآت والمباني. ولمّا كانت الدبابة قد ظهرت كسلاح جديد في ساحات الوغى في المراحل الأخيرة من الحرب، فقد شكل ابتكارها مباغتة للجميع حينما قامت القوات البريطانية باستخدام أعداد كبيرة من هذا الصنف من السلاح بشكل مفاجئ ولأول مرة في المعارك الدائرة على نحو لم تستطع معه القوات الألمانية مجاراة تطور الموقف. وفي المحيطات استخدمت الأساطيل بكثافة في المعارك البحرية وقد لعبت دورا محوريا في مساندة مجرى العمليات بشكل عام، وفي تلك الأثناء ظلت الغواصات الألمانية في مواجهة سلاح البحر البريطاني، غير أن القيادة البريطانية عمدت إلى استخدام أسلوب القوافل البحرية للتصدّي لتلك الغوّاصات. أما بالنسبة للطيران الحربي فقد ظهر حديثا واستعمل لأول مرة، لذا فقد كان استخدامه محدودا نسبيا خلال المعارك.
هذا ومن الخصائص الإستثنائية التي تميّزت بها الحرب العالمية الأولى هو الإستخدام المتلاحق للأسلحة الكيميائية على نطاق واسع، سواء من قبل الألمان أو من قبل الحلفاء وذلك على طول جبهات القتال، ما أدّى إلى خسائر فادحة منقطعة النظير في صفوف القوة العمومية للأفراد لدى طرفي النزاع. وقد وُصف ذلك بأنه أشرس مجازر كيميائية دارت في تاريخ البشرية، وهو ما رفع نسق الخسائر في الأرواح إجمالا.
الحرب العالمية الثانية (1939-1945):
عندما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها كانت تلوح في الأفق بوادر حرب ثانية أشد وأقوى من سابقتها، وهذا ما حصل بالفعل إذ لم تكد تمر عشرون سنة حتى حمي الوطيس من جديد وجاءت الحرب العالمية الثانية. إتسمت هذه الحرب بكونها أشد الحروب إبادة وتدميرا على الإطلاق، وذلك بفعل الحجوم الضخمة للقوات والوسائط القتالية المستخدمة فيها، فبالإضافة إلى الإبقاء على الأصناف المطوّرة من أسلحة الحرب العالمية الأولى، فسحت الحرب العالمية الثانية مجالا واسعا لاستخدام أجيال جديدة من أسلحة متنوّعة لصنوف القوات البرية والبحرية والجوية ذات الكثافة النيرانية العالية والقدرة التدميرية العظيمة. ذلك أنه حتى خلال سنوات الحرب ظلت برامج التصنيع الحربي في أوروبا وأمريكا وآسيا نشطة للغاية على مستوى التصميم والتطوير والإنتاج، ما جعل آلة الحرب تتدفّق على نحو موصول لإمداد الجبهات بشتى المعدّات ومختلف أنواع الذخائر بما دفع باتجاه إدامة النشاط القتالي وتعزيز زخم العمليات لدى الأطراف المتصارعة.. ففي العمليات البرية مثلا تبوّأت معارك الدبّابات في أغلب الجبهات مركز الصدارة حيث خرجت إلى حيز الوجود دبابة النمر الألمانية التي أرهبت قوات الحلفاء وبثت الرعب في صفوفهم، وفي المقابل كانت الدبابة الروسية تي34 بدورها قد أبلت بلاء منقطع النظير من حيث الكفاءة والتأثير أثناء سير العمليات. وكل ذلك أعطى زخما فريدا لمعارك الدبابات في ساحات القتال. كما اشتهرت في هذه الحرب راجمات الصواريخ "الكاتيوشيا" الروسية الصنع وقد لعبت دورا جوهريا في إسناد العمليات التكتيكية. وفي المجال البحري ظلت الأساطيل البحرية تُستخدم على نطاق واسع بمختلف أحجامها وهي تجوب المحيطات لتنفيذ شتى المهام القتالية في عرض البحر، وتنفيذ عمليات الإنزال. وتعد حاملة الطائرات الأمريكية العملاقة "بارنز" من أبرز ما استخدم في مضمار الأساطيل البحرية لكونها قادرة على حمل وإقلاع مختلف الطائرات الحربية والتي يصل عددها حتى المائة بين قاذفة ونفّاثة وعامودية. هذا وقد خرج إلى حيّز الوجود إبّان الحرب العالمية الثانية شكل غير معهود من القتال وهو ما يطلق عليه الحرب الجوية الشاملة، وقد تطوّر استخدام القوة الجوية وتكتيك تعاونها مع القوة البرية والبحرية، وفي هذا الإطار ظهرت الطائرة البريطانية "أفرو لانكاستر" التي فرضت وجودها كقاذفة ذات طاقة استيعابية هائلة وقدرة كبيرة على إلقاء القنابل ذات العيارات الثقيلة لتدمير الأهداف الألمانية بما في ذلك الأحياء السكنية. وفي المقابل كانت الدول الكبرى بدورها تمتلك طيرانا حربيا مضاهيا لما تستخدمه القوات البريطانية. ولمّا كان التفوّق الجوي يكتسي أهمية بالغة، لذلك فقد اعتمدت الأطراف المتخاصمة على الطيران الحربي اعتمادا كبيرا في مساندة التشكيلات القتالية وفي الحاق التأثير المدمّر للمجهود الحربي لبعضهم البعض، بما في ذلك ضرب الأهداف المدنية.
ومما يجدر ذكره في الجولة الأخيرة من مجريات الحرب العالمية الثانية هو استخدام السلاح النووي لأول مرة، وذلك ضمن تطور إستثنائي آلت إلية وتيرة الصراع في عملية غير مسبوقة نفذها سلاح الجو الأمريكي حينما ألقى قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، ما أدى إلى حرق وتدمير شبه كلي للمدينتين وإلى قتل عشرات الآلاف من السكان على الفور ووفاة عشرات آلاف آخرين بشكل متلاحق.
الحرب العالمية الثالثة:
موعدها ووقوعها من عدمه من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله، أما في الظاهر فيمكن اعتبارها حربا افتراضية من المرجّح إذا اندلعت أن تطال تبعاتها أرجاء واسعة من العالم، ومن المرجّح أيضا أن تكون حربا نووية بامتياز. ويُذكر أن أزمة الصواريخ الكوبية في سنة 1969، كانت على وشك أن تضرم نار حرب نووية شاملة بين المعسكرين الشرقي والغربي آنذاك، لو لم يتم احتواء هذه الأزمة في الوقت المناسب. وعلى الرغم من انخفاض احتمالات قيام حرب عالمية أخرى على غرار الأولى والثانية بعد انحسار الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي سابقا، غير أن الكثير من المعطيات الموجودة على الأرض تجعل احتمال قيام حرب واسعة النطاق ليس ضربا من الإستحالة. هذه الحرب إذا نشب فإنها قد تفضي إلى دمار ساحق باعتبار وجود عشرات الآلاف من الرؤوس النووية الجاهزة للإستخدام لدى العديد من الدول، وهو مخزون من الكثافة وشدة التأثير بما يكفي لتدمير العالم برمّته. وما يزيد الحال سوءا في هذا السياق هو الحرص الشديد التي توليه بعض الدول الكبرى على التمسك بسباق التسلح، ومواصلة بناء الترسانات العسكرية ونشرها في ربوع العالم، ومثابرة هذه الدول على الإعتناء الدؤوب ببرامج التطوير. إن كل ذلك يُعدّ بمثابة قنبلة موقوتة قابلة للإنفجار مع أي تطوّرات مفاجئة أو تغيّرات طارئة غير محسوبة أو لدى حدوث أي اختلال أو فقدان للسيطرة، ولا سيما في ظل ما يشهده العالم من بؤر توتّر وقلة استقرار.
عموما هذه الحرب الإفتراضية إذا اشتعلت واشتد وطيسها فإنها ستكون مجالا فسيحا لاستخدام أحدث ما ابتكرته تكنولوجيا العصر ومنها على سبيل المثال لا الحصر؛ الصواريخ البالستية والقنابل الذكية والأسلحة الليزرية والطائرات بدون طيار ووسائل الاتصال المبتكرة والتقنية الرقمية وأنظمة الأقمار الإصطناعية، إلى غير ذلك من الوسائل القتالية التي من بينها ترسانات هائلة من أسلحة فتاكة أخرى محاطة بسياج من الكتمان ويكتنفها الغموض، ما تنتفي معه إمكانية الإلمام بخصائصها في الأغلب، وقد غدا أمرها أشبه ما يكون بالخيال العلمي.. أما من جهة أخرى فمن المؤكد ألّا تُجرى حرب من هذا النوع بمنأى عن استخدام السلاح النووي، وبالتالي فإنه من الواضح جدا أن الآثار التدميرية الكبرى ستكون ناجمة عن هذه الشريحة من وسائل الدمار الشامل. ذلك أن المخزونات الهائلة ذات الجاهزية من السلاح النووي إذا استخدم بعضها أو كلها بكثافة وعلى مستوى واسع، فإن المشهد سيتحول بالفعل إلى واقعة كارثية عمومية وغير مسبوقة على مستوى العالم. وذلك أولا بفعل الدمار الشامل الذي سيخلّفه ذلك السلاح جرّاء موجات العصف الفائقة والحرائق الهائلة، ثم لاحقا من جرّاء تأثيرات الإشعاع النافذ الذي قد ينتشر بقياسات عالية في الجو والأرض والبحر محدثا الشيء الكثير من التلوث المميت الذي يتفشّى في ربوع الكون، ليلحق الضرر البالغ بعناصر النظام البيئي ويقضي تدريجيا على مكوناته الطبيعية. وعلى هذا الأساس يُعتقد أن حربا ساحقة بهذه المواصفات ستكون الضربة القاصمة التي تكسر كل ما بناه الإنسان في مسيرته من حضارة مادية، وهو ما يُهدد بتحويل العالم إلى حالة من الإندثار والعدم.
الحرب العالمية الرابعة:
اعتمادا على مبادئ مسلّم بها عسكريا مفادها أن مسألة الصراع تشكل إحدى حقائق العلاقات البشرية منذ أقدم العصور وبالتالي فإن ظاهرة الحرب في حد ذاتها لا تتوقف مهما تبدّلت الأوضاع واختلفت الظروف. وتأسيسا على ذلك فإن الحرب العالمية الرابعة واقعة لا محالة ما دام هناك بشر على قيد الحياة، وإن أعتبرت هذه التسمية تعبيرا مجازيا وليس حقيقيا لحرب مستقبلية، لكنّ الإسم الحقيقي لها سيتم اختياره في حينه من واقع الخصائص الإستثنائية المميزة لها. وربما تتّسم هذه الحرب بصفة العالمية لجهة كونها قد تقع في أرجاء متناثرة من العالم وبقواسم مشتركة. هذه الحرب أنسب ما يمكن أن يقال فيها أنها حرب رمزية، استخدمت كعنوان للدلالة على حالة محدّدة يمكن تشخيص ملامحها على ضوء ما ستؤول إليه أوضاع العالم بعد الدمار الشامل الذي يلحق به وحينما تكون معالمه قد تحوّلت افتراضيا إلى الخراب. إذن لا مجال بعد هذا لحرب نظامية وإنّما الأمر يتعلّق في الغالب بحزمة من المشاجرات والإشتباكات الدامية التي تخاض من قبل بقايا الأجيال القادمة في أماكن متفرّقة من العالم بين مجتمعات متحالفة ذات مصالح مشتركة ضد مجتمعات أخرى معادية لها، وذلك غالبا بسبب التنافس على بعض المقدّرات المتواضعة التي ترتبط بالمعيشة اليومية. واللافت في هذا التصوّر أن المتحاربين سوف لن يجدوا أمامهم في تلك الأثناء من وسائل القتال سوى الهراوات والعصي والفؤوس والآلات الحادة، وذلك في إشارة إلى تحوّل النشاط العسكري إلى حالة الإنحدار من العصر النووي إلى الحضيض، ليعود معتمدا على الوسائل البدائية كما بدأ أول مرة في العصور الغابرة. وهنا لا يفوتنا أن نشير إلى مقولة صدرت على لسان إنشتاين يقول فيها على حد تعبيره: "أنا لا أعرف ما السلاح الذي سيستخدمه الإنسان في الحرب العالمية الثالثة، لكنني أعلم أنه سيستخدم العصا والحجر في الحرب العالمية الرابعة "
الخاتمـة:
النتيجة الآنفة الذكر لعلّها تمثل أسوأ الإحتمالات لما ستؤول إليه الأوضاع بعد الدمار الشامل الذي سيلحق بالعالم جراء الحرب النووية، وقد ارتكزت هذه النتيجة المُحزنة على فرضية مفادها قيام حرب كبرى لا تبقي ولا تذر، استنفدت في أتونها الأطراف المتحاربة كل الترسانات العسكرية ومخزونات الأسلحة الفتّاكة التي تمتلكها، ما أدى إلى تدمير العالم.. وحتى لا نكون على هكذا درجة من التشاؤم، فهناك في المقابل فرضية من نوع آخر لو صحّت لاستقرت الأوضاع ولتحقق السلام الحقيقي في العالم واستتب الأمن في أرجائه بما لا يدع مجالا لنشوب أي حرب شاملة مدمّرة لكوكب الأرض. هذه الفرضية مشروطة بعدة إصلاحات جوهرية منها المباشرة ومنها غير المباشرة؛ تبدأ في المقام الأول بالقضاء التام على كافة مخزونات أسلحة الدمار الشامل وعلى رأسها الأسلحة النووية، ومرورا بتصحيح المنظومة الدولية وترسيخ مبادئ العدل والإنصاف في ثناياها بما يجعلها قادرة على تطبيق العدالة الحقيقية في أنحاء العالم، ثم إيجاد صيغ أكثر موثوقية للتوافق بين الدول. وأخيرا وليس آخرا وجوب التعامل مع الإرهاب إجمالا على أنه من العوامل التي قد تمتدّ انعكاساتها إلى زعزعة الإستقرار العالمي، وتهديد الأمن والسلم الدوليين، ومن ذلك الإرهاب المنظم الذي يمارسه الكيان الصهيوني في الأراضي المحتلّة والتداعيات المنبثقة من ورائه.
فرضية تدمير العالم وفرضية إحلال سلام عادل فيه؛ خياران متناقضان شتّان ما بينهما!
http://www.almusallh.ly/ar/thoughts/604-4th-world-war
وتبعا لذلك، فإذا قُدّر للبشرية أن تشهد حربا عالمية أخرى فستأتي في التسلسل الثالث، وستكون وفقا للمعطيات القائمة من طراز فريد إلى حد بعيد وعلى نحو تشكل فيه، من فرط ضراوتها وشدتها، حالة من الدمار البالغ لم يسبق لها مثيل. وبالتالي فإن التأثير العميق لهكذا حرب والتداعيات المترتبة سيُقرّران ماهية القوى والوسائط التي ستكون متاحة ومتيسّرة للحرب التي تليها، أي الحرب العالمية الرابعة!
من المتعارف عليه عسكريا أن لكل حرب أسبابا حقيقية، فعلى خلفية أوضاع محددة سادت أوروبا خلال النصف الأول من القرن الماضي، كانت خلالها الروح القومية والتكتلات الإقليمية والتحالفات المنبثقة عنها هي السمة المميزة للمشهد السياسي والعسكري في هذه القارة، عليه فقد أمست الأمور حينئذ تنحو إلى منعرجات بالغة التعقيد. وقد أدّى تشابك المصالح واحتدام النزاع بسبب المنافسة الإستعمارية والإقتصادية الشديدة إلى تصاعد وتيرة التطلعات التوسعية التي غدت الشغل الشاغل للقادة والزعماء الأروبيين، وقد تحوّلت في تلك الأثناء النعرات الملتهبة والتهافت على الهيمنة وبسط النفوذ إلى عوامل واقعية تُذكي النزعة العدائية وتجذّرها في نفوس بعض الدول الأوروبية المتنافرة، مما أجّج مشاعر الحقد والضغينة فيما بينها. وفي خضم هذه الأوضاع المحتقنة ظل كل طرف يفكر في تقصّي أنجع السبل الممكنة للإطاحة بخصمه والعمل على تدمير مقوماته تدميرا ساحقا، لذا كان لا بد من إعداد العدّة لخوض هذه المواجهات المصيرية.. من أجل ذلك عكف المبتكرون على اختراع وتطوير شتى أنواع الأسلحة والعتاد الحربي استعدادا لخوض حرب منتظرة أصبحت طبولها تدق في أرجاء القارة. وعلى هذه الوتيرة ظل جبل البارود في البلدان الأوروبية ينمو ويتضخم على مدى عقود من الزمن في انتظار شرارة الإشعال. وما أن جاءت ساعة الصفر حتى انطلقت المناوشات التي أفضت إلى اندلاع حربين متتتاليتين اكتوى العالم بنارهما وقد خلّفتا عشرات الملايين من القتلى في صفوف العسكريين والمدنيين، ناهيك عن أكثر من ذلك من المفقودين والمصابين.
في هذا المقام لسنا بصدد التصدّي لمجريات المعارك أو التركيز على النتائج أو الخسائر والتداعيات.. وإنما حسبنا أن نسلط شيئا من الضوء على أبرز الأسلحة والوسائط القتالية المستخدمة في كل حرب من الحروب التي يتناولها هذا المقال.
الحرب العالمية الأولى (1914-1918):
حرب سجّلت أول نزاع شامل دار بين البشر، وقد لجأ في غضونها الطرفان المتحاربان إلى استخدام أحدث ما كان متاحا من تقنيات وإمكانيات في ذلك الوقت. كانت الوسائل القتالية التي استخدمت في المعارك البرية لهذه الحرب هي في المجمل الأسلحة ذاتية الحركة والمدافع الرشاشة وأنظمة المدفعية التي أدّى تطويرها إلى رفع كثافة نيرانها وهو ما تسبب في إحداث أكبر الخسائر في صفوف الأفراد على نحو لم يسبق له مثيل في حروب محلية سالفة، ناهيك عن الدمار البالغ على مستوى المجهود الحربي وفي مختلف المنشآت والمباني. ولمّا كانت الدبابة قد ظهرت كسلاح جديد في ساحات الوغى في المراحل الأخيرة من الحرب، فقد شكل ابتكارها مباغتة للجميع حينما قامت القوات البريطانية باستخدام أعداد كبيرة من هذا الصنف من السلاح بشكل مفاجئ ولأول مرة في المعارك الدائرة على نحو لم تستطع معه القوات الألمانية مجاراة تطور الموقف. وفي المحيطات استخدمت الأساطيل بكثافة في المعارك البحرية وقد لعبت دورا محوريا في مساندة مجرى العمليات بشكل عام، وفي تلك الأثناء ظلت الغواصات الألمانية في مواجهة سلاح البحر البريطاني، غير أن القيادة البريطانية عمدت إلى استخدام أسلوب القوافل البحرية للتصدّي لتلك الغوّاصات. أما بالنسبة للطيران الحربي فقد ظهر حديثا واستعمل لأول مرة، لذا فقد كان استخدامه محدودا نسبيا خلال المعارك.
هذا ومن الخصائص الإستثنائية التي تميّزت بها الحرب العالمية الأولى هو الإستخدام المتلاحق للأسلحة الكيميائية على نطاق واسع، سواء من قبل الألمان أو من قبل الحلفاء وذلك على طول جبهات القتال، ما أدّى إلى خسائر فادحة منقطعة النظير في صفوف القوة العمومية للأفراد لدى طرفي النزاع. وقد وُصف ذلك بأنه أشرس مجازر كيميائية دارت في تاريخ البشرية، وهو ما رفع نسق الخسائر في الأرواح إجمالا.
الحرب العالمية الثانية (1939-1945):
عندما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها كانت تلوح في الأفق بوادر حرب ثانية أشد وأقوى من سابقتها، وهذا ما حصل بالفعل إذ لم تكد تمر عشرون سنة حتى حمي الوطيس من جديد وجاءت الحرب العالمية الثانية. إتسمت هذه الحرب بكونها أشد الحروب إبادة وتدميرا على الإطلاق، وذلك بفعل الحجوم الضخمة للقوات والوسائط القتالية المستخدمة فيها، فبالإضافة إلى الإبقاء على الأصناف المطوّرة من أسلحة الحرب العالمية الأولى، فسحت الحرب العالمية الثانية مجالا واسعا لاستخدام أجيال جديدة من أسلحة متنوّعة لصنوف القوات البرية والبحرية والجوية ذات الكثافة النيرانية العالية والقدرة التدميرية العظيمة. ذلك أنه حتى خلال سنوات الحرب ظلت برامج التصنيع الحربي في أوروبا وأمريكا وآسيا نشطة للغاية على مستوى التصميم والتطوير والإنتاج، ما جعل آلة الحرب تتدفّق على نحو موصول لإمداد الجبهات بشتى المعدّات ومختلف أنواع الذخائر بما دفع باتجاه إدامة النشاط القتالي وتعزيز زخم العمليات لدى الأطراف المتصارعة.. ففي العمليات البرية مثلا تبوّأت معارك الدبّابات في أغلب الجبهات مركز الصدارة حيث خرجت إلى حيز الوجود دبابة النمر الألمانية التي أرهبت قوات الحلفاء وبثت الرعب في صفوفهم، وفي المقابل كانت الدبابة الروسية تي34 بدورها قد أبلت بلاء منقطع النظير من حيث الكفاءة والتأثير أثناء سير العمليات. وكل ذلك أعطى زخما فريدا لمعارك الدبابات في ساحات القتال. كما اشتهرت في هذه الحرب راجمات الصواريخ "الكاتيوشيا" الروسية الصنع وقد لعبت دورا جوهريا في إسناد العمليات التكتيكية. وفي المجال البحري ظلت الأساطيل البحرية تُستخدم على نطاق واسع بمختلف أحجامها وهي تجوب المحيطات لتنفيذ شتى المهام القتالية في عرض البحر، وتنفيذ عمليات الإنزال. وتعد حاملة الطائرات الأمريكية العملاقة "بارنز" من أبرز ما استخدم في مضمار الأساطيل البحرية لكونها قادرة على حمل وإقلاع مختلف الطائرات الحربية والتي يصل عددها حتى المائة بين قاذفة ونفّاثة وعامودية. هذا وقد خرج إلى حيّز الوجود إبّان الحرب العالمية الثانية شكل غير معهود من القتال وهو ما يطلق عليه الحرب الجوية الشاملة، وقد تطوّر استخدام القوة الجوية وتكتيك تعاونها مع القوة البرية والبحرية، وفي هذا الإطار ظهرت الطائرة البريطانية "أفرو لانكاستر" التي فرضت وجودها كقاذفة ذات طاقة استيعابية هائلة وقدرة كبيرة على إلقاء القنابل ذات العيارات الثقيلة لتدمير الأهداف الألمانية بما في ذلك الأحياء السكنية. وفي المقابل كانت الدول الكبرى بدورها تمتلك طيرانا حربيا مضاهيا لما تستخدمه القوات البريطانية. ولمّا كان التفوّق الجوي يكتسي أهمية بالغة، لذلك فقد اعتمدت الأطراف المتخاصمة على الطيران الحربي اعتمادا كبيرا في مساندة التشكيلات القتالية وفي الحاق التأثير المدمّر للمجهود الحربي لبعضهم البعض، بما في ذلك ضرب الأهداف المدنية.
ومما يجدر ذكره في الجولة الأخيرة من مجريات الحرب العالمية الثانية هو استخدام السلاح النووي لأول مرة، وذلك ضمن تطور إستثنائي آلت إلية وتيرة الصراع في عملية غير مسبوقة نفذها سلاح الجو الأمريكي حينما ألقى قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، ما أدى إلى حرق وتدمير شبه كلي للمدينتين وإلى قتل عشرات الآلاف من السكان على الفور ووفاة عشرات آلاف آخرين بشكل متلاحق.
الحرب العالمية الثالثة:
موعدها ووقوعها من عدمه من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله، أما في الظاهر فيمكن اعتبارها حربا افتراضية من المرجّح إذا اندلعت أن تطال تبعاتها أرجاء واسعة من العالم، ومن المرجّح أيضا أن تكون حربا نووية بامتياز. ويُذكر أن أزمة الصواريخ الكوبية في سنة 1969، كانت على وشك أن تضرم نار حرب نووية شاملة بين المعسكرين الشرقي والغربي آنذاك، لو لم يتم احتواء هذه الأزمة في الوقت المناسب. وعلى الرغم من انخفاض احتمالات قيام حرب عالمية أخرى على غرار الأولى والثانية بعد انحسار الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي سابقا، غير أن الكثير من المعطيات الموجودة على الأرض تجعل احتمال قيام حرب واسعة النطاق ليس ضربا من الإستحالة. هذه الحرب إذا نشب فإنها قد تفضي إلى دمار ساحق باعتبار وجود عشرات الآلاف من الرؤوس النووية الجاهزة للإستخدام لدى العديد من الدول، وهو مخزون من الكثافة وشدة التأثير بما يكفي لتدمير العالم برمّته. وما يزيد الحال سوءا في هذا السياق هو الحرص الشديد التي توليه بعض الدول الكبرى على التمسك بسباق التسلح، ومواصلة بناء الترسانات العسكرية ونشرها في ربوع العالم، ومثابرة هذه الدول على الإعتناء الدؤوب ببرامج التطوير. إن كل ذلك يُعدّ بمثابة قنبلة موقوتة قابلة للإنفجار مع أي تطوّرات مفاجئة أو تغيّرات طارئة غير محسوبة أو لدى حدوث أي اختلال أو فقدان للسيطرة، ولا سيما في ظل ما يشهده العالم من بؤر توتّر وقلة استقرار.
عموما هذه الحرب الإفتراضية إذا اشتعلت واشتد وطيسها فإنها ستكون مجالا فسيحا لاستخدام أحدث ما ابتكرته تكنولوجيا العصر ومنها على سبيل المثال لا الحصر؛ الصواريخ البالستية والقنابل الذكية والأسلحة الليزرية والطائرات بدون طيار ووسائل الاتصال المبتكرة والتقنية الرقمية وأنظمة الأقمار الإصطناعية، إلى غير ذلك من الوسائل القتالية التي من بينها ترسانات هائلة من أسلحة فتاكة أخرى محاطة بسياج من الكتمان ويكتنفها الغموض، ما تنتفي معه إمكانية الإلمام بخصائصها في الأغلب، وقد غدا أمرها أشبه ما يكون بالخيال العلمي.. أما من جهة أخرى فمن المؤكد ألّا تُجرى حرب من هذا النوع بمنأى عن استخدام السلاح النووي، وبالتالي فإنه من الواضح جدا أن الآثار التدميرية الكبرى ستكون ناجمة عن هذه الشريحة من وسائل الدمار الشامل. ذلك أن المخزونات الهائلة ذات الجاهزية من السلاح النووي إذا استخدم بعضها أو كلها بكثافة وعلى مستوى واسع، فإن المشهد سيتحول بالفعل إلى واقعة كارثية عمومية وغير مسبوقة على مستوى العالم. وذلك أولا بفعل الدمار الشامل الذي سيخلّفه ذلك السلاح جرّاء موجات العصف الفائقة والحرائق الهائلة، ثم لاحقا من جرّاء تأثيرات الإشعاع النافذ الذي قد ينتشر بقياسات عالية في الجو والأرض والبحر محدثا الشيء الكثير من التلوث المميت الذي يتفشّى في ربوع الكون، ليلحق الضرر البالغ بعناصر النظام البيئي ويقضي تدريجيا على مكوناته الطبيعية. وعلى هذا الأساس يُعتقد أن حربا ساحقة بهذه المواصفات ستكون الضربة القاصمة التي تكسر كل ما بناه الإنسان في مسيرته من حضارة مادية، وهو ما يُهدد بتحويل العالم إلى حالة من الإندثار والعدم.
الحرب العالمية الرابعة:
اعتمادا على مبادئ مسلّم بها عسكريا مفادها أن مسألة الصراع تشكل إحدى حقائق العلاقات البشرية منذ أقدم العصور وبالتالي فإن ظاهرة الحرب في حد ذاتها لا تتوقف مهما تبدّلت الأوضاع واختلفت الظروف. وتأسيسا على ذلك فإن الحرب العالمية الرابعة واقعة لا محالة ما دام هناك بشر على قيد الحياة، وإن أعتبرت هذه التسمية تعبيرا مجازيا وليس حقيقيا لحرب مستقبلية، لكنّ الإسم الحقيقي لها سيتم اختياره في حينه من واقع الخصائص الإستثنائية المميزة لها. وربما تتّسم هذه الحرب بصفة العالمية لجهة كونها قد تقع في أرجاء متناثرة من العالم وبقواسم مشتركة. هذه الحرب أنسب ما يمكن أن يقال فيها أنها حرب رمزية، استخدمت كعنوان للدلالة على حالة محدّدة يمكن تشخيص ملامحها على ضوء ما ستؤول إليه أوضاع العالم بعد الدمار الشامل الذي يلحق به وحينما تكون معالمه قد تحوّلت افتراضيا إلى الخراب. إذن لا مجال بعد هذا لحرب نظامية وإنّما الأمر يتعلّق في الغالب بحزمة من المشاجرات والإشتباكات الدامية التي تخاض من قبل بقايا الأجيال القادمة في أماكن متفرّقة من العالم بين مجتمعات متحالفة ذات مصالح مشتركة ضد مجتمعات أخرى معادية لها، وذلك غالبا بسبب التنافس على بعض المقدّرات المتواضعة التي ترتبط بالمعيشة اليومية. واللافت في هذا التصوّر أن المتحاربين سوف لن يجدوا أمامهم في تلك الأثناء من وسائل القتال سوى الهراوات والعصي والفؤوس والآلات الحادة، وذلك في إشارة إلى تحوّل النشاط العسكري إلى حالة الإنحدار من العصر النووي إلى الحضيض، ليعود معتمدا على الوسائل البدائية كما بدأ أول مرة في العصور الغابرة. وهنا لا يفوتنا أن نشير إلى مقولة صدرت على لسان إنشتاين يقول فيها على حد تعبيره: "أنا لا أعرف ما السلاح الذي سيستخدمه الإنسان في الحرب العالمية الثالثة، لكنني أعلم أنه سيستخدم العصا والحجر في الحرب العالمية الرابعة "
الخاتمـة:
النتيجة الآنفة الذكر لعلّها تمثل أسوأ الإحتمالات لما ستؤول إليه الأوضاع بعد الدمار الشامل الذي سيلحق بالعالم جراء الحرب النووية، وقد ارتكزت هذه النتيجة المُحزنة على فرضية مفادها قيام حرب كبرى لا تبقي ولا تذر، استنفدت في أتونها الأطراف المتحاربة كل الترسانات العسكرية ومخزونات الأسلحة الفتّاكة التي تمتلكها، ما أدى إلى تدمير العالم.. وحتى لا نكون على هكذا درجة من التشاؤم، فهناك في المقابل فرضية من نوع آخر لو صحّت لاستقرت الأوضاع ولتحقق السلام الحقيقي في العالم واستتب الأمن في أرجائه بما لا يدع مجالا لنشوب أي حرب شاملة مدمّرة لكوكب الأرض. هذه الفرضية مشروطة بعدة إصلاحات جوهرية منها المباشرة ومنها غير المباشرة؛ تبدأ في المقام الأول بالقضاء التام على كافة مخزونات أسلحة الدمار الشامل وعلى رأسها الأسلحة النووية، ومرورا بتصحيح المنظومة الدولية وترسيخ مبادئ العدل والإنصاف في ثناياها بما يجعلها قادرة على تطبيق العدالة الحقيقية في أنحاء العالم، ثم إيجاد صيغ أكثر موثوقية للتوافق بين الدول. وأخيرا وليس آخرا وجوب التعامل مع الإرهاب إجمالا على أنه من العوامل التي قد تمتدّ انعكاساتها إلى زعزعة الإستقرار العالمي، وتهديد الأمن والسلم الدوليين، ومن ذلك الإرهاب المنظم الذي يمارسه الكيان الصهيوني في الأراضي المحتلّة والتداعيات المنبثقة من ورائه.
فرضية تدمير العالم وفرضية إحلال سلام عادل فيه؛ خياران متناقضان شتّان ما بينهما!
http://www.almusallh.ly/ar/thoughts/604-4th-world-war