قناة السويس الجديدة “مانع استراتيجي أم مدخل للتنمية” (دراسة بحثية)
الخميس, يوليو 30, 2015 | هيثم البشلاوي | 3:09:00 مهذه الدراسة البحثية فصل من كتاب كامل تحت عنوان “سيناء استراتيجية الدفاع والتنمية” والذي سيصدر قريبا عن مؤسسة البديل للطباعة والنشر والتوزيع
اعداد: هيثم البشلاوي
المقدمةاعداد: هيثم البشلاوي
“لم يؤثر عمل انساني مادي على علاقات الأمم بالقدر الذي فعله شق قناة السويس، إذ من الصعب أن نتصوَّر إنجازًا آخر في حدود القدرة البشرية يمكن أن يغيّر أوضاع الطبيعة أكثر منها، فبعملية «جراحية» جغرافية بسيطة، تمَّ اختزال قارة بأكملها هي إفريقيا. القناة أعادت وضع مصر، والمشرق العربي في قلب الدنيا وجعلتها بؤرة الخريطة العالمية”. (البروفسور هالفورد هوسكينز مؤرخ أميركي)
فمع أول معول لحفر برزخ السويس عند ساحل بالوظة على البحر الابيض المتوسط، كان أبرز تحول جيوستراتيجي شهدته الكرة الأرضية في مستهل النصف الثاني من القرن التاسع عشر يتحقق. ومع أخر معول كان تاريخ طويل من الصراع ينتظر ،ليصنع أرشيف طويل لقوة القناة الاستراتيجية لتؤكد الدلالة التي تقول أن القناة هي محور قوة سيناء بل ومصر كما هي عامل التهديد والعزلة والفراغ حال وجود صراع العسكري علي ضفتها.
بالتأكيد إن موضوع الدراسة “قناة السويس الجديدة ..مانع استراتيجي أم مدخل للتمية” كان محل بحث وتدقيق من القائمين على الأمن القومي المصري، ويبدوا هذا واضح في مخطط الربط الجغرافي لوجهين القناة الذي تم طرحة ضمن مشروع القناة الجديدة، ولكن كل ما يجب الإشارة له هنا أننا نحاول وضع فرضية بحيثه تبدوا جديدة رغم دلالة قدمها .تلك الفرضية تقول هل تكون القناة الجديدة مدخل للتنمية الدفاعية بقدر ما هي بالفعل مانع استراتيجي؟ هل القناة المستحدثة وقت الصراع تحارب معنا أم ضدنا. ومن هنا ويجب أن نشير الإشارة المعتادة بأن تلك الدراسة ليست مدفوعة بخصومة أو انفعال ..فالعلم لا يفهم كلاهما. وكل ما يمكن أن ندعيه هنا أننا نحاول أن نثبت دلالة دامغة تقول أن ازدواج مانع مائي علي أكثر الجبهات الاستراتيجية حساسية للصراع يجب أن يوظف كمدخل لتنمية دفاعية ووضعة ضمن صياغة استراتيجية أوسع .حتي لا يكون عامل عزلة مضافة لسيناء .
أولاً: ما قبل القناة:
ربما تكون قناة السويس بشكلها القائم هي أول ربط جغرافي مباشر بين البحر الأحمر والمتوسط ..إلا أن الفكرة الربط الجغرافي ذاتها ليست الأولى في التاريخ ..فقبل 40 قرن تم هذا الربط الجغرافي بين البحرين بشكل غير مباشر بوساطة نهر النيل وتكرر حفرها أكثر من مرة عبر التاريخ. وتظهر النقش الموجود في قبر رجل الدولة ويني الذي عاش خلال الأسرة السادسة من المملكة القديمة (2407-2260 ق م) الكثير عن القناة المصرية وأسباب إنشائها
وسجل التاريخ إعادة حفر القناة القديمة أكثر من مرة .وفيما يلي تتبع لهذا السجل.. بدءا من عصر الفراعنة لربط الأسطول البحري ونقل النصب الحجرية وحتى أخر حفر لها في العصر الإسلامي لنقل الغذاء الى الجزيرة العربية في سنوات الجفاف.
(1) قناة الملك سنوسرت الثالث عام 1874 ق.م
رغم الخلاف بين المؤرخين حول أول من شق تلك القناة .إلا أن الراجح أن أول قناة حفرت تحت حكم فرعون مصر سنوسيرت الثالث أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة (1887-1849 ق م) و سميت هذه القناة قناة سيزوستريس (التسمية الإغريقية لسنوسرت).
قام الملك سنوسرت الثالث بشق قناة تربط البحرين المتوسط والأحمر عن طريق النيل وفروعه. فكانت السفن القادمة من البحر الأبيض تسير في الفرع البيلوزي من النيل حتى”بوباستس” (الزقازيق) ثم تتجه شرقاً إلى “تيخاو” (أبو صوير) ومنها عبر البحيرات المرة التي كانت خليجاً متصلاً بخليج السويس ومنها إلى البحر الأحمر. ومازالت آثار هذه القناة واضحة المعالم حتى الآن بمحاذاة المجرى الحالي لقناة السويس بالقرب من (جنيفة). إلا أن هذه القناة كثيراً ما ردمت وتجددت في عصور الفراعنة والرومان.
(2) قناة سيتى الأول عام 1310 ق.م
جاء سيتي الأول ملكا على مصر خلفاً لأبيه “رمسيس الأول” مؤسس الأسرة التاسعة عشر، وقد اختلف المؤرخون في دوره في حفر القناة، ولكن الأرجح أنه أعاد حفر القناة في عهده من عام 1319 ـ 1300 ق.م.
(3) قناة نخاو عام 610 ق.م
هو أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين، فكر في حفر قناة تصل بين النيل والبحر الأحمر وحول هذا الموضوع يقول “هيرودوت” (القرن الخامس ق.م) وكان نخاو أول من قام بمحاولة حفر قناة الى بحر ارو تري (خليج السويس والبحر الأحمر حاليا وكان يمتد ليصل قرب مدينة الإسماعيلية الحالية).
(4) قناة دارا الأول عام 510 ق.م
في عهد الاحتلال الفارسي لمصر، ظهرت أهمية برزخ السويس، حيث ازدهرت خطوط المواصلات البحرية بين مصر وبلاد فارس عبر البحر الأحمـر، وإبان حكـم “دارا الأول” مـلك الفرس مـن عام 522 ـ 485 ق.م الذي أعاد الملاحة في القناة، وتوصيل النيل بالبحيرات المرة، وربط البحيرات المرة بالبحر الأحمر. ، وكانت القناة وبمحاذاة سلاسل الجبال التي تمتد مقابل (منف) حيث توجد المحاجر. فعلى طول قاعدة هذه السلاسل الجبلية نجد القناة كانت تجري من الغرب إلى الشرق ثم تسير في منحدرات متجهة من الجبل نحو الجنوب ونحو مهب الريح الجنوبية حتى تبلغ الخليج (خليج السويس). من هذا المكان نجد أن الرحلة كانت تأخذ أقل وأقصر مسافة من البحر الشمالي (البحر الأبيض) إلى البحر الجنوبي (البحر الأحمر).
(5) قناة الإسكندر الأكبر 335 ق.م
عندما دخل الإسكندر الأكبر مصر عام 332ق.م أشرف على تخطيط مشروع القناة لنقل سفنه الحربية من ميناء الإسكندرية وميناء أبي قير بالبحر المتوسط إلى البحر الأحمر عبر الدلتا والبحيرات المرة، وبالفعل كان قد بدأ تنفيذ مشروع قناة الشمال، إلا أن المشروعين توقفا لوفاته
ليستكمل العمل في 285ق.م علي يد بطليموس الثاني وكانت القناة ممتدة من النيل حتى “أرسناو” (السويس حالياً)ولكن البيزنطيين أهملوها فطمرتها الرمال.
(6) قناة تراجان عام 117 ق.م
وأثناء الحكم الروماني لمصر، وتحديداً في عهد الإمبراطور الروماني “تراجان ” أعيدت القناة للملاحة، كما أنشأ فرع جديد للنيل يبدأ من “فم الخليج” بالقاهرة، وينتهي في “العباسة” بمحافظة الشرقية، متصلاً مع الفرع القديم الموصل للبحيرات المرة. واستمرت هذه القناة في أداء دورها لمدة 300 عام، ثم أهملت وأصبحت غير صالحة لمرور السفن..
(7) قناة أمير المؤمنين 642م
عندما فتح المسلمون مصر في عهد الخليفة “عمر بن الخطاب” على يد الوالي “عمرو بن العاص” عام 640م أراد توطيد المواصلات مع شبه الجزيرة العربية، فأعاد حفر القناة من الفسطاط إلى القلزم (السويس).. وأطلق عليها قناة أمير المؤمنين .. وكان المشروع في واقع الأمر ترميماً وإصلاحاً للقناة القديمة .. كان ذلك في عام 642م واستمرت هذه القناة تؤدي رسالتها ما بين 100 إلى 150 عاماً ..إلى أن أمر الخليفة “أبو جعفر المنصور” بردم القناة تماماً، وسدها من ناحية السويس، منعاً لأي إمدادات من مصر إلى أهالي مكة والمدينة المتمردين ضد الحكم العباسي …مما ترتب علية أغلق الطريق البحري إلى الهند وبلاد الشرق وأصبحت البضائع تنقل عبر الصحراء بواسطة القوافل
أما حديثا فعقب اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح ، تضرر اقتصاد وتجارة مصر المملوكية واقتصاد البندقية ، فما كان من أمراء البندقية إلا أن وفدوا على مصر عام 1501 م .ليعرضوا علي السلطان الغوري فكرة الاستغناء عن طرق القوافل واستبدالها بالنقل عبر النيل بحفر قناة تصل بين البحرين الأحمر والأبيض، إلا أن ظروف مصر وصراعها مع العثمانيين في ذلك الوقت 1517 م, لم يسمح بإنشاء مشروع بهذا الحجم، ومات المشروع .حتى جاءت حملة نابليون بونابرت على مصر وكان أول تفكير علمي لبناء قناة حديثة للربط المباشر بين البحريين ، وتحديداً في 14 نوفمبر 1799م، كُلّف أحد المهندسين الفرنسيين ويدعى لوبيير بتشكيل لجنة لدراسة منطقة برزخ السويس لبيان جدوى حفر قناة اتصال مباشر بين البحرين. إلا أن التقرير الصادر عن لجنة لوبيير كان خاطئاً وذكر أن منسوب مياه البحر الأحمر أعلى من منسوب مياه البحر المتوسط بمقدار 30 قدم و 6 بوصات، بالإضافة لوجود رواسب وطمي النيل و ما يمكن أن يسببه من سد لمدخل القناة مما أدى لتجاهل تلك الفكرة..
ثمّ وفي أثناء حكم محمد علي باشا لمصر كان قنصل فرنسا بمصر هو مسيو ميمو ونائبه هو مسيو فرديناند دى لسبس و كان في ذلك الوقت عام 1833 جاء أصحاب سان سيمون الفرنسي الاشتراكي إلى مصر لطرح عدد من المشروعات علي محمد علي وكان منها إنشاء قناة السويس و عرضا الفكرة على محمد على باشا إلا انه رد أنه لا يريد بسفور أخر في مصر و فضل إنشاء قناطر على النيل لمنع إهدار ماء النيل في البحر.
ولم تنتهى الفكرة عند رفض محمد علي لفكرة البعثة الفرنسية ففي عام 1840 وضع المهندس الفرنسي لينان دى بلفون بك و الذى كان يعمل مهندساً بالحكومة المصرية وضع مشروعاً لشق قناة مستقيمة تصل بين البحرين الأحمر و الأبيض و أزال التخوف السائد من علو منسوب مياه البحر الأحمر على البحر المتوسط و أكد أن ذلك لا ضرر منه بل على العكس سوف يساعد على حفر القناة .ولكن ظلت الفكرة محل جدل ولم تنال الاهتمام..
فى 15 ابريل 1846 م أنشأ السان سيمونيون بباريس جمعية لدراسات قناة السويس و أصدر المهندس الفرنسي بولان تالابو تقريرا في أواخر عام 1847 مبنياً على تقرير لينان دى بلفون أكد فيه إمكانية حفر قناة تصل بين البحرين دون حدوث أي طغيان بحرى…ومن هنا جاءت فكرة التاريخ في اختزال الجغرافيا لتسيطر علي المستقبل.
ثانياً: القناة…من المؤامرة إلى العبور
شكلت القناة منذ حفرها مدى حيويًا و جيوستراتيجيًا لأمن الغرب ومصالحه. ومن هنا كان التركيز الدولي في الاستحواذ على مصر والقناة كمفتاح استراتيجي خيضت من أجله حروب كثيرة للسيطرة عليه . بل ان أعماق المؤامرة وجذور هذا الصراع امتد لما قبل حفر القناة فقد كانت فكرة مشروع حفر القناة تراوض كلا من فرنسا وبريطانيا وفى 1798 م دخلت الحملة الفرنسية مصر وحاولت فرنسا شق القناة فأرسلت بعثات علمية لموقع الحفر الا انها توقفت لخطا علمي حول قياس مناسيب البحر الاحمر والمتوسط ثم ما ان فشلت الحملة الفرنسية وفشل مشروعها حتى جاء احياء فكرة حفر القناة وعرضها على محمد من خلال بعثة فرنسية أهتمت بالمشروع وكانت تلقب ب” السان سيمونيين ” ورفضة محمد على مشيرا الى انه لا يرد بسفور اخر في مصر (مضيق بتركيا).
يؤكد التاريخ ان حفر قناة السويس كان مؤامرة على جنبات الصراع الاستعماري بأوروبا، فقد كان الامتياز الأول الذى حصل علية (فردناند دي لسبس) من خديوي مصر (محمد سعيد ) في 30 نوفمبر 1854م بمثابة توثيق لتلك المؤامرة.
حيث جاء في هذا الامتياز: ”حيث أن صديقنا مسيو فردينال دى ليسبس قد لفت نظرنا إلى الفوائد التي قد تعود على مصر من وصل البحر المتوسط بالبحر الاحمر بواسطة طريق ملاحي للبواخر الكبرى ,وأخبرنا عن امكان تكوين شركة لهذا الغرض من أصحاب رؤوس الأموال من جميع الدول وقد قبلنا الفكرة التي عرضها علينا .وأعطيناه بموجب هذا تفويض بإنشاء وإدارة شركة عالمية لحفر برزخ السويس ,واستغلال قناة بين البحريين وله أن يباشر أو يسند إلى غيرة جميع الأشغال والمباني اللازمة لذلك”
وبتدقيق بسيط في صياغة الفرمان نجد أنه تفويض مباشر لشخص دى ليسبس ..ليفوض بموجبة من يريد ..وكان ..فقد تحرك دي ليسبس ليفاوض فرنسا ويراهن علي الجغرافيا الجديدة التي ترسم على وجه مصر ..وبدأت المأساة والمؤامرة التي امتددت من كون المشروع مجرد ‘اختزال للجغرافيا إلى صراع على الجغرافيا ذاتها.
وقد عدلت بعض أحكام هذا الفرمان بآخر صدر في 5 يناير 1856 م والذي كان أسوء من الأول .حيث تم النص فيه على سخرة المصريين لحفر القناة، ليبدأ العمل في حفر القناة في 25 أبريل 1859 م،ولكن سرعان ما وقعت بعض الخلافات بين الشركة والباب العالي، ثم سويت بإبرام اتفاقية جديدة في 22 فبراير 1866م والتي حددت الشروط النهائية لوضع شركة القناة.
أدت تلك المؤامرة إلى الدفع بمليون عامل وفلاح مصري وبشكل مجاني في حفر هذه القناة ولمدة عشر سنوات بدأت في العام 1859م حتى العام 1869م وخلال ذلك قدرت الوفيات بين العمال الذين شاركوا بأعمال الحفر نحو 120 الفا وذلك لأسباب متعددة منها نقص مياه الشرب (العطش) وتعرضهم لوباء الكوليرا القاتل وانهيار الاتربة والحجارة .إضافة إلي عليهم ضخامة المشروع فقد كانت القناة طويلة وعميقة وصعبة الجغرافيا فكانت تمتد بطول 173 كيلومتر وبعرض اقصاه 150 مترا وبعمق يصل الى 12 متر .وكما أشارت الدراسة التجريبية بأن مجموع 2.613 مليون قدم مكعب من التراب تم رفعها، بما فيها 600 مليون يابسة ، و 2.013 مليون تكريك مائي. وبلغت مجمل التكلفة الأصلية لشق القناة 200 مليون فرنك. وقد كانت تلك التكلفة ضخمة على الشركة وسريعاً ما واجهت مشاكل مالية في التمويل، وتدخل سعيد باشا بشراء 44% من الشركة للإبقاء على تشغيلها . ووضعت البلاد تحت تصرف الشركة جميع وسائل النقل البري والنهري تستخدمها دون ان تدفع اجرا وقامت الجهود المصرية في كل من ترسانة القاهرة وترسانة الاسكندرية بإعداد المشروعات اللازمة لإكمال حفر القناة .استمرت الشركة في العمل حتي صعود إسماعيل للعرش لتأخذ الحكومة المصرية خطوات لتعديل شروط الامتياز الأول والثاني 1854 و1856 . فأوفدت مصر وزير خارجيتها “إرتين نوبار” ليتحرك إلى الأستانة ومنها إلى فرنسا في محاولة لتخفيف شروط امتياز القناة ولكن تحركت الدوائر السياسية والمالية في فرنسا لتدافع عن الامتياز ولا تقبل التفاوض عليها .دفع الخلاف إلى تحكيم نابليون الثالث وصدق علي الباب العالي الحكم، وما لحقه من تعديل ـ وقد تمثلت نتائج هذا التحكيم في التالي:
استرجاع مصر ملكية 60 ألف هكتار ( 143 ألف فدان ) من الأراضي غير اللازمة للمشروع وبقى للشركة 30 ألف هكتار لزوم المشروع أي استرجعت ثلثي أرض المشروع وقد عوضت الشركة عن ذلك بمبلغ 30 مليون فرنك. واستعادت مصر ملكية رقبة ترعة المياه العذبة، وأبقت حق الانتفاع لشركة القناة، وقد تحملت مصر50 مليون فرنك تكاليف استكمال حفر الترعة، في حين حصلت الشركة على تعويض مقداره 16 مليون فرنك وسبعون ألف متر مكعب من المياه يوميا.
تم إلغاء السخرة التي فرضت على العمالة المصرية بموجب تفسير ديليسبس للمادة الثانية من فرمان الامتياز الثاني لعام 1856، مقابل 38 مليون فرنك.
تم حفظ حق الحكومة المصرية في إقامة التحصينات والاستحكامات الحربية التي ترى ضرورتها لحماية البلاد شريطة ان لا تضر بالملاحة.
ورغم حكم نابليون الظالم على مصر إلا أن مصر حصلت بموجب التحكيم على وجود شكل من أشكال السيادة المصرية على برزخ القناة.
فتم إنشاء محافظة القنال. كما تضمن إلزام لدي ليسبس بتحويل الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، والتي مقرها باريس، إلى شركة مساهمة مصرية مقرها القاهرة .وبهذا حصلت الشركة بموجب هذا التحكيم وتحت مزاعم ملكيتها لحيز المشروع على ثلاثة ونصف مليون من الجنيهات المصرية أي ما يقارب من نصف رأس مال الشركة.
وعلى نحو ليس بعيد كانت إنجلترا تدرك أن المشروع سيتجاوز تفويض شخص دى ليسبس إلى تفويض فرنسا نفسها وعلى هذا رسمت إنجلترا تصور لصياغة استراتيجيتها الاستعمارية للمنطقة في ظل القناة ..وقد تجلت تلك الاستراتيجية في تقرير “مستر بروس” قنصل إنجلترا في مصر في 1954م والذى كان بمثابة شرح تفصيلي لمستقبل المنطقة في ظل المشروع الجديد فقد كتب لحكومة لندن يقول: “إن شق هذا القناة سيؤدى حتماً إلى زيادة حركة المواصلات التجارية بين أوربا والبلاد الواقعة على البحر الأحمر مما سيدفع أوربا إلى إنشاء مراكز لها في تلك المنطقة ..وسينتهى هذا بقيام صراعات بين أوربا وبين دول تلك المنطقة ,مما سيكون ذريعة للتدخل العسكري في شؤون البحر الأحمر ..وهذا التدخل معناة الاحتلال الدائم .ويتوقع أن تحدث تلك النتائج في مصر نفسها”.
وعلى هذا فقد قررت لندن أن تكون عنصر فاعل لعملية الاحتلال المتوقعة بعد أن شعرت أن فرنسا مدت يدها بموجب تفويض دى ليسبس إلى قلب إمبراطورية. أل عثمان. وعلى هذا تحركت إنجلترا إلى تركيا بعد عن علمت بتفويض سعيد ل “دى ليسبس ” وكونه مشروط بموافقة السلطان العثماني. ففي الوقت الذى كان قد تحرك فيه دى ليسبس إلى الأستانة ..كان وزير خارجية بريطانيا اللورد “بالمرستون” قد أرسل تعليمات إلى سفير بلادة في تركيا لعرقلة مباركة الباب العالي على امتياز سعيد .فعاد دى ليسبس من تركيا إلى مصر وبدأ في 25 ابريل 1859م العمل في القناة بدون الحصول موافقة السلطان .واضعاً بذلك كلاً من تركيا وانجلترا أمام واقع جديد يتفاوض علية .فأرسلت بريطانيا أسطولها إلى سواحل إسكندرية في يونيو 1859م بقصد خلع سعيد لخروجه عن طاعة الباب العالي موكلة نفسها مدافع خادع عن السيادة العثمانية .وهنا طلب سعيد من دي ليسبس إيقاف العمل .فتحركت فرنسا لتدفع الباب العالي على الموافقة على اعتماد امتيازها.
وعند تلك النقطة وصلت المؤامرة ذروتها فقد كانت إنجلترا قد وصلت للقناعة بأمر من الأثنين .وهما :أما القضاء على المشروع نهائياً .أو وضعة تحت سيادتها .وبعد فشل إنجلترا في الاختيار الأول كان الثاني هو قرار إنجلترا ..ومهما كان مكلفاً .ووقفت بريطانيا تترقب لحظة وضع يدها على أسهم القناة وبالفعل استطاعت شراء نصيب مصر في أسهم الشركة بالسيطرة على البورصة وخفض قيمة اسهمها: فيما عرف «بصفقة دزرائيلى» رئيس وزراء بريطانيا في 15 فبراير 1875م والتي تم الشراء بموجبها عدد 176.602 سهم بما يمثل 44 % من أسهم الشركة وتمت الصفقة نظير 3.976.580 جنيه إسترلينيا أي 700.000 جنيه مصري فقط وبعد عام وصلت قيمة تلك الأسهم في نوفمبر 1876 مبلغا وقدره 23.841.270 جنيها إسترلينيا ـ 4.257.369 جنيها مصريا ـ ليكون الفرق بين ثمن شرائها من مصر وقيمتها في سوق المال مبلغ قـدره 3.557.369 جنيه وضاعت حصة مصر من الأسهم بعد أن كلفت مصر 16.000.000 جنيه كنفقات حفر قناة السويس.
وكانت جائزة المؤامرة الكبرى مصر حيث يقع شريان العالم وبالفعل وقع الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882م ، و تحركت بقية الدول للحصول على ضمانة من إنجلترا لحرية الملاحة في القناة فاجتمعت الدول الكبرى في باريس عام 1885 م، لوضع وثيقة دولية لضمان حرية الملاحة في قناة السويس، لكن لم ينجح الاجتماع الأول، فكان الاجتماع الثاني في القسطنطينية في أكتوبر 1888م حيث وقعت وثيقة القسطنطينية ووقع عليها كل من (بريطانيا العظمى، فرنسا، النمسا، المجر، إسبانيا، إيطاليا، هولندا، روسيا ،و تركيا التي وقعت الاتفاقية نيابة عن مصر.
وتنص أهم أحكام تلك الاتفاقية علي حرية الملاحة في القناة، حيث تشير المادة الأولي منها إلي أن الملاحة في قناة السويس حرة لجميع السفن بدون تمييز سواء بين السفن التجارية أو الحربية، ودون النظر إلي علم السفينة، وسواء كان المرور في وقت السلم أو الحرب، محذرة من خطورة التمييز في المعاملة بين السفن التابعة للدول المختلفة. وأعلنت الحكومة البريطانية في مؤتمر القسطنطينية عن تحفظها على الاتفاقية، لأن مبادئها تتعارض مع ما يقتضي وضعها في مصر ، وفيما بعد سحبت إنجلترا هذا التحفظ في التصريح الفرنسي البريطاني الصادر في 18 أبريل 1904 م، والمعروف باسم الاتفاق الودي، وأصبحت اتفاقية القسطنطينية هي الميثاق الأساسي لحرية المرور في قناة السويس، والتي أشير إليها في أغلب المواثيق الدولية التي أبرمت بين الدول الكبرى عامة.
وعلى كل الأحوال فأن أغلب الظن أن الامتياز الاول والثاني ومن ثم التحكيم بل واتفاق القسطنطينية كانت جميعها اوراق استعمارية في كتاب المؤامرة.
يتبع .........